خبر
أخبار ملهلبة

الأدلة المادية على وجود الله | محمد متولي الشعراوي | الفصل الثاني: وفي أنفسكم أفلا تبصرون (2)


طفلان رضيعان توأم أحدهما يضحك والآخر يبكي

الفصل الثاني (2)

 

 

إذن فوجود الروح علم يقين مُستَدَلٌ عليه بأثارها .. فهل إذا كان وجود الروح في جسدك يؤكّد لك يقيناً أنها موجودةٌ مستدِلّاً على ذلك بالحركة والحياة التي تعطيها في الجسد .. ألَا يدل هذا الكوْن كله بما فيه من إعجاز الخلق على وجود الله يقيناً .. ألَا تنظر إلى جسدك والروح فيه ثم تنظر إلى الكون لتستخدم نفس القانون .. أم أنك في جسدك لا تستطيع أن تجادل .. وفي الكوْن بعظمته تجادل؟! .. أليس هذا كذباً على النفس واحتقاراً لمهمّة العقل .. ألَا نتدبّر في معنى الآية الكريمة: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون".

الإنسان وقدراته

ثم نأتي بعد ذلك إلى النقطة الثالثة .. غير المؤمن يقول أنا سيّد نفسي .. أنا حـاكم نفـسي أفعل بهـا مـا أشاء .. نقول: هذا افـتـراءٌ على الله .. فجسدك هو مِلْكٌ لله .. وهو يفعل فيه ما يشاء إلّا ما شاء أن يجعلك فيه مُخيّراً .. وإذا لم تصدِّق ذلك فانظر إلى جسدك . . القلب ينبض .. فهل أنت الذي تجعله ينبض؟ .. وهل تستطيع أن توقفه قليلاً ليستريح؟ .. أو تجعله إذا توقّف أن يعود إلى الحركة مرّةً أخرى؟ .. وكيف يمكن أن يتبع القلب لإرادتك، وهو ينبض، وأنت نائمٌ مسلوب الإرادة .. ومَن الذي يعطى الأمر للقلب لكي يقلِّل نبـضـاته وأنت نائم لأنك متوقفٌ عن الحركة؟ .. ومَن الذي يجعله يسرع في النبض وأنت تقوم بأي مجهودٍ يحتاج إلى سرعة حركة الدم في الجسم؟ .. وحركة التنفس هل أنت الذي تقوم بها؟ .. وإذا قلت نعم فكيف تتنفّس وأنت نائم؟ .. إنها حركةٌ تتم بالقهر لا سلطان لك عليها .. فإذا صدر لها الأمر الإلهي بأن تتوقّف فلا أحد يستطيع أن يعيدها.

ومعدتك وما يحدث فيها من تفاعلاتٍ لهضم الطعام وأنزيماتٍ تُفرَز من غددٍ متعدِّدة .. أيتم هذا بإرادتك؟ .. وأمعاؤك وحركة الطعام فيها وامتصاص ما يفيد الجسم وطرد ما لا يفيده .. أيحدث هذا بإرادتك أم أنها تتم دون أن تدري؟ .. وكرات الدم البيضاء وهي تتصدّى للميكروبات التي تدخل جسدك فترسل كراتٍ معيّنةٍ لتـحـدِّد مـا يمكن أن يقضي على الميكروبات .. ثم يقوم النخاع بتصنيع المواد المضادة فتقضي على الميكروب فعلاً .. أتدرى أنت شيئاً عن هذه العمليّة؟ .. إن كل هذا مقهورٌ لله سبحانه وتعالى .. يقوم بعمله دون أن يتوقّف .. ودون أن تدري أنت عنه شيئاً.

ومن رحمة الله - سبحانه وتعالى - أنه خلق هذه الأجهزة البشريّة مقهورةً له .. وإلّا لَما استطاع الإنسان الحياة، ولا العمل، ولا أداء مهمّته في عمارة الكوْن .. وإلّا فقل لي - بالله عليك - لو أن قلبك يخضع لإرادتك كيف يمكن أن تنام؟ .. إنك ستظل يقظاً ليستمر القلب في النبض .. لو أن معدتك تخضع لإرادتك لاحتجت إلى ساعاتٍ طويلة بعد كل وجبةٍ لتتم عمليّة الهضم .. لو أن الدوْرة الدمويّة تخضع لإرادتك .. لما استطاع عقلك أن يستمر في الحياة وهو مشغولٌ بمئات العمليّات التي تتم كل دقيقة.

وهكذا شاءت رحمة الله أن يجعل كل هذا بالقهر حتى تستطيع الحياة والسعي في الأرض، وحتى يمكنك أن تتمتّع بحياتك.

إذن لا تقل أنا حرٌ في جسدي .. أو جسدي خاضعٌ لي .. فهذا غير صحيحٍ عِلميّاً وبالدليل المادي .. فأنت مقهورٌ في كل أجهزة جسدك .. حتى تلك التي أخضعها الله لإرادتك فهذا خـضـوعٌ ظاهري وليس خضوعاً حقيقياً، ولقد شاءت حكمة الله أن يرينا هذا في الدنيا أمامنا بالدليل المادي .. فأنت تُبصر بعيْنيْك، وحتى لا تغتر وتعتقد أن هذا الإبصار من ذاتك وأنه خاضعٌ لإرادتك .. أوْجَـد الله - سـبـحـانه وتعالى - مَن له عيْنان مفتوحتان ولا يبصر .. وأنت تمشي بقدميك .. ولكن الله - سبحانه وتعالى - أوْجَـد من له قـدمـان ولا يستطيع أن يمشي .. وأنت تحرِّك يديْك تتحرّك وتفعل بهما ما تشاء .. ولكن الله - سبحانه وتعالى - أوْجَد مَن له يدان ولا تستطيعان الحركة .. وأنت تتحدّث بلسانك وتسمع بإذنيْك .. ولكن الله - سبحانه وتعالى - أوْجَد مَن له لسانٌ ولا يقدر على الكلام .. ومن له أذنان ولا يسمع .. كل هذه أمثلةٌ قليلةٌ وضعها الله - سبحانه وتعالى - في الكون ليلفتنا إلى أنه ليس لنا ذاتيّة .. وأن الأمر كله لله.

فإذا كنا نبصر بأعيننا فنحن نبصر بقدرة الله التي أعطت العين قوّة الإبصار .. ونمشي بقدرة الله التي أعطت القدميْن قوّة الحركة .. ونسمع ونتكلم بقدرة الله التي أعطت اللسان قدرة الكلام والأذن خاصية السمع .. ولو كان هذا بذاتيّةٍ منا .. ما استطاع أحد أن يسلبنا النظر أو السمع أو الحركة أو الكلام.

الاختيـار والقُـدرة

بل إن الله - سبحانه وتعالى - أقام لنا الدليل على أنه حتى حـركـاتنا الاختياريّة لا تتم إلّا بقدرته .. مثلاً إذا أردت أن تقوم من مكانك .. كم عضلةً تنقبض وكم عضلةً تنبسط حتى تتمكّن من القيام؟ .. ولكننا نقوم من أماكننا ونحن لا ندرى أي العضلات تتحرّك وأيها لا يتحرّك .. بمجرّد أن يخطر على بالنا لنقوم هذه العضلة تنبسط وهذه تنقبض بقدرة الله وليس بإرادتنا .. العمليّة التي تتم في عضلات الجسم ساعة القيام .. ليس لنا في حركتها إرادة إلّا أننا أردنا أن نقوم .. وكذلك في المشي والجري وكل حركةٍ نقوم بها.

إذن حركات الجسد كلها خاضعةٌ لنا بإرادة الله سبحانه وتعالى .. الله هو الذي أخضعها لما نريد وجعلها تفعـل مـا نشـاء .. وهي تفعله دون عِلْمنا بذلك .. بل تفعله بشفرةٍ إلهيّة وضعها الله في أجسادنا .. فتنقبض وتنبسط العضلات فيتم كل شئ ونحن لا ندري.

ثم يقول الإنسان: أنا مسيْطرٌ على جسدي أفعل ما أشاء .. نقول له: لو كنت مسيْطراً حقيقةً لعلمت ما يجري فيه .. ولكن هذا الجسد مسخّر لك بقدرة الله .. ولذلك فهو يفعل لك ما تريد دون أن تدري أو تحس كيف يتم هذا الفعل.

الضحك والبكـاء

بل أكثر من ذلك تحدياً من الله - تعالى - أن يأتي - سبحانه - في كتابه الكريم ويقول: "وأنَّهُ هوَ أَضْحَكَ وأَبْكَى" (الآية 43 من سورة "النجم") .. أكثرنا يمر على هذه الآية الكريمة ولا يلتفت إليها .. ولكن هذه الآية فيها إعـجـازٌ من الله سـبـحـانه وتعالى .. فمعناها أن الضحك والبكاء من الله .. وكوْنه من الله - سبحانه وتعالى - يكون لجميع خلقه .. فالله حين يعطى؛ يعطي الخلق جميعاً .. ذلك هو عدل الله .. فإذا نظرت إلى الدنيا كلها تجد أن الضحك والبكاء مـوحّـدان بين البـشـر جـمـيـعاً على اختلاف لغاتهم وجنسيّاتهم .. فـلا توجـد ضـحكةٌ إنجليزيّة وضحكةٌ أمريكيّة وضحكةٌ أفريقيّة .. بل هي ضحكةٌ واحدةٌ للبشر جميعاً .. ولا يوجد بكاءٌ أسيوي أو بكاءٌ أسترالي .. وإنما هو بكاءٌ واحدٌ فلغة الضحك والبكاء مـوحـّدةٌ بين البـشـر جـمـيعاً، وهي إذا اصطُنِعَت تختلف.

وإذا جاءت طبيعيّةً تكون موحّدة .. ولذلك إذا اصطَنَع أحدنا البكاء أو اصطَنَع الضحك فإنك تستطيع أن تميـّزه بسـهـولةٍ عن ذلك الانفـعـال الطبيعي الذي يأتي من الله.

ومن العجيب أنك ترى مثلاً الفيلم الكوميدي الذي صُنِعَ في "أمريكا" يُضْحِك أهل "أوروبا" والذي صُنِعَ في "آسيا" مثلاً يُضْحِك أهل "أستراليا" .. بل إن هناك مَن أعطاهم الله موهبة القُدرة على إضحاك شعوب الدنيا كلها .. ولعل هناك نجوماً عالميّة في فن الكوميديا تُضْحِك العالم كله .. وهناك أفلامٌ عاطفيّة تُبكي العالم كله .. فبعض الأفلام مثلاً إذا قدّمته بأي لغة أبكى الناس .. وهكذا تنزل أحياناً الرحـمـات من الله فـتـفيـض العـيـون بالدموع .. وأحيانا يريد الله أن يروِّح عن النفوس فتتعالى الضحكات.

ولكن قد يقول بعض الناس إن هناك ما يُضحِك واحداً ولا يُضحِك الآخر .. وأن هناك مشـهـداً يُبكي إنساناً، في حين تتحجَّر الدموع في العيون فلا يبكي إنسانٌ آخر في نفس الموْقف .. نقول: إنك لم تفهم الآية .. فقوله تعالى: "وأنّهُ هوَ أَضْحَكَ وأَبْكَى" ليس معناه بالضرورة أن الناس تضحك معاً وتبكي معاً .. ولكن معناه أن الإنسان لا يستطيع أن يُضْحِك نفسه، ولا أن يُبكي نفسه عن شعورٍ صادق وبلا اصطناع .. ولكن ذلك من الله .. ولذلك انعدمت فيه الإرادة البشريّة .. فليس لكل واحدٍ مِنّا ضحكةٌ تميّزه .. بل نحن نضحك جميعاً بلغةٍ واحدة .. وليس لكل واحدٍ مِنّا بكاءٌ يميّزه .. بل نحن نبكي جميعاً بلغةٍ واحدة .. وليس أي واحدٍ مِنّا قادراً على أن يضحك ضحكةً طبيعيّةً بإرادته كأن يقول إننى سأضحك الآن فيضحك .. ولا يستطيع إنسانٌ أن يبكي بكاءً طبيعيّاً كأن يقول أنا سأبكي الآن فيبكي .. إلّا أن يصطنع الضحك أو البكاء بشكلٍ غير طبيعي.

ولكن يأتي الضحك والبكاء من الله حين يكون طبيعيّاً .. ولأنه يأتي من الله فهو موحّدٌ بين البشر جميعاً .. فإذا كنت لا تستطيع أن تُضحِك نفسك أو تُبكى نفسك .. فكيف تدّعي أنك سيّد نفسك .. ولماذا لا تسلّم لخالقك؟

الفعل .. والمشيئة

فإذا كان هذا هو الشأن في الجسد البشري .. فآمن بالله الذي هو يملك كل خيوطك فإذا كنت لا تؤمن بجنته ولا تريد ثوابه .. فاخشَ عقابه، وإذا كنت لا تؤمن بالآخرة فاخشَ عقابه في الدنيا .. فهو الذي يملك كل خيوط حياتك ويستطيع أن يفعل بك ما يشاء.

على أن الله - سبحانه وتعالى - له لفتاتٌ أخرى .. يلفتنا لقدرته وعظمته ووجوده .. إذا كنت تتأبّى على الإيمان بالله وتقول: أنا سيّد نفسي .. فإذا جاءك قدر الله بالمرض فامنعه عن نفسك، وقُل: لن امرض .. وإذا جاءك قدر الله بالموْت فامنعه عن نفسك، وقُل: لن أموت وإذا جاءك قدر الله في مكروهٍ كـأن تصاب في حادث .. أو أن تسقط من مكانٍ فتتهشّم عظامك فقُل لن أسقط.

هذا هو قهر القدرة الذي لا تستطيع أن تقف أمامه .. وتقول سأفعل ولا أفعل .. لأن الله لم يعطِك الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل في الأقدار التي تقع عليك .. فقدر الله عليك ينفذ رغم إرادتك .. وأنت خاضعٌ لقَدَر الله سواء رضيت أو لم ترضَ .. ففي الكوْن أحداثٌ تقع لا تملك فيها اختياراً.

بعض الناس يجادل في هذا ويقول: إن الإنسان القوي يستطيع أن يصنع قَـدَره .. نقول: إن القرآن الكريم قـد رد على هؤلاء في قوْل الحق سبحانه وتعالى: "قُلِ اللهمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤتي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاء، وتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشاء، بيَدِكَ الخَيْر، إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدير" (الآية 26 من سورة "آل عمران").

ولابد أن نلتفت إلى قوْل الحق سبحانه وتعالى: "وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاء" .. أي أنه لا يوجد إنسانٌ يتخلّى عن المُلْك أو عن المنصب والجاه بإرادته بل لابد أن يُنْزَع منه انتزاعاً .. ولذلك تأتي الثورات والانقلابات .. لتنزع المُلْك من أولئك الذين اعتقدوا أنهم ملكوا الدنيا .. وأنهم قادرون على أن يفعلوا ما يشاءون بمجرّد كلمةٍ أو أمرٍ أو إشارة .. فيأتي الله - سبحانه وتعالى - لينزع منهم هذا رغماً عنهم .. فتجد الواحد منهم الذي كان يحتمي به الناس عاجزاً عن أن يحمي نفسه .. يهرب من مكانٍ إلى آخر .. وتجده - وهو المعتز بالدنيا - يتمنّى لو أخذ الناس كل ما يملك وأبقوا على حياته.

إن هذا يحدث ليلفتنا الحق - جل جلاله - إلى أنه لا أحد يأخـذ المُلْك أو المركز العالي بإرادته وتخطيطه .. وإنما هي أقدارٌ يجريها الله على خلقه .. فإذا أتى أمر الله نزع منه كل شيء.. ولو كان الأمر بذاته لما استطاع أحد أن ينزعه منه .. ولا يوجد إنسانٌ في هذا الكوْن يستطيع أن يدّعي أنه في منعةٍ من قَدَر الله .. فإذا كانت هذه هي الحقيقة فهي الدليل المادي على أن الإنسان تحكمة قدرة خالقه .. وأنه لا يستطيع لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent