خبر
أخبار ملهلبة

1984 | "جورج أورويل" | (2)



1984 (2)



عندما وضع ونستون يده على مزلاج الباب تذكر أنه ترك المفكرة على الطاولة مفتوحة، وعبارة (ليسقط الأخ الكبير) تكاد تغطي الصفحة بأحرف كبيرة بما يكفي لقراءتها عن بعد. وهنا تنبه إلى أنه ارتكب حماقة تفوق الوصف، لكنه حتى مع هذا الفزع الذي انتابه لم يكن يريد طي الغلاف قبل أن يجفّ الحبر خشية أن تتلطخ الورقة.

استجمع شجاعته ثم فتح الباب، وسرعان ما استشعر موجة من الارتياح تسري في أوصاله، فالذي كان في الباب امرأة شاحبة اللون، ذات شعر أشعث ووجه مغضن بالتجاعيد.

ابتدرته المرأة بصوت مبحوح وحزين: «آه، أيها الرفيق، لقد شعرت بقدومك، هل بإمكانك المجيء لمعاينة مغسلة مطبخي، فالبالوعة مسدودة».

كانت هذه المرأة السيدة بارصون زوجة جاره في الطابق نفسه. (كانت كلمة «سيدة» ممجوجة إلى حد ما في الحزب وكان من المفترض أن يُدعى أيّ كان بلقب «رفيق» ومع ذلك كان يجري استعمالها مع بعض النساء أحياناً بإيحاء من الفطرة). كانت امرأة في الثلاثين من عمرها على وجه التقريب، ولو أنها تبدو أكبر من ذلك. وكان من يراها يتولد لديه انباع بأن غباراً يتخلل تغضنات وجهها. سارت فتبعها ونستون عبر الممر متململًا، فأعمال الصيانة هذه كانت مصدر إزعاج شبه يومي له، لأن كل الشقق في بناية النصر قديمة، حيث يعود تاريخ بنائها إلى 1930 أو ما يقرب من ذلك التاريخ، وكانت بناية متداعية، فالجفصين يتساقط من الأسقف والجدران، والأنابيب تنفجر بفعل الصقيع، والأسطح تسرّب المياه إلى الداخل عندما تغطيها الثلوج. وكان نظام التدفئة لا يعمل إلا بنصف طاقته، هذا إذا لم يتم إيقافه كلية بدعوى التوفير. وأما الإصلاحات، فيما عدا تلك التي بإمكان الساكن إنجازها بنفسه، فكان يجب أن تمر معاملاتها عبر لجان كانت تتلكأ في تنفيذ أي شيء، حتى أن إصلاح لوح من الزجاج كان تنفيذه يحتاج إلى سنتين. ثم قالت السيدة بارصون معتذرة: «ما حصل كان بالتأكيد بسبب غياب طوم عن البيت».

كانت شقة عائلة بارصون أوسع من شقة ونستون، ووضيعة مثلها، ولكن تتميّز بأشياء أخرى. فكل شيء مهشم ومحطم كما لو أن حيواناً هائجاً قد عاث فيها. والكثير من مستلزمات الألعاب الرياضية ملقاة على الأرض كمضارب لعبة الهوكي وقفازات الملاكمة وكرة قدم مفرغة من الهواء فضلاً عن سروالين متسخين، وعلى الطاولة كومة من الأطباق المتسخة والدفاتر الممزقة الزوايا. أما على الجدران فكانت تظهر أعلام رابطة الشباب واتحاد الجواسيس بلونها القرمزي، بالإضافة إلى صورة ضخمة للأخ الكبير. وكانت هناك أيضاً تلك الرائحة المعتادة - رائحة الملفوف المسلوق - التي تنتشر في كل أرجاء المبنى، تختلط معها رائحة عرق يفرزه جسم شخص ما، بيد أن هذا الشخص لم يكن في تلك اللحظة موجوداً بالغرفة. أما في الغرفة الأخرى فقد كان هنالك شخص ما يحمل مشطاً وقطعة من ورق الحمام يحاول أن يعزف بهما مقلّداً إيقاع موسيقى عسكرية كانت لا تزال تنبعث من شاشة الرصد.

وقد أشارت السيدة بارصون بعد أن أطلّت إطلالة خاطفة من باب الغرفة المجاورة: «إنهم الأولاد، لم يخرجوا من البيت هذا اليوم، وهذا لسبب ... ».

)يظهر أنه كان من عادتها أن تقطع الجمل في وسطها). كانت مغسلة المطبخ ممتلئة حتى نصفها بماء متسخ مائل للاخضرار، رائحته أكثر نفاذًا من رائحة الملفوف. جثا ونستون على ركبتيه وراح يتفحص كوع الأنبوب. كان يكره استعمال يديه، كما يكره الانحناء لأن ذلك يسبب له نوبات من السعال، بينما كانت السيدة بارصون تنظر إليه نظرة بائسة.

قالت: «لو أن طوم كان موجوداً لاستطاع أن يصلحها في لحظة، إنه يهوى القيام بمثل هذه الأعمال، إنه ماهر اليدين، نعم إن طوم هكذا».

بارصون هذا هو زميل ونستون في وزارة الحقيقة. لقد كان رجلاً مائلاً للسمنة، نشيطاً ولكن عليه علامات غباء مستحكم، بل هو كتلة من الحماس الأحمق، وواحد من ذوي الولاء الأعمى الذين يتوقف عليهم استقرار الحزب أكثر من توقفه على شرطة الرصد. في الخامسة والثلاثين من عمره، أُبعد كارهاً عن رابطة الشباب، وكان قبيل أن ينتسب إلى هذه المنظمة قد التحق باتحاد الجواسيس لمدة سنة بعد السن القانونية. أما في الوزارة فكان يشغل منصباً ثانوياً لم يكن يتطلب أي قدر من الذكاء، غير أنه من ناحية أخرى كان من القياديين في الهيئة الرياضية، وكل الهيئات المعنيّة بتنظيم الرحلات الجماعية والاستعراضات وحملات الادخار والتوفير والأنشطة التطوعية الأخرى. وكان بإمكانه أن يقول لك بكل فخر، وهو يدخن غليونه، إنه ظل على مدى الأربع سنوات الماضية يحضر جلسات الملتقى المجتمعي كل مساء، ورائحة عرقه النفاذة كانت شهادة كافية على نوع الحياة التي يحياها، حيث ترافقه أينما حل، بل ويتركها وراءه بعد انصرافه.

وضع ونستون يده على البالوعة باشمئزاز وقال: «هل يوجد لديكم مفتاح ربط؟»

- «لا أدري» أجابت السيدة بارصون على الفور، بينما انحنت لتنظر، «لا أدري أين أجده فالأولاد غالباً ... »

كان هنالك صوت وقع أقدام وجلبة ولعب بأسنان المشط يُسمع عندما اندفع الأولاد إلى غرفة الجلوس. وكانت السيدة بارصون قد وجدت مفتاح الربط وجاءت به. وهكذا تمكن ونستون من تسريب الماء من البالوعة بعد أن أخرج وهو متأفف كتلة شعر بشري كانت تتسبب بانسداد الأنبوب. ثم غسل أصابعه بقدر المستطاع بماء بارد من الصنبور وتوجّه إلى الغرفة الأخرى المجاورة للمطبخ.

لكنه فوجئ بصوت وحشي يزعق فيه قائلاً: «ارفع يديك فوق رأسك!»

كان الصوت لصبي جميل ذي مظهر خشن، في التاسعة من عمره، اندفع من خلف طاولة، وهو يهدده بمسدس زائف، بينما كانت شقيقته، التي تصغره بسنتين، تقلّده وفي يدها قطعة خشب. كلاهما كان يلبس سروالاً أزرق وقميصاً رمادي اللون ورباط عنق أحمر، وهو الزي الرسمي للجواسيس. رفع ونستون يديه فوق رأسه متبرماً، فقد كان في مظهر الصبي عدوانية شديدة توحي بأن الحكاية ليست مجرد مزحة.

- «أنت خائن»، صاح به الصبي، «إنك مجرم فكر، إنك من جواسيس أوراسيا، سأطلق عليك النار، سأزيلك من الوجود، سأرسلك إلى العمل في محافر الملح!»

وفجأة بدآ يقفزان من حوله وهما يصيحان «الخائن، مجرم الفكر». كانت الصغيرة تقلّد أخاها في كل حركة أو كلمة يأتي بها. لقد كان الأمر مخيفاً، إذ ذكّره بمن يداعب صغار النمور التي تتحول حينما تكبر إلى آكلة للحوم البشر. لقد كان يلمح شراسة متنمرة في عيني الصبي ورغبة واضحة في أن يرفس ونستون أو يضربه، فضلاً عن شعور بأنه صار في سن تسمح له بذلك. أدرك ونستون بأن من حسن حظه أن المسدس لم يكن مسدساً حقيقياً.

كانت السيدة بارصون تجول بناظريها ما بين ونستون وولديها وعلامات الارتباك بادية عليها. وعلى ضوء غرفة الجلوس الأكثر سطوعاً لاحظ ونستون باهتمام أن غباراً حقيقياً كان يتخلل تغضنّات وجهها.

«إنهما يحدثان جلبة شديدة»، هذا ما علقت به، واستطردت: «لقد استاءا لأنهما لم يخرجا اليوم لمشاهدة أحد أحكام الإعدام شنقاً، هذا كل السبب، فأنا مشغولة ولا يسمح لي وقتي بمرافقتهم، وطوم لا يعود من عمله في الوقت المناسب».

«لماذا لا نذهب للتفرج على عملية الشنق» صاح الولد بصوت زاعق وغاضب، وتغنّت الصغيرة وهي ترقص مرحاً «نريد مشاهدة الشنق! نريد مشاهدة الشنق!».

لقد كانت ستجري بالفعل عملية شنق بعض الأسرى من أوراسيا، أسرى متهمين بارتكاب جرائم حرب، وذلك مساء في الحديقة العامة. تذكر ونستون أن مثل هذا كان يجري مرة كل شهر تقريبا وكان مشهداً يحظى بشعبية عالية. ودائماً يلحّ الأطفال في طلبهم لحضوره ومشاهدته. استأذن ونستون من السيدة بارصون وأخذ طريقه إلى الباب، ولكنه لم يكد يخطو بضع خطوات حتى شعر بأن شيئاً قد ضربه على ظهره ورقبته مسبباً له ألماً مبرحاً، شعر كأنما سلكاً متوهجاً إلى درجة الاحمرار قد لسع ظهره، فالتفت في اللحظة نفسها ليرى السيدة بارصون تجرجر ولدها إلى الوراء عبر الممر بينما كان الولد يهم بإخفاء مقلاع حصى في جيبه. وما إن أوصد ونستون الباب وراءه حتى صرخ الولد: غولدشتاين. ولكن ما صدم ونستون وآلمه، كان ذلك الخوف البائس الذي ارتسم على وجه المرأة الرمادي.

عاد ونستون إلى شقته واجتاز شاشة الرصد إلى كرسي قرب الطاولة وهو ما يزال يتحسس رقبته. كانت الموسيقى التي تنبعث من الشاشة قد توقفت، وحل محلها صوت عسكري جاف يقرأ بلهجة وحشية بياناً عن قوة تسليح القلاع العائمة الجديدة التي كانت قد رست بين أيسلندا وجزر فارو.

