خبر
أخبار ملهلبة

الكونت دي مونت كريستو | ألكسندر دوماس (الأب) | الجزء السادس


غلاف رواية ألكسندر دوماس (الأب) الكونت دي مونت كريستو من ترجمة شفيق أسعد فريد

الجزء السادس

 

 

وصعد الكونت و"فرانز" في أثر الزعيم بضع درجات، ثم فتح "فامبا" أحد الأبواب فإذا "ألبرت" متدثِّراً بمعطفٍ كان أحد اللصوص قد أعاره إيّاه وقد رقد في ركنٍ من الحجرة المظلمة فلمس "فامبا" كتفـه قائلاً:

-       أنت مُطلق السراح یا سیّدي.

وإذ ذاك نظر "ألبرت" حوْله فرأى "فرانز" فهتف به:

-       أهذا أنت ياعزيزي "فرانز"؟ .. لقد أظهرت المحنة صِدق محبِّتك وصداقتك.

فأجابه "فرانز":

-       کلّا .. لست أنا صاحب الفضل .. بل هو جارنا الكونت "دي مونت کریستو".

فقال "ألبرت" في مرح:

-       أوه يا عزيزي الكونت .. هذا عطفٌ كبيرٌ منك .. وأجو أن تعتبرني مديناً لك مدى الحياة .. إن والدي الكونت "دي مورسيروف" - وإن كان من أصلٍ إسباني - له نفوذٌ كبيرٌ في بلاط "فرنسا" و"مدريد" .. وإني أبادر فأضع - بلا تردُّد - خدماتي وخدمات كل مَن تعد حياتي غاليةً في نظرهم تحت تصرُّفك.

فأجاب الكونت:

-       يا مسيو "دي مورسيرف": إنى أقبل ما تعرضه عليَّ بمثل روح الإخلاص القلبي الذي تكنُّه لي .. بل إني سأخطو خطوةً إيجابيّةً فأصارحك بأني كنت قد اعتزمت من قبل أن أسألك معروفاً عظيماً.

فقال "ألبرت" في حماسة:

-       إنى رهن إشارتك يا سيّدي.

ومضى الكونت فقال:

-       إني غريبٌ عن "باريس" تماماً .. فهي مدينةٌ لم أرَها قط .. ولمّا كنت لا أعرف فيها أحداً يقدِّمني لمجتمعاتها الرفيعة ويتيح لي أن أقف على مفاتنها وعجائبها فإني أرى فيما تعرضـه عليَّ ما يُذلِّل جميـع الصعوبات .. فهل أستطيع أن أعتمد عليـك كي تفتح لي عند وصولي إلى "باريس" أبواب عالم الطبقات الرفيعة فيها .. إنني لا أعرف عن شخصيّاتها أكثر ممّا أعرف عن أهل الصين.

-       إنه ليسرَّني أن أؤدّي لك هذه الخدمة مُرَحِّباً .. وسوف يُعينني عـلى القيام بها خطاب التوصية الذي أحمله من أبي إلى أصدقائه الكبار في "باريس".

-       وأنا سأمنحك مهلةً قدرها ثلاثة أشهر ألحق بك في نهايتها .. فمـن عادتي أن أحسب دائماً حساب شتّى العراقيل والمصاعب .. فهل نتفق على موْعدٍ محدَّد من حيْث اليوْم والساعة؟ .. إنني لمضرب الأمثال في دِقّة مواعیدي.

ومد الكونت يده نحو تقويمٍ على الحائط قائلاً:

-       اليوْم ۲۱ فبراير.

ثم أخرج ساعته من جيْبه وأردف قائلاً:

-       والساعة الآن العاشرة والنصف فعِدني أن تذكر ذلك .. وأن تنتظرني في مثل هذه الساعة من صباح يوْم ٢١ مايو القادم.

-       حسناً یا سیّدي .. وسوْف تجد الإفطار مُعدّاً لك.

-       أين تقطن؟

-       في المنزل رقم (۲۷) بشارع "دي هلدر".

فأومأ الكونت موافقاً وقال:

-       لا تنسَ ما اتفقنا عليه يوْم ۲۱ مايو الساعة العاشرة والنصف صباحاً في شارع "دي هیلدر" رقم (۲۷).

في باريس

أعد "ألبرت" كل شيءٍ في منزله بشارع "هلدر" بـ"باريس" للحفاوة بضيْفه الكبير الكونت "دي مونت كريستو"، وفي اليوْم المحدَّد للقائهما هناك جلس مع بعض خاصَّته يحدِّثهم عن الكونت المُنتَظَر وصوله وكيف أنقذه من نتيجة مغامرته في "إيطاليا"، فقال له أحدهم ويُدعى "لوسیان دبراي":

-       يُخيَّل إلىَّ أنك تمزح معنا باختراع هذه القصّة .. بل أكاد أعتقـد ألّا وجود لزعيم العصابة الإيطالي الذي تحدِّثنا عنه .. ولا للكونت "دي مونت کريستو" الذي تنتظره.

وقال ضيْفٌ آخر يُدعى "بوشان":

-       خيْر لك يا عزيزي "ألبرت" أن تعترف بأنك رأيت هذا كله في الحلم .. أو تدعنا نتناول طعام الإفطار في هـدوءٍ وسلام.

ولم يسَع "ألبرت" إلّا أن يسكت إزاء سخرية أصدقائه، وبقي صابراً على مضضٍ حتى حان موْعد وصول الكونت، وأخذت ساعة الحائط تدق إيذاناً بانتصاف الساعة الحادية عشرة، وقلبه يدق معها في عُنف، بينما العرق البارد يتصبَّب من جبينه خشية أن يزداد خجله إن لم يصل الكونت في موعده.

وما انتهت الساعة من دقّاتها حتى ظهر أحد الخدم بالباب وقال لـ"ألبرت":

-       سيّدي .. إن الكونت "دي مونت كريستو" قد وصل.

ودَلَّ الإجفال اللا إرادي الذي بدا من جميع الحاضرين على شِدَّة تأثُّرهم بهذا النبأ، ولم يستطِع "ألبرت" نفسه قمع انفعاله، ولا سيّما أنه لم يكُن قد سمع صوْت عربةٍ تقف أمام الباب أو خطواتٍ تخفق في الردهة، ولكنه فوجىء بفتح الباب دون جلبةٍ ثم بظهور الكونت على عتبته مرتدياً زيّاً يجمع بين الأناقة والبساطة، وقد بدا في سنٍ لا تزيد على الخامسـة والثلاثين، على أنه سرعان ما خف "ألبرت" لاستقباله مُرحِّباً ثم قال:

-       يا عزيزي الكونت لقد أعلنت نبأ زيارتك لهؤلاء الأصدقاء بعد أن دعوْتهم طِبقاً لما اتفقنا عليه .. وها أنا ذا أقدِّمهم لفخامتك: هذا هو الكونت "دي شاتو رينو" النبيل ذو الأصل العريق الذي اشترك أسلافه في مؤتمر المائدة المستديرة .. وهذا مسيو "لوسیان دبراي" السكرتير الخاص لوزير الداخليّة .. ومسير "بوشان" الصحفي الذي يُصدِر صحيفةً تُسبِّب الذُعر للحكومة الفرنسيّة .. وإن كان الأرجح أنك لم تسمع باسمه في "إيطاليا" برغم شهرته الوطنيّة نظراً إلى كوْن صحيفته ممنوعةً من الدخول إلى "إيطاليا" .. وهذا مسيو "مكسمليان موريل" قبطان السفينة "سباهي".

وكان الكونت يُحيى کُلّاً منهم بانحناءةٍ يشوبها طابع الرسميّة والوِد، لكنه ما كاد يسمع الاسم الأخير حتى تقدَّم خطوةً إلى الأمام وقال لـ"ألبرت" وقد اصطبغت وجنتاه الشاحبتان بحُمرةٍ خفيفة:

-       يا عزيزي الفيكونت: إنك ذكرت لي في "روما" شيئاً عن مشروع زواج .. فهل لي أن أهنئك؟

فقال "ألبرت":

-       إن الأمر ما زال في حيّز التفكير.

وهنا تدخَّل "دبراي" قائلاً:

-       هل أفهم من ذلك أن الأمر قد تقرَّر؟

فأجاب "ألبرت":

-       كلّا .. ولكن والدي شديد الرغبة في تنفيذ الفكرة .. وأرجو أن أُقدِّمك في القريب إن لم يكن لزوْجتي فعـلى الأقل لخطيبتي الآنسة "أوجيني دانجلر".

فهتف الكونت "دي مونت کریستو":

-       "أوجيني دانجلر"؟ .. أهي ابنة البارون "دانجلر"؟

فقال "ألبرت":

-       نعم يا سيّدي .. وهو بارون من الطراز الحديث.

فقال الكونت:

-       حسبه أنه أدّى للدوْلة خدماتٍ استحق عليهـا هذا الإنعام.

وقال "بوشان":

-       الواقع أنه أدّى للدوْلة خدماتٍ جليلة .. فهو برغم كوْنه من حزب الأحرار إلّا أنه فاوض في عقد قرضٍ كبيرٍ للملك "شارل العاشر" في سنة ۱۸۲۹ .. ولهذا منحه لقب "بارون" ووسام "فارس" في فرقة الشرف.

فقال الكونت "دي مونت كريستو":

-       إني لا أعرفه .. وإن كان يغلب على ظنّي أني سوف أتعرَّف إليه قريباً .. فإن لي معه حسابا جارياً لدى ثلاثةٍ من البيوت الماليّة: أحدها في "لندن" والثاني في "فيينا" والثالث في "روما".

ثم عاد "ألبرت" ليلتقط طرف الحديث فقال:

-       على أي حالٍ وقبل كل شيءٍ ينبغي أن نجد مسكناً في عاصمتنا الكُبرى يلائم ضيْفنا العزيز الجديد الكونت "دي مونت کریستو".

فقال الكونت:

-       شُكراً لك يا سيّدي .. إنني منذ استقر رأيي على الحضور إلى هنا أرسلت خادمي الخاص لكي يبتاع لي منـزلاً مناسباً في "باريس" ويؤثثه .. ولا بُد أنه قد فرغ من هذه المهمّة الآن.

فقال "بوشان":

-       إذن فالخادم الخاص لصاحب الفخامة يعرف "باريس" جيّداً؟

فأجاب الكونت:

-       نعم .. إنه الأمين النوبي الكتوم الخاص بي ويُسمَّى "على" .. وهو يعرف "باريس" كما يعرف ذوْقي ومطالبي .. وكان يعلم أنني سأصل اليوْم في الساعة العاشرة فانتظرني منذ التاسعة عند حاجز "فونتينلو" حيث أعطاني هذه الورقة التي تحوي عنوان مسكني الجديد.

فقال "بوشان":

-       إذن فلنقنع بأن نؤدّي للكونت الخدمات التي في مقدورنا .. ويسرُّني بوصفي صحفيّاً أن أفتح لفخامتك أبواب جميع المسارح.

فشكره الكونت وقال:

-       إن لدى سكرتيري تعليماتٍ بأن يحجـز لي مقصورةً في كل مسرح.

وهنا سأله "دبراي":

-       هل سكرتير الكونت نوبيٌ أيضاً؟

فأجاب الكونت:

-       كلّا .. بل هو كورسیكی يُدعی مسیو "برتوشيو" .. وقد كان جُنديّاً ومُهرِّباً .. بل كان في الواقع كل شيء .. ولست واثقاً من أنه لن يحتك بسلطات البوليس يوْماً بسبب طعنة خنجرٍ أو ما يشبهها من الحوادث التافهة في نظره.

وهنا قال "شاتو رينو" مخاطِباً الكونت:

-       إذن ما دام عندك المسكن والخادم والسكرتير فلا ينقصك إذن سوى الخليلة.

فابتسم الكونت وقال:

-       الواقع أنه عندى مَن هي خيْرٌ من الخليلة .. عندي الجارية الخاضعة .. إنكم تحصلون على خليلاتكم من الأوبرا ودور اللهو المختلفة .. أمّا أنا فقد حصلت على صاحبتي من "القسطنطينيّة" .. وهي تكلِّفني نفقاتٍ أكثر .. لكنني لا أرى بأساً في ذلك.  

فقال له "دبراي" ضاحكاً:

-       لا تنسَ يا سيّدي أننا في بلد الحريّة .. وعلى هذا فإن جاريتك هذه لا بُد أن تغدو حُرَّةً في اللحظة التي تطأ فيها قدماها أرض "فرنسا".

فقال له الكونت:

-       من أيْن لها أن تعرف ذلك وهي لا تتكلَّم بغير لغتها؟!

فقال "بوشان":

-       أظن أننا سنراها على كل حال .. ولكن هل فخامتك تقتني الجواري؟  

وابتسم الكونت مرّةً أخرى وقال:

-       كلّا .. لست على هذه الدرجة من التوحُّش .. بل أن كل واحدٍ حوْلى له كل الحريّة في أن يتركني إذا شاء .. وفی استطاعته أن يعيش بعد ذلك في غِنىً عني وعن أي إنسانٍ آخر .. ولكن جميع مَن حوْلي ليس فيهم مَن يفكِّر في ذلك بفضل ما يلقون من حُسن المعاملة.

وحين انصرف أصدقاء "ألبرت" وخلا إلى الكونت قاده إلى جناحه الخاص الأثير عنده، فمرّا من الصالون إلى غرفة النوم التي كانت نموذجاً للذوْق الرفيع والأناقة البسيطة، وكانت فيها لوحةٌ - من رسم فنانٍ شهير - تُشرق على الحجرة من وسط إطارها المذهَّب فلفتت نظر الكونت، واقترب منها في خطواتٍ سريعةٍ ثم وقف أمامها وراح يتأمّلها في إعجاب.

كانت اللوْحة تمثِّل فتاةً حسناء سمراء، ذات عيْنيْن مُشرقتيْن لامعتيْن تُظلِّلهما أهدابٌ طويلة، وترتدي ثياب صيّادات عشيرة "كاتالان" المؤلَّفة من خليطٍ من اللوْنيْن الأحمر والأسود، وتضع في شعرها دبّوساً ذهبيّاً، وتتّجه بعيْنيْها إلى البحر، وحوْلها المحيط الأزرق والسماء الصافية، وكان الضوْء في الحجرة ضئيلاً إلى حد أن "ألبرت" لم يلحظ الشحوب الذي كسا وجه الكونت، أو الرجفة العصبيّة التي هزَّت صدره وکتفیْه.

وحين تمالك الكونت نفسه قال في صوْتٍ هادىء:

-       أرى أن لك خليلةً جذّابةً جداً يا فيكونت .. وهذا الثوْب - الذي لا شك أنه ثوْب الرقص - يناسبها بشكل رائع.

فأجابه "ألبرت":

-       آهٍ يا سيدي .. ما كنت لأغفر لك هذا الخطأ لوْ أنك رأيت صورةً أخرى إلى جانبها .. إنك لا تعـرف أُمّي .. ولكن ها أنت ذا تراها أمامك .. لقد رُسِمَتْ لها هذه الصورة منذ حوالي ثماني سنوات .. وهذا الزي هو فيما يبدو زيٌ تنكُّري .. على أن الصورة من الإتقان والمشابهة للأصل بحيث يُخيَّل إليَّ أني أرى فيها أُمّى حقيقة كما كانت تبدو سنة ۱۸۳۰ .. لقد رُسِمَتْ لها هذه الصورة أثناء غياب أبي .. ولا شك أنها أرادت أن تُدبِّر له مفاجأةً سارّةً .. لكن العجيب في الأمر أن هذه الصورة لم تُعجِب أبي .. ولم تستطِع قيمتها الفنيّة باعتبارها من أعظم لوحات الفنان الذي رسمها أن تتغلَّب على بُغض أبي لها .. اغفر لي تحدُّثي في أمرٍ عائليٍ كهذا .. ولكن لمّا كنت أعتزم أن أقدِّمك إلى أبي فإني أذكر لك هذه التفصيلات راجياً ألّا تشير إلى هذه الصورة في حديثك معه .. ويُخيَّل إليَّ أن لهـذه اللوْحة تأثيراً خبيثاً، فما من مرّةٍ تدخل فيها أُمّي هذه الحجرة إلّا وقفت تنظر إليها مليّاً ثم انخرطت في البكاء!

وكان الكونت يُصغي إلى مضيِّفه الشاب في انتباه، بينما استطرد هذا فقال:

-       الآن وقد رأيت كل تُحَفي أرجو أن ترافقني إلى جناح أبي .. لقد كتبت إليه من "روما" ورويت له قصّة المعروف الذي أسديْته إلىَّ .. كما أنبأته بموعد زيارتك هذه .. وفي وِسعي أن أقول أن أبي وأمي يتلهَّفان شوْقاً إلى أن يُقدِّما لك شُكرهما وامتنانهما.

ثم أرسل "ألبرت" خادمه إلى أبويْه ليخبرهمـا بقدوم الكونت "دي مونت كريستو"، ومشيا في أثره حتى وصلا إلى الحجرة المُفضية إلى حجرتهمـا الخاصّة، وسرعان ما فُتِح بابها ووجد الكونت "دي مونت کریستو" نفسه وجهاً لوجه أمام الكونت "دي مورسيرف"، وكان هذا في الخامسة والأربعين من عمره وإن بدا في الخمسين على أقل تقدير، كما كان شاربه الأسـود وحاجباه يتنافران كل التنافُر مع شعر رأسه الأشيب القصير المقصوص على الطريقة العسكريّة، وكان يرتدي ثياباً بسيطةً ويضع في عروة سُترته أشرطة النياشين المختلِفة التي حصل عليها.

وتقدَّم الكونت "دي مورسيرف" للقاء ضيْفه في خطواتٍ متَّزنةٍ تنم عن الاعتداد بالنفس، بينما بقي الكونت "دي مونت كريستو" في مكانه لا يتحرّك، وبدا له كأن قدميْه سُمِّرتا في الأرض، وكأن عيْنيْه سُمِّرتا على مُحيّا مضيِّفه الوقور.

وقال الكونت "دي مورسيرف" وهو يحيّيه مبتسماً:

-       على الرحب والسَّعة يا سيّدی .. إنك قد أدَّيْت لهذا البيْت جميلاً لن ينساه مدى الحياة .. إذ أنقذت حياة وريثه الوحيد.

ثم قدَّم لضيْفه مقعداً، فتناوله هذا وجلس بحيث يسـقط عليه ظل الستائر الكبيرة التي صُنِعت من القطيفة، وقرأ على قَسَمات وجه مُضَيِّفه قصّة أشجانٍ خفيّةٍ حفرها الزمن مع ما حفر من الغضون والتجاعيد في ذلك الوجه.

ثم صاح "ألبرت" فجأة:

-       هذه أُمّي قد حضرت.

فالتفت الكونت "دي مونت كريستو" إلى حيث أشار "ألبـرت" فرأى الكونتيس "دي مورسيرف" واقفةً عند مدخل الصالون أمام الباب المواجه لذاك الذي دخل منه زوجها، وكانت شاحبة الوجه لا تتحرَّك وحين التفت إليها تركت ساعدها الذي كان يستند إلى مقبض الباب يسقط إلى جانبها.

كانت الكونتيس قد دخلت الحجـرة قبل ذلك بدون أن يلحظها أحد، ولمّا نهض الكونت وانحنى لها ردَّت التحيّة بغير أن تتكلَّم، وإذ ذاك قال لها الكونت "دي مونت كريستو":

-       عفواً يا سيّدتي .. أرجو ألّا تكوني مريضة.

وعندئذٍ أجابته:

-       لست مريضة .. وإنما هو الانفعال الذي تملَّكني فجأة وأنا أرى لأوّل مرّة الرجل الذي لوْلا شهامته لكُنّا الآن غارقين في دموعنا وأشجاننا.

ثم استطردت قائلةً وهي تتقدَّم نحوه بجلال الملكات:

-       سیّدي .. إني مدينةٌ لك بحيـاة ابني .. ومن أجل هذا أباركك وأشكرك على كوْنك قد أتحت لي فرصة الإعراب لك شخصيّاً عن امتناني القلبي.

وانحنى الكونت مرّةً أخرى وقد بدا وجهه أكثر شحوباً من وجهها، ثم قال لها:

-       سیّدتي .. إنك وزوْجك تبالغان في تقدير أمرٍ تافه .. فإن إنقاذ رجلٍ - من أجل نفسه ومن أجل شعور أبيه وعاطفة أمه - ليس عملاً كبيراً من أعمال الخيْر وإنما هو واجبٌ عاديٌ بسيط من الواجبات الإنسانيّة.

فأجابته الكونتيس "دي مورسيرف":

-       إنه لمن حُسن حظ ابنی یا سیّدی أن وجد صديقاً مثلك .. وأنا أشكر الله على ذلك.

ثم رفعت عيْنيْها إلى السماء وقد تجلّى فيهما الامتنان الحار بحيْث خُيِّل إلى الكونت أنه لمح فيهما دموعاً تلمع، وهنا اقترب زوْجها منها وقال:

-       یا سیّدتي .. لقد استأذنت الكونت في الانصراف .. وأرجو منكِ أن تفعلي ذلك أيضاَ .. فإن اجتماع المجلس يبدأ في الساعة الثانية .. والساعة الآن الثالثة .. وعلَّ أن أُلقي خطاباً فيه اليوم.

فأجابته الكونتيس باللهجة نفسها الدالَّة على التأثُّر:

-       إذهب إذن .. وسوف نبذل جهدنا کي ننسى غيابك.

ثم التفتت إلى الكونت "دي مونت كريستو" وقالت له:

-       ألَا تُشرِّفنا بقضاء بقية اليوْم معنا؟

فقال:

-       شكراً لكِ يا سيّدتي على كرمِك .. وأرجو قبول اعتذاري عن عدم استطاعتي قبول هذه الدعوة .. فقد جئت إلى هُنا رأساً عقب وصـولي إلى "باريس" .. وما زلت أجهل كل شيء عن المنزل الذي سأقطنه.

فقالت:

-       إذن .. هل تعد بأن تمنحنا شرف حضورك في فرصةٍ قريبة؟

فأومأ الكونت "دي مونت كريستو" موافقاً، بينما استطردت الكونتيس فقالت:

-       إذن .. لن أعوقك يا سيّدي.

وعلى أثر ذلك انصرف الكونت إلى المنزل الذي اختاره له تابعه "علي" في حي "الشانزليزيه"، فلم تكَد العربة تقف أمام الباب حتى أقبل "علي" و"برتوشيو" فأطلّا من نافذتها، ثم انحنى الأخير لسيّده احتراماً وقدَّم له ذراعه ليعينه على النزول، فقال له الكونت وهو يهبــط درجات سُلَّم العربة الثلاث:

-       أشكرك يا مسيو "برتوشيو" .. أين مُسَجِّل العقود؟

فقال "برتوشيو":

-       إنه في انتظار سيّدي في الصالون الصغير,

وحين دخل الكونت الصالون ابتدر الرجل سائلاً:

-       أأنت يا سيّدي المُسَجِّل المُكَلَّف ببيع المنزل الريفي الذي أريد شراءه؟ .. وهل أعددت عقد البيع؟

فقال المسجِّل:

-       نعم يا سيّدي الكونت .. وهذا هو العقد.

ومد يده بالعقد فتناوله الكونت قائلاً:

-       وأين يقع هذا المنزل؟

وقد ألقى الكونت هذا السؤال في هدوءٍ ينم عن عدم المبالاة، وهو ينظر إلى كل من "برتوشيو" والمسجِّل فقال الأخير متعجِّباً:

-       ماذا؟ .. ألَا يعلم سيّدي موقع البيت الذي يشتريه؟! .. إنه في "أوتوي".

وإذ ذاك شحب وجه "برتوشيو"، بينما وقَّع الكونت على العقد بسرعة وهو يُلقي نظرةً على البيانات الخاصّة بموْقعه ومُلّاكه السـابقين، ثم التفت إلى "برتوشيو" وقال له وهو يُشير إلى المسجِّل:

-       اعط هذا السيّد خمسةً وخمسين ألف فرنك.

ولم يكد الكونت يخلو إلى نفسه حتى أخرج من جيْبه كتاباً مُغلقاً بقُفلٍ ففتحه بمفتاحٍ كان يحتفظ به حوْل رقبته، وبعد أن قَلَّبَ محتوياته بضع لحظاتٍ توقَّف أمام ورقةٍ تحوي بعض البيانات، فراح يقارن ما فيها بما ورد في عقد الشراء الموْضوع فوق المنضدة، وهو يحدِّث نفسه:

-       "أوتوي" .. شارع النافورة رقم ۲۸ .. إنه هو بعيْنه .. والآن هل أعتمد على الاعتراف المنتَزَع بالتعذيب الديني أو الجسماني؟ .. على أيّة حالٍ سوف أعرف كل شيءٍ في خلال ساعة.

وبعد عشرين دقيقةٍ كان الكونت "دي مونت كريستو" ووكيله "برتوشيو" في طريقهمـا إلى ضاحية "أوتوي"، وازداد انفعال الوكيل وهما يقتربان من القرية، وكان المنزل رقم ٢٨ في أقصى أطرافها، وقد خلع الظلام على المناظر المحيطة به طابع المناظر المسرحيّة المصنوعة.

وطرق "برتوشيو" الباب وسرعان ما فُتِحَ وأطل الحارس منه فقدَّم له "برتوشیو" عقد الشراء قائلا وهو يشير إلى الكونت:

-       هذا هو سيّدك الجديد.

ثم سأل الكونت الحارس:

-       ماذا كان اسم سيدك القديم؟

فأجاب:

-       الماركيز "دي سانت فيران" .. وهو شيخٌ مسِنٌ من أتباع أسرة البوربون الملكيّة .. وليس له إلّا ابنةً واحدةً متزوِّجةً من المسيو "فيلفور" الذي كان وكيلاً للنائب العام في "نيم" ثم في "فرساي".

فقال الكونت:

-       يُخيَّل إليَّ أني سمعت أن هذه الابنة قد ماتت؟

فقال الحارس:

-       نعم يا سيّدي .. لقد ماتت منذ إحدى وعشرين سنة .. ومنذ ذلك التاريخ لم نرَ أباها المسكين سوى ثلاث مرّات.

-       شُكراً .. شُكراً .. أعطني مصباحاً.

وكف الكونت عن استجواب الرجل بعد أن لمح من نظرة وكيله أنه لن يستطيع المُضي في ذلك دون تعريض نفسه لخطر إثارة الريْب والشكوك في نفس الحارس، ثم قال له الحارس:

-       هل أرافقك يا سيدي؟

فقال:

-       كلّا .. لا ضرورة لذلك .. سوف يرافقني "برتوشیو".

وأطاع الوكيل صامتاً، لكن ارتجاف يده التي تحمل المصباح دل على مدى الجهد الذي كلَّفته إيّاه طاعة سيّده، وقال الكونت وهما يدخلان:

-       أهذا سُلَّمٌ خاص؟! .. هذا بديع .. أَضِئ لي يا مسيو "برتوشـيـو" وتقدَّمني .. سوف نرى إلى أين يؤدّي السلم.

ولم يسَع "برتوشيو" إلّا أن يُنفِّذ أمر الكونت، فلمّا بلغا الحديقة تريَّث عند الباب الخارجي بُرهةً ثم صاح وهو يضع المصباح عند زاوية الجدار الداخلي:

-       لا .. لا یا سیدي .. مستحيل .. لن أستطيع المضي أكثر من ذلك.

وهنا سأله الكونت في هدوء:

-       ماذا تعني؟

فأجاب قائلاً:

-       ينبغي أن توافقني یا صاحب الفخامة على أن هذا أمـرٌ غیر طبیعي .. أن تشتري المنزل في "أوتوي" وفي شارع "النافورة" بالذات ورقم (۲۸) دون غيره .. أوه .. لِـمَ لَـمْ أصارحك بكل شيء؟ .. أنا واثقٌ بأنك ما كنت لتجبرني على الحضور .. لقد رجوْت أن يكون البيْت الذي اشتريْته غير هذا الذي وقعت فيه جريمة القتل.

فصاح الكونت وهو يتوقَّف عن المسير فجأة:

-       ماذا؟ .. ما هذا الكلام الذي تقوله؟ .. يا لك من شيطانٍ كورسيكي لعين! .. ألَا تفكِّر إلّا في المآسي والخرافات؟! .. هيّا تناول المصباح ودعنا ندخل الحديقة .. لعلَّك لست خائفاً من الأشباح وأنت معي.

فحمل "برتوشيو" المصباح وأطاع الأمر، وحين فُتِحَ الباب المُفضي إلى الحديقة طالعتهما سماءٌ قاتمةٌ يحاول فيها القمر جاهداً أن ينفذ من خلال السحاب، فأراد الوكيل أن ينعطف إلى اليسار لكن صوْت الكونت لاحقه قائلاً له:

-       كلّا .. كلّا .. ما جدوى السيْر في الممرّات؟ .. هذا بسـتانٌ جميل .. فلنمضِ إلى الأمام.

ثم تقدَّمه الكونت وواصل السيْر حتى بلغ أَجَمةً من الأشجار فتوقّف، وإذ ذاك عجز الوكيل عن أن يقمع انفعاله فصاح:

-       تحرّك يا سيدي من مكانك بسرعة .. أتوسَّل إليك .. إنك تقف في البُقعة التي سقط فيها بالضبط .. وها أنت ذا في وقفتك هذه مرتدياً هذا المعطف الذي يُخفي وجهك تُذكِّرني بمسيو "دي فيلفور".

فقال الكونت بلهجةٍ جعلت الرعدة تسري في أوصال الوكيل المسكين:

-       إذن فقد خدعني الأب "بوزوني" حين أرسلك إليَّ عقب رحلته في أنحـاء "فرنسا" سنة ١٨٢٩ مُزَوَّداً بخطاب توصيةٍ عَدَّدَ فيه صفاتك الحميدة .. حسناً .. سوف أكتب الآن إلى الأب "بوزوني" وأُحمِّله مسئولية سوء مسلك مبعوثه .. وسأعرف كل شيءٍ عن جريمة القتل هذه .. لكني أنذرك منـذ الان بأني حين أقيم ببلدٍ ما أخضع لجميع قوانينه .. ولست أرغب الآن في أن أضع نفسي تحت رحمة القانون الفرنسي من أجلك.

فقال "برتوشيو" في برود:

-       ولكن يا صاحب الفخامة .. ألم يذكر لك الأب "بوزوني" ما تضمَّنه اعترافي الكامل له في سجن "نيم"؟ .. إن عِبئاً جسيماً يجثم فوق ضميري.

فقال الكونت:

-       لقد ذكر لي الأب "بوزوني" أنك تصلح وكيلاً مثاليّاً .. وقد حسبت أن جريمتك كانت جريمة سرقةٍ لا غير .. هذا كل ما في الأمر .. والآن لا بد من أن تكاشفني بكل شيء.

أخذ "برتوشيو" يروي قصّته للكونت بالتفصيل قائلاً:

-       إن القصة تبدأ في سنة 1815 .. وكان لي أخٌ أكبر يعمل في خدمة الإمبراطور "نابوليون بونابرت" .. وكان أخي وصديقي في الوقت نفسه .. تولَّى تنشِئتي کما لو كنت ابنه .. وقبل أن تبدأ قصّتي تزوَّج أخي عام 1814 .. ولمّا عاد الإمبراطور من منفاه في جزيرة "إلبا" انخرط أخي هذا في الجيْش .. ثم أصيب بجرحٍ خفيفٍ في معركة "واترلو" وانسحب مع الجيش وراء إقليم "اللوار" .. وذات يوْمٍ تلقيْنا خطاباً منه جاء فيه أن الجيش تفرَّق شمله وأنه سوف يعود من طريق "نيم" .. ثم طلب مني أن أترك له ما أملك من نقودٍ عند صاحب حانةٍ من حانات "نيم" كانت لي معه معاملاتٌ تتَّصل بالتهريب .. ولمّا كنت أحب أخي حُبّاً قويّاً فقد رأيت أن أحمل النقود إليه بنفسي .. وفي ذلك الوقت حدثت تلك المذابح الشهيرة في جنوب "فرنسا" .. حيث ظهر ثلاثةٌ من قُطّاع الطُرُق هم: "ترستايون" و"تروفيمي" و"جرافان" وقد أخذوا على عاتقهم أن يذبحوا علانيةً كل من يتوهَّمون أنه من أتباع "بونابرت" .. فلمّا دخلت "نیم" خُضت في بحارٍ من الدم حتى بلغت منزل صديقي صاحب الحانة .. ومنه علمت أن أخي وصل في الليْلة السابقة .. وأنه ذُبِحَ غيلةً على باب الدار التي جاء يلتمس ضيافتها .. وبذلت كل ما في وسعي کي أعرف القتـلة .. لكن أحداً لم يجرؤ على مکاشفتي بأسمائهم لفرط الذُعر الذي أشاعوه في المدينة .. فلم أجد مفرّاً من أن ألجأ إلى وكيل النائب العام مسيو "دي فيلفور" .. وقد تلقّاني يومها قائلاً: "لكل ثورةٍ فواجعها، وقد كان أخوك واحداً من ضحاياها، إنه سوء حظ، والحكومة ليست مدينة لأسرته بشيء، إن ما حـدث أمرٌ طبيعي، يتَّفق مع قانون الأخذ بالثأر، فاذهب الآن فـوْراً، وإلّا أمرت بطردك" .. حينئذٍ نظرت إليه لأرى هل هناك جدوى أو أملٌ يرجي من متابعة التوسُّل إليه .. لكنه كان رجلاً ذا قلبٍ حجري .. فدنوْت منه .. وقلت بصوْتٍ خافت: "حسناً، إذن دعني أخبرك بشيءٍ واحد: إني سوف أقتلك، وإنني منذ هذه اللحظة أُعلِن الثأر ضدك، فحاول حماية نفسك بكل وسيلة فحين نلتقي في المرّة القادمة تكون ساعتك قد حانت" .. وقبل أن يفيق الرجل من ذهوله فتحت الباب وغادرت الحجرة .. ولبثت بعد ذلك ثلاثة أشهر وأنا أراقب مسيو "دي فيلفور" عن كثب .. حتى اكتشفت أنه يذهب خِلسةً إلى حي "أوتوي" .. فتبعته حتى رأيته يدخل هذا البيت الذي نحن فيه الآن .. وفي ذات مساء بينما أنا متربِّصٌ له وراء هذا السور رأيت امرأةً حسناء في نحو التاسعة عشرة من عمرها تتمشّى في الحديقة وحدها .. وقد ارتدت ثوْباً فِضفاضاً يشي بأنها تنتظر موْلوداً في القريب .. وأدركت أنها تنتظر قدوم "دي فيلفور" .. وبعد لحظات فُتِحَ الباب الصغير ودخل منه رجلٌ تلقّته المرأة مُعانِقةً في لهفة .. ثم ابتعدا نحو نهاية الحديقة .. ولم يكن الرجل سوی مسیو "دي فیلفور".

وسكت الرجل برهةً ليزدرد ريقه الجاف ثم استكمل:

-       .......

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent