خبر
أخبار ملهلبة

الأدلة المادية على وجود الله | محمد متولي الشعراوي | الفصل الثاني: وفي أنفسكم أفلا تبصرون (1)


جسم الإنسان وهيكله العظمي مع آية "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"

الفصل الثاني (1)

 

 

يقول الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز: "وفي أًنفُسِكُم أفَلا تُبْصِرون" (من الآية 21 من سورة "الذاريات") .. هذه الآية يمر عليها كثيرٌ من الناس دون أن يتنبـّهـوا إلى الفـيـوضـات والمعاني التي تحتويها .. بل إنك إذا سألت إنساناً غـيـر مـؤمـنٍ مـاذا يعرف عن هذه الآية الكريمة يقول لك: لا شيء في نفسي .. فأنا إنسانٌ أولَد وأكبر وأتزوّج وأعمل وتنتهي حياتي وأموت .. فماذا في نفسي؟ .. نقول له: لو أنك تدبّرت لعلِمت أن في نفسك آياتٍ وآيات .. سنذكر في هذا الفصل بعض هذه الآيات، لأن آيات الله في الإنسـان كثيرةٌ ومتعدّدة.

أوّل شيءٍ هو قوْل الحق سبحانه وتعالى: "وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَني آدَمَ مِن ظهورِهِم ذُرّيّتَهُم وأَشْهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم أَلَسْتُ برَبِّكُم، قالوا بَلى شَهِدْنا، أن تَقولوا يوْمَ القيامةِ إنّا كُنّا عَن هَذا غافِلين" (الآية 172 من سورة "الأعراف").

إذا قرأت هذه الآية يقول لك غير المؤمن: لم نشهد شيئاً ولم نرَ شيئاً ولم نحس شيئاً .. ونقول: بل شهدت .. وأنت شهيدٌ على نفسك في ذلك .. كيف؟ .. الله - سبحانه وتعالى - عرفنا أنه موجود .. وعرفنا ذلك بشهادةٍ ربوبيّةٍ ولیس بشهادةٍ إلوهيّة .. ومعنى ذلك أن المؤمن والكافر يعلم في نفسه وجود الله .. ولكن الكافر يحاول أن ينكر هذا الوجود ليحقِّق شهواته وما يريد ولوْ على حساب حقوق الآخرين .. ولننظر إلى ما أَحَلَّ الله وما حَرَّمَ الله ثم لننظر إلى النفس البشريّة على عـمـومـهـا لنرى ماذا تفعل .. ولنعرف يقيناً أن هذه النفس تعرف ما أحل الله وتستريح له وتنسجم معه .. وتعرف ما حرَّم الله فيصيبها انزعاجٌ واضطرابٌ وذُعر وهي ترتكبه .. وأوّل هذه الأشياء هو العلاقة بين الرجل والمرأة.

إذا جاءك رجلٌ وقال: أريد أن أختلي في حجرة ابنتك .. ماذا تفعل به؟ .. قد تقتله .. وإن لم تقتله فقد تضربه .. ويعينك على ذلك كل الناس .. وسيجد فعله هذا استنكاراً عاماً من المؤمن وغير المؤمن.

فإذا جاءك هذا الرجل وقال: أريد أن أتزوّج ابنتك فإنك تسـتـقـبله بالترحاب وتدعو الناس للترحيب به .. وتُعلِن النبأ على الجميع .. وتعقِد القرآن، وبعد عقد القرآن تتـركـه هـو وابنتك في الحجرة .. وتوافق على الخلوة بينهما.

ما الفرق بين الحالتيْن؟ .. بعض الناس يقول إنها وثيقة الزواج التي تُحَرَّر .. فهل الفرق هو الورقة فعلاً؟ .. لا .. الفرق هو الحلال والحرام .. ما أحلّه الله وما حرّمه .. ما أحلّه الله ينسجم مع النفس البشرية ويقبله كل الناس .. وما حرّمه الله تستنكره كل نفسٍ بشريّة وتنفعل ضده.

كيف يحدث هذا؟ .. لأنك عرفت يقيناً منهج الحق والباطل .. ومِمَّن عرفته؟ .. من الذي وضعه .. ليس هذا فقط .. بل انظر إلى إنسانٍ في شقةٍ مع زوجته .. مطمئنٌ تماماً يدخل أمام الناس إلى بيته .. وإذا طرق الباب قام وفتح للطارق .. وإذا جاء صديقٌ استقبله باطمئنان .. وإذا خرج إلى الشارع أخذ زوْجته معه أمام الناس جميعاً .. انظر إلى نفس الشخص مع زوجة غيره .. يُغلِق الأبواب والنوافذ حتى لا يراه أحد .. وإذا طرق الباب انزعج ولا يفتح .. وإذا جاءه صديقٌ أُصيب بالذعر .. وإذا خرج إلى الشارع مشى بعيداً عنها.

ما الفارق بين الحالتيْن؟ .. الفارق هو الحلال والحرام اللذان تعرفهما كل نفس، حتى تلك التي لم تقرأ شيئاً عن الدين .. لأن الله قال: "وأَشْهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم أَلَسْتُ برَبِّكُم، قالوا بَلى شَهِدْنا" (من الآية 172 من سورة "الأعراف").

فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى أوْجُه الحياة .. لصٌ يريد أن يسرق .. يتأكّد أوّلاً من أن الطريق خالٍ .. ولا يجرؤ أن يفعل ذلك إلّا في الظلام أو بعيداً عن الناس .. وبمجرّد أن يأخـذ مـا يريد أن يسـرقـه ينطلق بسـرعـةٍ وهـو يتلفّت يميناً ويساراً خوْفاً من أن يراه أحـد .. ثم يبحث عن مكانٍ يُخفي فيه المسروقات .. انفعالاتٌ رهيبةٌ في داخله تؤكّد أنه يعرف أن ما يفعله إثمٌ وخطيئة .. لكن الإنسان عندما يريد أن يدخل بيته ليأخذ شيئاً دخل أمام الناس جميعاً ومشى باطمئنان .. وحمل الشيء الذي يريده وهو لا يخشى أن يراه أحد .. ذلك أنه يحس في داخله بأنه يفعل شيئاً لا يحرّمه الله .. والذي يأخـذ رشـوةً مـثـلاً .. يتلفّت حوْله يميناً ويساراً ويسارع بإخفائها .. والذي يقبض مرتّبه يفعل ذلك أمام الدنيا كلها.

الإنسان .. وقوانين السماء

وهكذا كل مقاييس الخيْر والشر .. مقاييس الخيْر تنسجم معها النفس البشريّة، وتحس بطبيعتها وراحتها .. ومقاييس الشر تضطرب معها النفس البشريّة وتحس بالفزع والذُعر وهي ترتكبها .. مَن الذي وضع في النفس هذا .. إنها تعرف يقيناً هذه المقاييس التي وضعها الله لمنهجه في كوْنه .. ومَن الذي أعلَم هذه النفس أن هناك مقاييس .. وأن هناك إلهاً .. إلّا أن تكون الآية الكريمة: "وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَني آدَمَ مِن ظهورِهِم ذُرّيّتَهُم وأَشْهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم أَلَسْتُ برَبِّكُم، قالوا بَلى شَهِدْنا" (من الآية 172 من سورة "الأعراف") هي التفسير الوحيد لمقاييس الخيْر ومقاييس الشر التي وُضِعَت فينا بالفِطرة .. وبما أن هذا عطاء ربوبيّة، فإن الله - سبحانه وتعالى - رب الناس كل الناس .. من آمن به ومن لم يؤمن .. ولذلك وُجِدَت في البشر كلهم.

نأتي بعد ذلك إلى نقطةٍ ثانية .. الله - سبحانه وتعالى - غَيْب .. وغير المؤمن يقول أنا لا أؤمن إلّا بما أرى .. أمّـا مـا هو غَيْبٌ عني فلا أؤمن به لأنني لم أشهده .. وإلايمان غير الرؤية .. فأنت إذا رأيتني أمامك لا تقول أنا أؤمن أني أراك .. لأن الرؤية عيْن يقين ليس بعدها دلالة .. ولا تقول أنا أؤمن أنني أجلس مع أصدقائي ولا تقول إني أؤمن أني أرى الشمس مثلاً .. ذلك هو عيْن اليقين .. وهناك عِلم يقين، وعيْن يقين، وحق يقين .. فعِلم اليقين هو الذي يأتيك من إنسانٍ تثق فيه وفي أنه صادقٌ في كلامه .. فإذا قال لك إنسانٌ مشهودٌ له بالصِدق أنا رأيت فلاناً يفعل كذا .. فأنت تُصّدِّق بوثوقك بمَن قـال .. فإذا رأيت الشيء أمامك يكون ذلك عين اليقين .. فالذي يقول لك مثلاً إن هناك مخلوقاً نادراً في بلدة كذا فأنت تصدِّقه، لأنك تثق فيه .. فإذا جاء معه بهذا المخلوق وأظهره أمامك أصبح علم اليقين عيْن يقين .. فإذا لمسته بيدك وتحسّسته وتأكّدت من أوصافه يكون هذا حق اليقين.

ولذلك فإن الحق - سبحانه وتعالى - حين يخاطِب غيْر المؤمنين عن جهنّم يقول: "كَلَّا لَوْ تَعْلَمونَ عِلْمَ اليَقين، لَتَرَوُنَّ الجَحيم، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ اليَقين" (الآيات من 5 - 7 من سورة "التكاثر") .. أي أن كلاً مِنّا سيري جهنّم بعيْنيْه في الآخرة .. ثم يقول سبحانه وتعالى: "وأَمّا إنْ كانَ مِنَ المُكَذِّبين الضالّين، فَنُزُلٌ مِنْ حَميم، وتَصْلِيَةُ جَحيم، إنَّ هَذا لَهوَ حَقُّ اليَقين" (الآيات من 90 - 92 من سورة "الواقعة") ..  أي أن الكُفّار حين يدخلون النار ويُعَذَّبون فيها سيكون ذلك حق يقين .. أي واقعاً يعيشونه وليست مجرد رؤية.

هذه هي الرؤية .. أمّا الإيمان فهـو تصديقٌ بغيْب .. فأنت تقول: أنا أؤمن أن ذلك حدث كما أراك أمامي .. أي أنك لم تشهد ما حدث .. ولكنك وصلت بالدليل والاقتناع إلى أنه قد حدث .. وأصبح في نفسك كـيـقين الرؤية تماماً.

أين الروح في جسدك

غير المؤمن يقول: إن الله غَيْبٌ وأنا لا أصدِّق إلّا ما أرى .. نقول: قبل أن تُعلِن هذا الكلام تذكّر الآية الكريمة: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" .. فالروح هي التي تهب جسدك الحياة والحركة .. فإذا خرجت الروح من جسدك سكنت الحركة وانتهت الحياة.

إذن كلٌ مِنّا يعـرف يقيناً أن هناك شـيـئـاً اسـمـه الروح .. إذا دخل الجسد أعطاه الحياة .. وإذا خرج منه توقفت الحياة .. مَن مِنّا رأى الروح؟ .. بل مَن مِنّا يعرف أيْن موقعها من الجسد؟ .. أهي في القلب الذي ينبض؟ .. أو في العقل الذي يفكّر؟ .. أو في القدم التي تتحرّك؟ أو في العيْن التي ترى؟ .. أو في الأذن التي تسمع؟ .. أيْن مكانهـا بالضبط؟ .. وما هي الروح؟ .. أكبر علماء الدنيا لا يعرف عنها شيئاً .. حتى ذلك العالم السويسري الذي جاء بالناس وهم يحتضـرون ووضعهم على ميزان دقيق .. وعندما أسلموا الروح وجد أن الجـسـد قـد فـقـد من وزنه بضعة جـرامـاتٍ لحظة خروج الروح .. فأعلن أن الروح لها وزن .. أو أن لها كياناً ماديّاً وإن كان لا يزيد على جرامات .. نقول إن هذا غير صحيح .. لأن هذه الجرامات قد تكون هي وزن الهواء الذي خرج من الرئتيْن، ولم يدخل غيره .. أو تكون بسبب توقُّف سريان الدم بالجسم.

إذن الروح - وهي موجودةٌ في جسدك - غَيْبٌ عنك .. فأنت لا تعرف ما هي؟ .. ولا أين هي؟ .. وأنت لا تعرف كيْفيّة سريانها في الجسم .. وإلّا قُلْ لنا: إذا أصيب إنسانٌ في حادثٍ وبُتِرَت ساقاه؛ أين ذهبت الروح التي كانت في الساقيْن تعطيهما الحياة والحركة؟ .. ولكنك تستدل على وجود الروح مع أنها غَيْبٌ عَنك بأثارها في أنها تُعطي الحياة والحركة لجسدك .. ولكن هل وجود الروح في المخلوق الحي وجودٌ يقيني؟ .. يقول أكبر علماء الدنيا الماديّين: نعم .. ولا يستطيع أحدٌ أن ينكر أن الجسد الحي فيه الروح، وأن الجسد الميّت قد خرجت منه الروح.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent