خبر
أخبار ملهلبة

الكونت دي مونت كريستو | ألكسندر دوماس (الأب) | الجزء الخامس



الجزء الخامس

 

 

فابتسم "كادروس" في مرارةٍ وأجاب:

-       إنه في أسوأ حال .. يكاد يُشرِف على الإفلاس والدمار .. بعد خمسٍ وعشرين سنةً من العمل المتواصِل الذي أكسبه أحسن سمعةً في دوائر "مارسيليا" التجاريّة .. لقد فقد الرجل خمس سفنٍ في مدى عاميْن .. وخسر أموالاً طائلةً بسبب إفلاس ثلاثةٍ من البيوت الماليّة الكبرى .. والآن بات أمله الوحيد معلَّقاً على وصول السفينة "فرعون" سالمة .. وهي السفينة التي كان "دانتيس" المسكين رُبّانها .. وينتظر وصولها من جُزُر "الهند" حاملةً شحنةٍ من النيلة ودود القُرمُز .. فإذا غرقت هـذه السفينة مثل سابقاتها فعلى الرجل السلام .. إن له زوجةً كانت تصرُّفاتها - برغم كل الظروف - أشبه بتصرُّفات الملائكة .. كما أن له إبنةً كانت عـلى وشك الزواج من الشاب الذي تحبُّه لكن أسرته سوف تحول الآن دون زواجه من إبنة تاجرٍ مفلس .. وله أيضاً ابنٌ يُدعى "مكسمليان" يعمل ملازماً في الجيْش .. وهكذا ترى أن كل ذلك يُزيد في أحزانه وأشجانه .. فلو كان وحيداً في الدنيا لأفرغ رصاصةً في رأسه واستراح.

-       هذا فظيع.

-       وهكذا تكافئ السماء الفضيلة يا سيّدي .. فأنا الذي لم أفعل يوْماً شَرّاً - عدا الذي ذكرت لك قصته - أعاني ضائقةً شديدة .. وزوْجتى تموت من الحُمّى أمام عيْنيْ .. وأنا عاجزٌ عن أن أصنع شيئاً من أجلها .. إني سوف أموت جوعاً كما مات والد "دانتيس" بينما يتمرّغ "دانجلر" و"فيرناند" في الثراء الفاحش .. لقد جَلَبَتْ عليهما أفعالهما الحظ الحسن بينما أصـاب الشقاء والبؤس الرجال الشرفاء.

-       وماذا صار من أمر "دانجلر" المتآمر الأوّل كما تقول؟

-       لقد غادر "مارسيليا" على أثر اعتقال "دانتيس" إلى حيث عُيِّن – بوساطة "موريل" الذي جهل كل شيءٍ عن جريمته - صرّافاً في بنكٍ إسباني .. وخلال الحرب مع "إسبانيا" استُخدِم في قوميسيريّة (جهة إداريّة مختصّة بالتجارة والسمسرة تابعة للجيش) الجيش الفرنسي حيث جمع ثروة .. ثم ضارب بها في البورصة فضاعفها ثلاث مراتٍ أو أربع مرات .. وقد تزوَّج أوّلاً ابنة صاحب البنك الذي كان يعمل فيه لكنها ماتت .. فتزوج للمرة الثانية من أرملةٍ تُدعى مدام "دي نارجون" هي ابنة مسيو "دي سرفيو" كبير أمناء الملك .. إنه الآن مليونير وقد أنعموا عليه بلقب "بارون"  فصار يُدعى البارون "دانجلر" .. وهو يقطن قصراً فاخراً في شارع "مون بلون" به حظيرةٌ تضم عشرة جياد وسِتّةً من الخدم .. أمّا ملايينـه التي في البنك فلست أعرف عددها.

-       و"فيرناند"؟

-       إن له قصةً مشابهة .. فعلى أثر عوْدة الإمبراطور جُنِّد للجيْش كما جُنِّدت أنا أيضاً .. لكني كنت أكبر منه سِنّاً ومتزوِّجاً حديثاً من زوْجتي المسكينة فأُرسِلت إلى الساحل .. أمّا هو فقد انضم إلى الجيْش العـامل ومضى مع فرقته إلى الجبهة حيث اشترك في معركة "ليني" .. وفي الليلة التالية للمعركة عُهِدَ إليه في الوقوف حارساً ديْدباناً أمام باب جنرالٍ كان على اتصالٍ سرّي بالأعداء .. وفي تلك الليلة كان على الجنرال أن يذهب إلى خطوط الإنجليز فعرض على "فيرناند" أن يرافقه فوافق هـذا وهجر مرکز حراسته وتبع الجنرال .. ولو بقي "نابوليون" على عرشه لحوكم "فيرناند" أمام مجلسٍ عسكري .. لكن بلاط الملك كافأه على فِعلته .. وهكذا عاد إلى "فرنسا" برتبة صف ضابط .. وبفضل عطف الجنرال ووساطته رُقي إلى یوزباشي في سنة ١٨٢٣ خلال الحرب الإسبانيّة .. أي في الوقت الذي قامر فيه "دانجلر" بمضارباته الأولى .. ولمّا كان "فيرناند" من أصلٍ إسباني فقد أُرسِل إلى "إسبانيا" ليعمل على تهدئة شعور المواطنين الإسبان .. وهناك التقى بـ"دانجلر" و توطَّدت بينهما الصلات .. وما لبث أن ظفر بمعاونة الملكيّين في العاصمة وأدّى من الخدمات - خلال تلك الحملة القصيرة - ما نتجت عنه ترقيتـه عقب معركة "ترو كاديرو" إلى رتبة أميرالاي ومنحه لقب "كونت" ووسام الضابط في فرقة الشرف "اللجيون دونور".

فغمغم القَس:

-       يا لها من أقدار!

واستطرد "كادروس":

-       هذا صحيح .. ولكن اسمع البقيّة: فعند انتهاء الحرب الإسبانيّة تأثّر مستقبل "فيرناند" ومصالحه بالسلام الطويل الذي بدا أنه يسود أوروبا ولم يعكِّره غير إقدام "اليونان" على شن الحرب ضد "تركيا" من أجل استقلالها .. وعندئذٍ استدارت العيون جميعاً نحو "أثينا" حتى صار شعار العصر كله الإشفاق على "اليونان" وتعضيدهم .. ومن هُنا سمحت حكومة "فرنسا" بتأليف جيْشٍ من المتطوِّعين لنصرة جارتها دون أن تُعلِن عن ذلك التعضيد رسميّاً .. فسـعى "فيرناند" حتى حصل على إذنٍ بالســفر للخدمة في "اليونان" وكان اسمه ما يزال مُدرجاً في سجلّات الجيْش .. وبعد فترةٍ من الزمن أُعلِن أن الكونت "دي مورسرف" - وكان هذا هو الاسم الذي صار يُعرَف به - قد التحق بخدمة الوالي الإلباني "على باشا" في درجة مُشيرٍ عام .. وقد قُتِل "على باشا" لكنه قبل أن يموت رأى أن يكافىء "فيرناند" على خدماته بأن يترك له مبلغاً من المال عاد به هذا إلى "فرنسا" حيث رُقي إلى رتبة لواء .. وهو الآن يملك قصراً فاخراً - رقم ۲۷ شارع "دي هیلدر" بـ"باريس".

فتح القَس فمه دهشةً وتردَّد لحظةً ثم بذل جهداً كبيراً كي يتمالك نفسه، وأخيراً قال:

-       و"مرسيديس"؟ .. ماذا كان مصيرها؟ .. يقولون أنهـا اختفت.

فأجاب "کادروس":

-       "مرسيديس" اليوْم من أعظم نساء "باريس" .. لقد أُصيبت عقب اعتقال "دانتیس" بنوْبةٍ من اليأس البالغ كادت تقضي عليها .. وکم استعطفت المحقِّق مسيو "دي فيلفور" ولكن بلا جدوى .. وأخيراً جعلت همّها أن تعني بالشيْخ المهدَّم والد "إدمون" .. وفي غمرة يأسها أصابها مکروهٌ جديد هو رحيل "فيرناند" إلى الحرب .. ولم تكن قد عرفت بدور "فيرناند" في اعتقال حبيبها "إدمون" والجريمة التي اقترفها نحوه .. فلما ذهب بدوْره أحسّت أنها فقدت أخاها بعد خطيبها وبقيت وحيدة .. وانقضت ثلاثة أشهرٍ بدون أن تتلقّى أي نبأٍ من "إدمون" أو من "فيرناند" .. فصار البكاء ملاذها الوحيد .. ولم يبقَ لها غير رِفقة شيْخٍ مهدَّمٍ يقتله اليأس قتلاً بطيئاً .. وذات مساء سمعت خطواتٍ أدركت أنها خطوات "فيرناند" وظهر هذا أمامها بسُترة صف الضابط .. لم يكن هو حبيبها المنشود لكنها أحسّت كأن جانباً من حياتها الماضية قد رُدَّ إليها .. لقد ملك شخصٌ آخر قلبها، لكن هذا الآخر غائبٌ، مختفٍ، ولعلَّه قد مات .. ولدى هذه الفكرة الأخيرة كانت "مرسيديس" تنخرط في البكاء وتضم يديْها في لوعةٍ وضراعة .. لكن الخاطر الذي طالما استبشعته من قبل - حين كان يقترحه عليها أحد - فرض نفسه الآن من تلقاء ذاته على ذهنها .. وفي الوقت عيْنه كان الشيْخ والد "إدمون" لا يفتأ يقول لها: [لا بُد أن يكون حبيبنا "إدمون" قد مات .. وإلّا لعاد إلينا] .. ولكن لو عاش الشيْخ لما صارت "مرسيديس" زوجةً لآخرٍ غير ابنـه فانه لم يكن ليكُف عن تأنيبها وتحذيرها من الخيانة .. وقد أدرك "فيرناند" ذلك فعندما سمع بوفاة الرجل عاد وكان قد صار ملازماً .. وفي الزيارة الأولى لم يتفوَّه بحرفٍ لـ"مرسيديس" عن حبّه إيّاها وفي الثانية ذكّرها بأنه يحبّها .. فطلبت إليه أن ينتظر سِتّة أشهرٍ أخرى تحزن خلالها على "إدمون" وترتدي السواد.

فقال الأب "بوزوني" وهو يبتسم ابتسامةً مريرة:

-       إذن فقد أخلصت لحبيبها ثمانية عشر شهراً في الجُملة .. ففيمَ يطمع أكثر من ذلك أعظم العشاق وَلَهاً وهياماً؟

ثم ردَّد مغمغماً كلمات الشاعر الإنجليزي:

-       يا ضعف الإرادة .. يا وَهَن العزيمة: إن اسمك "المرأة".

واستطرد "كادروس":

-       وبعد ستة أشهر من ذلك التاريخ تم الزفاف في كنيسة "إكول".

فغمغم الكاهن:

-       الكنيسـة ذاتها التي كان سيُعقَد فيها زواجهـا من "إدمون" .. لم يطرأ غير تغييرٍ في شخص الزوج!

واستأنف "کادروس" حديثه:

-       وهكذا تزوَّجَت "مرسيديس" .. لكنها كادت يغمى عليها وهي تمر أمام حانة "لاريزرف" حيث احتفل قبـل عام ونصف عام بخطبتها إلى ذاك الذي لو أمعنت النظر الآن في أعماق قلبهـا لأدركت أنها ما تزال تحبّه .. وفى حُمّى فزع "فيرناند" من عودة "دانتيس" حرص على الابتعاد بنفسه وبزوْجته عن المدينة .. فلم تنقضِ عشرة أيّامٍ على الزواج حتى غادرا "مارسيليا".

-       وهل لم ترَ "مرسيديس" بعد ذلك؟

-       بل لقد رأيتها خلال الحرب الإسبانيّة في "بربجنان" حيث كان "فيرناند" قد تركها تعني بتربية ولدها.

-       ابنها؟!

-       نعم .. "ألبرت" الصغير.

-       ولكن .. کي تستطيع تثقيف ابنها لابد أن تكون هي على قدرٍ من الثقافة .. وقد فهمت من "إدمون" أنها ابنة صيادٍ بسيط .. جميلةٌ ولكن ليست متعلِّمة.

-       إنها من الذكاء بحيث كيّفت نفسها حسب مركز زوجهـا وثروته .. فتعلَّمت الرسم والموسيقى وكل شيء .. وأعتقد أنها فعلت ذلك كي تشغل نفسها عن التفكير في حبّها القديم وتنسى الماضي .. لقد ملأت رأسها کي تُخفف العِبء الذي يُثقِل قلبها .. وهي الآن غارقةً في الثراء والمجد والألقاب .. لكنها فيما أعتقد غير سعيدة.

-       وما الذي يجعلك تعتقد ذلك؟

-       عندما اشتدَّت بي الضائقة فكَّرت في أن ألجأ إلى أصدقائي القَدامي لعلَّهم يساعدونني .. فذهبت إلى "دانجلر" لكنه أبى أن يستقبلني .. ثم ذهبت إلى "فيرناند" فأرسل إليَّ مائة فرنك مع خادمه .. وفيما أنا خارجٌ سقط عند قدمي کیس نقودٍ يحوي خمسةً وعشرين جُنيهاً .. فرفعت رأسي نحو مصدره بسرعة .. وإذ ذاك رأيت "مرسيديس" في النافذة .. لكنها سارعت إلى إغلاقها.

-       ومسيو "دي فيلفور" .. هل تعلم ما صار إليه ونصيبه في المأساة التي حلَّت بـ"إدمون"؟

-       كلّا .. كل ما أعلمه عنه أنه بعد اعتقال "إدمون" بزمنٍ وجيز تزوَّج من الآنسة "دي سان ميران" .. ثم غادرا "مارسيليا" على الفوْر .. ولا شك أنه كان محظوظاً مثل الآخرين .. وهكذا لم يبقَ فقيراً تَعِساً منسيّاً سواي.

-       أنت مخطئٌ یا صدیقي .. قد يبدو أحياناً كأن الله ينسى أن يُنصِف المظلوم فترةً من الوقت لكن عدالته تُمهِل ولا تُهمِل .. وإليك الدليل.

وأخرج القَس من جيبه العلبة التي تحوي الماسة الثمينة وأعطاها للرجل قائلاً:

-       إليك يا صديقي .. خُذ هذه الماسة فهي لك.

فصاح "كادروس":

-       ماذا؟! .. لي أنا وحدي؟! .. بربِّك لا تسخر مني یا سیّدي.

-       كان المفروض أن يُقسَّم ثمن هذه الماسة بين أصدقاء "إدمون" جميعاً ولكن لم يكن له في الحقيقة غير صديقٍ واحد .. وإذن فلا داعي لتجزئتها .. خُذ الماسة إذن وبِعها .. إنها تساوي خمسين ألف فرنك .. وأرجو أن يكفي هذا المبلغ لإنقاذك من ضائقتك.

فقال "كادروس" وهو يمد إحدى يديْه في خجلٍ ليأخذ الماسة ويُجفِّف العرق المتصبِّب على جبينه باليد الأخرى:

-       سیّدی لا تسخر من سعادة إنسانٍ أو شقائه.

-       إني أعلم ما هی السعادة وكيف يكون الشقاء .. وحاشاي أن أسخر من عواطف الناس ومشاعرهم .. خُذ الماسة إذن وأعطِني في مقابلها كيس النقود الحريري الأحمر الذي تركه مسیو "موریل" فوق رف مدفأة "دانتيس" الأب .. والذي تقول أنه في حيازتك.

غادة الكرنفال

في أواخر سنة 1837 وصل إلى "روما" لحضور كرنفالها الكبير شابّان ينتميان إلى مجتمعات "باريس" الرفيعة هما: الفيسكونت "ألبرت دي مورسيرف" والبارون "فرانز دي بیناي".

وكان الجناح الذي أقاما به في الفندق مؤلَّفاً من حجرتيْن صغيرتيْن وردهة، أمّا بقية الطابق الفسيح الذي به هذا الجناح فكان يشغله ثريٌ من نبلاء "صقلية" أو "مالطة" يدعى الكونت "دي مونت کریستو"، وأوْصى الشابّان السنيور "باستریني" صاحب الفندق أن يبحث لهما عن عربةٍ تكون تحت تصرُّفهما أثناء احتفالات الكرنفال .. لكنه عجز عن العثور على العربة المطلوبة من فرط ازدحام المدينة بالسائحين .. وفي اليوم التالي عاد إليهما الرجـل يقول لهما إن الكونت "دي مونت کریستو" يعرض عليهما مكاناً في عربته ومقعديْن في نافذته بقصر "روسبولي" کي يشاهدا منها الاحتفال، ثم قادهما إلى جناح الكونت ودق الجرس فظهر خادمٌ دعاهما إلى الدخول وأجلسهما في حجرة استقبالٍ فاخرةٍ حافلةٍ بالرياش (الأثاث الفاخر) والطنافِس (الأبسطة الناعمة) والسجّاد التركي الثمين والأرائِك المريحة والمقاعد الوثيرة والوسائد والستائر الثمينة .. وظهر خلفها الكونت صاحب كل هذا الثراء .. وكان برغم شحوبه ذا وجهٍ وسيمٍ وعيْنيْن نفّاذتيْن برّاقتيْن وأنفٍ مستقيم وأسنانٍ بيْضاء ناصعةٍ كاللؤلؤ يعلوها شاربٌ أسـود فاحمٌ يزيدها جمالاً .. أمّا قامته فكانت متوسّطة الطول متناسبة التكوين، وكانت يداه وقدماه صغيرتيْن شأن أهل الجنوب.

وابتدر الكونت "دي مونت كريستو" ضيْفيْه قائلاً:

-       أرجو أن تغفِرا لي دعوتكما إلى زيارتي أوّلاً .. فقـد خشيت أن أزعجكما فيما لو سبقت إلى زيارتكما.

واستطرد الكونت وهو يشير إلى الشابيْن كي يجلسا:

-       الواقع أن ذلك الغبي "باستريني" هو المسئول عن عدم مبادرتي إلى ذلك قبل هذه الساعة فهو لم يُشِر بكلمةٍ إلى جيرتكما قبل اليوم .. في حين أنه يعلم مبلغ ترحيبي - في وِحدتي وعُزلتي - بانتهاز كل فرصةٍ للتعارف مع جيراني .. والآن أرجو أن تُشرِّفاني بتناول الإفطار معي.

فقال "ألبرت":

-       إننا يا سيدي الكونت لنشكر لك كرمك وأريحيّتك .. ونرجو ألّا نكون قد أثقلنا عليك.

فقال الكونت:

-       كلّا .. بل إنكما سوف تُدخِلان السرور على قلبي .. ولعلّي أتشرَّف يوْماً بزيارتكما في "باريس".

ثم تطوَّر الحديث بعد حين إلى حُكْمٍ بإعدام اثنيْن من زعماء العصابات كان مُزمَعاً تنفيذه في ذلك اليوم، فأفاض الكونت في الحديث عن هذا الموضوع حتى قال له "فرانز":

-       يلوح لي يا سيّدي الكونت أنك درست مختلَف العقوبات وأساليب التعذيب عند كل شعوب العالم.

فأجاب الكونت في برود:

-       هناك وسائلٌ معدودةٌ منها لم أشاهدها.

فساله "فرانز":

-       هل تجد متعةً في مشاهدة هذه المناظر البشعة؟

فأجاب الكونت بقوْله:

-       كنت أوّل الأمر أرتاع لمشاهدتها .. ثم صِرت أشعر إزاءها بعدم المبالاة .. وأخيراً صار الفضول هو الذي يدفعني إلى مشاهدتها.

وهنا غمغم البرت قائلاً:

-       الفضول؟! .. يا لها من كلمةٍ رهيبة.

فالتفت إليه الكونت وقال له:

-       إن شُغلنا الشاغِل في الحياة هو الموْت .. فليس عجيباً أن يشتد بنا الفضول لدراسة مختلَف الوسائل التي تؤدّي إلى فصل الروح عن الجسد .. أو التي يقابل بها مختلَف الناس انتقالهم من الحياة إلى الموْت .. ومن الوجود إلى العدم تبعاً لاختلاف شخصيّاتهم وطباعهم وعادات بلادهم المختلِفة .. وإني لأؤكِّد لك أنك كلّما رأيت عدداً أكبر من الناس يموتون سهل عليك أن تواجه الموْت .. وفي اعتقادي أن الموْت قد يكون عذاباً لكنه ليس تكفيراً.  

فقال "فرانز" مأخوذاً:

-       لست أفهم ما تعنيه تماماً يا سيّدي الكونت .. فهل لك أن توضِّحه لي .. إنك تثير فضولي إلى أقصى حد.

فأجابه الكونت وقد بدت في وجهه أمارات الاستياء العميق:

-       سأوضِّح لك الأمر بمَثَلٍ أضربه لك: افرض أن إنساناً قضى على حياة أبيك أو أُمّك أو خطيبتك أو أي عزيزٍ لديك .. أليس فقده يترك جُرحاً لا يندمل في صدرك ولا يزال حزنك عليه يؤرِّقك ويعذِّبك ما حييت .. إن القصاص الذي يأخذ به المجتمع ذلك القاتل بفصل رأسه عن جسـده بالمقصلة في ثوانٍ معدودات لا يمكن أن يُنسيك العذاب النفسي الذي تقاسيه بسـبب الجريمة التي اقترفها .. في حين أنه هو لا يقاسي مثل ذلك العذاب إلّا بعض الوقت .. ريثما يؤخذ إلى المقصلة حيث يتألَّم جسمه بضع ثوانٍ ثم ينتهي كل شيءٍ بالنسبة له.

فقال "فرانز":

-       نعم .. إن العدالة البشريّة لا تكفي لتعزيَتنـا .. وكل ما تفعله أنها تسفك دماً مقابل دم .. لكن لا ينبغي لنا أن نطالبها بما ليس في طاقتها.

-       دعني أعرِض عليك مَثَلاً آخر: هناك ألوفٌ من حالات التعذيب يقاسي فيها المرء أشنع الويْلات بلا علم المجتمع .. أو من غير أن يَكفُل له المجتمـع الوسائل الكافية للانتقام .. وهناك جرائمٌ لا يعاقَب عليها المجتمع .. في حين أن عقابها يجب أن يكون أشد من "خوازيق" الأتراك و "برّيمة" الفُرْس و"وَشْم" الهنود بالنار .. ألا تقع هذه الجرائم كل يوْم؟

-       نعم .. إنها تقع بلا ريْب .. ولعل المبارزة ما شُرِّعَتْ إلّا لتكون وسيلةً يلجأ إليها المُعتدَى عليه للانتقام من المُعتدِي.

-       کلّا یا سیّدي .. ليس هو الانتقام المنشود .. فأنا ألجأ إلى المبارزة في الأمور التافهة .. وغالباً لا ينجو خصمي من الموْت بفضـل براعتي في أنواع الرياضة البدنية .. وتعوُّدي الاستهانة بالأخطار .. أمّا الانتقام بمعنى التعذيب البطيء العميق المستمر فمن رأيي أن يتَّبع المرء فيه القاعدة القديمة "العيْن بالعيْن والسِن بالسِن" .. كما يقول الشرقيّون أساتذتنا في كل شيء .. أولئك المحظوظون الذين رسموا لأنفسهم حياةً من الأحلام وجنّةً من الحقائق.

-       لكنك - تَبَعاً لهذه النظرية التي تجعل نفسك بها قاضياً وجـلّاداً في قضيّتك الشخصية - يكون من العسير أن تنجو دائماً من الوقوع تحت طائلة القانون .. فالكراهية العمياء والحقد يحملانك على أن تركب الصعب من الأمور .. ومَن يسكب الانتقام في كؤوس الآخرين يُعرِّض نفسه لخطر الشُرب من كأسٍ أَمَر.

-       هذا صحيح إذا كان المرء فقيراً وغير مجرِّب لا غنيّاً حاذقا .. ثم إن أسوَأ ما قد يصيبه لن يخرج عن حد العقاب السريع السهل الذي تحدّثنا عنه .. والذي اتخذته الثوْرة الفرنسيّة الرحيمة بدلاً من التمزيق تحت سنابك الجياد أو العجلات .. وما أتفه هذا العقاب ما دام الشخص قد انتقم لنفسه.

وفي هذه اللحظة سُمِعَت دقات الأجراس في كنيسة "مونتي سيتوريو" ولم تكن تدق إلّا عند وفاة البابا أو افتتاح الكرنفال، فقال الكونت:

-       لقد بدأ الاحتفال .. ويحسن أن نسارع إلى ارتداء ثياب التنكُّر الخاصّة به.

ثم أشار إلى أزياءٍ كثيرةٍ أنيقةٍ من حرير الساتان كانت متراكمةً على بعض المقاعد ليختارا من بينها ما يشاءان.

وحين فرغ ثلاثـتهم من هذه المهمّة هبطوا إلى حيث كانت العربة في انتظارهم، فدرجت بهم في شوارع المدينة الحافلة بمواكب المهـرِّجين وعربات الزهور وجموع المتنكِّرين في أغرب الأزياء والأقنعة، وكلّهـم يصخبون ويتصايحون ويتقاذفون كرات الورق الملَّون والبيْض المحشـو بالدقيق.

وحين بلغت العربة ثاني منعطفٍ في الطريق أشار الكونت إلى الحوذي (سائق عربة الخيل) بالوقوف ، واستأذن ضيْفيْه في الانصراف قائلاً:

-       حين تَمِلّان الاشتراك في التمثيل وتبغيان أن تصيرا متفرجيْن يمكنكما الحضور إلى حيث حجزت لكما مكاناً في نوافذي .. وفي انتظار ذلك أترك العربة والحـوذي والخدم رهن اشارتكما.

فشکر "فرانز" الكونت على كرمه واهتمامه، بينما انشغل "ألبرت" بإلقاء الزهر والورق الملوَّن على عربة ملأى بالمتنكِّرين في زي فلاحي الرومان، ثم تابعت عربته والعربة الأخرى سيْرهما في اتجاهيْن متضاديْن، فتنهَّد الشاب متحسِّرا وقال لصديقه:

-       إنك لم ترَ یا "فرانز" رُكّاب تلك العربة .. لست أشك في أنهم جميعاً من النساء الفاتنات المتنكِّرات في زي الفلّاحين .. فعسى ألّا ينتهي الكرنفال قبل أن تُتاح لنا فرصة لقائهن مرّةً أخرى.

ولم يخِب أمله؛ فقد التقت العربتان بعد قليلٍ في أحد الشوارع فألقت إحدى الفتيات المتنكِّرات باقةً من زهر البنفسج على عربتهما، فتلقَّفها "ألبرت" بيْديْه، وعندئذٍ وعد "فرانز" صديقه الماجن بأن يقنع هو في اليوم التالي بمشاهدة الكرنفال من النافذة ويترك له العربة يتابع بها مغازلاته.

وفي المساء تلقّى "فرانز" رسالةً مكتوبةً بخط "ألبرت" فقرأها مرّتيْن بأمعانٍ قبل أن يفهم مدلولها، وكان نصُّها:

[[[صديقي العزيز: في اللحظة التي تصل فيها هذه الرسالة إليك أرجو أن تتكرَّم بأخذ دفتر الشيكات الذي يخصَّني من دُرج المكتب الصغير الموجود في حجرة نوْمي ثم تضيف إلى محتوياته كل ما تملك من مال وتهرع إلى بنك "تورلونيا" لتسحب منه المبلغيْن فوْراً وتسلِّمهما لحامل هذا الخطـاب .. وإني أعتمد عليك في إمدادی بلا ابطاء بالمـال المطلوب لسبٍب غايةً في الأهميّة .... توقيع "ألبرت"]]].

وكانت هناك تحت هذه الأسطر ملاحظةٌ بخط "ألبرت" نفسه يقول فيها:

[[[ملاحظة: لقد آمنت الآن بالعصابات الإيطاليّة]]].

كما كانت هناك عبارةٌ أخرى كُتِبَت تحت هذه الملاحظة بخطٍ مغـايرٍ ونصُّها:  

[[[إذا لم يصل إليَّ مبلغ أربعة آلاف ليرة قبل الساعة السادسة صباحاً فلن تحل الساعة السابعة حتى يكون الفيكونت "ألبرت" قد فارق الحياة .... إمضاء: "لویجي فامبا"]]].

وقال فرانز محدِّثاً نفسه:

-       إذن فقد وقع "ألبرت" في يد عصابةٍ من اللصوص الخطِرين .. وليس في الوقت مُتَّسَعٌ يمكن إضاعته.

ثم نهض مُسرِعاً ففتح دُرج المكتب الصغير حيث وجد دفتر شيكات "ألبرت"، وكان الحساب المقيَّد فيه يدل على أن كل ما بقي له من رصيده في البنـك هو ثلاثة آلاف ليرة.

ولم يكن لـ"فرانز" حسابٌ في البنك لأنه كان يعيش في "فلورنسـا" وقد حضر إلى "روما" ليقضى سبعة أيّامٍ أو ثمانية، ولم يبقَ من المبلغ الذي أحضره معه إلّا حوالي ثلاثمائة ليرة، بينما كان عليه لكي يُتِم قيمة الفدية المطلوبة أن يحصل على ألف ليرة، وهنا تذكَّر "فرانز" صديقهما الكونت "دي مونت كريستو" فهُرِع إليه، ووجده في حجرةٍ صغيرةٍ تحف بها الأرائك الوثيرة، فابتدره الكونت سائلاً:

-       أي ريحٍ طيّبةٍ حملتك إلى هُنا في هذه الساعة؟ .. هل أتيْت لتتناول العشاء معي؟ .. سيكون هذا كرماً منك.

فأجاب الشاب:

-       بل جئت لأتحدَّث إليك في مسألةٍ خطيرة.

ثم قدَّم له خطاب "ألبرت"، فلمّا فرغ الكونت من قراءته قال يسأل "فرانز":

-       أرى أن أذهب بنفسي للبحث عن "فامبا" هذا .. فهل ترافقني؟ .. إنها ليلةٌ رائعة الطقس تحلو فيها النزهة خارج المدينـة .. أين الرجل الذي أحضر الرسالة؟

فقال "فرانز":

-       إنه ينتظر في الشارع.

فمضى الكونت إلى النافذة وأرسل من فمه صفيراً خاصّاً غريباً، وسرعان ما برز من جوار الحائط رجلٌ يرتدي عباءة، وخرج إلى عرض الطريق، فقال له الكونت بلهجة مَن يخاطب خادمه:

-       إصعد.

فأطاعه الرسول فوْراً في خضوع، ولم تمضِ خمس ثوانٍ حتى كان يطرق باب الحجرة، فقال له الكونت:

-       أهذا أنت يا "ببينو"؟!

لكن "ببينو" بدلاً من أن يجيبه ارتمى على ركبتيْه عند قدميْ الكونت وتناول يديْه يغمرهما بالقبلات!، فقال له الكونت:

-       آه .. إذن فأنت لم تنسَ أنني أنقذت حياتك؟ .. هذا غريب! .. مع أنه قد انقضى على الحادث أسبوع.

وتمتم الرجل في خضوع:

-       لن أنسى ذلك ما حييت يا صاحب الفخامة.

ثم سأله الكونت:

-       كيف وقع الفيكونت "ألبرت" في يد "لويجي"؟

فأجاب الرجل:

-       أن عربة السيد الفرنسي مرّت أكثر من مرّةٍ بمحاذاة العربة التي كانت فيها "تيريزا" عشيقة الزعيم .. وقد طلب منها الفرنسي موْعداً لمقابلته .. فضربت له الموعد في المكان الذي حملته عربته إليه حيث كانت تنتظره ومعها "لويجي" في سراديب مقابر "سانت سباستيان".

فالتفت الكونت إلى "فرانز" وقال له:

-       إنها قِصّةٌ شائقة .. ولو لم تجدني هنا لكلَّفت المغامرة صديقك ثمناً غالياً .. أمّا الآن فلتثِق بأن الانزعاج هو الخسارة الوحيدة التي ستصيب "ألبرت" .. هل تعرف مكان سراديب "سانت سباستيان"؟

فقال "فرانز":

-       لم أزُرها قط .. لكني كنت أعتزم ذلك منذ زمن.

فقال الكونت:

-       حسناً .. ها هي ذي الفرصة قد واتتك .. ومن العسير أن تُتاح لك فرصةٌ أفضل. 

ثم دق الكونت الجرس طالباً إعداد عربته، وبعد دقائق كانت تجتــاز به وضیْفه طريق "إبيان" القديم، وقبل أن تصل إلى حمّامات "کار کالا" توقَّفت وهبط منها الرجلان وسارا حتى بلغا منفذاً ضيّقاً يقع خلف أَجَمةٍ (كُتلةٍ من الشجر الكثيف) صغيرةٍ تُحيط بها الصخور، ومرق :ببينو" من ذلك المنفذ أوّلاً ثم تبعه الآخران، وبعد أن سار الثلاثة رجال بضع خطوات اتَّسع الممر، وسرعان ما وجدوا أنفسهم أمام سراديبٍ عِدّة، فهبطوا سرداباً منها لا يكاد البصر يحد نهايته، وتتخلَّله أشعةٌ من الضوْء، ومنه تقدَّموا نحو حجرةٍ كبيرةٍ مُربَّعةٍ يضيئها مصباحٌ ويجلس فيها رجلٌ يقرأ وظهره إلى المدخل الذي وقف فيه الزائرون يتأمّلون المنظر.

كان الرجل هو "لويجي فامبا" زعيم العصابة، والتف حوْله عشرون لِصّاً وقاطع طريقٍ أو أكثر جلسوا مُسنِدين ظهورهم إلى مقاعدٍ حجريّة، وأمام كلٍ منهم غَدَّارَته (الغَدَّارَة هي آلةٌ لإطلاق القذائف بين المسدس والبندقيّة) في متناول يده، فلمّا دخل الكونت نهض "فامبا" مُسرِعاً، وفي لحظةٍ كانت عشرون غَدَّارَةٍ مُشهرةً في وجه الزائرين، فقال الكونت بصوْتٍ هادىء صافٍ دون أن تختلج عضلةٌ في وجهه:

-       يبدو أيّها العزيز "فامبا" أنك تستقبل الأصدقاء بقدرٍ كبيرٍ من الحفاوة.

فصاح الزعيم برجاله وهو يشير بيده إشارةً آمرة:

-       اخفضوا أسلحتكم.

بينما خلع باليد الأُخرى قُبَّعته احتراماً، ثم استدار نحو ضيْفه قائلاً:

-       عفوك يا صاحب الفخامة .. كنت أبعد ما أكون عن توقُّع شرف زيارةٍ منك .. فلم أعرفك أول الأمر.

فأجابه الكونت:

-       يبدو أن ذاكرتك ضعيفةً في كل شيءٍ یا "فامبا" .. بل إنك لا تنسى وجوه الناس فقط ولكن تنسى الشروط التي تتَّفِق معهم عليها أيضاً .. ألم نتفق على أن تحترم - فضلاً عن شخصي - جميع أصدقائي .. إذن لِـمَ اختطفت الليْلة الفيكونت "ألبرت دي مورسيرف" وأحضرته إلى هنا مع أنه من أصدقائي؟

فقال زعيم العصابة وهو يستدير نحو رجاله الذين تراجعوا جميعاً أمام نظرته:

-       لماذا لم تذكروا لي ذلك أيّها الأوغاد؟ .. لقد جعلتموني أحنث بعهدي مع رجلٍ مثل الكونت يملك أرواحنا جميعا في قبضته.

ثم استطرد "فامبا" مشيراً نحو ثغرةٍ يحرسها واحدٌ من رجاله:

-       السجين يوجد هناك .. وسأذهب بنفسي لأخبره بأنه مُطلَق السراح .. تفضل بالدخول یا صاحب الفخامة.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent