خبر
أخبار ملهلبة

الكونت دي مونت كريستو | ألكسندر دوماس (الأب) | الجزء الخامس عشر والأخير



الجزء الخامس عشر والأخير

 

 

ومشى الكونت على أطراف أصابعه إلى الباب الذي دخل منه، فاختفى وراءه ومرّت عشرون دقيقةً بطيئةً رهيبة، ثم فُتِح باب غرفة "فالنتين" دون صوْت .. ولمحت شبحاً يقترب من فراشها ثم يهمس:

-       "فالنتين" .. "فالنتين".

فلمّا لم تجِب سمعت سائلاً يُصَب في الزجاجة التي تشرب منها، وإذ ذاك بذلت جهدها كي تفتح أجفانها قليلاً وتنظر من خلالها فرأت امرأةً تصب في الماء سائلاً من قارورةٍ معها، ولم تكُن هذه المرأة سوى زوْجة أبيها مدام "دي فيلفور"، ولم تفِق "فالنتين" من ذهول المفاجأة الذي استمر دقائق بعد خروج المرأة الآثمة إلّا حين فُتِحَ الباب المقابل في سكون ودخل منه الكونت "دي مونت كريستو" وقال لها:

-       لا تنزعجي من أي شيءٍ يحدث لكِ .. حتى لو شعرت بأنكِ فقدتِ النظر أو السمع أو الوعي أو حتى لو صحوْت فوجدت نفسكِ داخل نعشٍ مُغلَق .. وإنما قولي لنفسك عندئذٍ: "هناك صديقٌ بمثابة أبٍ يعيش من أجل سعادتي وسعادة "مكسمليان" وهو سیحمیني" .. ذلك لأنني وحدى مَن يستطيع إنقاذكِ .. وسأفعل.

ثم أخرج من جيْبه حبةً في حجم الحُـمُّصة وقدَّمها لها فابتلعتها، وإذ ذاك قال لها:

-       الآن يا طفلتي المحبوبة .. وداعاً إلى حين.

ثم اختفى.

وفي الصباح استبطأت الممرِّضة يقظة المريضة فدخلت لتوقظها فلمّا رأتها هامدةً بيضاء الشفتيْن صرخت مذعورة، فدخل على صوْت صرختها الطبيب "دافریني" وقال:

-       ماذا؟! .. أهي الأخرى أيضاً؟! .. ربّاه.

هبط الكونت "دي مونت كريستو" من عربته أمام منزل البارون "دانجلر" واستقبله هذا بابتسامةٍ حزينةٍ قائلاً:

-       أجِئت تعزّیني؟ .. لقد تكاثرت المصائب في بيتي .. فقد فرَّت ابنتي وهجرتني بعد فضيحة "كافالكانتي".

فقال الكونت في هدوء:

-       إن أي حادثٍ - من النوْع الكفيـل بتحطيم مَن لا يملك كنزاً غير ابنته - يُصبِح مُحتَمَلاً في نظر مَن يملك الملايين.

فقال البارون "دانجلر":

-       إذا كان الثراء يجلب التعزية فينبغي أن أتعزّى فإننی ثري .. وفي اللحظة التي دخلت فيها كنت قد فرغت من توقيع صكوك بمبلغ خمسة ملايينٍ من الفرنكات.

فسأله الكونت:

-       هل هي مُستَحَقّة الدفع فوْرا؟

وإذ أوْمأ موافِقاً قال له الكونت "كريستو":

-       إذن سأقبل المغامرة .. لقد فتحت عنـدك حساباً بسِتّة ملايينٍ من الفرنكات .. لم أسحب منها حتى الآن إلّا تسعمائة ألف فرنك .. أي أن لي عندك خمسة ملايينٍ ومائة ألف فرنكاً .. لكني سأخذ هذه الصكوك التي تساوي خمسة ملايين فقط وأُعطيك إيصالاً بأني تسلَّمت كل حسابي . إني في حاجةٍ إلى هذا المبلغ اليوم.

وسارع الكونت إلى وضع الصكوك في جيْبه، فبـدا الفزع على "دانجلر" وقال له:

-       ولكن .... ولكني مدين بهذا المبلغ لجهةٍ ما .. وقد وعدت بدفعه اليوْم.

-       إذن تدفع لى المبلغ بأية وسيلةٍ أخرى غير هذه الصكوك .. ولو أني كنت سأفاخر بأن بنك "دانجلر" قد دفع لي خمسة ملايينٍ من الفرنكات في اللحظة التي طلبتها فيها .. إنه أمرٌ يُدَّعِم الثقة فيك.

وطافت بذهن "دانجلر" فكرةٌ مفاجئة فرضخ لطلب الكونت، وفيما كان الكونت "دي مونت كريستو" يتأهَّب للإنصراف دخل مُمثـِّل الجهة التي تدين "دانجلر" بالخمسة ملايين، فقال له البارون:

-       لقد سبقك الكونت "دي مونت كريستو" فأخذ من حسابه مبلغ خمسة ملايينٍ من الفرنكات .. ولو أني حرَّرت في يوْمٍ واحدٍ صكوكاً بعشرة ملايين لأحدث ذلك هَزَّةً في السوق، فهل لك أن تحضر ظهر غد؟

فوافق الرجل على ذلك وانصرف، بينما همس "دانجلر" لنفسه:

-       في هذا الموْعد سوف أكون في مكانٍ بعيد.

أمّا "فالنتين" فدُفِنَت في مقبرة "الأبلاشيز"، وأغرق أبوها نفسه في العمل لكنه عجز مع ذلك عن أن ينساها، فدخل ذات يوْمٍ جناح زوْجته وكانت جالسةً تُقلِّب بعض الصُحُف والمجلّات، وقد ارتدت ثيابها وقُفّازيْها تأهُّباً للخروج، وبادر "فيلفور" فأحكم إغلاق الباب بالمزلاج ثم وقف بين زوْجته وبين الباب، فسألته وهي تحاول أن تقرأ أفكاره:

-       ماذا هناك؟

فقال لها:

-       سيّدتي أين تحتفظين بالسُم الذي تستعملينه؟

فانطلقت من المرأة صرخةٌ أو شَهْقةٌ مكتومة، وشحب وجهها شحوب الأموات، وأجابته متلعثمةً:

-       إني .... إني لا أفهم .. ماذا تعني؟

-       لقد سألتكِ أين تُخفين السُم الذي قتلتِ به صهري وحماتي وخادم أبي ثم ابنتي؟

-       ما هذا الذي تقول؟!

-       ليس لكِ أن تسألي بل عليكِ أن تجيبي فقط.

-       هل أُجيب القاضي أم الزوْج؟

-       القاضي یا سیّدتي .. القاضي.

فأخفت المرأة وجهها بين يديْها وغمغمت:

-       أوّاه یا سیّدي .. أتوسَّل إليك .. لا تُصدِّق الظواهر.

-       يا لكِ من جبانة! .. لقد طالما لاحظت جُبن أمثـالكِ من الذين يقتِلون بالسُم .. ولكن فاتك وأنت تُعدِّين سُمومك - وتُزيلين آثارها ببراعةٍ تبلغ حد الإعجاز - أن تُقدِّري النهاية التي سوف تقودك إليها آثامكِ .. ولكن لعلَّكِ قد احتفظتِ ببقيّةٍ من سُمِّك العجيب الفعـّال كي يُنجيكِ من العقاب الذي تستحقِّينه.

فركعت الزوْجة الشابّة على ركبتيْها ومدَّت إليه يدها مناشِدةً، فقال لها:

-       أرى أنكِ تعترفين بجرائمكِ .. لكن الاعتراف للقاضي في آخر لحظةٍ لا يُخفِّف من شِدّة العقوبة .. على أن زوْجة القاضي الأول في العاصمة ينبغي ألا تموت على المشنقة فتلطخ - بضربةٍ واحدةٍ - سُمعة زوْجها وابنها .. سیّدتي: إنه لَتصرُّفٍ حكيمٍ منكِ أن تموتي بذلك السُم نفسه.

وارتمت الزوْجة عند قدميْ زوْجها وهي تُطلِق ضحكةً هيستيريّةً مخيفة، فقال لها وهو يهم بمغادرة الغُرفة:

-       فكِّري في الأمر يا سيّدتي .. وسأخرج الآن .. فإذا وجدتِ عند عوْدتي أن العدالة لم تأخذ مجراها فسوف أُبلِغ ضِدَّكِ بلساني وأقبض عليِك بيدي.

تمكّن البوليس من إلقاء القبض على المجرم الهارب "أندريا كافالكانتي" - أو "بنديتو" - ثم قُدِّم للمحاكمة بفضل الجهود التي بذلها مسیو "دي فیلفور" قاضي التحقيق، وقد تفنَّن في صياغة تقرير الاتهام بأسلوبه القوي الصارم، وفي الجلسة نودي المتَّهم وتُليَت عليه التُهمة ثم سأله القاضي:

-       اسمك ولقبك؟

-       اسمح لي يا سيّدي أن أجيب عن أسئلتك بغير الترتيب التقليدي المُتَّبع وإلّا فلن أجيب على الاطلاق.

فنظر القاضي إلى المحلَّفين في دهشة، و نظر هؤلاء بدوْرهم إلى "فيلفور"، بينما ظل المتهم مُحتفِظاً بهدوءٍ عجيب.

-       سِنَّك؟ -

-       سوف أبلغ الحادية والعشرين بعد أيّامٍ قلائل .. فقد وُلِدت ليلة ٢٧ سبتمبر سنة ١٨١٧ في ضاحية "أوتوي" القريبة من "باريس".

وهنا رفع "فيلفور" رأسه عن الاوراق التي كان يكتب فيها، وشحب وجهه لدى ذكر تاريخ الميلاد ومكانه، بينما مسح المتهم شفتيْه بمنديلٍ فاخر، وعاد "فيلفور" يسأله:

-       مهنتك؟

فأجاب:

-       في البداية كنت مزيِّفاً .. ثم صِرت لِصّاً .. وأخيراً أصبحت قاتلاً.

وأحدثت هذه السخرية ضجةً في صفوف المُحلِّفين والنظّارة، ونظر الجميع إلى المتهم الوَقِح باشمئزاز، بينما احمرَّ وجه "فيلفور" وتململ في مقعده كمن يبغي هواءً يتنفسَّه، فسأله المتهم وهو يبتسـم:

-       هل تبحث عن شيءٍ یا سیّدي المحقِّق؟

ولم يُجِب "فيلفور"، فتابع الرئيس استجواب المتَّهم:

-       والآن .. هل لك أن تذكر اسمك؟

-       لست أستطيع ذلك .. لأني لا أعرفه .. لكني أعرف اسم أبي .. وفي وِسعي أن أذكره لكم.

وهنا تساقطت قطرات العرق من جبين "فيلفور" على الأوراق التي أمسكها بيده المتقلِّصة، بينما استطرد المتَّهم فقال في هدوء:

-       إن أبي يشغل منصب قاضي تحقیق.

فتساءل الرئيس ذاهِلاً دون أن يلحظ الانزعاج البادي على "فيلفور":

-       قاضی تحقیق؟! .. تقول قاضی تحقیق؟!

-       نعم .. وإذا أردتم معرفة اسمه فسأذكره لكم .. إنه يُدعى "فيلفور".

وإذ ذاك انفجرت بين النظّارة العاصفة التي حاولوا في البداية قمعها توْقيراً للمحكمة، وشَـخَصَتْ العيون جميعاً نحو "فيلفور"، وكان كأنما حوّلته الصدمة إلى جُثّةٍ هامدة، بينما تابع المتَّهم اعترافه في صوْتٍ قويِ فقال:

-       أيّها السادة: إني مدينٌ لكم بالبراهين المُثبِتة لأقوالي .. لقد وُلِدتُ في المنزل رقم ۲۸ شارع "النافورة"، في حُجرةٍ مُبطَّنةٍ بالحرير الأحمر .. ثم أخذني أبي بيْن ذراعيْه بعد أن ذكر لأُمّي أني وُلِدتُ ميِّتاً، ولَفَّني في مِنشَفةٍ عليها حرفا "هـ" و"ن" .. ثم حملني إلى الحديقة حيث دفنني حيّاً.

وسرت بين المُحلَّفين قشعريرةٌ رهيبة، بينما تابع الرئيس أسئلته:

-       كيف وقفت على كل هذه التفصيلات؟

كان هناك شخصٌ أخذ على نفسه أن ينتقم من أبي، فكمن له في الحديقة في تلك الليْلة، حتى رآه يدفن صندوقاً في الأرض، فطعنه بسكّينه ثم أخرج الصندوق الذي حسبه يحوي کنزاً، فلمّا وجدني حيّاً أخذني إلى ملجأ اللُقطاء في "باريس" حيث بقيت به ثلاثة أشهرٍ حتى أخرجتني منه زوْجـة أخيه، وعادت بي إلى بيتها في "كورسيكا" .. وهنـاك نشأت في رعاية أولئك القوْم الطيّبين .. لكن الوضع المقلوب الذي صاحب موْلدي طغي على الفضـائل التي حاولوا بثَّها في قلبي .. فنموْت في الرذيلة حتى صِرت مُجرِماً .. وذات يوْمٍ كنت ألعن الأقدار التي خلقتني شرّيراً فسمعني أحد القساوسة وقال لي: "لا تُجدِّف على (تكفُر بـ) الأقدار أيّها الفتى التَعِس فالجريمة جريمة أبيك الذي نذرك للجحيم حين دفنك حيّاً كي تموت خاطئاً قبل أن يُدرِكك غُفران الله" .. ومنذ ذلك اليوْم كففت عن التجديف على خالقي .. وصِرت ألعن أبي .. ولهذا نطقت الآن بهذه الأقوال التي ملأت قلوبكم اشمئزازاً .. فإذا كنت قد ارتكبت بذلك جريمةً إضافيّةً فعاقبوني .. وإذا شعرتم معي بأني منذ يوْم مولدي لاحقتني الأقدار بالأسى والمرارة والبؤس فارثوا لحالي.

وسأله الرئيس:

-       وأُمّك؟

فأجاب:

-       أُمّي بريئة .. فقد حسبتني میّتاً .. لذلك لم أعبأ حتى بأن أعرف اسمها .. ولست أعرفه.

وعندئذٍ انطلقت من بين صفوف النظّارة صرخةٌ ثاقبةٌ صادرةٌ من امرأةٍ كانت تُغطّي وجهها بنقاب، فلمّا أجهشت بالبكاء في نوْباتٍ هيستيريّةٍ سقط النقاب عن وجهها فعرف الجميع أنها مدام "دانجلر"، ولم يكَد بصر "فيلفور" يقع عليها حتى هبَّ من مقعده واقفاً دون وعيٍ منـه، وتابع الرئيس أسئلته للمتَّهم قائلاً:

-       الأدِلّة .. الأدِلّة حاسمة .. تذكَّر يا هذا أن هذه الأقوال المروِّعة يجب أن تستند إلى أدِلّةٍ حاسمة.

فأجاب "بنديتو" ضاحكاً:

-       تريدون الأدلة؟ .. انظروا إذن إلى وجه مسيو "دي فيلفور" ثم طالبوني بالأدِلّة.

واتَّجهت جميع الأنظار إلى قاضي التحقيق الذي عجز عن مواجهة آلاف العيون المسلَّطة عليه فنهض من مقعده وسار مترنِّحاً مُشعث الشـعر وقد بدت على وجهه خدوش أظافره، فانطلقت من الجميع غمغمة دهشة وخاطبه المتَّهم قائلاً:

-       أبي .. إنهم يطالبونني بالأدِلّة .. فهل تُريدني أن أقدِّمها؟

وهنا قال "فيلفور":

-       كلّا .. لا فائدة من ذلك.

فصاح به الرئيس:

-       ماذا تعني؟

فقال:

-       أعني أنني أشعر باستحالة مقاومتي لليد الجبّارة المُميتة التي تسحقني .. إنني الآن بين يديْ إلهٍ مُنتقِمٍ جبّار .. ولستم في حاجةٍ إلى أدِلّة .. فإن كل ما ذكره هذا الشاب صحیح .. وإني منذ هذه الساعة أضع نفسي تحت تصرُّف ممثِّل الاتهام الذي سيخلفني.

تم سار نحو الباب كمَن يمشي نائماً، ومضى إلى منزله حيث دخل غُرفة زوْجته، وصاح بها:

-       "هیلویز" .. "هیلویز".

ووجدها واقفةً في وسط الغُرفة شاحبة الوجـه غائرة العيْنيْن، فهتف بها:

-       "هیلویز" .. ماذا حدث؟ 

فأجابت في حشرجةٍ بدت كأنما تُمزِّق حلقها:

-       لقد تم لك ما أردت .. ماذا تبغي بعد ذلك؟!

ثم سقطت بكل ثقل جسمها على الأرض، فهُرِع "فيلفور" نحوها وأمسك بيدها التي كانت متقلِّصةً على قِنّينةٍ صغيرةٍ ثم هتف:

-       ربّاه  .. لقد ماتت.

واندفع كالمخبول إلى خارج الغُرفة وهو يصرخ:

-       "إدوار" .. "إدوار" .. أین ابني؟ .. يجب إبعاده عن البيت حتى لا يرى هذه المأساة.

فأجابه الخادم:

-       السيّد "إدوار" في غُرفة والدته .. لقد استدعته منذ نصف ساعة ولم يخرج ثانيةً.

وأسرع عائداً إلى تلك الغُرفة فانطلقت من صدره صرخةٌ مروِّعة وهو يلمح جُثّة ابنه في رُكنٍ قَصي، وغمغم:

-       إنها يد الله.

ولم يستطِع البقاء في رفقة جُثّتيْن وكأنما أراد أن يجد شخصاً يقص عليه أحزانه ويبكي إلى جواره .. فمضى إلى غُرفة أبيه.

وهناك وجد "نوارتييه" يٌصغي بانتباهٍ إلى الأب "بوزوني" الذي كان هادئاً بارداً كعادته، فقال له "فيلفور":

-       هل أنت هُنا یا سیّدي؟ .. أَوَلا تظهر إلّا في صُحبة الموت؟!

فالتفت الأب "بوزوني" إليه، وإذ رأى هيئة "فيلفور" أدرك أن الفضيحة التي دبَّر أمر إثارتها في المحكمة قد تمَّت طِبقاً لخِطَّته المرسومة، فأجاب:

-       جِئت لأُصلّي على جثمان ابنتك ..ولأقول لك أنك قد دفعت دَيْنك بما فيه الكفاية .. وإنني منذ هذه اللحظة سأُصلّي إلى الله کي يغفر لك .. كما غفرت لك أنا أيضاً.

فهتف "فيلفور" وهو يتراجع إلى الخلف مفزوعاً:

-       يا لَلسماء! .. هذا ليس صوْت الأب "بوزوني"!

فابتسم هذا وأوْمأ موافقاً ثم خلع عباءته وشعره المُستعار وأسـدل شعره الطبيعي على عُنقه، فصاح "دي فيلفور" مرتاعاً:

-       الكونت "دي مونت کریستو"؟!

-       إنك لست مُصيباً تماماً يا سيّدي القاضي .. ينبغي أن ترجع بذاكرتك إلى الوراء أكثر من ذلك لكي تعرف مواطنك القديم "إدمون دانتيس".

وجُنَّ جنون "دي فيلفور" وانطلق يعدو حتى بلغ الحديقة، وأخذ يحفر الأرض بفأسٍ في يده وهو يصيح:

-       إنه ليس هُنا .. ليس هُنا .. لكنني سوف أجده .. سوف أجده ولو ظللت أحفر إلى الأبد.

وكأنما خشى الكونت أن تنطبق عليه جدران البيت المشؤوم فاندفع إلى الشارع وهو يسائل نفسه لأوّل مرّة عمّا إذا كان قد أصاب أم أخطأ فيما فعل وتمتم قائلاً لنفسه:

-       أوه .. کفی .. کفی .. فلأُنقِذ الأخيرة.

وحين بلغ منزله وجد "مكسمليان" في انتظاره، فقال له وهو يبتسم:

-       أعد نفسك للسفر يا "مكسمليان" .. فسوف تغادر "باريس" غداً.

-       أليس عندك ما تفعله هُنا الآن؟

-       كلّا .. فالله يشهد أني فعلت أكثر ممّا ينبغي.

وفي اليوْم التالي رحلا، يرافقهما من الخدم "بابتستان" وحده، فقد أخدت "هايدي" "علي" معها، وبقى "بر توشيو" مع "نوارتييه".

دخل البارون "دانجلر" بعربته مدينة "روما" من طريق بوّابة "ديل بوبولو"، ثم اتَّجه بها إلى اليسار حتى أمر الحوذي بالوقوف أمام باب فندق "إسبانيا" .. وهناك دخل فتناول وجبةً شهيّةً وسأل عن عنوان بنك "تومسون وفرنش".

وحين غادر الفندق بصُحبة الدليل انسلَّ من جمهرة المُتسكِّعين عند الباب شخصٌ تبع البارون ودليله بخِفَّة رجال البوليس السِرّي وبراعتهم، ولمّا دخلا البنك تبعهما إلى الرَدْهة الداخليّة حيث كلّف "دانجلر" أحد الكتبــة بإبلاغ المدير نبأ حضوره، ثم أُدخِل إلى حجرة المدير بعد قليـل، بينما جلس مُراقِبه على أحد المقاعد بالرَدْهة أمام الكاتب الذي انصرف عنه نحو خمس دقائق، ثم رفع رأسه عن أوراقه، وإذ اطمأن إلى أن أحداً لا يسمعه غير ذلك المُراقِب قال يحدِّثه:

-       أهذا أنت يا "ببينو"؟

فردَّ عليه هذا هامساً:

-       لعلَّك وجدت في هذا السيّد صيْداً دَسِماً؟

فقال الكاتب:

-       كيف لا وقد جاء ليسحب خمسة ملايينٍ من الفرنكات بايصالٍ من الكونت "دي مونت کریستو"!

وسأله المُراقِب:

-       كيف عرفت كل ذلك؟

فأجاب:

-       لقد أُخطِرنا به من قبل.

ثم خرج "دانجلر" متهلِّل الوجه، فودَّعه المدير حتى الباب، ثم تبعه "ببينو" بعد ذلك.

وفي الصباح استيْقظ "دانجلر" متأخِّراً، فتناول إفطاره ثم أمر بإعداد العربة للسفر مُعتزِماً الرحيل إلى "البندقية"، حيث يتسلَّم جانباً من ثروته التي بقيت له، ثم يتابع السفر إلى "فيينا"، حيث يتسلَّم بقيّتها ويقيم هناك، على أنه لم يكَد يقطع بعربته ثلاثة فراسخٍ بعد "روما" حتى أُوقِفت عربته فجأة وفُتِح بابها وأطل منه أربعةٌ من رجال العصابات المسلَّحين، وأمره أحدهم بالهبوط، ثم عصبوا عيْنيْه وقادوه إلى مغارةٍ في قلب الصخر، حيث أدخلوه زنزانةً خاليةً نظيفةً تقع تحت سطح الأرض بعشرات الأمتار، وفي رُكنٍ منها فِراشٌ من القش مُغطَّى بجلد الماعز، ثم أغلقوا عليه الباب.

ومرَّ يومٌ كاملٌ ذاق فيه المليونير السجين آلام الجوع، وتنبَّه أخيراً على حركةٍ بقُرب الباب، فإذا "ببينو" يجلس خارج الزنرانة يُعِد طعاماً شهيّاً، وقد وضع إلى جواره زجاجةً من النبيذ وسلَّةً من العنب فسال لعـاب "دانجلر"، وطرق الباب بخِفَّةٍ فأقبل عليه اللِص يسأله:

-       هل فخامتـك جائع؟

فقال له:

-       عجباً! .. كيف لا وأنا لم أتناول طعاماً منذ ٢٤ ساعة؟ .. نعم یا سیّدي .. إني جائع .. جائعٌ جِدّاً.

فسأله "ببينو":

-       ماذا تحب من ألوان الطعام؟ .. إننا هنا جميعـاً رهن إشارة فخامتك.

-       أريد دجاجةً وسمكاً .. أي شيء .. المهم أن آكل.

وعندئذٍ نهض اللِص وصاح كما يفعل النادل في المطاعم:

-       دجاجةٌ مـُحَمَّرةٌ لصاحب الفخامة.

ولم تمضِ لحظاتٌ حتى أقبل شابٌّ نصف عارٍ يحمل على رأسه صينيّةً بها الطبق المطلوب، فوضعه اللِص أمام السجين، ولم يكَد هذا يتنــاول السكّين والشوكة ويهمُّ بقطع الدجاجة حتى استوْقفه "ببينو" قائلاً:

-       العادة هنا أن تدفع قبل الأكل .. فقد لا يُعجِبك الطعام.

وقال "دانجلر" لنفسه:

-       لقد سمعت أن الدجاج رخيصٌ هنا في "إيطاليا" حتى أن الدجاجة لا يزيد ثمنها على ١٢ سنتيماً .. ولن أدعهم يخدعونني.

ثم أخرج من جيْبه ليرةً قذف بها إلى اللِص، فتناولها هذا ولكنه استوْقف السجين عن الأكل مرّةً أخرى قائلاً في هدوء:

-       فخامتك مدين لي الآن بمبلغ 4999 ليرة.

ففتح المليونير فاه ذاهلاً ثم قال ساخراً:

-       كم أنت لطيف .. يا لها من دُعابة .. إليك ليرةٌ أخرى ودعني آكل.

فأخذ اللِص الليرة الجديدة في عدم مبالاةٍ وقال:

-       يبقى لي في ذِمَّتك الآن 4998 ليرةً سأحصل عليها في الوقت المناسب.

فقال "دانجلر" وقد ساءه أن الدُعابة طالت:

-       إنك لن تحصل عليها على الاطلاق .. إذهب إلى الشيْطان أنت ودجاجتك ما دُمت لا تعرف مع من تتعامل.

وهنا أشار "ببينو" إلى الشاب نصف العاري فرفع المائدة ورجع بها من حيث أتى، بينما عاد اللِص إلى تناول طعامه خارج الباب.

وارتمی "دانجلر" على جلد الماعز، وانقضت ثلاثون دقيقةٍ بدت له قرناً من الزمان، فلمّا عجز عن تحمُّل آلام الجوع نهض واتَّجه إلى الباب وهتف قائلاً:

-       تعالَ هنا يا سیّدي .. لماذا تدعني أموت جوعا؟ .. قُل لي مـاذا تطلبون مني؟

فأجاب:

-       إنك أنت يا سيّدي الذي ينبغي أن تطلب .. مُرْ ونحن نُنفِّذ.

-       إذن افتح الباب فوْراً .. اسمع يا هذا .. أريد شيئاً آكله .. أتفهم؟

-       أي لوْنٍ من الطعام تُفضِّله؟

-       أريد قِطعةً من الخُبز الجاف .. ما دام الدجاج يباع في هذا المكان اللعين بسعرٍ جنوني.

-       خبز؟ .. حسناً .. إذن تدفع أربعة آلافٍ وتسعمائةً وثمانيةً وتسعين ليرة .. فقد دفعت فخامتك ليرتيْن مُقدَّماً .. إن كل ألوان الطعام هُنا سواءٌ في الثمن .. وفخامتك تملك خمسة ملايينٍ وخمسين ألف فرنك .. أي ثمن خمس دجاجاتٍ و نصف دجاجة.

وهنا ارتعد "دانجلر" إذ انكشفت الحقيقة لعيْنيْه، وأدرك مدى الخطر الذي يُهدِّده، فصاح باللص:

-       أتريدون تجريدي من كل شيء؟! .. الأفضل من ذلك أن تنهشوا لحمي وعِظامي .. أين هو كبيركم؟ .. أريد أن أراه حالاً.

وفي اللحظة التالية ظهر "لويجي فامبا" أمام الباب فسأله "دانجلر":

-       كم تطلب فديةً لي؟

-       لا شيء غير الملايين الخمسة التي تحملها.

فازدرد "دانجلر" لعابه وقد شعر برُعبٍ لا مثيل له، وقال:

-       ولكن هذا المبلغ هو كل ما بقي لي من ثروةٍ ضخمة .. فإذا حرمتني منه فالأوْلى أن تأخذ حياتي أوّلاً.

-       نحن ممنوعون من أن نُريق دمك .. هناك رئيسٌ أعلى مِنّي.

واستمر تصميم "دانجلر" على عدم الدفع يوميْن، عرض بعدهما مليون فرنك ثمناً لوجبة طعام فأرسلوا إليه عشاءً فاخراً وأخذوا منه المليون.

ومنذ تلك اللحظة اعتزم السجين أَلّا يَضِنَّ على نفسه بشيء، وفي نهاية اليوم الثاني عشر تناول عشاءه الشهي ثم حسب حسبته فإذا المبلغ الباقي معه لا يُجاوِز الخمسين ألف فرنك، وهنا حدث أمرٌ غريب، فإن الرجل الذي فرَّط في الخمسة ملايين لم يتحمَّل التفريط في الخمسين ألفاً، بل اعتزم أن يحتفظ بها ولو مات جوعاً.

وانقضت ثلاثة أيّامٍ على هذا المنوال، وفي اليوْم الرابع كان قد أصبح حُطام إنسان، هیْکلاً بالیاً حتى لقد راح يقتات من فُتات الجير والحصير الذي يكسو بلاط الحجرة، وأحياناً كان يهذي، ثم عرض على "ببينو" ألف فرنكٍ ثمناً للُقمةٍ واحدةٍ من الخُبز، لكن اللص لم يُجِب.

وفي اليوْم الخامس جَرَّ جسمه جَرّاً إلى الباب، وركع على رُكبتيْه مُناشِداً اللص قائلاً:

-       ألستم مسيحيّين؟! .. أتريدون قتل شخصٍ هو في نظر السماء أخٌ لكم؟!

وهنا سمع "دانجلر" صوْتاً عميقاً رزيناً يسأله:

-       هل شعرت بحاجتك إلى التوْبة والتكفير عن ذنبك؟

فجعل الصوْت شعر رأسه يقف، وحاولت عيناه الضعيفتان أن تُميِّزا الأشياء فرأى وراء اللِص شخصاً مُلتَفّـاً بعباءةٍ تكاد تحجبه الظلال، فسأله وهو يرتعد فَرِقاً (خائفاً مذعوراً):

-       أُكفِّر عن أي ذنب؟ .. ماذا تعنی یا سیدي؟

-       عن الشر الذي ارتكبته.

-       إني أُكفِّر عن كل شروری یا سیّدي لعلّي أنال الغُفران.

-       إذن فأنا أصفح عنك.

ثم خلع الرجل الغريب عباءته وتقدَّم نحو النور .. فهتف "دانجلر":

-       الكونت "دي مونت کریستو"؟!

فقال له:

-       أنت مخطىء .. إنني لست الكونت "دي مونت کریستو".

-       إذن مَن أنت؟

-       أنا الرجل الذي بِعته وانتزعت منه خطيبته وسحقته کي تصل على جُثمانه إلى المجد والثراء .. أنا الرجل الذي قتلت أباه جوعاً وعرّضته هو للموْت جوعاً .. ومع ذلك فهو يغفر لك .. لأنه يطمع في أن يغفر الله له .. أنا "إدمون دانتيس".

وعندئذٍ أطلق "دانجلر" صرخةً مروِّعةً وخَرَّ على رُكبتيْه فصاح به الكونت:

-       انهض فحياتك في أمان .. الأمر الذي لم يُتَح لشركائك .. فأحدهم جُن .. والثاني مات .. احتفظ بالخمسين ألف فرنك لك .. إنی أمنحك إيّاها .. أما الملايين الخمسة التي سرقتها من المساكين فقد ردَّتها إليهم يدٌ أمينة.

ثم التفت إلى "فامبا" قائلاً:

-       حين يفرغ من طعامه أطلِق سراحه.

كانت الساعة السادسة مساءً حين انزلق اليخت الفاخر على صفحة البُحيْرة الكُبرى الممتدَّة بين "جبل طارق" و"الدردنيل"، وبين "تونس" و"البندقيّة" حامِلاً على ظهره "مكسمليان موريل"، في طريقه إلى جزيرة الكونت "دي مونت کریستو" حيث واعده الكونت على اللقاء هناك.

وحين هبط الشاب وجد الكونت في انتظاره وأخذه هذا إلى كهوفه المفروشة بالدِمَقس (النسيج المزخرف) والحرير وأفخر الطَنافِس (الأغطية والأبسطة) والرياش (الأثاث الفاخر)، ثم قال له:

-       اصغِ إليَّ يا صدیقي .. أنت تعلم أنه ليس لى أهل .. وأنني قد اتخذتك بمثابة ابنٍ لي .. وسوف أورِثك المائة مليون فرنك التي أملكها فاستمتع بها .. إنها تفتح لك أبواب المجد والسعادة وكل شيء.

فأجابه الشاب في لهجة التصميم:

-       كلّا .. لن يعوِّضني ذلك عن فقد ملاكي الجميل .. أريد أن أموت کي ألحق بـ"فالنتين" .. لقد وعدتني بأن تمنحنى الموت بطريقتك السهلة المريحة .. فانجز وعدك.

وإذ رأى الكونت تصميم الشاب سقاه جرعةً من مادّةٍ كان يحتفظ بها في زُجاجةٍ صغيرةٍ مُحلّاةٍ بالأحجار الكريمة، فبدأ "مكسمليان" يفقد حواسه بالتدريج حتى خُيِّل إليه أنه يرى أبواب السماء تُفتَح لاستقباله و"فالنتين" تخف للقائه، ثم غاب كل شيءٍ عن ناظريْه ورقد بلا حراك.

وبعد قليلٍ أحس أنه يفيق، فتململ في رقدته حتى استرد شـيئاً من وعيه، ثم هتف:

-       آه .. لقد خدعني الكونت .. ما زلت على قيْد الحياة.

ومَدَّ يده ليختطِف سكِّيناً كانت على منضدةٍ قريبة كي يُنهي بها حياته، وإذ ذاك سمع صوْت "فالنتين" يهتف به:

-       أَفِق يا حبيبي .. وانظر إليَّ.

كان الكونت "دي مونت كريستو" قد سقى "فالنتين" ليْلة زارها في مخدعها مُخدِّراً يجعلها تبدو في هيْئة الميّتة، فلمّا دُفِنَت وانصرف المُشيّعون أخرجها من نعشها الذي كان قد ترك به ثُقباً يمر فيه الهواء، ثم سقاها سائلاً أعادها إلى وعيها ونقلها إلى جزيرته كي يُمهِّد الطريق إلى لقائها مع حبيبها "مكسمليان"، وأثناء إغفاءة الشاب أدخلها إلى حيث يرقد، ولبث الاثنان يرقبان يقظة النائم، وقال الكونت يُحدِّث الفتاة:

-       "فالنتين" .. لا شيء سوف يفصلكما على الأرض بعد أن دفع "مكسمليان" نفسه إلى أحضان الموْت كي يلقاكِ .. یکفینی سعادة أني جمعت بينكما .. فليسعدكما الله.

وبعد لحظاتٍ أفاق الشاب من تأثير المُخَدِّر، فلم يكد يُصدِّق عيْنيْه وركع جانباً على رُكبتيْه أمام حبيبته التي رُدَّت إليه.

وفي الصباح التالي كان الحبيبان يتنزّهان على شاطىء البحر، حين اقترب منهما قبطان اليخت وسلَّم إلى الشاب رسالةً من الكونت "دي مونت کریستو"؛ هذا نصها:

[[[عزیزی "مکسملیان": سوف يحملكما اليخت إلى حيث ينتظر "نوارتييه" حفيدته الغالية كي يباركها قبل الزواج، أمّا كهوفي التي في الجزيرة وقصري في "الشانزليزيه" وقصري الآخر في "تريبور" فهي هدايا الزواج التي يهبها "إدمون دانتيس" لابن سيّده القديم "موريل"، ورجائي أن تشاركك زوجتك إيّاها، أمّا ثروتها التي ورثتها عن أبيها - الذي جُن وأخيها الذي مات بين أحضان أمه - فإني أطمع في أن تتنازل عنها للفقراء، وقُل للملاك التي ستشاركك حياتك أن تُصلّي بين حينٍ وآخر من أجل رجلٍ حسب نفسه - كما فعل إبليس من قبل - في مرتبة الله، لكنه يعترف الآن في خشوعٍ ومذلَّةٍ أن الله وحده هو الذي يملك الإرادة العُليا والحكمة اللانهائيّة، فلعل هذه الصلوات تُخَفِّف من وَخز الضمير الذي يشـوب حياته، أمّا أنت يا "موريل" فإليك سِر تصرُّفي معك: ليس في الدنيـا سعادةٌ مُطلَقة وشقاءٌ مُطلَق وإنما هناك مقارنةٌ بين حالةٍ وأخرى، ومَن ذاق الألم والعذاب كان أقدر الناس على أن يحس السعادة القصوى، وينبغي أن نعرف الموْت کي نُقدِّر مُتع الحياة، فلتعِش یا عزیزی ولتسعد مع ابنتي "فالنتين"، وإيّاك أن تنسى  يوْماً أن حِكمة البشرية جمعاء تتلخَّص في هاتيْن الكلمتيْن: "انتظر وتذرَّع بالأمل" ------- صديقك: "إدمون دانتیس" أو الكونت "دي مونت کریستو".]]]

 

 

(تــمّــــــــــــت)

google-playkhamsatmostaqltradent