حوار بين عامي ودرعمي (1)
هل تحوّل المصريون من شعب "جحا"
إلى مسخ "الزومبي"؟ | إديني ف الهايف
اقتربت الأمسية على الانتصاف ولم يبقَ على انتهاء اليوْم سوى أربع ساعاتٍ وتبدأ أصبوحةُ يوْمٍ جديد حين التقى الصديقان الحميمان على مقهى "الشعب" بحارة "الأوقاف" الكائنة بحي "الكيت كات" في إمبراطوريّة "إمبابة" المصريّة قلب مدينة "القاهرة" عاصمة جمهوريّة "مصر" العربيّة .. أوّلهما رجلٌ درعميٌ (متخرّجٌ في "دار العلوم") ذو لسانٍ عربيٍ فصيح ولا يتكلّم بغير اللغة العربيّة الفصحى التي يعتز بها ويتقنها أيّما إتقان .. وثانيهما رجلٌ عامّي (ينتسب إلى العامّة والدَهْماء) لسانه طول الفرقلّة وما بيتكلّمش غير باللغة العاميّة المصرية الدارجة المحكيّة .. وبعد أن تصافح الجليسان وطلبا كوباً من الشاي وفنجاناً من القهوة بدآ يتجاذبان أطراف الحديث:
-
إزيّك يا حُبّي ..
عامل إيه؟ .. وحبايبك أخبارهم إيه؟
-
أحمدُ الله .. كلُنا
في نعمةٍ من الموْلى .. وأنت: كيف أمسيْت؟
-
الحمد لله .. فضل
وعدل .. أهي عيشة والسلام.
-
أراك مهموماً اليوْم
.. ماذا حدث؟
-
يا سيدي .. ما تاخدش
ف بالك.
-
أقلقتني عليك يا رجل
.. أهناك خَطْبٌ ما؟
-
يعني ما انتش شايف
.. المعايش بقت صعبة يا خويا .. ويا دوبك الواحد يخلص من حاجة يلاقي حاجة تانية
متصدّرة ف وشّه.
-
أفصح يا صديقي .. هل
تحتاج مالاً؟
- لا لا .. مستورة ..
غيرش بس الدنيا ماشية بالزَق .. آدينا خلصنا من رمضان ومصاريفه دخلنا في العيد
وكحكه .. ويا دوبك فُقت لقيت العيال طالبين فلوس زيادة عشان مراجعات الدروس والمجاميع
بتاعة امتحانات آخر السنة .. ولسّه ح اقول يا هادي وآدي العيد الكبير جاي بلحمته
وهدومه وحاله ومحتاله .. وجاي بعده دخول المدارس ومصاريفها واشتراك السناتر وبعده
الكسوة الشتوي .. وبعدين يهل علينا شهر ينايم وفقراير اللي بيقف حالنا فيهم .. وكل
ده والحكومة ما بترحمش .. وعمّالين يزوّدوا في الفواتير والضرايب والرسوم ..
والأسعار كلها بقت نار .. وكل تاجر سلعة بيرفع تمنها الطاق طاقين .. وبقينا بناكل
ف بعض .. والسوق ما فيهوش رقابة من الحكومة اللي سايبانا نصطفل مع بعض أو نخلّص
على بعض.
- صدقت .. فقد أصبح المسؤولون يتعامون عن محاسبة التجّار الجشعين الذين يتاجرون بقوت الناس ويزيدون وَيْلَهم وَيْلات .. وعدنا لأيّام "كافور الإخشيدى" حين هجاه "أبو الطيب المتنبى" فى بيْته الذي قال فيه: "نامت نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبها .. فقد بَشِمْنَ ولا تَفنى العناقيدُ".
-
نعم؟ .. يعنى إيه
البيت ده؟
- معناه أن حرّاس مصر
ومسؤوليها المنوط بهم حماية الوطن والشعب قد أغمضوا أعينهم عن اللصوص بعد أن
أصابتهم التخمة من كثرة ما حطّوا فى بطونهم من خيْر البلاد الذى لا ينفذ.
-
آه .. قصدك حاميها
حراميها يعنى؟ .. لا يا راجل .. ده فيه مسؤولين كتير محترمين وعارفين ربنا .. بس
للأسف الوحش بيغطّى ع الكويّس .. وما تنساش إننا من زمان على ده الحال والطحين على
عياره زى ما بيقولوا .
-
ولكن الطين إزداد
بَلّة يا أخى .. ولم يعد بمقدورنا التحمّل أكثر من هذا .
- معلهش .. آهى فترة
وتعدّى .. يا ما دقّت ع الراس طبول .. الله!! .. هوَّ انا باشكي لك عشان تصبّرني
ولّا عشان تسخّني أكتر ما انا متنيّل.
-
لم أقصد واللهِ ..
ولكن همومنا واحدة وشجوننا مشتركة وصارت الكآبة هي شاغلنا الشاغل.
- يا عم مش للدرجة ..
الدنيا حلوة برضه .. وبعدين انت بسم الله ما شاء الله .. نمسك الخشب
يعني .. آشيتك معدن وأبوك الله يرحمه سايب لك قرشين مش بطّالين.
-
أنا لا أتكلّم بلسان
حالي بل أحمل هموم الناس فوق رأسي.
- يا راجل وانت ما لك
وما للناس .. خلّيك ف حالك .. وما تفكّرش ف غيرك .. واضربها صرمة .. إعمل زي "جحا".
- وماذا فعل
"جحا"؟
- جُم الناس ف يوم
قالوا له: "إلحق .. الضرب داير ف البلد" .. قال لهم: "طول ما الضرب
بعيد عن راسي خلاص .. ما ليش دعوة .. أنا كده ف السليم".
- هق هق هق .. أولاً:
الناس لم يحدّثوه عن الضرب بل عن شيءٍ آخر .. ثانياً: "جحا"
لم يعنِ رأسه ولم يخَفْ عليها بل كان يخاف على منطقةٍ أخرى .. وثالـــ...
-
ها ها هههههه ..
حبيبي يا شيخنا يا مجرم.
-
ثالثاً: لقد تجاوزنا
مرحلة "جحا" منذ زمن.
-
وإيه مرحلة
"جحا" دي يا اخويا؟
- "جحا" ليس
مجرّد شخصيّة .. إنه أسلوب حياة ينهجه المصريون بل والعرب منذ عصورٍ بعيدة .. نحن
في مجتمعٍ يقدّس "جحا" ويضعه مثالاً وقدوة .. صرنا نعشق اللامبالاة
ونكبّر السَلْبيّة ونعظّم الانهزامية .. سادت بيننا ثقافة "لقمة العيْش"
و"تربية العيال" وانفصلنا عن حل مشاكلنا دون التفاعل الإيجابي معها ..
لم يعد شعار "لا يأس مع الحياة" هو المرفوع بيننا بل أصبح شعارنا الأثير
هو "لا حياة لمن تنادي" .. ولكن ذلك أصبح من الماضي .. فمرحلة
"جحا" مضت وتطوّرت إلى الأسوأ.
- أومّال احنا ف مرحلة
إيه ده الوقت؟
- نحن الآن يا عزيزي
في مرحلة "الزومبا".
- "زومبا"!!؟
.. "زومبا" إيه؟
- ألم تشاهد هؤلاء
"الزومبا" في الأفلام السينيمائيّة الأمريكيّة؟
- ........!!!؟؟
- يا رجل .. ألا تعرف
أولئك الناس الذين ماتوا ودُفِنوا وتحلّلت جثامينهم ثم دبّت فيهم الحياة والحركة
من جديد فنبشوا قبورَهم بأنفسِهم وخرجوا في الشوارع والبيوت ليسيروا بخطواتٍ
مترنّحةٍ كالأشخاص المنوَّمين بلا وعيٍ أو هدف .. لقد أطلق صانعوا الأفلام عليهم
لقب "الأموات الأحياء" أو "الجثث المتحرّكة" أو "الـ...
-
آآآآآآه .. قصدك
"الزومبي"؟
- أيْنعم .. نحن نعيش
الآن مجتمع الخوف والسلبيّة بكل حذافيره وصرنا بالفعل شعباً من
"الزومبي" .. ميّتون بالفعل رغم أننا نتنفس ونتحرك ونخرِج فضلات ما
أكلنا وشربنا ثم ندخل حظائرنا ليلاً لنتناسل وننام .. وليس هناك أي أملٍ في إحياء
روحنا من جديد .. على الأقل في الأجيال الحالية المنكوبة.
- يا راجل مش للدرجة
دي .. ما لك غمّقتها قوي كده ليه؟ .. إنت بس اللي مكبّر الموضوع .. ما تشيلش طاجن
سِتّك وتنعى هَم الناس .. الناس مبسوطة ع الوضع ده .. وابوها راضي وانا راضي .. ما
لك انت بقى وما لنا يا قاضي؟ .. ولّا انت صحيح زي ما بيقولوا: "الفاضي يعمل
قاضي"؟
-
أنا لست قاضياً ولا فاضياً.
- طب خلاص .. استبينا
.. سيبك م الصعبانيّات دي بقى وادخل معانا الحظيرة واشتري دماغك .. وما فيش داعي
تفوّر دمّك وتنكّد علينا وعلى نفسك .. الله يسترك إحنا مش ناقصيين كآبة .. كفاية
اللي احنا فيه.
-
ألم تشكو لي سوء
الحال منذ دقائق!!!!!؟؟؟
-
يا سيدي انا غلطان
.. ما لكش دعوة انت .. خلّيك ف نفسك.
-
عجباً لك!!!
-
يا عم بلا عجباً بلا
لهباً .. أنا راجل صاحب عيا ..... وكمان صاحب عيال .. القهاوي ملغّمة مخبرين .. لو
حد سمعنا ح نروح ورا الشمس .. الله يكرمك خلينا نعيش عيشة أهالينا ونعدّي يومينّا
على خير.
-
عندك حق .. عندك ألف
حق .. فما مضى من العمر أكبر كثيراً ممّا هو قادم .. ولا طائل من بذل أي مجهودٍ في
محاولةٍ بائسةٍ يائسة لإحياء مجتمعٍ ميّتٍ بالفعل .. قال تعالى: "إِنَّكَ لَا
تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚوَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ" .. وقال الإمام الغزالي: "الإكراه على الفضيلة لا يصنع
الإنسان الفاضل كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن فالحرية هي
أساس كل فضيلة" .. وقال بيدبا الفيلسوف: "تبدأ الحريّة حينما ينتهي
الجهل والفقر والمرض" .. كما تقول الحكمة المعروفة: "أحمقٌ هو من يضرم
النار في نفسه لينير الطريق لحفنةٍ من الأعمياء".
- أيواااااااه .. إعقل
كده وغيّر الموضوع .. خلّينا نروّح بيوتنا سُلام .. اتكلّم ف موضوع تاني.
- أتريدني أن أتحدّث
إليك بشأن كرة القدم أم بشأن مسلسلات التلفاز؟
- أي حاجة يا سيد
الناس .. أي حاجة .. المهم تكون في السليم.
- تقصد في توافه
الأمور.
- وماله .. الشاعر بيقول: "إديني ف الهايف وانا احبّك يا نَنَنَّس" .. وسلّم لي ع التوروماي.