خبر
أخبار ملهلبة

الأدلة المادية على وجود الله | محمد متولي الشعراوي | الفصل الأول: أسباب الوجود (2)

 

منظر الغروب على شاطئ البحر مع الأشجار والسحاب

الفصل الأول (2)

 

 

ولكن القضيّة لا تقف عند الكوْن وحـده .. بل تمتد إلى كل مـا في الدنيا، حتى تلك الأشياء التي يقْدِر عليها الإنسان .. فأصل الوجود كله بكل ما فيه من خَلْق لله سبحانه وتعالى .. والله سبحانه وتعالى يقول: "ذَلِكُم اللهُ رَبُّكُم لا إلهَ إلّاهُوَ، خالِقُ كُلِّ شَيْء فاعبدوه، وهُوَ على كل شيءٍ وَكيل" (الآية 102 من سورة "الأنعام").

ومادام الحق - سبحانه وتعالى - قد قال: أنه "خالق كل شيء" فما من شيءٍ في هذا الوجود إلّا هو خالقه.

ولنأخذ هذه القضيّة في كل ما حوْلنا .. في كل ما في هذا الكوْن لنأخذ مثلاً: الخشب .. شجرة الخشب التي تعطينا كل الأخشاب التي نستعملها في بيوتنا وأثاثنا إلى غير ذلك .. هذه الشجرة من أين جاءت؟ .. تسـأل تاجر الخشب: من أين جاءت؟ .. يقول: من "السويد" .. وتسـأل أهل "السويد" يقولون: من الغابة .. وتذهب إلى الغابة فيقولون لك: من شتلاتٍ نُعَدُّها .. وتسـأل: من أين جاءت هذه الشتلات؟ .. يقولون: من جيلٍ سابقٍ من الأشجار .. والجيل السابق من جيلٍ سبقه .. وتظل تمضي حتى تصل إلى الشجرة الأولى التي أُخِذ منها هذا كله .. مَن الذي أوْجد الشجرة الأولى؟ .. إنه الله .. فلا أحد يستطيع أن يدَّعي أنه خلق الشجرة الأولى أو أوْجدها من عدم.

فإذا انتقلنا إلى باقي أنواع الزرع لنبحث عن التفّاحة الأولى والبرتقالة الأولى والتمرة الأولى وحبّة القمح الأولى وشجرة القطن الأولى .. نجد أنها وغيرها من كل ما تنتجه الأرض .. كلها من خَلْق الله خَلْقاً مباشراً .. ثم بعد ذلك اسـتـمـر وجـودهـا بالأسباب التي خلقها الله في الكون .. قـد يقـال: إن هناك تهجيناً وتحسيناً وخلطاً بين الأنواع لتنتج نوْعاً أكثر جودة .. نقول: إن هذا كله لا ينفي أن الثمرة الأولى مخلوقةٌ خلقاً مباشراً من الله .. وقد يدّعي بعض العلماء أنهم حسّنوا أو استنبطوا أنواعاً جديدة .. نقول لهم: كل هذا لا ينفي أن الوجود الأوّل من الله .. وأنهم استخدموا ما خَلَقَ الله بالعلم المتاح من الله في كل ما فعلوه .. ولكن أحـداً لا يستطيع أن يدّعي أنه أوْجـد أي شيءٍ في الأرض من عدم .. فكل هذه الاكتشافات العلميّة هي من موجود .. ولا يوجد اكتشافٌ علميٌ واحدٌ من عدم.

وإذا انتقلنا من النبات إلى الحيوان .. نجد أن كل الحيوانات والطيور والحشرات بدأت بخَلْقٍ من الله سبحانه وتعالى .. وبخلقٍ من ذكرٍ وأنثى وهذه هي بداية الخلق جميعاً .. ولا يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنه خُلِق من عدم ذكراً كان أو أنثى من أي نوع من النبات أو الحيوان .. والله سبحانه وتعالى يلفتنا في القرآن الكريم فيقول: "ومِن كلِّ شيْءٍ خَلَقنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرون" (من الآية 49 من سورة "الذاريات").

الله يتحدّى علماء الدنيا

إننا نريدهم - ونحن نتحدّى علماء الدنيا كلها - أن يأتي عالمٌ فيقول لنا: إنه أُوجِـد من عدم .. أو أنه خَلَقَ ذكراً وأنثى من أي شيءٍ مـوجـودٍ في هذا الكوْن .. وما أكثر الموْجودات في كوْن الله .. وهنا تأتي الحقيقة القرآنيّة تتحدّى في قوله تعالى: "يا أيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاستَـمِـعوا له، إن الذينَ تَدْعونَ من دونِ اللهِ لَن يَخْلُقوا ذُباباً ولوْ اجتَمَعوا له، وإنْ يَسْلُبُهُم الذُبابُ شيْئاً لايستَنْقِذوهُ مِنه، ضَعُفَ الطالِبُ والمطلوب" (الآية 73 من سورة "الحج").

هذا هو التحدي الإلهي الذي سيبقى قائماً حتى يوم القيامة .. فلن يستطيع علماء الدنيا ولو اجتمعوا أن يخلقوا ذبابة.

ولقد وصل الإنسان إلى القمر، وقد يصل إلى المريخ، وقد يتجاوز ذلك ولكنه سيظل عاجزاً عن خَلْق ذبابةٍ مـهـمـا كشف الله له من العِلم .. فلن يعطيه القدرة على خَلْق ذبابة .. وهذا من إعـجـاز الله .. لأنه وحده الذي خَلَق كل شيء، والعِلم كاشفٌ لقدرات الله في الأرض، ولكنه ليس مـوجِـدٌ لشيء .. ولذلك يقول القرآن الكريم: "ذَلِكُم اللهُ رَبُّكُم، لا إلهَ إلّا هو، خالِقُ كُلِّ شيْءٍ فاعبُدوه، وهوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكيل" (من الآية 102 من سورة "الأنعام").

بهذا نكون قد أثبتنا بالدليل العقلي أن الله خالق كل شيءٍ في الدنيا .. فإذا كان الله قد خلق مَن هم مِن دون الإنسان من نباتٍ وجمادٍ وحـيـوان فكيف بالإنسان بما له من إدراكاتٍ وعقلٍ وفِكْرٍ وتمييز .. سنتحدّث عنه تفصيلاً في فصلٍ قادم .. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: "أَمْ خُلِقوا مِن غَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ هُمُ الخالِقون" (الآية 35 من سورة "الطور").

وإذا كان كل شيءٍ في هذا الكوْن مِن خَلْق الله سبحانه وتعالى .. فإن قوانين الكوْن أيضاً (تلك القوانين التي يسير عليها الكوْن) هي من وَضْع الله سبحانه وتعالى .. إلّا ما شاء الله أن يجعل للإنسان فيه اختياراً .. فالقوانين التي يمضى عليها الكوْن هي مِن وَضْع الله .. والأسباب التي تتم بها الأشياء هي مِن وَضْع الله .. فالشمس والقمر والنجوم والأرض لا تتبع قوانين البشر .. بل تتبع القانون الإلهي .. والذي خلقها وَضَعَ لها القانون الأمثل لتؤدي مهمّتها في الكوْن.

فالشمس لها حركةٌ كوْنيّة .. ولها تحرّكٌ آخر في فَلَكٍ خلقه الله لها، وكذلك القمر، وكذلك الأرض، وكذلك الرياح، وكذلك النجوم .. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: "الرَحْمَن، عَلَّمَ القرآن، خَلَقَ الإنسان، عَلَّمَهُ البَيان، الشَمْسُ والقَمَرُ بحُسْبان، والنَّجْمُ والشَجَرُ يَسْجُدان، والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ الميزان" (الآيات من 1 إلى 7 من سورة "الرحمن").

إذن الشمس والقمر والنجوم تتحرّك بحسابٍ دقيق فلا تتأخّر الشمس عن موْعد شروقها ثانية ولا تتقدّم ثانية منذ ملايين السنين .. وكذلك القمر في دوْرته الشهريّة .. وكذلك النجوم في حركتها .. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: "لا الشَمْسُ يَنبَغي لها أنْ تُدْرِكَ القَمَر ولا الليْلُ سابِقُ النَّهار، وكلٌ في فَلَكٍ يَسْبَحون" (الآية 40 من سورة "يس") .. أي أن كل هذه الأجرام لها فَلَكٌ معيّن أو مسارٌ معيّن تمضي فيه بإذن الله .. ولا تستطيع البشريّة كلها أن تؤخِّـر شـروق الشمس ثانية أو أن تقدِّمها ثانية .. أو أن توقِف دوران الأرض أو تُسرِع بها أو تبطيء إلى غيْر ذلك.

إذن فـثـبـات قـوانين الكوْن دليلٌ على دِقَّة الخالِق وإبداعـه وعظـمـتـه وقدرته .. وهذا ما لا يستطيع أحدٌ أن ينكره.

الثابت والمتغيّر

يأتي الفلاسفة ليقولوا: إن الثبات وحده لا يُعطي القُدرة الكاملة للحق سبحانه وتعالى .. ذلك أن الإله بقدرته لابد أن يستطيع أن يخرج عن ميكانيكيّته .. فذلك هو دوام القُدرة أو طلاقة القُدرة .. أما بقاء الثابت على ثباته فإن ذلك قد يُعطي الدليل على دِقَّة القُدرة وإبداع الخالق .. ولكنه لا يُعطي الدليل على طلاقة القُدرة.

نقول: إن الله قد أعطى في كوْنه الدليل على طلاقة القُدرة .. ولكنه لم يعطه في القوانين الكوْنية .. لأنه لو أعطاه في القوانين الكوْنية فـأشرقت الشمس يوماً، وغابت أياماً .. ودارت الأرض ساعاتٍ وتوقّفت ساعات .. وتغيّـر مـسـار النجـوم .. لفسد الكوْن .. إذن فـمـن كـمـال الخَلْق أن تكون القوانين الكوْنيّة بالنسبة للنظام الأساسي للكوْن ثابتةً لا تتغيّر، وإلّا ضاع النظام، وضاع معه الكوْن كله .. فلا يقول أحدٌ إن ثبات النظام الكوْني يحمل معه الدليل على عدم طلاقة القُدرة .. بل هو يحمل الدليل على طلاقة القُدرة التي تُبقي هذا النظام ليصلح الكون.

والله - سبحانه وتعالى - لا يريد كوْناً فاسداً في نظامه .. ولكنه يريد كوْناً يتناسب مع عظمة الخالق وقدرته وإبداعه .. فيُبقي - بطلاقة قدرته - الثبات في قوانين هذا الكوْن .. ويُظهِر - بطلاقة قدرته - أنه قادرٌ على أن يُغَيِّر ويخرق النواميس بما لا يُفسِد الحياة في الكوْن .. ولكن بما يُلفِت خَلْقه إلى طلاقة قدرته.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent