خبر
أخبار ملهلبة

الأدلة المادية على وجود الله | محمد متولي الشعراوي | الفصل الأول: أسباب الوجود (3)


بركان ثائر في الليل وتتصاعد منه الحمم وتنتشر على سفح الجبل ألسنة لهيب اللافا

الفصل الأول (3)

 

 

ولنتـحـدّث قليلاً عن طلاقـة قُـدرة الله في كوْنه .. أوّل مظاهر طلاقة القُدرة هي المعجزات التي أيّد بها الله رسله وأنبياءه .. ولكننا لن نتحدّث عنها هنا .. فنحن مع العقل وحده .. لنؤكّد بالدليل العقلي أن كل ما في هذا الكوْن يؤكّد أنه لا إله إلا الله .. وأنه هو الخالق والمـوجِـد .. نأتي إلى الأشياء التي تنطق بطلاقة القُدرة وهي في كل شيء .. وإذا جاز لنا أن نبدأ بالإنسان فإننا نبدأ بميلاد الإنسان أوّلاً .. الإنسان ككل شيء في هذا الكوْن يوجَد من ذكرٍ وأنثى .. فإذا اجتمع الذكر والأنثى جاء الولد .. هذا هو قانون الأسباب .. فيأتي الله سبحانه وتعالى ويلتقي الذكر والأنثى ولا يأتي الولد .. مِصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: "للهِ مُلْكُ السَماواتِ والأرضِ، يَخْلُقُ ما يَشاء، يَهِبُ لِـمَن يشاءُ إناثاً ويَهِبُ لِـمَن يشاءُ الذكور، أَوْ يُزَوِّجُهُم ذُكْراناً وإناثاً، ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقيماً، إنَّهُ عَليمٌ قَدير" (الآيتان 49 و50 من سورة "الشورى").

إذن الله - سبحانه وتعالى - جعل في قوانين الأسباب أنه متى تزوّج الذكر والأنثى يأتي الولد .. ولكن أبقى لنفسه - سبحانه - طلاقة القُدرة فجعل هناك ذكـراً وأنثى يـتـزوّجـان أعـوامـاً طويلة ولا يُرزَقان بالولد .. فـمـع قـوانين الأسباب كانت هناك طلاقة القُدرة .. ولم يجعلها الله - سبحانه وتعالى - عامةً بل جعلها في أمثلةٍ قليلةٍ لتلفتنا إلى طلاقة قُدرته .. حتى لا نحسب أننا نعيش بالأسباب وحدها.

طلاقة القُدرة في الكون

ولم تقف طلاقة قُدرة الله في خَلْق الإنسان عند هذا الحد .. بل امتدّت لتشمل كل أوجه الخَلْق .. فالأصل في الإيجاد من ذكرٍ وأنثى .. ولكن الله - سبحانه وتعالى - بطلاقة قُدرته خَلَقَ إنساناً بدون ذكرٍ أو أنثى وهو "آدم" عليه السلام .. وخلق إنساناً بدون أنثى وهي "حـوّاء" .. خلقها من ضِلعٍ من "آدم" عليه السلام .. وخلق إنساناً بدون ذكر وهو "عيسى" عليـه السلام .. وهذه كلهـا حـدثت مرةً واحدةً لإثبات طلاقة القُدرة .. وهي لا تتكرّر .. لأنها تلفتنا إلى طلاقة قُدرة الله سبحانه وتعالى .. وأنه ليس على قُدرته قـيـودٌ ولا حدود .. فهو - جل جلاله - خالِق الأسباب .. وقُدرته - تبارك وتعالى - فوق الأسباب .. على أن هناك أشياءً كثيرةً عن طلاقة قدرة الله بالنسبة للإنسان سنتحدّث عنها تفصيلاً في فصلٍ قادم.

نأتي إلى طلاقـة قـدرة الله – تعالى - في ظواهر الكوْن .. لو أخذنا المطر مثلاً .. جعل الله - سبحانه وتعالى - مناطق ممطرةً في الكون ومناطق لا ينزل فيها المطر .. وكشف الله للعلماء من عِلمه ما جعلهم يضعون خريطةً للأسباب تحدّد المناطق الممطرة وغير الممطرة.

يأتي الله - سبحانه وتعالى - في لفتةٍ منه إلى طلاقة قدرته .. فتجد المناطق الممطرة لا تنزل فيها قطرة ماء وتصاب بالجدب، ويهلك فيها الزرع والحيوان، وقد يموت الإنسان عطشاً .. بالرغم من أن هذه المناطق كان المطر ينزل فيها وربما سار في أنهارٍ ليروي غيرها من البلاد التي لا ينزل فيها المطر .. فنجد مثلاً منابع النيل التي هي مناطق غزيرة المطر .. تأتي فيها سنوات جدبٍ فـلا يجد الناس الماء .. ونجـد بلاداً كـ"الولايات المتّحدة" وبلاد أوروبا يصيبها الجدب في سنوات .. ولا يحدث هذا بشكلٍ مـسـتـمـر .. بل في سنواتٍ متباعدة .. لو أن هذا المطر ينزل بالأسباب وحـدهـا مـا وقع هذا الجدب في المناطق غزيرة المطر .. ولكن الله يريد أن يُلفِتنا إلى طلاقة قُدرته وإلى أن الماء الذي ينزل من السماء ليس خاضعاً للأسباب وحدها .. ولكن الذي يحكمه هو طلاقة قدرة الله .. حتى لا نعتقد أننا أخذنا الدنيا وملكناها بالأسباب فقط .. ولكي نعرف أن هناك طلاقةً لقُدرة الله - سبحانه وتعالى - هي التي تعطي وتمنع .. وأنه - جل جلاله - فوق الأسباب .. وهو – سبحانه - المسبِّب يُغيّر ويُبدّل كما يشاء.

فإذا جئنا إلى الزرع .. ذلك الذي فـيـه عـملٌ للإنسان .. نجد مظاهر طلاقة القدرة .. فالإنسان يزرع الزرع والله يعطيه كل الأسباب .. الماء موجود والكيماويّات متوافرة .. والأرض جيّدة .. ثم بعد ذلك تأتي آفةٌ لا يعرف أحدٌ عنها شيئاً، ولا يحسب حسابها، فتقضي على هذا الزرع تماماً .. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: "وأُحيطَ بثَمَرِهِ فأصبحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنفَقَ فيها وهيَ خاويةٌ على عُروشِها ويَقولُ يا لَيْتَني لَم أُشرِكْ برَبّي أحَدا" (الآية 42 من سورة "الكهف").

ونحن نعرف أن الآفات تصيب كل مكانٍ في الأرض لا يعلو عليها عِلمٌ مهما بلغ .. وهكذا حتى نعرف أن الأرض لا تعطينا الثَمَر بالأسباب وحدها، ولكن بقدرة الله - سبحانه وتعالى - التي هي فوق الأسباب .. لكيلا نعبد الأسباب وننسى المُسبِّب وهو الله سبحانه وتعالى.

فإذا انتقلنا إلى الحيوان نجـد طلاقة القُدرة واضحة .. فهناك من الحيوان ما تزيد قوّته على الإنسان مرّاتٍ ومرّات .. ولكن الله - سبحانه وتعالى - قد أخضعه وذلَّله للإنسان .. فتجد الصبي الصغير يقود الجمل أو الحصان ويضربه .. والجمل مثلاً يستطيع بضربة قدمٍ واحدةٍ أن يقضي على هذا الطفل ولكنه لا يفعل شيئاً ويمضي ذليلاً مُطيعاً ولا يرد على الإيذاء رغم قدرته على ذلك .. ونجد الكلب مثلاً يحرس صاحبه ويدافع عنه لأن الله ذلَّله له.

فإذا جئنا إلى الذئب أو الثعلب من نفس فصيلة الكلب نجده يفترس الإنسان ويقتله .. ولو أن هذا التذليل للحيوان بقدرة الإنسان لاستطاع كـمـا ذلّل الجمل والبـقـرة والكلب أن يُذَلِّل الذئب والثعلب وغـيـرهـمـا من الحيوانات .. ولكن الله يريد أن يُلفِتنا إلى أن هذا التذليل بقدرته سبحانه وتعالى .. إن الثعبان الصغير وهو حشرةٌ ضئيلة الحجم يقتل الإنسان .. دون أن يستطيع أن يذلِّله .. وهذه علامةٌ من علامات طلاقة القدرة في الكوْن .. ليُلفِتنا الحق - سبحانه وتعالى - إلى أن كل شيءٍ بقُدرته ومَنِّه .. وليس بالأسباب وليس بقدرة الإنسان .. بل إن الله - تبارك وتعالى - هو الذي خلق وهو الذي جعل هذا في خدمة الإنسان .. وهذا يمكن أن يؤذي الإنسان .. وجعل الله موازين القوّة والضخامة تختل .. حتى لا يقال إن هذا الحيوان قويٌّ بحجمه أو بالقوّة التي خُلِقَت له .. بل جعل أضعف الأشياء يمكن أن يكون قاتلاً للبشر.

الجمـاد والحيـاة

ثم نأتي إلى الجـمـاد .. فمن طبيعة الأرض ثبات قشرتهـا حـتى يستطيع الناس أن يعيشوا عليها، ويبنوا مساكنهم، ويمارسوا حياتهم .. ولو أن قشرة الأرض لم تكن ثابتةً لاستحالت الحياة عليها، ولاستحالت عمارتها .. والله - سبحانه وتعالى - يريد منا عمارة الأرض .. ولذلك جعل قشرتها ثابتةً صلبة .. ولكن في بعض الأحيان تتحول هذه القشرة الثابتة إلى عدم ثبات .. فتنفجر البراكين ملقية بالحِمم .. وتحدث الزلازل التي تدمِّر كل ما على المكان الذي تقع فيه .. ويتقدَّم العلم ويكشف الله بعضاً من عِلمـه لبعض خَلْقـه مـن العلماء .. ولكن يبقى الإنسان عاجزاً عن أن يتنبأ بالزلازل .. فيأتي الزلزال في أكثر بلاد الدنيا تقدماً ليفاجئ أهلها دون أن يشـعـروا بـقـرب وقـوعـه .. بل إنه مـن طـلاقـة قـدرة الله أنه أعطى بعض الحيوانات .. التي ليس لها عقول تفكّر، ولا علم ولا حضـارة .. أعطاها غريزة الإحساس بقرب وقوع الزلزال .. ولذلك فهي تسارع بمغادرة المكان أو يحدث لها هياج .. إن كانت محبوسةً في أقفاصٍ أو حظائر مغلقة .. وذلك ليُلفِتنا الله - سبحانه وتعالى - إلى أن العِلم يأتي منه – سبحانه - ولا يحصل عليه الإنسان بقدرته .. فيعطى سبحانه من لا قدرة له على الفِكْر والكشف العلمي ما لا يُعطيه لذلك الذي ميّزه بالعقل والعلم .. لماذا؟ .. لنعلم أن كل شيءٍ من الله فلا نعبد قدراتنا بل نعبده تعالى .. ولا نقول: انتهى عصر الدين والإيمان وبدأ عصر العِلم .. بل نلتفت إلى أن الله يعطي لمَن هم دوننا في الخَلْق عِلماً لا نصل نحن إليه .. فنعرف أن كل شيءٍ بقدرته وحده سبحانه وتعالى.

ومظاهر طلاقة قدرة الله في كونه كثيرة .. فـهـو وحـده الذي ينصر الضعيف على القـوي، وينتقم للمظلوم من الظالم .. وكل ما في الكوْن خاضعٌ لطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى .. على أن طلاقة القدرة في تغيير ما هو ثابت من قوانين الكوْن إنما يأتي عند نهاية الحياة على الأرض .. حينئذ يغيّر الله القوانين كلها ويحدث الدمار وتنتهي الحياة.. وذلك مِصداقاً لقوْله تعالى: "إذا السَماءُ انفَطَرَتْ، وإذا الكَواكِبُ انتَثَرَتْ، وإذا البِحارُ فُـجِّرَتْ، وإذا القُبورُ بُعْثِرَتْ، وعَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وأَخَّرَت" (الآية من 1 – 5 من سورة "الانفطار") .. وهناك آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم .. تُنْبِئنا بما سيحدث عندما تقوم القيامة.

إذن الذين يقولون: إن عظمة الله - سبحانه وتعالى - في خَلْقه هي الثبات والدِقَّة التي لا تتأثّر بالزمن .. والتي تبقى ملايين السنين دون أن تختل ولو ثانيـًة واحـدة، نقول لهم: هذه مـوْجـودة .. وانظروا إلى القوانين الكونيـّة ودِقَّـتـهـا وكيف أنها لم تتأثّر بالزمن .. والذين يقولون: إن عظمة الحق - سبحانه وتعالى - في طلاقة قدرته في كونه هي ألّا تكون الأسباب مُقَيِّدةً لقدرة الخالق والمُسَبِّب .. نقول لهم: هذه موْجودةٌ أيضاً .. وانظروا في الكوْن إلى مظاهر طلاقة القدرة تجدونها ليست مختفيةً أو مستورة .. بل هي ظاهرةٌ أمامنا جميعاً .. وليست بعيدةً عن حياتنا .. بل هي تحدث لنا كل يوم.

وإذا صـاح إنسانٌ من قلبـه: "ربنا كبير" .. أو "ربنا مـوجـود" .. أو "ربك يمهل ولا يهـمل" .. فـمـعنى ذلك أنه رأى طلاقـة قـدرة الله تنصف مظلوماً، أو تنتقم من ظالم .. أو تنصر ضعيفاً على قوي .. أو تأخذ قوياًّ وهو محاطٌ بكل قوّته الدنيويّة.

فالإنسان لا يتذكّر قدرة الله عندما يرى الكون أمامه يمضى بالأسباب .. ذلك أن هذا شيءٌ عاديٌ لا يوجِب التعجّب .. فانتصار القوي على الضعيف لا يثير في النفس اندهاشـاً .. والأجـر المـعـقـول للعـمـل شيءٌ عـاديٌ .. والأحداث تتحقّق بالأسبـاب .. وهـو مـا يـعـيـشـه الناس .. ولكننا نتذكّـر قـدرة الله إذا اختلّت الأسباب أمامنا .. وجاء المُسَبِّب ليُعطينا ما لا يتّفِق مع الأسباب ولا مع قوانينها.

في هذا الفصل استعرضنا بعض أسباب الوجود التي تُثبِت قضيّة الإيمان بالدليل العقلي .. ولكن الله - سبحانه وتعالى - يقول: "وفي أَنفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرون" (من الآية 21 من سورة "الذاريات") .. على أن بعض الناس ينظر إلى نفسه فلا يرى شيئاً .. فما معنى هذه الآية الكريمة؟

هذا هو موضوع الفصل القادم .

 

 

(الفصل الثاني)

google-playkhamsatmostaqltradent