أدرك ونستون أنه مع مثل هذين الطفلين لا بد وأن تحيا هذه المرأة التعسة حياة رعب دائم. فلن تمر سنة أو سنتان إلا وسيكون طفلاها قد انتظما في سلك الجاسوسية يرصدان تحركاتها ليل نهار ترقباً لأي علامات انحراف عن نهج الحزب قد تظهر عليها. إن معظم الأطفال في هذه الأيام قد باتوا مصدر رعب لأهلهم. وأسوأ ما في الأمر أن الصغار بانضمامهم إلى منظمات مثل اتحاد الجواسيس كان يتم تحويلهم بشكل منهجي إلى رعاع صغار لا يمكن ضبطهم، وهذا بدوره يقتل فيهم أي ميل إلى الثورة ضد نظام الحزب، بل على النقيض من ذلك سيصبحون عبيداً للحزب ولكل ما يتصل به. إن الأغاني، والمواكب، وحمل الرايات، والرحلات الجماعية، والتدريب على الأسلحة الزائفة، والهتاف، وتقديم فروض الطاعة والهتاف بحياة الأخ الكبير، كل ذلك كان نوعاً من اللعب الممتع بالنسبة لهم. أما ضراوتهم وشراستهم فكانتا توجهان إلى الخارج، إلى أعداء الدولة، إلى الأجانب والخونة وزمر المخربين ومجرمي الفكر. وكان أمراً طبيعياً لمن هم فوق سن الثلاثين أن يخافوا أولادهم، فلم يكن يمر أسبوع إلا وتنشر فيه جريدة (التايمز) قصّة تحت عنوان «بطل صغير» تروي كيف استطاع «البطل» أن يتنصت على والديه ويشي بهما لشرطة الفكر بنقله ملاحظة تضعهم موضع شبهات.

كان ألم حصاة المقلاع قد خف وزال، عندما أمسك بقلمه متململاً، وهو يتساءل عما سيكتب في مفكرته، ولكنه فجأة وجد نفسه يفكر في أوبراين مرة ثانية.

قبل سنوات، لا يعلم كم على وجه التحديد، ربما سبع سنوات، رأى فيما يرى النائم أنه كان يجول في غرفة حالكة الظلام، فسمع شخصاً ما، على مقربة منه، يقول له وهو يجتازه «سنلتقي يوما في مكان يغمره النور حيث لا ظلام»، قيلت هذه الجملة بمنتهى الهدوء والاتزان، كانت خبراً ولم تكن أمرا، مشى هذا المتكلم دون أن يتوقف. الغريب أن هذه الكلمات التي سمعها في الحلم لم تكن ذات وقع شديد عليه أول الأمر، بيد أن ما ترمي إليه من معانٍ أخذ ينجلي له رويداً رويداً فيما بعد. إنه لا يتذكر الآن ما إذا كانت رؤيته لأوبراين للمرة الأولى قد جاءت قبل هذا الحلم أم بعده، ولا هو استطاع أن يتذكر ما إذا كان الصوت صوت أوبراين نفسه، ولكن على أية حال كان يظن أنه ميّز الصوت، وأن أوبراين هو الذي كلمه في الظلام.

لم يكن ونستون متأكداً، وحتى بعد تلاقي شعاع عيونهما في ذاك اليوم، ما إذا كان أوبراين عدواً أم صديقاً، بل حتى هذا التحديد لم يبدُ ذا أهمية كبيرة له. لقد جمعهما رباط من التفاهم، رباط أقوى من رباط العاطفة أو الحزبية، «سنلتقي يوماً حيث لا يكون ظلام». لم يكن ونستون يفهم ما الذي يعنيه بهذا القول، لكنه كان يعتقد بأنه بطريقة أو بأخرى سيأتي هذا اليوم.

توقف الصوت المنبعث من الشاشة، وملأت هواء الغرفة الساكن موسيقى صوت بوق جميل وصاف. ثم عاد ذلك الصوت الذي يثير الأعصاب، يقول:

«انتباه، من فصلكم أعيروني انتباهكم، وردنا تواً نباً هام من جبهة مالابار. إن قواتنا في جنوبي الهند قد أحرزت انتصاراً باهراً. لقد خولتني السلطات أن أعلن أن تقدمنا على هذه الجبهة، والذي نذيعه لكم الآن، سيمكننا من وضع نهاية لهذه الحرب، فإليكم ما ورد في هذه الإشارة ...»

وهنا خطر ببال ونستون أنها مقدّمة لأنباء سيئة. وهكذا كان، إذ بعد الوصف المروّع لعملية الإبادة التي لحقت بجيوش أوراسيا، والأرقام المذهلة لأعداد القتلى والأسرى، أردف البيان بأنه ابتداء من الأسبوع القادم سيتم خفض حصة الفرد من الشوكولا من ثلاثين غراماً إلى عشرين.

هنا تجشأ ونستون ثانية، كان مفعول الشراب آخذاً في الزوال مخلفاً شعوراً بالخزي. أما الشاشة، ربما احتفالاً بالنصر أو للتغطية على نبأ تخفيض حصة الشوكولا، فقد انتقلت فجأة لبث نشيد «يا أوقيانيا كل هذا من أجلك». وكان من المفروض عندما تسمع النشيد أن تقف في حالة الاستعداد، لكن ونستون لم يكن في مجال رؤية الشاشة. 

تَبِع نشيد «يا أوقيانيا كل هذا من أجلك»، موسيقى خفيفة. مشى ونستون نحو النافذة وظهره إلى شاشة الرصد. كانت السماء ما تزال صافية والهواء بارداً. تناهى إلى سمعه صوت قذيفة صاروخية انفجرت بعيداً محدثة دوياً رجّ الأرض رجاً. لم يكن ذلك غير مألوف، ففي الوقت الحاضر يسقط ما بين عشرين وثلاثين من أمثال هذه القذائف على لندن أسبوعياً.

في الشارع كانت الريح ما تزال تتلاعب بالصورة المعلقة، وكانت عبارة الاشتراكية الإنجليزية المنحوتة بكلمة «اش انك» كما نحتت في قاموس اللغة الجديدة تظهر وتختفي مع كل هبة ريح. ومعها المبادئ المقدسة التي تشير إليها: التفكير الازدواجي، إمكانية تغيير الماضي. وقد شعر ونستون وكأنه تائه في غابات قاتمة في أعماق البحار، وقد ضل في عالم وحشي، حيث هو نفسه ذلك الوحش. لقد كان وحيداً. وكان الماضي ميتاً، والمستقبل مجهولاً ولا يمكن حتى تصوّره، كيف له أن يتأكد ما إذا كان هنالك إنسان يقف إلى جواره؟ وكيف له أن يعرف أن هيمنة الحزب لن تدوم إلى أبد الدهر؟ وجواباً عمّا دار في خلده من تساؤلات، عادت الشعارات الثلاثة المكتوبة على واجهة وزارة الحقيقة للظهور أمامه:

الحرب هي السلام.

العبودية هي الحرية.

الجهل هو القوة.

أخرج من جيبه قطعة نقود من فئة الخمسة والعشرين سنتيماً، كان على أحد وجهيها هذه العبارات نفسها وقد نُقشت بأحرف دقيقة واضحة، بينما نُقش على الوجه الآخر وجه الأخ الكبير. كانت عيناه، حتى من خلال قطعة النقود، تلاحقانك. على العملة، على الطوابع، على أغلفة الكتب، على الأعلام، على ألواح الإعلانات!، على علب السكاكر. في كل مكان ودائماً، عيناه تراقبانك وصوته يحيط بك. وسواء كنت مستيقظا أو نائماً، تعمل أو تأكل، داخل منزلك أو خارجه، في الحمام أو في الفراش لا فرق، لا مهرب لك. أنت لا تملك سوى تلك السنتيمترات المكعبة داخل جمجمتك.

مالت الشمس نحو الغروب فانحسرت عن نوافذ وزارة الحقيقة الكثيرة، والتي بدت كئيبة وأشبه بكوى في أسوار قلعة. كان قلبه يرتجف أمام هذا الشكل الهرمي الضخم. رآه حصناً منيعاً لا يمكن اقتحامه، حتى إن آلافاً من القذائف الصاروخية تعجز عن النيل منه. مرة ثانية تساءل لمَن يكتب ما يكتبه في مفكرته، أتراه يكتب للمستقبل أم للماضي، أيكتب لعصر ربما لن يوجد إلا في خيالاته؟ وأمام عينيه لم يكن الموت فحسب يقف متربصاً، بل الفناء. والمفكرة ستتحول إلى رماد وهو نفسه سيموت ويتحول إلى بخار. لن يكون هنالك أحد غير شرطة الفكر يقرأ هذه الأفكار وذلك قبل أن تمحوها من الوجود والذاكرة معاً. كيف يمكن أن تكتب للمستقبل، إذا كان لا يمكن لأي أثر لك أن يبقى لهذا المستقبل، ولا حتى كلمة على قصاصة ورق مجهولة الكاتب.

دقت ساعة الشاشة الثانية بعد الظهر، وعليه أن ينصرف في غضون عشر دقائق ليعود لعمله مرة ثانية في الدقيقة الثلاثين بعد الثانية ظهراً.

أحسّ أن دقات الساعة بدت كأنها قد بعثت في كيانه روحاً جديدة، كان كشبح وحيد يتمتم بينه وبين نفسه بالحقيقة دون أن يسمعه أحد على الإطلاق، ولكن ما دام يمكنه الاستمرار في ذلك فإن هذه التمتمة ستتواصل، فليس بمجرد إسماع الآخرين صوتك بل ببقائك سليم العقل يمكنك مواصلة حمل التراث الإنساني. عاد ونستون إلى الطاولة وجلس على الكرسي ثم تناول القلم وبدأ يكتب: «إلى المستقبل أو الماضي، إلى الزمن الذي يكون الفكر فيه حراً طليقاً، إلى زمن يختلف فيه الأشخاص عن بعضهم البعض ولا يعيش كل منهم في عزلة عن الآخر، إلى زمن تظل الحقيقة فيه قائمة ولا يمكن فيه لأحد أن يمحو ما ينتجه الآخرون.

وإليكم، من هذا العصر الذي يعيش فيه الناس متشابهين، متناسخين، لا يختلف الواحد منهم عن الآخر. من عصر العزلة، من عصر الأخ الكبير، من عصر التفكير المزدوج، تحياتي!»

شعر آنذاك كأنه في عالم الأموات، وبدا له أنه في هذه اللحظة فقط، لحظة بات فيها قادراً على صياغة أفكاره، قد اتخذ الخطوة الحاسمة. إن عواقب كل عمل تكمن في العمل نفسه، وكتب: «إن جريمة الفكر لا تفضي إلى الموت، إنها الموت نفسه».

الآن وقد أدرك أنه ميت لا محالة أصبح من الأهمية له أن يبقى على قيد الحياة قدر ما يتاح له ذلك. نظر إلى يده فوجد أن إصبعين من يمناه كانتا ملطختين بالحبر. وهذه هي بالضبط الأشياء الصغيرة التي يمكن أن تشي بك. فربما بسبب ذلك يبدا بعض المتحمسين للحزب في الوزارة (امرأة مثلاً كتلك المرأة ذات الشعر الرملي أو تلك الفتاة ذات الشعر الأسود التي تعمل في دائرة الإثارة) في التساؤل لماذا، ما الذي يجعله ينصرف إلى الكتابة ساعة الغداء؟ ثم لماذا يستعمل هذا النوع القديم من الأقلام في الكتابة، ثم ما الذي كان يكتبه يا ترى! ثم ترسل بتلك التساؤلات إلى المسؤول المختص. فأسرع إذ ذاك إلى الحمام، وراح، بحرص، يزيل الحبر بتلك الصابونة الخشنة التي تقشط الجلد قشطاً وكأنها صُنعت خصيصاً لهذه الغاية.

وبعد ذلك أعاد المفكرة إلى درج المكتب. ليس لأن إخفاءها أمرٌ ممكن، فمن العبث أن يفكر في ذلك، بل ليكون قادرا على معرفة ما إذا كان أحد قد توصل إليها أم لا. إن شعرة يضعها على نهاية تلك الصفحة يمكن كشفها بسهولة، ولذلك التقط بطرف بنانه ذرة غبار أبيض ووضعها على إحدى زوايا الغلاف، حيث يكفي مجرّد تحريك المفكرة لإزاحتها عن الغلاف.

كان ونستون يحلم بأمه. حرك ذاك الحلم ذكراها في داخله، وفكر أنها لا بد قد اختفت وهو بعد في العاشرة أو الحادية عشرة من عمره. كانت امرأة طويلة ممشوقة القوام كتمثال، تميل إلى الصمت، بطيئة الحركة، ولها شعر أشقر جميل. بعدئذ تذكر والده على نحو أكثر تشوشاً، فما يذكره عن والده أنه أسمر البشرة، نحيف، ويرتدي دائماً ملابس سوداء أنيقة (وأكثر ما يذكره ونستون عن والده أنه كان ينتعل حذاءً ذا نعل رقيق) ويضع نظارة على عينيه. وقد قضى والداه نحبهما في إحدى موجات التطهير الواسعة التي جرت في الخمسينات.

في تلك اللحظة كانت أمه تجلس في مكان سحيق تحته وهي تحمل شقيقته الصغرى بين ذراعيها. وأما شقيقته فلم يكن يتذكر شيئاً عنها على الإطلاق فيما عدا أنها كانت طفلة نحيلة، ضعيفة، دائمة الصمت وذات عينين واسعتين شاخصتين. كلتاهما كانتا تتطلعان إليه. فكلتاهما كانتا في موضع ما أسفل الأرض، ربما في قاع بئر مثلاً أو في قبر عميق، ولكنه، رغم بُعد المكان عنه وعمقه، فإنه كان ما زال يهوي إلى أسفل. كانتا على سطح سفينة تغرق وتنظران إليه عبر ظلمة المياه. كان ما يزال هناك بعض الهواء الذي تتنفسانه، وما يزال باستطاعته أن يراهما وترياه وكانتا تغرقان وتغرقان إلى الأعماق السحيقة حيث المياه الخضراء التي ستواريهما عن الأنظار إلى الأبد. كان هو في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس، أما هما ففي الماء الذي يشدهما نحو الموت. لقد كانتا حيث هما لأجل أن يكون هو في مكانه الذي هو فيه. كان يدرك ذلك كما تدركانه، ويراه على وجهيهما. لم يكن هنالك ملامة على وجهيهما أو في قلبيهما نحوه، كأنهما تعرفان أنه كان يجب أن تموتا من أجل أن يظل هو على قيد الحياة. وكان هذا جزءاً من مسار لا مفرّ منه.

لم يكن باستطاعته أن يتذكر ما الذي حصل، لكنه عرف في حلمه بطريقة ما أن أمه وشقيقته قدمتا حياتيهما فداء لحياته هو. لقد كان حلما من تلك الأحلام التي، رغم محافظتها على المشهد المميز لأجواء الأحلام، تبقى امتداداً لحياة الإنسان الفكرية، والتي يصبح المرء فيها على وعي بالحقائق والأفكار التي تبقى محفورة في ذاكرته حتى بعد أن يستيقظ.

وما خطر لونستون هو أن موت أمه، منذ ثلاثين سنة تقريباً، كان مأساة محزنة بشكل لم يعد موجوداً. فالمأساة، كما يفهمها، باتت شيئاً يخص العالم القديم، وينتمي لزمان كان ما يزال فيه خصوصية وصداقة وحب، لزمان كان ما يزال أفراد العائلة الواحدة يقفون فيه جنباً إلى جنب دونما حاجة إلى معرفة السبب. كانت ذكرى وفاة أمه تمزّق قلبه، فقد كانت تحبّه، وماتت وهي تحبّه، فيما كان هو صغيراً وأنانياً أعجز من أن يبادلها حبّاً بحب. ولسبب لا يعرفه لم يكن يتذكر كيف ضحت بنفسها في سبيل مفهوم من الولاء كان خاصاً بها وغير قابل لأن يتحوّل أو يتزعزع. ورأى أن أشياء كهذه لا يمكن أن تحدث في هذه الأيام التي باتت زماناً للخوف والكراهية والألم، ولا مكان فيها للعواطف السامية أو للأحزان العميقة أو المعقدة المتشابكة.

كل هذا بدا له أنه يراه في عيون أمه وأخته الواسعة عندما كانتا تتطلعان إليه عبر المياه الخضراء، وعلى بعد مئات الفراسخ في الأعماق، وهما تغرقان لأسفل وتغرقان.

وفجأة رأى نفسه واقفاً على أرض يكسوها عشب ربيعي في نهاية نهار صيفي حيث أشعة الشمس المائلة للغروب تذهّب الأرض. إنه المشهد نفسه الذي يتكرر مراراً في أحلامه حتى بات يشك فيما إذا كان قد رأى ذلك في اليقظة أم في المنام. في أوقات اليقظة كان يسمي هذا المشهد: الريف الذهبي. إنه مرعى قديم كانت ترعى فيه الأرانب، ويجتازه متلوياً ممر ضيق وحفر خِلْدٍ هنا وهناك. أما على السياج في الجانب المقابل من الحقل فقد كانت أغصان شجر الدردار تتمايل على نحو خفيف مع النسيم بينما تحف أوراقها متحركة بكتلها الكثيفة مثل شعر النساء. وعلى مقربة ينساب جدول صاف ورقراق حيث تسبح الأسماك في برك تحت أشجار الدردار.

وعبر الحقل، كانت الفتاة ذات الشعر الأسود تسير نحوه. وبحركة واحدة نزعت ثيابها ورمتها جانباً دون اكتراث. كان جسدها ناعماً وبشرتها بيضاء، لكن ذلك لم يثر فيه أدنى رغبة، بل إنه بالكاد تطلع إليها. لكن الذي استهواه من ذلك كله هو تلك الحركة التي نزعت بها ثيابها وطرحت بها أرضاً. فبرشاقتها وعدم مبالاتها بدا كأنها تقوّض ثقافة كاملة وتنقض نظاماً فكرياً بكليته، كما لو أن الأخ الكبير والحزب وشرطة الفكر يمكن أن تذهب أدراج الرياح بحركة بارعة كحركة ذراعها. لقد كانت هذه الحركة أيضاً من بقايا الزمن القديم. واستيقط ونستون وكلمة شكسبير على شفتيه.

كانت شاشة الرصد ترسل صفيراً يصم الآذان استمر على وتيرة واحدة لثلاثين ثانية. وكانت الساعة تدق السابعة والربع وهو وقت استيقاظ العاملين بالمكاتب. قفز ونستون من فراشه عارياً، إذ كان العضو العادي بالحزب لا يتسلم إلا ثلاثة آلاف قسيمة ملابس سنوياً، وكانت البيجامة تكلف وحدها ستمائة، لبس على عجل بعض الملابس الداخلية المتسخة وسروالاً كان معلقاً على كرسي. كانت فترة التمارين الرياضية ستبدأ في غضون ثلاث دقائق. وفي اللحظة التالية تملكته نوبة سعال عنيفة، كانت تنتابه تقريباً بعد استيقاظه، أجهدت رئتيه بشدة حتى أنه لم يكن يستطيع التنفس إذ ذاك إلا بعد أن يستلقي على ظهره ويشهق عدة شهقات عميقة. انتفخت عروقه من أثر السعال كما بدأت الدوالي تؤلمه.

ثم تعالى صوت أنثوي قوي لامرأة تزعق: «المجموعات من ثلاثين إلى أربعين! رجاء، خذوا أماكنكم! من ثلاثين إلى أربعين!».

قفز ونستون متخذا وضعية الاستعداد أمام الشاشة. ظهرت امرأة شابة نحيفة لكنها مفتولة العضلات ترتدي بدْلة وحذاء رياضياً، ثم صرخت:

«مع ثني الذراعين ومدّهما، تابعوا معي، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، هيا أيها الرفاق، لتكن حركاتكم أكثر حيوية. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة! واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ...»

لم يصرف ألم السعال ذهن ونستون عن الانشغال بما أثاره ذلك الحلم داخله. بل إن تلك الحركات المتناسقة من التمرين الرياضي قد أبقت على هذا التأثير. فبينما كان يحرك بصورة آلية ساعديه إلى الأمام وإلى الوراء، إلى فوق وإلى تحت، متظاهراً بالانشراح، وهو ما كان يعد أمراً ضرورياً أثناء التمارين الرياضية، كان يحاول جاهداً استرجاع تلك الفترة التي يلفّها من طفولته المبكرة، ولو أن ذلك كان في غاية الصعوبة، فبعد الخمسين يتلاشى كل شيء من الذاكرة. وإذا لم يكن هنالك سجلات يمكنك الرجوع إليها، فإن خط حياة الإنسان قد يُمحى أثره من الذاكرة. قد تخطر على ذاكرته أحداث كبيرة من المحتمل ألا تكون قد وقعت، أو تفاصيل أحداث دون أن تكون قادراً على استكناه الأجواء والظروف التي رافقتها. ومن الممكن أن تكون هناك فراغات زمنية كبيرة لا يمكنك أن تملأها بأي أحداث. لقد تغير كل شيء، حتى أسماء البلدان ومساحاتها على الخرائط تغيّرت. فالقطاع الهوائي رقم واحد على سبيل المثال لم يكن هذا اسمه في تلك الأيام، كان يسمى إنجلترا أو بريطانيا، أما لندن، حسبما كان يشعر، فقد كانت دوماً تسمى لندن.

لا يذكر ونستون على وجه التحديد وقتاً لم تكن فيه بلاده في حالة حرب، ولكن كان من الثابت له أنه كان هنالك فترة طويلة من السلام قد خللت طفولته، لأن من ذكريات طفولته الأولى يذكر غارة جوية فاجأت الجميع على حين غرة. ربما كان ذلك عندما ألقيت قنبلة ذرية على كولشيستر. وهو لا يذكر الغارة نفسها، لكنه يذكر يد والده وهي تقبض على يديه بينما كانا يُهرعان نازلين إلى مكان عميق تحت الأرض على سلم حلزوني يرن تحت قدميه، مما آلم ساقيه واضطره للتوقف وأخذ قسط من الراحة. فيما أمه بحركتها الهادئة الحالمة كانت في صف طويل وراءهما وهي تحمل أخته الصغيرة، أو لعل ما تحمله كان صرة من البطانيات. فهو ليس متأكداً مما إذا كانت أخته قد وُلدت أم لا. أخيراً وصلوا إلى مكان مزدحم يعج بالضجيج، وهو حسبما اعتقد، محطة قطار أنفاق.

كان هنالك أناس يجلسون على أرض مرصوفة بالحجارة، بينما آخرون يتزاحمون بشدة وهم يجلسون على مقاعد معدنية الواحد فوق الأخر. استطاع ونستون وأمه وأبوه أن يجدوا لهم موطئاً. وبالقرب منهم كان رجل وامرأة طاعنان في السن يجلسان جنبا إلى جنب على مقعد. كان الرجل العجوز يلبس بذلة سوداء وقبعة من القماش الأسود تنحسر للوراء كاشفة عن شعر ناصع البياض. كان وجهه قرمزياً وعيناه زرقاوين ومغرورقتين بالدموع، وتنبعث منه رائحة الخمر وكأنها تفوح من جسمه وليس من الشراب. حتى كان المرء ليحسب أن الدموع التي تسيل من عينيه هي خمر صاف. ولكنه رغم كونه ثملاً قليلاً، فإنه كان رازحاً تحت أحزان حقيقية لا تحتمل. وبطريقتيه الطفولية أدرك أن ثمة واقعة فظيعة، واقعة لا يمكن غفرانها أو علاجها، قد حدثت. وبدا له أيضاً أنه قد عرف السعب. شخص ما كان يحبه العجوز، ربما حفيدة صغيرة، قد قضت نحبها. وكان العجوز يتمتم من حين لآخر قائلاً: «كان يجب ألا نثق بهم، هذا ما قلته أليس كذلك، هذا ما جنيناه من ثقتنا بهم، لقد كنت أقول ذلك دائماً، ما كان ينبغي لنا أن نثق بهؤلاء الأنذال».

لكن من هم هؤلاء الذين ما كان عليهم أن يثقوا بهم؟ أمر لم يعرفه ونستون. منذ ذلك الوقت كانت الحرب متواصلة، ولو أننا أردنا الدقة، فإنها لم تكن دائماً الحرب نفسها. فعلى مدى أشهر، أثناء طفولته، كان قتال عنيف يدور في شوارع لندن نفسها. وهو ما يزال يذكر بعضه بوضوح. ولكن التاريخ لا يأتي حتى على إشارة لتلك الفترة. من كان يحارب من وفي أي وقت؟ أمر كهذا مستحيل طالما أنه لا سجل مكتوب أو كلمة مسجلة قد أتت على ذكر أي تحالفات غير تلك القائمة في الوقت الراهن. ففي هذه اللحظة مثلا في 1984 (إن كانت هذه اللحظة فعلا في 1984)، أوقيانيا في حرب مع أوراسيا، بينما تُحالف إيستاسيا. لكن ما من بيان عام أو خاص اعترف يوماً بأن القوى الثلاث قد أقامت تحالفات مختلفة عما هو قائم اليوم. ولكن ونستون عرف جيداً، أنه منذ أربع سنوات فقط كانت أوقيانيا في حرب مع إيستاسيا ومتحالفة مع أوراسيا. كان ذلك مجرد إدراك مبهم لأن ذاكرته وأفكاره لم تكن تحت سيطرته بصورة كافية. فعلى المستوى الرسمي لم يحدث أي تغيير في التحالفات. فإذا كانت أوقيانيا في حرب مع أوراسيا، إذن فان أوقيانيا كانت دائماً في حرب مع أوراسيا. ذلك أن عدو اللحظة الراهنة يمثل الشر المطلق، وهذا ما يؤكد أن وفاقاً في الماضي أو المستقبل كان في حكم المستحيل.

كان الشيء المخيف الذي خطر له للمرة الألف، وهو يدفع بكتفيه إلى الوراء متألماً (بينما يداه على خاصرته ويتحرك حركة استدارية من الوسط، وهي حركة يفترض أنها تقوي عضلات الظهر)، أجل الشيء المخيف هو أن يكون ما انتابه من مخاوف صحيحاً! لو أن الحزب يستطيع أن يضرب يده في الماضي ليقول إن هذا الحدث أو ذاك لم يحدث أبداً. لو كان ذلك لكان أشد إفزاعاً من التعذيب أو الموت.

إن الحزب يقول إن أوقيانيا لم تدخل أبداً في تحالف مع أوراسيا، بينما ونستون سميث يعرف أن أوقيانيا كانت في تحالف مع أوراسيا منذ وقت قريب، ولكن مثل هذه المعلومات أين يمكن أن نجدها. إنها فقط في ضميره الذي لا يلبث أن يُسحق، وإذا قبل الناس الأكذوبة التي ألزمهم بها الحزب، وإذا كانت كل السجلات تحكي القصة نفسها، فان الأكذوبة تدخل التاريخ وتصبح حقيقة. وأحد شعارات الحزب «من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي». لكن الماضي، الذي هو في طبيعته قابل لإعادة النظر، لم يحدث أبداً أن تغير. فما هو صحيح اليوم كان صحيحاً منذ الأزل وسيبقى كذلك إلى الأبد. إن الأمر في منتهى البساطة، فكل المطلوب هو سلسلة لا تنتهي من الانتصارات على ذاكرتك «الاستحواذ على الحقيقة» أو كما يسمونها في اللغة الجديدة «التفكير الازدواجي».

«استرح» صرخت المدربة وهي تبتسم قليلاً.

أرخى ونستون دراعيه وملأ رئتيه بالهواء ببطء، بينما كان عقله ينزلق في متاهات التفكير الازدواجي .. أن تعرف وألا تعرف، أن تعي الحقيقة كاملة، ومع ذلك لا تفتأ تقص الأكاذيب محكمة البناء، أن تؤمن برأيين في آن وأنت تعرف أنهما لا يجتمعان ومع ذلك تصدق بهما. أن تجهض المنطق بالمنطق، أن ترفض الالتزام بالأخلاق فيما أنت واحد من الداعين إليها. أن تعتقد أن الديمقراطية ضرب من المستحيل، وأن الحزب وصي عليها. أن تنسى كل ما يتعين عليك نسيانه، ثم تستحضره في الذاكرة حينما تمس الحاجة إليه، ثم تنساه مرة ثانية فوراً، وفوق كل ذلك أن تطبق الأسلوب نفسه على الحالتين. ذلك هو الدهاء الكامل، أن تفقد الوعي عن عمد ووعي، ثم تصبح ثانية غير واعٍ بعملية التنويم الذاتي التي مارستها على نفسك. بل حتى إن فهم عبارة التفكير الازدواجي تستدعي منك اللجوء للتفكير الازدواجي.

ومرة ثانية دعتهم المدربة لاتخاذ وضع الاستعداد: «الآن دعونا نرى من منا يستطيع أن يلمس أصابع قدميه» نادت بحماس، ثم أردفت قائلة «ابدأوا من فوق الوركين، رجاء أيها الرفاق. واحد، اثنان! واحد، اثنان! ...»

كان ونستون يكره هذا التمرين الذي يسبب له آلاماً حادة من كعبيه إلى إليتيه وغالباً ما كان ينتهي بنوبة سعال حادة. لم يكن له غير تأملاته ما يجعله مسروراً إلى حد ما. إن الماضي، كما تراءى له، لم يتغير فحسب، بل اجتُثّ من جذوره. إذ كيف يمكن أن تبرهن على أكثر الحقائق جلاء حينما لا يكون لديك أي سجل لها خارج ذاكرتك؟ هنا حاول ونستون أن يتذكر في أي سنة سمع للمرّة الأولى بالأخ الكبير. يُخيل إليه أن ذلك كان في الستينات، لكنه من رابع المستحيلات أن يتأكد من ذلك. ففي سجلات الحزب يصور الأخ الكبير طبعاً باعتباره زعيم الثورة وحاميها والقيّم عليها منذ أيامها الأولى. ومآثره كانت تتوغل تدريجياً في الماضي حتى وصلت إلى عالم الأربعينات والثلاثينات الخرافي، عندما كان الرأسماليون، بقبعاتهم الأسطوانية الغريبة، ما زالوا يسيرون في الشوارع بسياراتهم الفارهة أو عربات الخيول ذات الجوانب اللامعة. لم يكن أحد يعرف من هذه الأسطورة ما هو الحقيقي وما هو المختَلَق، بل إن ونستون نفسه لم يستطع تذكر التاريخ الذي جاء فيه الحزب إلى الوجود، ويعتقد أنه لم يسمع بكلمة «إنج شك» قبل عام 1960، ولكن قد يكون من الممكن أنها قد اشتقت من «الاشتراكية الإنجليزية» في اللغة القديمة، مما يعني أنها كانت أسبق.

كان الضباب يحجب كل شيء. وكان بمقدورك أحياناً أن تضع يدك على أكذوبة محددة. فعلى سبيل المثال، تزعم كتب تاريخ الحزب أن الحزب هو أول من اخترع الطائرات، فيما ونستون يذكر الطائرات منذ طفولته الأولى، ولكن لا يمكن الحصول على برهان لنقض هذا الادعاء. مرة واحدة في حياته وقعت يداه على دليل وثائقي لا يمكن دحضه، برهان على تزييف حقيقة تاريخية. وفي تلك المناسبة... هنا قاطعه صوت غاضب آت من شاشة الرصد «سميث، يا سميث رقم 6079، نعم أنت، انحنِ أكثر إلى الأسفل، إنك تستطيع أن تؤدي أداء أفضل، لكنك لا تبذل جهداً كافياً، انحنِ أكثر رجاء. هذا أحسن أيها الرفيق. الآن استريحوا جميعاً وراقبوني.»

وفجأة تصبب كل جسم ونستون عرقاً حاراً، ومع ذلك بقي وجهه خلواً من أي انفعال. فليس له أن يظهر الخوف وليس له أن يظهر الاستياء. رفة عين واحدة يمكن أن تودي بك. كان ونستون واقفا يراقب بينما رفعت المدربة ذراعيها فوق رأسها ثم انحنت (ليس للمرء أن يقول بلطف ولكن بخفة وإتقان) ثم وضعت أصابع يديها تحت أصابع قدميها.

«هكذا يا رفاق. هكذا أريدكم أن تفعلوا. راقبوني ثانية. أنا في التاسعة والثلاثين من عمري ولدي أربعة أطفال. الآن انتبهوا»، وانحنت ثانية: «لاحظوا. ركبتاي غير مثنيتين، باستطاعتكم جميعًا أن تفعلوا مثلي إذا أردتم» قالت ذلك وهي تنتصب ثانية. «إن أي شخص لم يتجاوز الخامسة والأربعين يمكنه أن يلمس أصابع قدميه. فنحن الذين لم نحظ بشرف القتال على خطوط الجبهة، علينا على الأقل أن نبقى متمتعين باللياقة. تذكروا أبناءنا على جبهة مالابار! والبحارة على القلاع العائمة! فكروا فقط في كل ما عليهم أن يتحملوه. والآن حاولوا ثانية، هذا أفضل يا رفيق، أفضل بكثير»، قالت مشجعة حين نجح ونستون بعد جهد جهيد في ملامسة أصابع قدميه دون أن يثني ركبتيه للمرة الأولى منذ سنوات عديدة.



(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent