خبر
أخبار ملهلبة

"1984" (1) | من أكثر الروايات مبيعاً في التاريخ – الناشر "المركز الثقافي العربي" - تأليف "جورج أورويل" – ترجمة "أنور الشامي"

 

خبر في موقع مصراوي عن القبض على طالب في مصر بتهمة حيازة رواية 1984

1984 (1)




كان يوماً بارداً من أيام نيسان بسمائه الصافية، وكانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر، عندما كان ونستون سميث، بذقنه المنكفئة على صدره اتقاءً لريح بارد ينسل مسرعاً عبر الأبواب الزجاجية لمبنى النصْر، ولم يحل اندفاعه السريع دون دخول دوامة من الريح المحملة بذرات الغبار.

كان الممر الذي يحذاه عابقًا بروائح الملفوف المسلوق والفرش المهترئ وعند نهاية هذا الممر عُلّقت صورة ملونة وذات حجم كبير لا يتناسب مع مثل ذاك الممر الضيق، وكانت تمثّل وجهاً ضخماً يربو عرضه على المتر، وهو وجه رجل في الخمسة الأربعين، ذو قسمات جميلة وإن كانت لا تخلو من خشونة وصرامة، ويبرز فيه شاربان أسودان كثّان. مشى ونستون باتجاه السلالم للصعود، فالمصعد نادراً ما كان يعمل، إما بسبب عطل وإما لانقطاع التيار الكهربائي معظم ساعات النهار، انسجاماً مع خطة توفير الطاقة استعداداً لفعاليات «أسبوع الكراهية». كانت الشقة التي يقصدها ونستون في الطابق السابع وكان عليه أن يصعد سلماً طويلاً، ولأنه في التاسعة والثلاثين من عمره ويشكو من دوالي فوق كاحله الأيمن، فقد راح يرتقي درجات السلم بخطى وئيدة متوقفاً للاستراحة عدة مرات. وعند كل منعطف من منعطفات السلم السبعة، وعند كل محطة من محطات المصعد وبمواجهة الباب، كانت تنتصب صورة الوجه الضخم لتحدق في وجه كل قادم. إنها واحدة من تلك الصور المرسومة على نحو يجعل المرء يعتقد أن العينين تلاحقانه أينما تحرك. وكان يوجد أسفل تلك الصورة عبارة بارزة تقول: «الأخ الكبير يراقبك».

عندما دخل ونستون إلى الشقة سمع صوتاً يسرد قائمة أرقام تتعلق بإنتاج الحديد الخام، وكان الصوت ينبعث من لوحة معدنية مستطيلة الشكل تشبه مرآة معتمة معلّقة على الحائط الأيمن. أدار ونستون مفتاحاً فخفتت حدة الصوت قليلاً وإن ظل الكلام واضحاً كان بمقدور ونستون تخفيض صوت هذا الجهاز والذي كان يسمى «شاشة الرص»، ولكن لم يكن بوسعه إيقاف تشغيله بشكل تام. انتقل ونستون نحو النافذة بجسمه النحيل الضئيل الذي زاد من ضآلته الزي الأزرق، وهو لباس الحزب، وكان شعره مائلاً للشقرة ووجهه شديد الاحمرار، أمّا بشرته فكانت مخشوشنة من أثر الصابون الرديء وشفرات الحلاقة غير الحادة وبرودة فصل الشتاء الذي كان قد شارف على نهايته.

وعلى الرغم من أن زجاج النافذة كان موصداً، فقد كان الجو خارجها يبدو بارداً، وفي الشارع كانت زوابع الرياح تثير الغبار والأوراق الممزقة فتتصاعد لأعلى في أشكال حلزونية. ورغم أن الشمس كانت ساطعة والسماء داكنة الزرقة فقد بدا كما لو أن كل الأشياء قد طمس لونها، ما خلا تلك الصور التي كانت معلقة في كل مكان. فمن كل زاوية كلان ذلك الوجه ذو الشارب الأسود يطل محدقاً في وجه المارة. وعلى واجهة المنزل المقابل كانت تنتصب واحدة من تلك الصور المكتوب تحتها بأحرف بارزة عبارة «الأخ الكبير يراقبك»، وكانت العينان السوداوان تنفذان إلى أعماق ونستون. وفي الشارع كان ثمة ملصق آخر ممزق من إحدى زواياه وتظهر عليه تارة وتنحسر تارة أخرى عبارة إنجسوك (الاشتراكية الإنجليزية)، وذلك بحسب هبات الرياح. وفي الأفق البعيد كانت تُحوم طوافة بين السطوح تقترب تارة وتبتعد تارة فتبدو أشبه بخنفساء زرقاء، ثم تنطلق منعطفة في مسار آخر. ولم تكن هذه الطوافة غير دورية شرطة تتلصص على الناس عبر النوافذ، غير أن الطوافة لم تكن ترهب الناس كما ترهبهم شرطة الفكر.

كان الصوت المنبعث من شاشة الرصد ما يزال يكرر إحصائيات إنتاج الحديد الخام ويعيد نبأ تحقق أهداف الخطة الثلاثية التاسعة. وكان الجهاز يرسل ويستقبل في آن واحد، فبإمكانه التقاط كل صوت، يصدر عن ونستون، يتجاوز حد الهمسات الخافتة، فضلاً عن أنه يبقى مراقباً بالصوت والصورة ما دام موجوداً في مدى رؤية هذه الشاشة المعدنية. ولم يكن هنالك بالطبع من طريقة لمعرفة ما إذا كنت في مرمى المراقبة أم لا في أية لحظة. أما كم مرة أو كيف يمكن أن تخترق شرطة الفكر حياتك الخاصة فهذا أمر لا يمكن التنبؤ به، وإن كان من المفروض أنها ترصد الناس جميعاً بلا انقطاع، إذ باستطاعة هذه الشرطة أن تدخل، متى شاءت، على خط أيّ كان. كان عليك أن تعيش، بحكم العادة التي تحولت إلى غريزة، مفترضاً أن كل صوت يصدر عنك مسموع وأن كل حركة مرصودة.

وقف ونستون مديراً ظهره لشاشة الرصد، فقد كان يظن أن هذا أسلم عاقبة بالرغم من أن أمر المرء يمكن أن ينكشف من ظهره أيضاً. وكان مركز عمله يبعد مسافة كيلومتر واحد عن وزارة الحقيقة، التي يرتفع مبناها ذو اللون الأبيض وسط منظر طبيعي كالح. وفكر ونستون وفي نفسه شيء من التقزز والامتعاض، «أهذه هي لندن المدينة الرئيسية في القطاع الجوي رقم واحد؟ وثالث أكبر مقاطعات أوقيانيا سكاناً». لقد حاول جاهداً أن يسترجع بعضاً من ذكريات الطفولة محاولاً أن يتبيّن ما إذا كانت هذه هي صورة لندن في كل الأوقات؟ أتراها كانت بمثل هذه الطرقات المزدحمة والمنازل المتهالكة؟ أكانت على هذه الحال في القرن التاسع عشر، حيث تظهر على جوانبها دعائم من الخشب، ونوافذها مرقعة بقطع من الكرتون وسقوفها من صفائح الحديد المطعّج، وأسوار حدائقها مهدّمة ونافرة في كل الاتجاهات؟ أكانت موجودة تلك الأماكن التي أحدث القصف فيها حفراً كبيرة تعبق بالغبار، وتبدو للعين أوراق الصفصاف مختلطة بأكوام النفايات، وقد ظهرت هناك مجموعة من الأكواخ الخشبية أشبه بأقفاص الدجاج؟ ولكن عبثاً حاول، فلم يكن باستطاعته أن يتذكر شيئاً عن ذلك الماضي: إذ لم يبق له من ذكريات الطفولة إلا صور غير واضحة المعالم.

كانت وزارة الحقيقة - مينيترو في اللغة الجديدة - تختلف اختلافاً بيّناً في مظهرها عن أي بناء آخر تقع عليه العين، فهي بناء هرمي ضخم من الأسمنت الأبيض اللامع، يرتفع عالياً يناطح السحاب، طبقة فوق طبقة، ثلاثمائة متر في السماء، ومن مكانه، كان باستطاعة ونستون أن يقرأ على الحائط الأبيض كتابة ذات أحرف كبيرة بارزة، هي شعار الحزب المؤلف من جمل ثلاث:

الحرب هي السلام.

الحرية هي العبودية.

الجهل هو القوة.

كانت وزارة الحقيقة تتألف، حسبما يقال، من ثلاثة آلاف غرفة فوق الأرض، فضلاً عن أقبية تابعة لها تحت الأرض. ولم يكن في لندن سوى ثلاث بنايات شبيهة بها من حيث المظهر والحجم، وهذه البنايات كانت تحجب ما حولها من منازل، ولذا كان من الممكن لمن يقف فوق سطح مبنى النصر أن يرى البنايات الأربع في آن واحد. وكان يشغل هذه البنايات أربع وزارات تشكل الجهاز الحكومي، فوزارة الحقيقة تختص بشؤون الأخبار ووسائل اللهو والاحتفالات والتعليم والفنون الجميلة، ثم وزارة السلام التي تُعنى بشؤون الحروب، ثم وزارة الحب وهي المسؤولة عن حفظ النظام وتطبيق القانون، ثم أخيراً وزارة الوفرة وهي ترعى الشؤون الاقتصادية.

كانت وزارة الحب في الواقع مصدرا للرعب والخوف، فهي بناء بدون نوافذ على الإطلاق. لم يسبق لونستون أن دخل هذه الوزارة، بل لم يحدث أن اقترب منها حتى مسافة نصف الكيلومتر، إذ كان لا يسمح بدخولها إلا في مهمّة رسمية، وحتى هذا الدخول يكون عبر سياج من الأسلاك الشائكة والأبواب الحديدية مروراً بمرابض للمدافع والرشاشات المخيفة، كما أن الطرقات المؤدية إلى المبنى كانت دائماً مراقبة من قبل حرس ذوي وجوه كالحة يرتدون بزات سوداء ويحملون الهراوات المدببة.

استدار ونستون بعد أن رسم علامات التفاؤل التام على وجهه، وهو ما كان يُستحسن فعله عندما يواجه المرء شاشة الرصد، واجتاز الغرفة إلى المطبخ الصغير، إذ فاته تناول طعام الغداء في المطعم بسبب تأخره في الوزارة. وكان يعلم أن المنزل خالي من الطعام إلا من قطعة خبز سوداء كان تركها لتكون إفطاراً له في صباح الغد. تناول عن أحد الرفوف زجاجة تحتوي على سائل لا لون له وقد ألصق على الزجاجة ورقة كتب عليها «جن النصر». وكانت تنبعث من هذا الشراب رائحة مُمرضة أشبه برائحة الزيت كأنما هو كحول مستخرج من الأرز الصيني. ومع ذلك صبّ ونستون لنفسه بعضاً منه في كوب شاي ثم استجمع قواه وتجرّعه كما لو كان يتجرع دواء.

وفي الحال انقلب وجهه قرمزياً وسالت الدموع من عينيه، فقد كان الشراب شبيهاً بحامض الصوديوم، فضلاً عن أنه عندما ابتلعه شعر كما لو أنه ضرب على مؤخرة رأسه بهراوة من المطاط. لكن بعد لحظات كانت حدة الألم الذي شعر به في جوفه قد خفت، وأخذ الشعور بالراحة والانشراح يسري في جسده، وعندئذ مد يده إلى علبة السجائر وهي أيضاً تحمل اسم «سجائر النصر» واستل منها سيجارة، وما كاد يرفعها من العلبة حتى راح ما فيها من تبغ يتناثر على الأرض، فاستبدلها بأخرى كانت أحسن حالاً. ثم عاد إلى الغرفة فجلس إلى طاولة صغيرة كانت إلى يسار شاشة الرصد وفتح درجاً كان بها فأخرج ماسكة قلم ومحبرة ودفتراً صغيراً ذا ورق سميك وخلفية حمراء وغلاف رخامي اللون.

ولسبب ما، كان الجهاز في غرفة الجلوس موضوعاً في مكان غير اعتيادي، فبدلاً من أن يوضع، كما جرت العادة، عند نهاية الجدار حيث يستطيع كشف الغرفة كلها، وُضعَ الجهاز في الجدار الأطول مقابل النافذة، الذي كان في جانب منه تقعُّر خفيف جلس فيه ونستون. ولعل هذا التقعّر قد قُصد به أن يكون مكاناً لخزانة الكتب. وهكذا بجلوسه في ذلك المكان وظهره مُسندٌ إلى الوراء، كان ونستون خارج مدى رؤية شاشة الرصد، مع أن الجهاز كان باستطاعته التقاط ما يصدر عن ونستون من أصوات. وقد كان تصميم الغرفة وجغرافيتها هو الذي أوحى له وألهمه جزئياً بذلك العمل الذي كان ينوي القيام به في تلك اللحظة.

ولكن هذا الإيحاء كان مصدره أيضاً ذاك الدفتر الذي أخرجه من درج المنضدة وقد كان دفتراً جميلاً للغاية، إذ كان ورقه الناعم ذو اللون الأبيض، والذي أكسبه القِدم شيئاً من الاصفرار، من نوع تم التوقف عن إنتاجه منذ أربعين عاماً على أقل تقدير، ومع ذلك كان بالإمكان التكهن بأن الدفتر أقدم من ذلك. وكان قد عثر عليه معروضاً في واجهة حانوت خردوات صغير في حي من الأحياء الفقيرة (لا يتذكر اسمه أو موقعه)، وما إن وقعت عليه عيناه حتى تملكته رغبة عارمة في امتلاكه. ورغم أنه لم يكن مسموحاً لأعضاء الحزب بالتردد على مثل هذه الحوانيت العادية الكائنة في الأسواق الحرة، كما كانت تسمى، فلم يكن هذا القانون يطبق بصرامة، لأنه كانت هنالك أشياء كثيرة، مثل أربطة الأحذية وشفرات الحلاقة، يتعذر على المرء الحصول عليها بغير هذه الطريقة. وكان ونستون وهو في طريقه إلى هذا الحانوت يتلفت ذات اليمين وذات الشمال وهو يتوجس خيفة، بل ولم يدلف إليه حتى اطمأن إلى أن أحداً لا يراقبه، ثم اشترى الدفتر بدولارين ونصف الدولار، دون أن يكون لديه هدف محدد من وراء شرائه، وتأبط الدفتر مخفياً إياه بعناية وحمله إلى منزله كمن يحمل إثماً، إذ كانت مجرد حيازة مثل هذا الشيء مدعاة للشبهة حتى لو كان خلواً من أي كتابات.

والفكرة التي راودته حينذاك هي أن يستعمله كمفكرة، ولم يكن في ذلك ما يخالف القانون (ليس لأن ذلك مسموح به بل لأنه لم يكن هناك قانون في الأصل يحدّد ما هي المخالفات). ومع ذلك إذا ما افتضح أمره فإنه كان حتماً سيعاقب بالإعدام أو السجن لخمس وعشرين سنة في معتقل من معتقلات الأشغال الشاقة. وضع ونستون ريشة في ماسكة القلم ثم مصّها قليلاً ليخلّصها مما علق بها. كان القلم أداة زخرفية قديمة نادرا ما استعمله حتى في التوقيع. لقد حصل عليه بشكل سري وبصعوبة بالغة إذ كان يشعر أن ورقاً ناعماً أبيض اللون مثل هذا الورق يجب أن يكتب عليه بريشة حقيقية لا أن يخربش عليه بقلم جف مداده. كان ونستون في الواقع غير معتاد على الكتابة باليد إلا في حال تدوين بعض الملاحظات القليلة، لقد كان معتاداً على أن يملي كل شيء على «الآلة الكاتبة الناطقة»، وهذه بالطبع كان من غير الممكن أن يسجل عليها ما يروم تسجيله في مفكرته. ثبّت الريشة ثم غمسها في المحبرة، وبدا كما لو كان متردداً في أمر ما لبرهة واحدة، وسرت القشعريرة في أوصاله، فمجرد أن يخط بيده على الورقة كان يمثل له قراراً حاسماً وخطيراً، وكتب بأحرف صغيرة غير مقروءة جيداً على صدر الصفحة: 4 نيسان 1984.

ثم اعتدل في جلسته، وقد تملّكه شعور بالعجز التام. فقبل كل شيء لم يكن متأكداً أن العام كان 1984، فقد يكون الزمان قريباً من ذلك التاريخ، لأنه كان متأكداً أن عمره لم يتجاوز التاسعة والثلاثين، وكان يعتقد أنه من مواليد 1944 أو 1945، ومع ذلك كان من المستحيل في هذه الأيام تحديد أي تاريخ مضى عليه سنة أو سنتان.

بعد ذاك راح يتساءل: لمن يكتب هذه المذكرات؟ أيكتبها للمستقبل؟ أم للأجيال القادمة؟ وأطرق للحظة وهو يفكر في هذا التاريخ المشكوك في صحته والذي دوّنه في صدر الصفحة الأولى، وسرعان ما امتدت يده ليتناول قاموس اللغة الجديدة وبحث باهتمام عن كلمة «التفكير المزدوج»، فلأول مرة يستشعر خطورة ما أقدم أو ما هو مقدم عليه، وتساءل في نفسه كيف يمكن أن يتسنى له الاتصال بالمستقبل؟ إن مثل هذا العمل مستحيل في حدّ ذاته، إذ إن المستقبل إما أن يكون شبيهاً بالحاضر وبالتالي لن يتجاوب معه، أو مغايراً له وحينئذ لن يكون لتكهناته التي يعيش من أجلها أي معنى.

مضت لحظات وهو يحدق في الورقة التي أمامه ببلادة. وكانت شاشة الرصد قد انتقلت لإذاعة موسيقى عسكرية صاخبة، وقد تولاه الفزع ليس لأنه فقد القدرة على التعبير عما تجيش به نفسه فحسب، بل لأنه نسي كلياً ما كان يحيك في صدره ويهيّئ له نفسه منذ أسابيع. لقد كان يظن أنه لن يحتاج إلى شيء آخر غير الشجاعة والإرادة، إذ الكتابة أمر يسير ولا تحتاج إلى كثير عناء، وما عليه إلا أن ينقل ما كان يجول بخاطره لسنوات من حوارات طويلة مع النفس إلى الورق، تلك الحوارات التي كانت تعتمل في رأسه وتسبب له القلق وعدم الارتياح. بيد أنه في هذه اللحظة بدا له كما لو أن ينابيع هذه الأفكار قد جفت، بل لقد بدأ يشعر بألم الدوالي في ساقه اليمنى، ولم يجرؤ على حكها خوفاً من أن تلتهب كالسابق. كانت الثواني تمضي بسرعة، ولكنه لم يكن يعي من حوله غير الصفحة البيضاء التي أمامه، والألم الذي في كاحله، وصوت الموسيقى الصاخبة وشعور خفيف بالدوار بتأثير شراب الجن.

وفجأة وجد نفسه يكتب، وقد تملكته حالة من الرعب. لم يكن يدرك تماماً ما كان يفعله. كان خط يده الشبيه بخط الأطفال يميل في تعرجات إلى أعلى وإلى أسفل وقد انفصلت الأحرف الأولى والنقط وعلامات الوقف عن الكلمات، وقد كتب ما يلي:

«الرابع من نيسان 1984، ذهبت إلى إحدى دور السينما وكانت جميع الأفلام التي تعرض أفلاماً حربية، وكان الفيلم الذي يلقى إقبالاً هو ذلك الذي في مشهد منه سفينة ضخمة تتعرض وهي محملة باللاجئين لقصف بالقنابل في مكان ما من البحر الأبيض المتوسط، وقد سُرَّ المتفرجون بمنظر رجل ضخم يحاول النجاة بنفسه ويبتعد عن السفينة الغارقة فيما تلاحقه إحدى الطوافات. في بادئ الأمر بدا وكأنه سلحفاة تسبح في الماء بصعوبة، إلى أن أمطره رماة الطوافة بطلقات ملأت جسمه بالثقوب فاصطبغ البحر من حوله بالأحمر القاني، ثم غرق فجأة كما لو أن المياه قد تسربت داخله عبر الثقوب، وانفجر المشاهدون ضحكاً عندما كانت المياه تبتلعه. ثم رأيت قارب نجاة محملاً بالأطفال وتلاحقه طوافة، وقد جلست في مقدمة المركب امرأة في أواسط عمرها، ربما تكون يهودية، وكانت تحتضن طفلاً في الثالثة من عمره وهو يصرخ خوفاً وهلعاً بينما يدسّ رأسه بين ثدييها، وكأنه يريد أن ينفذ إلى داخلها، والمرأة تحيطه بذراعيها وتلاطفه رغم أنها كانت هي الأخرى ترتعد خوفاً ورعباً. لقد كانت تحاول طوال الوقت أن تحتضن جسده لعل ذراعاها تدرآن عنه طلقات مدافع الطائرة. في هذه اللحظة ألقت الطوافة قذيفة زنة 20 كيلوغراماً على القارب فغرق بمن فيه ولم يظهر منه غير ذراع طفل تطاير إلى أعلى في الهواء، وقد بدا أن الطوافة تحمل آلة تصوير في مقدمتها تبعت الذراع إلى أعلى، وهنا علا التصفيق من مقاعد رجال الحزب، غير أن امرأة من النساء الجالسات في مقاعد العمال أخذت تضرب الأرض برجليها وهي تصرخ: «لا يجوز عرض هذه المشاهد بحضور الأطفال»، واستمرت في ذلك حتى تدخل رجال الشرطة وأخرجوها من القاعة. ولا أظن أن مكروهاً قد أصابها بسبب ذلك فليس ثمة من يأبه لما يقوله الفقراء».

هنا توقف ونستون عن الكتابة، وأغلب الظن أنه كان يتألم من الدوالي ولم يكن يدري ما الذي جعله يكتب مثل هذا السيل من الهراء. غير أن الشيء الغريب هو أنه بينما كان يقوم بذلك، إذا بحادثة تلمع بجلاء ووضوح في ذاكرته، إلى حد أنه انكبّ على كتابتها بلا تردّد، وقد كانت تلك الواقعة كما تبين له هي التي دفعته لأن يسرع إلى المنزل ويشرع في تسجيل مذكراته في هذا اليوم.

لقد حدثت تلك الواقعة في صباح ذلك اليوم حينما كان موجوداً بالوزارة، إذا صح أن أمراً غامضاً كهذا يمكن أن يحدث.

كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة، وفي دائرة السجلات حيث يعمل ونستون كان الموظفون يجرّون المقاعد من مكاتبهم ويصفونها في وسط القاعة المواجهة لشاشة الرصد استعداداً لبدء فعاليات «دقيقتي الكراهية». كان ونستون قد اتخذ مقعداً له في الوسط عندما دلف إلى القاعة شخصان يعرفهما من بعيد وإن لم يسبق له أن تكلم مع أيهما من قبل. لم يكن ثمة أحد ينتظر قدومهما، أحدهما فتاة طالما التقاها في الممرات، لم يكن يعرف اسمها، ولكنه كان يعرف أنها كانت تعمل في دائرة الإثارة، لأنه طالما رأى يديها ملطختين بالزيت وتحمل مفك براغي أحياناً. إنها من اللواتي يعملن في قسم الميكانيك على إحدى الآلات الخاصة بطباعة الروايات. كانت فتاة جريئة الطلة وفي السابعة والعشرين من العمر، شعرها كثيف ووجهها فيه نمش وحركاتها السريعة تنم عن جسم رياضي. كانت تتمنطق بحزام قرمزي يحمل شارة رابطة الشبيبة المناهضين للجنس، وكان الحزام ملفوفاً عدة لفات حول خصرها بشكل يبرز خطوط الكفلين. وقد نفر منها ونستون من أول نظرة، وكان سبب ذلك معرفته بالأجواء التي تحيط بمن مثلها، أجواء ملاعب الهوكي، وحمامات الماء البارد، والرحلات الجماعية، وتلك عقيدة العفّة التي كانت تعتنقها. لقد كان يمقت كل النساء تقريباً وعلى الأخص الشابات الجميلات منهن، فقد كن أكثر أعضاء الحزب إخلاصاً وتمسكاً بمبادئه، فمنهن الجاسوسات اللواتي يتلصصن على الناس ويحشرن أنوفهن بكل صغيرة وكبيرة بحثاً عن أي مظهر من مظاهر الانحراف عن مبادى الحزب. ولكن هذه الفتاة، بصورة خاصة، كانت تبدو أخطرهن. ففي إحدى المناسبات عندما التقاها مصادفة في الممر رمقته بنظرة جانبية وحادة، شعر على إثرها كما لو كانت قد اخترقت قلبه وملأته رعباً، وقد خطر له أنها ربما تكون عميلة من عميلات شرطة الفكر. ومع أن ذلك الظن كان بعيد الاحتمال، فإنه ظل يشعر بعدم الارتياح الممزوج بالخوف وبعدائية إزائها كلما رآها على مقربة منه.

وأما الشخص الآخر فكان رجلاً يدعى أوبراين، وهو عضو في الحزب الداخلي، وشغل منصباً ذا أهمية كبيرة وصلاحيات واسعة، ولم يكن لدى ونستون فكرة واضحة عن طبيعته أو منصبه. وما كاد الحضور يرى البزة السوداء التي يرتديها أعضاء الحزب الداخلي حتى خيم الصمت للحظة عليهم. كان أوبراين رجلاً ضخم الجسم، قوي البنية، غليظ العنق، وذا وجه وحشي ساخر، ولكنه ورغم مظهره الذي يلقي بالروع في النفس فقد كان يحظى بشيء من الجاذبية ودماثة الخلق، وكان من عادته المبالغة في تحريك وتثبيت نطارته على أنفه بطريقة مهذبة جاذبة، وكانت حركته تلك تشبه ما كان يقوم به أحد نبلاء القرن الثامن عشر عندما يقدم علبة سعوطه إلى رجل آخر. وكان ونستون قد التقى أوبراين عشرات المرات على مدى سنوات، وكان يشعر في أعماقه بشيء من الانجذاب نحوه، ولم يكن سبب هذا الانجذاب راجعاً في الأساس للتناقض الواضح بين أخلاق أوبراين المهذبة وشكل جسمه الذي يشبه أبطال المصارعة، وإنما كان بسبب اعتقاد داخلي، أو ربما لم يكن اعتقاداً بل مجرّد أمل يحدوه، بأن ولاء أوبراين السياسي للحزب لم يكن تاماً. فقد كان ثمة شيء في وجهه يوحي بذلك إيحاء لا يقاوم، ولكن ربما كان ما يبدو على وجهه ليس انحرافاً عن ولائه للحزب وإنما كان مجرد ذكاء. بيد أنه وعلى أي حال كان يتمتع بمظهر يوحي بأنه شخص يمكنك أن تتحدث إليه مطمئناً إذا استطعت خداع شاشة الرصد والانفراد به. ولم يحدث أن كلف ونستون نفسه أبداً أدنى عناء للتحقق من ظنونه ولم يكن في الحقيقة أمامه من سبيل إلى ذلك. وفي هذه اللحظة تطلع أوبراين إلى ساعته فرأى أنها قد قاربت الحادية عشرة، فقرر البقاء داخل قسم السجلات إلى أن تنتهي فعاليات «دقيقتي الكراهية». وقد جلس على كرسي في الصف نفسه الذي جلس فيه ونستون يفصل بينهما كرسيان، كان يشغل أحدهما امرأة ذات شعر رملي تعمل في مكتب مجاور لمكتب ونستون، في حين جلست الفتاة ذات الشعر الأسود خلفه مباشرة.

وفي اللحظة التالية انبعث صوت مزعج ومخيف من شاشة الرصد في طرف القاعة، كما لو أنه يصدر عن آلة قد جف زيتها. كان صوتاً تصطك له الأسنان ويقف له شعر الرأس. ولم يكن ذلك إلا إيذاناً ببدء فعاليات الكراهية.

وكما جرت العادة، ظهر على الشاشة وجه إيمانويل غولدشتاين عدو الشعب. فتعالت الصيحات من كل أنحاء القاعة، في حين صدر عن المرأة ذات الشعر الذهبي صرخة امتزج فيها الخوف بالاشمئزاز. كان غولدشتاين هو ذاك الخائن المرتد الذي كان في وقت ما (وليس من أحد يعرف متى كان ذلك) واحداً من رموز الحزب القيادية، وكانت مكانته تكاد تضاهي مكانة الأخ الكبير نفسه، ولكنه تآمر على الحزب وتورط في نشاطات معادية للثورة فحُكم عليه بالموت، لكنه تمكن من الهرب في ظروف غامضة واختفى عن الأنظار. وكانت برامج «دقيقتي الكراهية» تتنوع من يوم إلى يوم، ولكن لم يكن هناك برنامج إلا وغولدشتاين هو محوره الرئيسي، إذ كان أول خائن للثورة وأول من سعى إلى تشويه الصورة المشرّفة للحزب، وكل الجرائم في حق الحزب وكل الخيانات والأعمال التخريبية والهرطقة والانحراف عن مبادئ الحزب، كانت نتيجة مباشرة لتعاليمه. وهو ما زال يعيش في مكان ما يدبر المكائد، ربما يكرن في مكان ما وراء البحار حيث يعيش تحت رعاية أسياده الأجانب الذين يقدمون له التمويل اللازم، وبين آونة وأخرى تظهر شائعة أنه مختبئ في مكان ما داخل أوقيانيا نفسها.

بسبب الضغوط، لم يكن ونستون يرى وجه غولدشتاين إلا وينتابه خليط من المشاعر المفعمة بالألم، كان وجهه وجه يهودي هزيل البنية، تعلو رأسه هالة من الشعر الأشيب، وله لحية أشبه بلحية (تيس)، كان وجهاً يوحي بذكاء صاحبه لكنه في مجمله صورة للخسة المتأصّلة، ويظهر فيه أنف طويل ساخر ترتكز عليه نظارتان، وكان أشبه ما يكون بوجه خروف وصوته كالثغاء.

كان غولدشتاين يلقي، كالعادة، خطابه الذي يشن فيه هجوماً ضارياً شريراً على مبادى الحزب، وكان هجومه مليء بالتحامل والمبالغات، حتى أن الطفل ليستطيع أن يستشف ذلك، إلا أنها مع ذلك كانت معقولة لدرجة تثير الفزع لدى المرء حينما يتنبه إلى أن هنالك أناساً بسطاء، وأقل إدراكاً لحقائق الأمور، قد ينخدعون بها. كان يصيح متهجماً على الأخ الكبير ويستنكر دكتاتورية الحزب، ولطالب بإرساء السلام مع أوراسيا على الفور، كما كان يطالب بحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية عقد الاجتماعات وحرية الفكر. وكان يصيح بحماس هستيري مندداً بالخيانة التي تعرضت لها الثورة من الداخل، كل ذلك بكلمات سريعة متلاحقة في محاكاة للأسلوب الخطابي الذي اعتاده خطباء الحزب، بل وكانت خطبه تتضمن كلمات من اللغة الجديدة تفوق ما اعتاد على استخدامه أي من أعضاء الحزب أنفسهم. وفي أثناء ذلك، ومخافة أن يكون البعض قد انخدع بأكاذيبه الخافية وراء خطبته المنمقة، كانت تظهر على الشاشة وراء رأس غولدشتاين جحافل جرارة من جنود أوراسيا، صفوف متراصّة من رجال ذوي وجوه كالحة وحشية يظهرون على وجه الشاشة، كتائب متلاحقة ما إن تختفي واحدة إلا وتظهر أخرى أكثر وحشية وهمجية. وكان الإيقاع الرتيب لأحذيتهم العسكرية بمثابة الخلفية الصوتية لخطاب غولدشتاين وصوته الثغائي.

وقبل أن تمضي الثلاثون ثانية الأولى من فعاليات الكراهية، بدأت تتعالى صرخات غاضبة منفجرة من نصف الحضور في القاعة، إذ كان الوجه الأشبه بوجه الخروف والمعتد بنفسه لدرجة الغرور فضلاً عن الفزع الذي تثيره مشاهد جيش أوراسيا على الشاشة أكثر مما يمكن أن يحتمل، هذا إلى جانب أن رؤية غولدشتاين أو حتى مجرد التفكير فيه كانت تملأ قلوب المشاهدين بحالة من الخوف والغضب. لقد كان ما يثيره من كراهية يفوق تلك التي لأوراسيا أو إيستاسيا. وقد جرت العادة على أنه عندما تكون أوقيانيا في حرب مع إحدى هاتين الدولتين فهي في سلام مع الأخرى، ولكن الغريب في الأمر أن غولدشتاين هذا ورغم كونه مكروهاً وممقوتاً من الجميع، ورغم أن نظرياته كانت في كل يوم وفي كل لحظة تتعرض للدحض والنقد وتصبح مثاراً للاستهزاء على صفحات الصحف والكتب وشاشة الرصد ومنابر الحزب، كما تُقدم للرأي العام باعتبارها هراء وتحْرص، بالرغم من كل هذا، كان تأثيره شديداً لا يضعف. فقد كان هناك دائماً أغرار ينخدعون به، فلا يكاد يمر يوم إلا وتلقي شرطة الفكر القبض على جواسيس ومخربين يعملون تحت إمرته. لقد كان غولدشتاين قائدا لجيش خفي كبير وشبكة سرية من المتآمرين تعمل في الخفاء ولا هدف لها إلا الإطاحة بنظام الحكم، والتي كان يعتقد أنها تسمى رابطة «الأخوة». كذلك كان الناس يتهامسون ويتناقلون القصص حول كتاب مخيف يضم كل الهرطقات التي ألفها غولدشتاين والتي يتم تداولها بصورة سرية هنا وهناك. كان كتاباً بلا عنوان ولذا كان الناس يشيرون إليه، إذا أشاروا إليه أصلاً، باسم الكتاب. وكانت الشائعات المبهمة هي المصدر الوحيد لأي معرفة عن هذا الكتاب، إذ لم يكن أي من أعضاء الحزب العاديين يجسر على الإشارة نجي حديثه إلى «الأخوة» أو الكتاب إلا اضطراراً.

وفي الدقيقة الثانية تصاعدت الكراهية حتى صارت سعاراً، وراح الناس يثبون إلى أعلى من مقاعدهم ثم يجلسون وهم يصيحون بأعلى صوتهم حتى يطغى على الصوت الثغائي الصادر عن غولدشتاين من الشاشة. وكان وجه المرأة الصغيرة ذات الشعر الذهبي قد احتقن واكتسى باللون الأحمر القاني فيما كان فمها يفتح ويغلق كسمكة طرحها الموج على الشاطئ، وكذلك احمرّ وجه أوبراين الضخم. أما ونستون فكان يجلس منتصباً فوق مقعده فيما كان صدره يعلو ويهبط مع كل شهيق وزفير كما لو كان يتأهب لمواجهة موجة عاتية. وراحت الفتاة ذات الشعر الأسود التي تجلس خلف ونستون مباشرة تصرخ (وغد! وغد! وغد!)، ثم فجأة التقطت معجماً للغة الجديدة وقذفت الشاشة به فأصابت غولدشتاين في أنفه ثم سقط أرضاً، إلا أن صوت غولدشتاين استمر. وفي هذه اللحظة ألفى ونستون نفسه يصرخ مثل الآخرين ويضرب الأرض وحافة المقعد بقدميه في عنف. ولعل أفظع ما في «دقيقتي الكراهية» هو أن المرء لم يكن مجبراً على تمثيل دور ما، ومع ذلك كان من المستحيل عليه أن يتجنب الانخراط في هذا المشهد، ففي غضون ثلاثين ثانية لن تصبح المشاركة في «دقيقتي الكراهية» بالأمر الضروري، ذلك أن نشوة من الخوف والرغبة في القتل والانتقام والتعذيب وتهشيم الوجوه بالمطرقة كانت تتملك الحضور وتسري في أوصالهم وكأنها تيار كهربي يدفع بالمرء رغماً عنه للصراخ والصياح كمن أصابه مسّ من الجنون. ومع هذا فإن الغضب الذي كلان يشعر به المرء آنذاك كان انفعالاً طائشاً وغير محدد الوجهة ومن الممكن تحويله من وجهة إلى أخرى مثل لسان لهب متصاعد. وهكذا لم تكن كراهية ونستون في لحظة من اللحظات موجهة ضد غولدشتاين إطلاقاً، وإنما على النقيض من ذلك كأنما موجهة ضد الأخ الكبير والحزب وضد شرطة الفكر، ففي مثل هذه اللحظات كان قلبه يخفق تعاطفاً مع هذا المنبوذ الذي يظهر على الشاشة متهماً بالهرطقة ومثاراً للسخرية، وهو الوحيد الذي يقف حامياً للحقيقة والحكمة في عالم زاخر بالأكاذيب والتزوير. ومع ذلك فقد كان في اللحظة التالية يشعر بما يشعره الآخرون نحو غولدشتاين وبأن كل ما قيل عن غولدشتاين هو حقيقة لا ريب فيها. وفي تلك اللحظات كان مقته المكنون للأخ الكبير ينقلب إعجاباً يقارب العبادة، وكان الأخ الكبير حينذاك يعلو مقاماً ويصبح كحامي الحمى الجَسور الذي لا يقهر وكأنه طود عظيم يقف في وجه جحافل الجيوش الزاحفة من آسيا. بينما غولدشتاين، ورغم العزلة التي فُرضت عليه وحالة العجز التي يعيشها، بل ووجوده الذي أصبح موضع شك، فإنه يبدو مثل ساحر شرير قادر بقوة صوته فقط أن يقوض بنيان الحضارة.

لقد كان بمقدور المرء أن يحوّل كراهيته بهذا الاتجاه أو ذاك بمحض إرادته. وفجأة وبالقوة العنيفة التي يرفع المرء بها رأسه من على الوسادة حينما يستولي عليه كابوس، استطاع ونستون أن يحوّل كراهيته من الوجه الظاهر على الشاشة إلى تلك الفتاة ذات الشعر الأسود الفاحم الجالسة وراءه. وطافت برأسه تخيلات جميلة وقوية. كانت تراوده الرغبة في أن يضربها ضرباً يفضي بها إلى الموت بهراوة من المطاط، أو يقيدها عارية إلى عمود ثم يرميها بزخة من السهام مثل القديس سباستيان. كم ود لو استطاع أن يغتصبها ثم يحزّ رقبتها عند بلوغه لحظة النشوة. والآن أدرك ونستون أكثر من ذي قبل سبب كراهيته لها، لقد كان يبغضها لجمالها وصغرها وعزوفها عن الجنس، ولأنه كان يمني نفسه بأن يكون معها في فراش واحد لكن ذلك لم يكن ممكناً، فقد كانت تحيط خصرها الممشوق الناعم، الذي كان يغري المرء أن يلف ذراعه حوله، بحزام قرمزي كريه هو رمز العِفّة.

وبلغت الكراهية ذروتها، وأصبح صوت غولدشتاين ثغاء خروف حقيقي بل تحول وجهه للحظة إلى وجه خروف. ثم لم يلبث أن تلاشى ليحل محله وجه جندي من جنود أوراسيا كان يندفع كالعملاق فينشر الرعب وهو يحمل في يده بندقية آلية تهدر، ويبدو وكأنه سيثب من الشاشة، حتى أن بعض المشاهدين الذين كانوا في المقاعد الأمامية كانوا يجفلون للوراء وهم في مقاعدهم. ولكن وفي اللحظة نفسها تنفس الجميع الصعداء إذ تلاشت هذه الصورة وحلت محلها صورة الأخ الكبير بشعر رأسه الأسود وشاربه الكث ورزانته الغامضة وقوته الفياضة، وكان وجهه من الضخامة بحيث ملأ الشاشة كلها. لم يكن ثمة من يسمع ما كان يقوله الأخ الكبير. فقد كانت مجرد كلمات تشجيعية معدودة من تلك التي يُتمتم بها في معمعة المعارك لا يستطيع المرء تمييزها، بيد أنها كانت تعيد الثقة إلى النفس بمجرد التلفظ بها. ثم تلاشى وجه الأخ الكبير وظهرت شعارات الحزب الثلاثة بأحرف كبيرة بارزة:

الحرب هي السلام

الحرية هي العبودية

الجهل هو القوة

لكن وجه الأخ الكبير، ورغم زواله عن الشاشة، بقي منطبعا عليها لثوان أخر، كما لو أن تأثيره الذي تركه في أعين الحضور أقوى من أن ينمحي دفعة واحدة وعلى الفور. أما المرأة ذات الشعر الذهبي فقد انحنت في مقعدها إلى الأمام وصدرت عنها همهمة كأنها تقول «أيها المخلص»، ومدت ذراعيها باتجاه الشاشة، ثم دفنت رأسها بين راحتيها. وكان يبدو من ذلك أنها تتلو بعض الصلوات.

وفي هذه اللحظة، انخرط جميع الحاضرين في ترديد إيقاعي لترنيمة الكبير.. الكبير، كانوا يرددونها ببطء ووضوح ويتوقفون للحظات بين المرّة والأخرى. كان صوت الهمهمة ثقيلاً ومفعماً بشيء من البربرية، ومن خلفيته كان ينبعث صوت يحسبه السامع وقع أقدام عارية أو دقات طبول بعيدة. استمر ذلك الصوت ثلاثين ثانية. إنه عبارة عن لازمة تكرارية كتلك التي تُسمع عادة في لحظات الانفعال الغامرة، أو ترنيمة تتغنى بحكمة الأخ الكبير وجلاله، والأرجح أنه شكل من التنويم الذاتي المغناطيسي وحالة من تغييب الوعي من خلال الإيقاعات الرتيبة. أما ونستون فقد بدا أن البرد قد أخذ يسري فيه حتى نفذ إلى أحشائه، ومع ذلك لم يكن أمامه بد من المشاركة في حالة الهيجان العامة. أمّا تلك الترانيم الكبير.. الكبير.. فقد كانت دائماً تملأه رعباً. نعم لقد كان يترنم مع الآخرين، فقد كان مستحيلاً أن يفعل غير ذلك، فأن تخفي مشاعرك الحقيقية وأن تتحكم في انفعالات وجهك، وأن تفعل ما كان يفعله كل شخص آخر، كل ذلك كان فعلاً غريزياً. ولكن هنالك لحظات يمكن فيها أن تكون تعبيرات عينيه قد كشفت حقيقته. وفي هذه اللحظات تحديداً حدث ذلك الشيء الهام، هذا إن كان قد حدث فعلاً.

لقد التقت عيناه عيني أوبراين الذي كان قد انتصب واقفاً وهو يرفع نظارته عن أنفه ثم يعيد تثبيتها بإيماءته المميزة. ورغم أن عيونهما لم تلتقِ إلا لأجزاء من الثانية فقد كان ذلك كافياً حتى يدرك ونستون أن أوبراين كان يفكر في نفس ما يفكر فيه ونستون. لقد كانت تلك النظرة بمثابة رسالة لا يمكن أن يخطئها المرء، وبدا كما لو أن عقل كل منهما قد انفتح على عقل الآخر فتدفقت الأفكار من واحد لآخر عبر عيونهما. وخيّل لونستون أن أوبراين يقول له «أنا معك، إنني على معرفة دقيقة بمشاعرك، وأعرف كل شيء عما تضمره من ازدراء وكراهية واشمئزاز، ولكن لا عليك فأنا في صفك!» عندئذ خبا بريق التخاطر الفكري وبدا وجه أوبراين خلواً من أي تعبير كسواه من وجوه الآخرين.

هذا كل ما حدث. ولم يكن ونستون متأكداً من أن كل ذلك قد حدث فعلاً، لأن مثل هذه الحوادث تمر عادة دون أن تكون لها نتائج، وكل ما فعلته هو أنها أبقت على اعتقاده أو أمله بأن هنالك أيضاً آخرين لديهم مشاعر العداء نفسها نحو الحزب. ولربما كانت الشائعات عن وجود مؤامرات سرية واسعة النطاق صحيحة، بل ربما كانت رابطة «الأخوة» موجودة حقاً. لقد كان من المستحيل على المرء، بالرغم من الاعتقالات اللانهائية والاعترافات المتتالية وأحكام الإعدام، أن يؤمن بان «الأخوة» إن هي إلا خرافة. وكان ونستون يؤمن أحياناً بوجودها وأحياناً بعدم وجودها. لم يكن هنالك دليل، بل مجرد إشاعات قد تعني شيئاً وقد لا تعني شيئاً، فالمكالمات المسترقة أو الكتابات المسجلة على جدران المراحيض العامة أو حتى لقاء غريبين أو إشارة يد تبدو كأنها إشارة سرية للتعارف، كل ذلك مجرد تكهنات ومن المحتمل جداً أن يكون الأمر كله محض خيال لا يوجد إلا في مخيلة ونستون.

عاد ونستون إلى مكتبه دون أن يلتفت مرة ثانية إلى أوبراين، ولم تخطر بباله فكرة متابعة هذا التواصل العابر. كان الأمر ينطوي على مخاطر شديدة حتى لو عرف كيف يحتاط لها، لقد تبادلا نظرة غامضة وخاطفة لم تدم أكثر من ثانيتين وهذا كان كل ما في الأمر. ولكن حتى ذلك الأمر العابر كان حدثاً يستحق الذكر في مثل هذا الجو الانعزالي الذي كان يتحتم على المرء العيش فيه.

نهض ونستون من مقعده ثم جلس منتصباً، ثم تجشأ، فقد كان الشراب يغلي في معدته.

أعاد التحديق في الصفحة التي أمامه فاكتشف أنه عندما كان مستغرقاً في التفكير كتب على الصفحة شيئاً ما بدافع عفوي لا إرادي، ولم تكن الكتابة هذه المرة كتلك التي كانت حروفها غير مقروءة جيداً، فقد جرى قلمه هذه المرة بسهولة على الورق الناعم وبأحرف كبيرة أنيقة:

ليسقط الأخ الكبير

ليسقط الأخ الكبير

ليسقط الأخ الكبير

ليسقط الأخ الكبير

وظل يكتب هذه العبارة حتى ملأ بها نصف الصفحة.

وما إن استفاق لما يخطه بيده حتى تملّكه شعور بالفزع والهلع. إن الأمر لا يعدو أن يكون هراء إذ إن كتابة هذه الكلمات لم تكن أشد خطراً من مجرد اقتنائه مفكرة والبدء في تسجيل مذكراته. وقد راودته الرغبة في تمزيق الصفحات التي كتبها ومن ثم التخلي عن ذلك المشروع المغامرة برمته.

ولكنه لم يفعل ذلك لإدراكه أن تمزيقها لن يجدي فتيلا، وسيان أكتب ليسقط الأخ الكبير أو أحجم عن كتابتها، وسواء احتفظ بالمفكرة أو لم يحتفظ بها، فإن شرطة الفكر ستعتقله. فقد اقترف، وما زال يقترف، جرماً، بل وحتى لو لم يضع القلم على الورق فقد اقترف أمّ الجرائم التي تنطوي على جميع الجرائم، إنهم يطلقون عليها «جريمة الفكر»، وهي جريمة ليست بالأمر الذي يمكن إخفاؤه إلى الأبد، فربما يمكنك مواراتها عن العيون لحين من الزمن أو لسنوات ولكن إن عاجلا أو آجلا لا بد أن تقع في قبضتهم.

كانت الاعتقالات تقع دائماً تحت جنح الليل، حيث يفزع صاحب الجرم من نومه على يد خشنة تهزه بغلظة، فيفتح عينيه على ضوء ساطع مسلط على عينيه، ويجد مجموعة من رجال ذوي وجوه عابسة يتحلقون حوله وهو ما يزال في فراشه. وكانت أغلب هذه الحالات تمر دون محاكمات أو حتى محاضر اعتقال، حيث كان الناس يختفون أثناء الليل. وكان اسمك يشطب من السجلات ويشطب معه كل شيء يتعلق بك أو لك فيه ذكر، حتى إن النكران يطال فكرة وجودك أصلاً ثم يتم نسيانك. لقد انتهيتَ ثم تلاشى ذكرك وكأنك تبخرت، نعم إنك تبخرت لقد كانت هذه هي الكلمة التي يصفون بها عادة ما حدث.

وانتابت ونستون للحظة من الزمن نوبة هستيرية، وراح يكتب بسرعة وبخط متعرج: سيرمونني بالرصاص، بيد أنني لا أبالي. سيطلقون النار عليّ من الخلف غير أنني لا أبالي، وليسقط الأخ الكبير.. إنهم دائماً يطلقون النار عليك من الخلف لكنني لا أبالي، ليسقط الأخ الكبير.

ثم اتكأ في مقعده وقد شعر ببعض الخجل من نفسه، ووضع القلم جانباً. وفي اللحظة التالية استأنف الكتابة بنشاط ولكن سرعان ما سمع طرقاً على الباب.

ظل ونستون على سكونه كفأر مذعور في جحره، يحدوه أمل واه بأن الطارق سينصرف بعد المحاولة الأولى، بيد أن الطرق توالى. ولأن أسوأ ما يمكن أن يفعله في مثل هذا الظرف هو التلكؤ في الاستجابة فقد أخذ قلبه يدق كالطبل. ولكن وجهه كان، بحكم العادة، جامداً وخلواً من أي تعبير. ثم وقف ومشى متثاقلاً صوب الباب.



google-playkhamsatmostaqltradent