خبر
أخبار ملهلبة

الأدلة المادية على وجود الله | محمد متولي الشعراوي | الفصل الأول: أسباب الوجود (1)


إنسان واقف يتأمل قدرة الله في خلق الكون

الفصل الأول (1)

 

 

الله - سبحانه وتعالى - وضع في كوْنه كله آياتٍ تنطق بوجـوده، وتنطق بعظمـتـه، وتنطـق بأنه هو الخالق .. الجمـاد يشهد أن لا إله إلا الله .. والنبات يشهد أن لا إله إلا الله .. والحيوان يشهد أن لا إله إلا الله .. والإنسان يشـهـد أن لا إله إلا الله .. وكل هذا يشهد بأدلّةٍ ناطقةٍ لا تحتاج حتى إلى مجرّد البحث والتفكير والعُمق.

ولقد خاطب الله - سبحانه وتعالى - كل العقول في كل الأزمان، فجعل هذه الأدلة التي تنطق بوجوده من أوّل الخلق .. ثم كلّما تقدّم الإنسان، وارتقت الحـضـارة، وكشف الله من علمه ما يشاء لمَن يشاء .. ازدادت القضية رسوخاً وازدادت الآيات وضـوحـاً .. ذلك أن الله شـاء عـدله أن يخاطب كل العقول .. فجاءت آيات الله في الكون الناطقة بألوهيّته وحده ليفهمها العقل البسيط، والعقل المرتقي في الكون .. ولا اعتقد أن أحداً يستطيع أن يجادل في هذه الأدلة ولا أن ينكر وجودها ولقد أوجد الله - سبحانه وتعالى - في هذا الكون أدلّةً ماديّةً وأدلّةً عقليّةً وأدلّةً تصل إليها بالحواس .. كلها تنطق بوحدانية الله ووجوده.

ولقد جعل الله الأداة الأولى لإدراك وجوده هي العقل .. العقل هو الذي يدرك وجود الله .. بالدليل العقلي الذي وضعه الخالق في الكون .. ولكن مهمّة العقل بالنسبة لهذا الوجـود مـحـدودة .. ذلك أننا بالعقل ندرك أن هناك خالقاً مُبدعاً قادراً .. ولكننا بالعقل لا نستطيع أن نُدرك ماذا يريد الخالق منا .. وكيف نعبده .. وكيف نشكره .. وماذا أعد لنا من جزاء .. .. يثيب به من أطاعه، ويعاقب به من عصاه .. فهذا كله فوق قُدرة العقل.

ولذلك كان لابد أن يرسل الله الرُسُل ليبلغونا عن الله .. لماذا خلق الله هذا الكون .. ولماذا خلقنا .. وما هو منهج الحياة الذي رسمه لنا لنتبعه وماذا أعد لنا من ثوابٍ وعقاب؟ .. فتلك مهمّةٌ فوق قدرات عقولنا، وتلك مهمّةٌ لو استخدمنا فيها العقل لما وصلنا إلى شئ.

وجاء الرُسُل ومعهم المعجزات من الله بصِدْق رسالاتهم ومعهم المنهج وقاموا بإبلاغ الناس .. ولكننا لن نتحدّث هنا عن معجزات الرُسُل .. وعمّا جاءوا به .. ولن نتكلّم عن أي شئٍ غيْبي.

ولكننا سنتحدّث عن الماديّات وحـدهـا .. ونتكلّم عن الأدلّة الماديّة، بما فيها تلك الأدلّة التي تُرينا فتجعلنا نوقِن أن الغيْب مـوجـود .. وأن ما لا نراه يعيش حوْلنا .. كل هذا بالعقل وليس بالإيمان.

فالله - سبحانه وتعالى - وضع الدليل الإيماني في الكون كما وضع الدليل العقلي .. ولكننا سنحتكم للعقل وحده .. ليرى الناس جميعاً أن الاحتكام للعقل يعطينا آلاف الأدلة.

هذه الأدِلّة هي من آيات الله، وكلها تشهد أنه لا إله إلا الله.

الوجود .. والانسـان

وإذا أردنا أن نبدأ بالأدلّة الماديّة فلابد أن نبدأ بالخلق .. ذلك الدليل الذي نراه جميعاً أمام أعيننا ليلاً ونهاراً .. ونلمسه لأننا نعيشه .. فالبداية هي أن هذا الكون بكل ما فيه قد وُجِد أولاً قبل أن يُخْلَق الإنسان .. وتلك قضيةٌ لا يستطيع أحدٌ أن يجادل فيها .. فلا أحد يستطيع أن يقول إن خَلْق السموات والأرض تم بعد خَلْق الإنسان أو أن الإنسان جاء ولم تكن هناك أرضٌ يعيش عليها .. ولا شمسٌ تُشرِق .. ولا ليلٌ ولانهار .. ولا هواءٌ يتنفّسه .. بل إن الإنسان جاء وكل شيءٍ قد أُعِد له قبل أن يأتي، وقبل أن يوجد، وليس فقط أن كل شيءٍ قد أُعِد له .. بل إن هناك أشياءٌ أكبر من قدرة الإنسان خُلِقَت وسُخِّرَت لتخدمه وتعطيه كل متطلبات الحياة بدون مقابل .. وأشياءٌ أخرى خُلِقَت وسُخِّرَت للإنسان تعطيه ما يشاء .. ولكنها محتاجةٌ إلى جهد الإنسان وعمله، وذلك حتى تتم عمارة الأرض.

إذن فباستخدام العقل وحده لا أحد يستطيع أن يجادل في أن هذا الكون قد خُلِق وأُعِد لحياة الإنسان قبل أن يُخْلَق الإنسان نفسه .. فإذا جاء الحق - سبحانه وتعالى - وقال لنا: "هوَ الذي خَلَقَ لكم ما في الأرضِ جميعاً ثم استوى إلى السماءِ فسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وهوَ بكل شيءٍ عَلیم" (الآية 29 من سورة "البقرة")؛ فلا يستطيع أحدٌ - بعد تلك الآية - أن يجادل عقليّاً في هذه القضيّة .. لأن الكون تم خلقه قبل خَلْق الإنسان .. فكيف يكون للإنسان عملٌ قبل أن يوجَد ويُخلَق؟ .. وتأتي الآية الكريمة: "وإذْ قالَ رَبُّكَ للملائكةِ إني جاعلٌ في الأرضِ خليفة" (من الآية 30 من سورة "البقرة") فنقول: إن هذا يؤكّد الحقيقة بأن الكون أُعِد للإنسان قبل أن يُخلَق .. وهذه قضيّةٌ يؤكّدها العقل .. ولا يستطيع أن يجادل فيها. وبذلك نكون قد وصلنا إلى النقطة الأولى، وهي أن الله - سبحانه وتعالى - بكمال صفاته وقدراته قد خلق هذا الكون وأوْجده ونظّمه غير مستعينٍ بأحدٍ من خَلْقِه .. ولا محتاجٌ لأحدٍ من عباده .. وأننا نحن جميعاً - أي البشر - قد جئنا إلى كوْنٍ مُعَدٍ لنا إعداداً كاملاً.

ولكن قدرة هذا الكوْن لا تخضع لنا ولا لقدراتنا .. بل هي أكبر من هذه القدرات بكثير .. فالشمس مثلاً أقوى من قدرة البشر جميعاً .. وكذلك الأرض والبحار والجبال .. إذن فلابد أن تكون هذه الأشياء قد أُخضِعت لنا بقدرة مَن خلقها وليس بقدرتنا نحن .. ذلك أنها مُسَخَّرةٌ لنا لا تستطيع أن تعصى أمراً .. فلا الشمس تستطيع أن تُشرِق يوماً وتغيب يوماً حسب هواها لتعطي الدفء ووسائل استمرار الحياة لمَن تريد .. وتمنعه عمَّن تشـاء .. ولا الهـواء يستطيع أن يهب يومـاً ويتـوقّـف يـومـاً .. ولا المطر يستطيع أن يمتنع عن الأرض فتنعدم الحياة ويهلك الناس .. ولا الأرض تستطيع أن تمتنع عن إنبات الزرع .. لا شئ من هذا يمكن أن يحدث .. ولا تستطيع البشريّة كلها أن تدّعي أن لها دخلاً في مهمّة هذا الكوْن .. لأنه لا خَلْق هذه الأشياء ولا استمرارها في عطائها يخضع لإرادة البشر.

فإذا جئنا إلى الإنسان وجدناه هو الآخر لابد أن يشهد بأن له خالِقاً ومـوجِـداً .. فـلا يوجـد مَن يستطيع أن يدّعي أنه خَلَقَ إنساناً .. ولا من يستطيع أن يدّعي أنه خلق نفسه.

قضيّة الخَلْق محسومة

إذن فقضيّة الخَلْق محسومةٌ لله - سبحانه وتعالى - لا يُقبَل فيها جدلٌ عقلي .. فإذا جاء بعض الناس وقالوا: إن هذا الكوْن قد خُلِقَ بالمصادفة .. نقول: إن المصادفة لا تُنشِئ نظاماً دقيقاً كنظام الكون .. نظامٌ لا يختل رغم مرور ملايين السنين.

وإذا جاء بعض العلماء ليدّعي أنه كانت هناك ذرّاتٌ ساكنةٌ ثم تحرّكت وتكثّفت واتّحدت .. نقول: مَن الذي أوْجد هذه الذرّات .. ومَن الذي حرّكها من السكون؟ .. وإذا قيل: إن الحياة بدأت بخليّةٍ واحدةٍ في الماء نتيجة تفاعلاتٍ كيماويّة .. نقول: مَن الذي أوجد هذه التفاعلات لتصنع هذه الخليّة؟

ونحن لن ندخل مع هؤلاء في جدلٍ عقيم .. وإنما نقول لهم: إن من إعجاز الخالِق .. أنه أنبأنا بمجيئهم قبل أن يأتوا .. وأنبأنا أكثر من ذلك أن هؤلاء يضلّون .. أي ليسوا على حق، ولكنهم على ضلال .. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: "ما أشهَدتُهُم خَلْقَ السماواتِ والأرضِ ولا خَلْقَ أنفسِهِم وما كنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّين عَضُدا" (من الآية 51 من سورة "الكهف").

وهكذا نرى مَن يأتي ليـُضِلَ الناس بنظريّاتٍ كاذبةٍ عن أصل خَلْق السماوات والأرض .. وأصل خَلْق الإنسان .. ومَن يدّعي أن أصل الإنسان قرد .. وهي نظريّةٌ يملؤها الغباء .. فنحن لم نشهد قرداً تحول لإنسان .. وإذا كان أصل الإنسان قرداً .. فلماذا بقيت القرود على حالها حتى الآن ولم تتحوّل إلى بشر؟! .. ومَن الذي منعها أن يحدث لها هذا التحوّل ما دام قد حدث في الماضي؟! .. ولقد نسى هؤلاء أن الوجـود لابد أن يكون من ذكرٍ وأنثى وإلّا انقرض النوْع .. وهؤلاء لم يقولوا لنا عندما ادّعوا أن قرداً تحوّل إلى إنسـان .. من أين جـاء القِـرد الذي تحوّل إلى امـرأةٍ ليـتم التكاثُر.

وبدون الدخول في جدلٍ لا يفيد .. نقول لهؤلاء جميعاً: لقد جئتم أنتم أنفسكم مُثبِتين للإيمان ومُثبِتين لكلام الله .. فلو أنه لم يأتِ مَن يضل بنظريّات كاذبة في خَلْق السـمـاوات والأرض وفي خَلْق الإنسان لقُلنا: إن الله - سبحانه وتعالى - قد أخبرنا في القرآن الكريم أنه سيأتي مَن يضل في خلق السماوات والأرض وفي خَلْق الإنسان .. فإن لم يأتِ أحدٌ يفعل ذلك (أي يضل) لكنّا - والعياذ بالله - في شكٍ أيضاً .. ولكن كوْنهم جاءوا وكوْنهم أضلّوا يجعلنا نقول: سبحان ربّنا .. لقد أخبرنا عن المضلّين وجاءوا فعلاً بعد قرونٍ كثيرة من نزول القرآن .. فكأن هؤلاء الذين جاءوا ليحاربوا قضيّة الإيمان قد أثبتوها وأقاموا الدليل عليها .

على أننا نقول لكل من جاء يتحدّث عن خَلْق السماوات والأرض وخلق الإنسان مدّعياً أن الله ليس هو الخالق .. نقول له: أشهدتَ الخَلْق؟ .. فإذا قال: لا .. نسأله: ففيمَ تجادل إذن؟ على أن قضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى لأنه هو وحـده سبحانه الذي قال إنه خَلَق .. ولم يأتِ أحدٌ ولن يجرؤ أحدٌ على أن يدّعي أنه الخالِق .. وإذا كان مَن يفعل شيئاً يحرص على الإعلان عمّا فعل .. فلا يوجد شيءٌ صغيرٌ اخترعه البشر في الدنيا .. إلّا وحرص صاحبه على الإعلان عن نفسه.

الله وحده الخالق

فإذا كان ذلك الذي اخترع المصباح قد حرص على أن يعرف العالم كله اسمه وتاريخه وقصة اختراعه .. أيكون الذي أوْجد الشمس غافلاً عن أن يخبرنا أنه هو الذي خلقها .. وإذا كانت هناك قوةٌ أخرى قد أوْجدت أفلا تُعلِن عن نفسها؟

إذن فقضيّة الخلق محسومةٌ لله سبحانه وتعالى .. لأنه وحده – سبحانه - الذي قال إنه خَلَق .. حـتى يأتي مَن يدّعي الخَلْق .. ولن يأتي .. فـإن الله سبحانه هو وحده الخالق بلا جدال .. وحتى الكفّار لم يستطيعوا أن يجادلوا في هذه القضيّة .. ولذلك يأتي القرآن في سورة العنكبوت فيقول: "ولئِن سألتَهُم مَن خَلَقَ السماواتِ والأرضَ وسَخَّرَ الشمسَ والقمرَ ليقولُنَّ الله فأنّى يؤفَكون" (الآية 61 من سورة "العنكبوت").

ثم يقول الحق تبارك وتعالى: "ولئِن سألتَهُم مَن نَزَّلَ مِن السماءِ ماءً فأحيا به الأرضَ مِن بَعدِ مَوْتِها ليقولُنَّ الله" (من الآية 63 من سورة "العنكبوت").  

وهذه الآيات نزلت في الكافرين والمشركين .. وهـم رغم كـُفْـرهـم وإشراكهم لم يستطيعوا أن يجادلوا في خَلْق الكوْن والإنسان.

إذن فقضيّة الخلق محسومةٌ لله .. لأنه - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق .. وهو الذي أخبرنا بأنه هو الذي خلق.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent