خبر
أخبار ساخنة

ثم لم يبقَ أحد | أجاثا كريستي | الفصل الثالث



ثم لم يبقَ أحدٌ | الفصل الثالث

 

 

أوْشكَ العشاءُ على الانتهاء، وكان الطعامُ جيّداً والشرابُ مُمتازاً، وكانت خدمةُ السيّد "روجرز" جيّدة، فشعر الجميعُ بروحٍ معنويّةٍ أفضل، وقد أخذوا يتحادثون بصورةٍ أكثر حُريّةً وألفة.

القاضي "وارغريف" أصبح مُمتِعاً بحديثه الساخر الذي كان يستمعُ إليه الدكتور "آرمسترونغ" و"توني مارستون"، والآنسة "برنت" تحدَّثت مع الجنرال "ماك آرثر" وقد اكتشفا أن لديْهما بعضَ الأصدقاءِ المُشترَكين، أمّا "فيرا كلايثورن" فقد كانت تُوجّه أسئلةً ذكيّةً للسيّد ديفيس حول جنوب إفريقيا، وكان السيّد "ديفيس" مُلَمّاً تماماً بالموْضوع، فيما كان "لومبارد" يستمعُ إلى الحديث وقد رفع رأسه مرّة أو مرّتين فجأة وضاقت عيْناه، وبين فيْنةٍ وأُخرى كان يدور بعيْنيْه حوْل الطاولة مُتأمِّلاً الآخرين.

فجأة قال "أنتوني مارستون":

-       هذه الأشياء طريفة .. أليْسَ كذلك؟

كان في وسط الطاولة تُحفٌ خزفيَةٌ صغيرةٌ وُضِعَت على حاملٍ زُجاجي، واستكمل "توني":

-       أظنُّ أن هذه التماثيل المُصغَّرة تُمثِّل الجنود .. جنود "جزيرة الجنود" .. أعتقد أن هذه هي الفِكرة.

انحنت "فيرا للأمام" وقالت:

-       تُرى كم عددُها؟ .. عشرة؟

ثم هتفت:

-       يا للطرافة! .. يبدو لي أنهم هؤلاء هم الجنودُ العشرةُ في الأُنشودة .. الأنشودة المُعلَّقة في غُرفتي داخل إطارٍ فوْق المدفأة.

قال "لومبارد":

-       وفي غُرفتي أنا أيضاً.

وتوالت أصواتُ الحُضور تُشيرُ إلى أنها في غُرفِهم جَميعاً، فقالت "فيرا":

-       فِكرةٌ مُسلية .. أليس كذلك؟

وعلّقَ القاضي "وارغريف" بصوْتٍ أجشٍّ قائلاً:

-       بل هي فِكرةٌ طُفوليّةٌ للغاية.

ثم تناولَ مزيداً من القهوة، ونظرت "إميلي برنت" إلى "فيرا كلايثورن" فنظرت "فيرا" إليها، ثم نهضتا واقفتيْن فاتجهتا إلى غُرفة الجلوس حيثُ كانت النوافِذُ مفتوحةً على الشُرفة، وتناهى إليهما صوْتُ الأمواجِ وهي ترتطمُ بالصُخورِ على الشاطئ، فقالت "إميلي برنت":

-       إنه صوْتٌ لطيف.

فقالت "فيرا" بحِدّة:

-       أنا أكرهُ هذا الصوْت.

رفعت الآنسة "برنت" نظرها إليها بدهشةٍ فشعرت "فيرا" ببعضِ الحرجِ وقالت بهدوءٍ أكثر:

-       لا أعتقدُ أن هذا المكانَ سيكونُ ملائماً إذا ما هبَّت عاصفة.

وافقتها "إميلي برنت" قائلةً:

-       ليْسَ لديَّ شَكٌ في أن هذا المكانَ يُغلَقُ في الشتاء، لا يُمكِنُ تأمينُ خدمٍ هُنا في الشتاء على أيّة حال.

قالت "فيرا":

-       لا بُدَّ أن توفيرَ الخدمِ في هذا المكان صعبٌ أصلاً.

قالت الآنسة "برنت":

-       السيّدة "أوليفر" محظوظةٌ لاستخدامها هذيْن الزوْجيْن، إن المرأة طاهيةٌ ماهرة.

فقالت "فيرا" لنفسها: "عجيبٌ أن يُخطئَ هؤلاء العجائزُ في الأسماء"، ثم قالت بعد هنيْهة صمتٍ:

-       أجل .. أعتقدُ أن السيّدة "أوين" محظوظةٌ حقاً.

كانت الآنسة "برنت" قد أخرجت قِطعةَ تطريزٍ صغيرةٍ من حقيبتها، وبينما كانت على وَشك إدخال الخيْطِ في الإبرة توقَّفت فجأةً وقالت بحِدّة:

-       "أوين"؟! .. هل قُلتِ "أوين"؟

-       نعم.

فقالت "إميلي برنت" بحِدّةِ مرّةً أُخرى:

-       لم أُقابلْ أحداً في حياتي يُدعى "أوين".

فحدَّقت إليها "فيرا" وقالت:

-       ولكن بالتأكيد.. ...

ولم تُكمِلْ جُملتَها؛ فقد فُتِحَ البابُ وانضمَّ الرجالُ إليهما يتبعُهم "روجرز" حاملاً صينيّةَ القهوة، ثم جاء القاضي فجلس بجوار "إميلي برنت"، وجلس "آرمسترونغ" إلى جوار "فيرا"، وذهب "توني مارستون" ليفتحَ النافذة، وأخذ "بلور" يتفحَّصُ تمثالاً نحاسيّاً بدهشةٍ ساذَجة، ووقفَ الجنرال "ماك آرثر" وظهره إلى المدفأةِ وأخذَ يعبثُ بشاربه الأبيض الصغير، فقد كان العشاءُ جيّداً تماماً وكانت روحه المعنويّةُ في ارتفاع، وأخذَ "لومبارد" يُقلِّبُ صفحاتِ مجلةٍ كانت مع صُحُفٍ أُخرى على طاولةٍ بجانبِ الجدار.

دار "روجرز" بصينيّةِ القهوة، وكانت القهوةُ جيّدةً ومُركَّزةً وساخنةً جداً، كان الجميعُ قد استمتعوا بالعشاءِ وكانوا في حالةٍ جيّدةٍ من الرِضا بأنفسِهم وبالحياة، وكانت الساعةُ تشيرُ إلى التاسعة والثُلُثِ وقد ساد المكانَ صمتٌ شامِلٌ مُريح.

وفجأة قطع ذلك الصمتَ صوتٌ مُفاجئٌ مُرتفِعٌ شَديدٌ يقول:

-       أيّها السيداتُ والسادة: أرجو الصمت.

ذُهِلَ الجميعُ ونظرَ بعضُهم إلى بعضٍ ونظروا حوْل المكانِ والجدران .. مَن كان يتحدث؟!، ولكن الصوْتَ استمرَّ واضِحاً وعالياً يقول:

-       أنتم مُتّهَمونَ بما يلي: "إدوارد جورج آرمسترونغ": أنت مُتهَمٌ بأنك تسبَّبتَ يوْم الرابع عشر من آذار (مارس) عام ١٩٢٥ بقتل "لويزا ماري كليز" .. "إميلي كارولين برنت": أنتِ مُتهمةٌ بأنكِ مسؤولةٌ عن وفاة "بياتريس تايلور" يوْم الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) عام ١٩٣١ .. "ويليام هنري بلور": أنت مُتهمٌ بأنك تسبَّبتَ في موْتِ "جيمس ستيفن لاندور" يوم العاشر من تشرين الأوّل (أكتوبر) عام ١٩٢٨ .. "فيرا إليزابيث كلايثورن": أنتِ مُتّهَمةٌ بأنكِ قتلتِ "سيريل أوغليف هاملتون" يوْم الحادي عشر من آب (أغسطس) عام ١٩٣٥ .. "فيليب لومبارد": أنت مُتهمٌ بأنك مُذنِبٌ بالتسبُّب في موْت واحدٍ وعشرين رجُلاً من قبيلةٍ في شرقِ أفريقيا خلالَ شهر شباط (فبراير) عام ١٩٣٢ .. "جون غوردون ماك آرثر": أنت مُتهَمٌ بأنك دفعتَ بعشيقِ زوْجتك المدعو "آرثر ديتشموند" عامِداً مُتعمِّداً إلى الموْتِ يوْم الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) عام ١٩١٧ .. "أنتوني جيمس مارستون": أنت مُتهمٌ بقتل "جون" و"لوسي كومبس" يوْم الرابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي .. "توماس روجرز" و"إيثيل روجرز": أنتُما مُتهمان بأنكما تسبَّبتما في موْت "جنيفر برادي" يوم السادس من أيار (مايو) عام ١٩٢٩ .. "لورنس جون وارغريف": أنتَ مُتهمٌ بأنك كُنتَ مُذنباً بقتلِ "إدوارد سيتون" يوم العاشر من حزيْران (يونيو) عام ١٩٣٠.

وصمتَ الصوْتُ هُنيْهةً ثم عادَ يقولُ بلهجةٍ قويّة:

-       أيُّها السُجناءُ في قفصِ الاتهام: هل لديْكم ما تُدافعونَ به عن أنفسكم؟

توقَّفُ الصوْت، وللحظةٍ ساد صمتٌ وذهولٌ بيْنَ الجميع، ثم دوّى صوْتُ تحطُّمِ بَعضِ الأواني؛ فقد أسقطَ "روجرز" صينيّة القهوة، وفي نفسِ اللحظةِ جاء من خارج الغُرفةِ صوْتُ صُراخٍ وارتطام، وكان "لومبارد" أوّلَ مَن تحرَّك فقفز إلى البابِ وفتحه على مصراعيْه، وفي الخارج كانت السيّدة "روجرز" راقدةً متكوِّمةً على نفسِها فصاح "لومبارد":

-       "مارستون"؟!

اندفعَ "أنتوني" لمُساعدته فرفعا المرأةَ معاً وحملاها إلى غُرفة الجلوس، وجاء الدكتور "آرمسترونغ" بسرعةٍ فساعدَهُما في رفعِها إلى الأريكةِ ثم انحنى عليها وقال بسُرعة:

-       لم يُصِبها شيء .. لقد أُغميَ عليها فقط وسوْف تفيقُ خِلال دقائق.

قال "لومبارد" للسيّد "روجرز":

-       أحضِرْ بعضَ الليْمون.

كان وجهُ "روجرز" أبيضَ ويداهُ ترتعِشان، وقال:

-       حالاً يا سيّدي.

ثم غادرَ الغُرفةَ مُسرعاً في حين صاحت "فيرا":

-       مَن ذلك الذي كان يتكلّم؟ .. من هو؟! .. لقد كان الصوْتُ عالياً .. عالياً جِدّاً.

وجاء صوْتُ الجنرال "ماك آرثر" مُدمدِماً:

-       ماذا يحدُثُ هُنا؟! .. ما هذا المزاح؟

كانت يداه ترتعِشان وكتفاه مُتهدِّليْن، وبدا فجأةً أكبرَ من عُمره بعشر سنوات، وكان "بلور" يمسحُ وجهَهُ بمنديلٍ بسبب العرق المُتصبِّبِ عليه، الوحيدان اللذان لم يتأثرا نِسبياً كانا القاضي "وارغريف" والآنسة "برنت" التي جلست بشكلٍ مُنتصِبٍ رافعةً رأسها إلى أعلى وقد تدفّقَ لوْنٌ داكِنٌ في وجنتيْها، أمّا القاضي فقد جلس بهيْئته المُعتادة ورأسُه غارقٌ بيْن كتفيْه، ثُمَّ أخذَ يحُكُ أذنه بإحدى يديْه، وكانت عيْناه فقط نشطتيْن تدوران وتدوران حوْل الغُرفةِ بحيرةٍ ولكن بيقظةٍ وذكاء.

مرّةً أُخرى كان "لومبارد" هو البادئ، فبيْنما كان "آرمسترونغ" مشغولاً بالمرأةِ المُنهارة وجدَ "لومبارد" نفسَه حُرّاً ليُبادرَ قائلاً:

-       ذلك الصوْتُ بدا صادراً من داخل الغُرفة.

فصاحت "فيرا":

-       مَن كان صاحبُ الصوْت؟ .. مَن؟ .. لم يكُن واحداً منّا.

أخذت عيْنا "لومبارد" تدورانِ حوْل الغُرفةِ كما يفعلُ القاضي، واستقرّتا لحظةً على النافذةِ المفتوحةِ ثم هزَّ رأسَه بحزم، وفجأة لمعت عيْناه وتحرَّكَ بسُرعةٍ إلى الإمام حيْثُ يوجدُ بابٌ بجانبِ الموْقِدِ يؤدّي إلى الغُرفةِ المُجاوِرة، وبحركةٍ سريعةٍ أمسكَ بمقبضِ البابِ ففتحه واندفعَ إلى الداخلِ مُطلِقاً على الفوْرِ صيحةَ رِضا وقال:

-       وجدتُها.

وتدافعَ الآخرونَ نحوه ما عدا الآنسة "برنت" التي بقيَتْ جالسةً بهيْئتها المُنتصبة على مِقعدها، وداخل الغُرفةِ الأُخرى وُضِعَت طاولةٌ مُلاصِقةٌ للجدارِ الذي يفصلُها عن غُرفةِ الجلوس، وعلى الطاولةِ وجدوا مُكبِّر صوْتٍ من النوْعِ القَديمِ يتصلُ به بوقٌ كبير، وكانت فوَّهةُ البوقِ مُوجّهةً إلى الجدار، وحين أزاحه "لومبارد" جانباً بدا له ثُقبان أو ثلاثةٌ كان قد تمَّ حفرُها بشكلٍ خَفيٍّ في الجدار، وأعاد تهيئةَ مُكبِّر الصوْتِ ووضعِ الإبرةِ على الأُسطوانةِ فسمعوا الصوْتَ ثانيةً يقول:

-       أنتم مُتَّهمون بما يلي: .....

فصاحت "فيرا":

-       أوْقِفه .. أوْقِفه! .. يا له من صوْتٍ مُريع!

فاستجاب لها "لومبارد"، وقال الدكتور "آرمسترونغ" بارتياح:

-       أعتقد أنه مِزاحٌ سقيمٌ وحقير.

ثُمَّ جاءَ صوْتُ القاضي "وارغريف" واضحاً يقول:

-       إذن فأنتَ تعتقدُ أن المسألةَ مِزاحٌ لا أكثر .. أليْسَ كذلك؟

فحدّق إليْهِ الطبيبُ وقال:

-       ماذا يُمكِنُ أن تكونَ غيْر ذلك؟

فمسحَ القاضي بيده شفتَهُ العُليا برفقٍ وقال:

-       لستُ مُستعِدّاً لإبداءِ أيِّ رأيٍّ في الوقت الحاضر.

فتدخّلَ "أنتوني مارستون" وقال:

-       أيُّها السادة: أعتقد أنكم نسيتم شيْئاً هامّاً: مَن أدارَ هذا الشيء وجعلَه يُخرِجُ هذا الصوْت؟

غمغمَ "وارغريف":

-       هذه صحيح .. عليْنا أن نُحقِّقَ في ذلك.

وتقدّمَ المجموعةَ عائداً إلى غُرفةِ الجلوسِ وتبعه الآخرون، كان "روجرز" قد عاد للتوْ ومعه كأسٌ من عصير الليْمون، في حين كانت الآنسة "برنت" منحنيةً على جسدِ السيّدِة "روجرز" التي كانت تتأوَّه، واندسَّ "روجرز" برشاقةٍ بيْن المرأتيْن قائلاً:

-       اسمحي لي يا سيّدتي، سأكلِّمها .. "إيثيل" .. "إيثيل" .. كُلُّ شيءٍ على ما يُرام، هل تسمعينني؟ .. عليكِ التماسُكُ قليلاً.

أخذت السيّدة "روجرز" تتنفَّسُ لاهِثةً بسُرعةٍ ودارت عيْناها المتحجِّرتان برُعبٍ حوْل حلقةِ الوجوهِ المُحدِّقة إليها، وكان صوْتُ زوجِها فَزِعاً وهو يقول:

-       تماسكي يا "إيثيل" .. تماسكي.

وتحدَّث إليها الدكتور "آرمسترونغ" مُخفِّفاً عنها قائلاً:

-       سيّدة "روجرز": ستكونينَ على ما يُرام الآن، هذه مُجرَّدُ نوْبةٌ بسيطة.

فسألَته:

-       هل أُغميَ عليَّ يا سيّدي؟

-        نعم .

-        ذلك الصوْت .. ذلك الصوْتُ المُريع بدا أشبه بحُكمٍ قضائي.

وتحوَّلُ لوْنُ وجهِها إلى الأخضرِ ثانيةً وارتعشتْ جفونُها، فقال الدكتور "آرمسترونغ" بحِدّة:

-       أيْن ذلك الشراب؟

كان "روجرز" قد وضعَ عصيرَ الليْمونِ على طاولةٍ صَغيرة، فناولَه أحدُهم للطبيبِ الذي انحنى على المريضةِ اللاهِثةِ وقالَ لها:

-       اشربي هذا يا سيّدة "روجرز.".

شربَتْ الكأسَ وهي تلهث، وكان الشراب جيّداً لها، وسرعان ما عاد وجهُها إلى لوْنه الطبيعي وقالت:

-       أنا بخيْرٍ الآن .. لقد سبَّب لي هذا الصوْتُ غَثياناً فقط.

قال "روجرز" بسُرعة:

-       طبعاً سبَّب لكِ ذلك .. لقد سبَّب لي أنا أيضاً الغَثيان وجَعلني أُسقِطُ تِلك الصينيّة .. يا لها من أكاذيبَ شرّيرةٍ! .. أودُّ لوْ أعرف .....

وعندئذٍ قوطِعَ بسُعالِ أحدِهم، سُعالٌ واهِنٌ جافّ ولكنه كان كافياً لإيقافِ صُراخِه. ونظرَ إلى القاضي "وارغريف" الذي سعلَ مرّةً أُخرى وقال:

-       مَن الذي وضعَ تِلك الأُسطوانةَ على مُكبِّر الصوْت؟ .. هل كان ذلك أنتَ يا "روجرز"؟

صاح "روجرز":

-       لم أكُن أعرفُ ما هيَ .. أُقسِم بالله إني لم أكُن أعرفُ ما هيَ يا سيّدي، ولو كُنتُ أعرفُ لَما وضعتُها قط.

فقال القاضي بجفاء:

-       الأرجحُ أن هذا صحيح، ولكن أعتقدُ أنه من الأفضلِ لك أن تُقدِّم شَرحاً مُفصَّلاً لذلك يا "روجرز".

مسحَ الخادمُ عرقَهُ بمنديلٍ وقالَ بصدق:

-       كُنتُ أُطيعُ الأوامرَ يا سيّدي، هذا كلُّ ما هنالك.

-       أوامرُ من ؟

-       أوامرُ السيّد "أوين".

قال القاضي "وارغريف":

-       دَعني استوضحُ تِلك النُقطةَ قَليلاً، ماذا كانت أوامرُ السيّد "أوين" بالضبط؟

قال "روجرز":

-       أمرني أن أضعَ الأُسطوانة على مُكبِّر الصوْت، فكان عليَّ إخراجُ الأُسطوانةِ من الدُرج، وكان على زوْجتي تشغيلُ مُكبِّر الصوْتِ عند دُخولي غُرفة الجلوسِ حامِلاً صينيّة القهوة.

غمغم القاضي:

-       قصةٌ مثيرةٌ جِدّاً.

فقال "روجرز":

-       إنها الحقيقةُ يا سيّدي .. أُقسِمُ بالله إنها الحقيقة .. لم أكُن أعرفُ ما بها .. ولا حتى للحظةٍ واحدة .. كان عليها عنوانٌ واعتقدتُ أنها مُجرَّدُ قِطعةٌ موسيقيّة.

نظر "وارغريف" إلى "لومبارد" وقال:

-       هل كان عليها عُنوان؟

فأوْما "لومبارد" إيجاباً، ثم انفرجت شفتاه بهمهمةٍ فظهرت أسنانُه البيْضاء وقال:

-       صحيحٌ تماماً يا سيّدي، كان عُنوانُها "أغنية البجعة.

فجأة تدخَّل الجنرال "ماك آرثر" وتساءلَ مُتعجِّباً:

-       الموضوعُ كُلُّه غيْر معقول .. غيْر معقولٍ إلقاء الاتهاماتِ جُزافاً على هذا النحو! .. لا بُدَّ من عملِ شيءٍ تجاه السيّد "أوين" هذا كائناً مَن كان.

قاطعته "إميلي برنت" وقالت بحِدّة:

-       هذا هو السؤال .. مَن هوَ؟

تدخَّلَ القاضي فقال بلهجة السُلطة التي استمدّها من حياةٍ طويلةٍ في المحاكم:

-       هذا هو بالضَبط ما يتوجَّبُ عليْنا بحثُه بعناية .. أعتقد أن عليك أولاً يا "روجرز" أخذَ زوْجتِك إلى سريرها ثُم عُد إلى هنا .

-       أمرُكَ يا سيّدي.

وقال الدكتور "آرمسترونغ": سأُساعدُكَ يا "روجرز".

خرجتْ السيّدةُ "روجرز" مُستنِدةً إلى الرجُليْن، وعندما مضوا خارجَ الغُرفةِ قال "توني مارستون" للباقين:

-       ماذا عنكم؟ .. أنا أُفكِّرُ في تناولِ بعض المُرطِّبات بعد هذا كله.

فقال "لومبارد":

-       وأنا أيْضاً.

فقال "توني":

-       سأذهبُ وأجلِبُ شيْئاً.

ثم خرجَ من الغرفة، وعادَ بعد ثانيةِ أو ثانيتيْن وقال:

-       وجدتُها كُلُّها جاهزةً على صينيّةٍ بانتظار مَن يحملُها إلى الداخل.

ثم وضعَ الصينيّةَ بعناية، وانقضتْ الدقائقُ التاليةُ في توْزيعِ المشروبات. أخذَ كلٌّ من الجنرال "ماك آرثر" والقاضي "وارغريف" كوباً من القهوة، والحضور جميعاً شعروا بالحاجةِ إلى ما يُريحُ أعصابَهم فتناولوا بعضَ المُرطِّبات، فيما عدا "إميلي برنت" التي أصرّت على كوبٍ من الماء فقط.

وأخيراً عاد الدكتور "آرمسترونغ" إلى الغُرفة فقال:

-       السيّدة بخيْرٍ الآن، وقد أعطيتُها دواءً مُسكِّناً.

وبعد لحظاتٍ عاد "روجرز" إلى الغُرفة، وتولّى القاضي "وارغريف" زمامَ إدارةِ الحديث وتحوَّلَت الغُرفة إلى قاعة محكمةٍ مُرتجَلة، قال القاضي:

-       حسناً يا "روجرز" .. يجبُ أن نفهمَ هذه النُقطةَ تماماً: مَن هوَ السيّد "أوين"؟

فحدَّقَ إليه "روجرز" وقال:

-       إنه مالكُ هذا المكانِ يا سيّدي.

-       أعرفُ ذلك .. لكن ما أُريده منك هوَ أن تُخبرَني بما تعرفه عن الرجُل.

هزّ "روجرز" رأسَه وقال:

-       لا أستطيعُ القوْل يا سيّدي .. أرجو أن تفهمَني .. أنا لم أرَه في حياتي قَط.

حدثَ تملمُلٌ خفيفٌ في الغُرفة، وقال الجنرال "ماك آرثر":

-       لم يسبِقْ لك أن رأيتَه! .. ماذا تعني؟

-       لقد مضى علينا هُنا أُسبوعٌ فقط .. زوْجتي وأنا، لقد تمّ تعيينُنا في العملِ بموجَبِ رسالةٍ عن طريقِ وكالة توْظيف، وكالة "ريجينا" في "بلايموث".

أوْمأَ "بلور" مُوافِقاً وقال مُؤيّداً:

-       أعرفُ أنها مؤسَّسةٌ عريقة.

وقال القاضي "وارغريف":

-       هل الرسالةُ موجودةٌ معك؟

-       رسالةُ التوْظيف؟ .. لا يا سيّدي؟ .. لم أحتفِظْ بها.

-        أكمِل قصَّتك، تمَّ توْظيفُك كما تقول بموجبِ رسالة؟

-        نعم يا سيّدي .. كان علينا أن نصلَ في يوْمٍ مُعيَّن، وفعلاً هذا ما حدث، كلُّ شيءٍ مُنظَّمٍ هُنا، المؤنُ وفيرةٌ وكلُّ شيءٍ على ما يُرام .. فقط كُنّا بحاجةٍ لنفضِ الغُبارِ وما إلى ذلك.

-       وبعد ذلك؟

-        لا شيء يا سيّدي، تلقَّيْنا أوامرَ بموجب رسالةٍ أُخرى لإعداد الغُرفِ لمجموعةٍ من الضيوف، ثم تلقّيْتُ في بريدِ بعد ظُهرِ أمس رسالةً أُخرى من السيّد "أوين" تُخبرنا بأنه والسيّدة "أوين" لم يستطيعا السفرَ وأن علينا التصرُّفَ بأفضلِ ما في وِسعنا، وتضمَّنَت الرسالةُ تعليماتٍ حوْلَ العَشاءِ والقهوةِ ووضْعِ الأُسطوانةِ في مُكبِّر الصوْت.

قال القاضي بحِدّة:

-       من المؤكَّد أنك تملكُ تلكَ الرسالة .. أليس كذلك؟

-       بلى يا سيّدي .. ها هي.

وأخرجها من جيْبه فناولها للقاضي الذي فتحها وغمغم:

-       إنها رسالةٌ مطبوعةٌ بالآلةِ الكاتِبةِ على أوْراق فُندقِ "ريتز" الرسميّة.

وبحركةٍ سريعةٍ انتقلَ "بلور" إلى جانبه وقال:

-       اسمحْ لي بإلقاءِ نظرةٍ عليها.

وانتزعَ الورقةَ منه بخِفّةٍ فألقى نظرةً عليها وغمغم:

-       آلةٌ من نوْعِ "كورنيشن" جديدةٌ تماماً .. لا عيْبٌ فيها .. وورقٌ من نوْع "إينساين" .. أكثرُ أنواع الورق استخداماً، ليس بوسعِك استخلاصُ شيءٍ من هذا، قد يكون عليها بصمات أصابع، ولكني أشُكُّ في ذلك.

وحدَّقَ إليه "وارغريف" بانتباهٍ مُفاجئ، كان "أنتوني مارستون" واقِفاً إلى جانبِ "بلور" مُحدِّقاً من فوْق كتفيْه وقال:

-       يا لها من أسماءٍ راقية! .. "أوليك نورمان أوين"! .. يا له من اسمٍ طويل!

قال القاضي بنبرةٍ يشوبُها اهتمامٌ مُفاجئ:

-       أنا مُمتنٌّ لك يا سيّد "مارستون"، لقد لفتَّ انتباهي إلى نقطةٍ مُثيرةً وموحية.

ثم نظرَ إلى الآخرينَ وقالَ وهوَ يدفعُ رقبتَه إلى الأمامِ كالسُلحفاةِ الغاضبة:

-       أعتقدُ أن الوقتَ قد حانَ ليضعَ كُلُّ واحدٍ مِنّا ما لديْهِ من معلوماتٍ أمامَ الجميع، وأعتقدُ أنه سيكونُ مُفيداً لنا أن يُقدِّم كُلٌّ مِنّا ما لديْه من معلوماتٍ حوْل مالكِ هذا البيْت.

وتوقَّفَ قليلاً قبل أن يُتابع:

-       نحنُ جميعاً ضيوفه، وأعتقدُ أنه سيكونُ من المُفيدِ أن يوضِّحَ كلُّ واحدٍ منّا كيْف حصل ذلك بالضبط.

سادَ صمتٌ قصير، ثم تكلَّمت "إميلي برنت" فقالت بحزم:

-       يوجدُ شيءٌ غريبٌ حوْل هذه المسألةِ برُمَّتها .. لقد تلقيْتُ رسالةً بتوْقيعٍ لم يكُن من السهلِ قراءته، ومفادها أنها مُرسَلةٌ من قِبَل سيّدةٍ كنتُ قد قابلتُها في منتجعٍ صيْفيٍ قبل سنتيْن أو ثلاث سنوات، وقد قدَّرتُ أن الاسمَ هو إمّا "أوغرين" أو "أوليفر" ؛ فلي صلةٌ بسيّدةٍ تُدعى السيّدة "أوليفر" وأُخرى تُدعى الآنسة "أوغرين"، أنا مُتأكِّدةٌ تماماً أنني لم أُقابلْ أو أتعرفْ على أيّ شخصٍ باسم "أوين" قط.

قال القاضي "وارغريف":

-       هل لديْكِ تلك الرسالةُ يا آنسة "برنت"؟

-       نعم .. سأحضرُها لك.

وخرجت بُرهةً ثم عادت وبيدها رسالةٌ أعطتها للقاضي الذي قرأها ثم قال:

-       بدأتُ أفهم .. وماذا عنكِ يا آنسة "كلايثورن"؟

شرحت "فيرا" ظروفَ استخدامِها للعملِ كسكرتيرة، فقال القاضي:

-       وماذا عنك يا سيد "مارستون"؟

فقال "أنتوني":

-       تلقّيْتُ برقيةٍ من صديقٍ لي اسمه "بادغر بيركلي"، وكانت مفاجأةً لي وقتها لأنني كُنتُ أعتقدُ أن الرجلَ كان قد سافر إلى "النرويج"، وطلب مني في برقيتِه أن أحضر هنا.

أوْمأ "وارغريف" ثانيةً ثم قال:

-       وأنت يا دكتور "آرمسترونغ"؟

-       تلقيْتُ الدعوةَ كطبيب.

-       فهمت، ولكن هل لديْك معرفةٌ سابقةٌ بالعائلة؟

-       لا .. ولكن كانت في الرسالة إشارةٌ إلى زميلٍ لي.

قال القاضي:

-       لإضفاءِ مصداقيّة.. نعم .. وأفترضُ أن صِلتك بذلك الزميلِ كانت مقطوعة .. أليسَ كذلك؟؟

-       حسناً .. نعم .. هذا صحيح.

وفجأة قال "لومبارد" الذي كان ينظرُ إلى "بلور":

-       لحظةٌ أرجوكم، لقد خطر لي خاطر.

فرفع القاضي يده وقال:

-       انتظر دقيقة .

-       ولكني .....

-        سنبحثُ في كل مسألةٍ على حِدا يا سيد "لومبارد"، فنحن حالياً نُدفِّقُ في الأسباب التي أدّت إلى تجمُعِنا هنا هذه الليلة .. ماذا عنك يا جنرال "ماك آرثر"؟

غمغمَ الجنرال وهو يعبثُ بشاربه:

-       وصلتني رسالةٌ من ذلك الشخصِ المدعو "أوين"، ذكر فيها أسماءَ بعض أصدقائي وقال إنهم سيكونون هُنا، كنتُ مُرتاحاً للصيغة غيْر الرسميّة للدعوة؛ ولكن يؤسِفُني أنني لم أُحضِر الرسالة.

قال "وارغريف":

-       وماذا عنك يا سيّد "لومبارد"؟

كان "لومبارد" غارقاً تماماً في التفكير، ولم يكُن يدري إن كان من الأفضلِ له أن يكشِفَ أوْراقه أم لا، ثم بدا أنه قد حسمَ أمرَه فقال:

-       الحكايةُ ذاتُها؛ دعوةٌ وأصدقاءٌ مُشترَكون، واقتنعتُ بالفِكرةِ بسُرعة، أمّا الرسالةُ فقد مزَّقتُها.

ثم تحوَّلَ القاضي "وارغريف" بانتباهه إلى السيّد "بلور"، وأخذ يمسحُ بإصبعه على شفته العُليا وأصبح صوْته مُهذَّباً بشِدّةٍ وقال:

-       مُنذُ قليلٍ مرّت بنا تجرِبةٌ مُزعجة؛ ذلكَ الصوْت وهو يُجلجِلُ ذاكِراً كل واحدٍ باسمه وموجِّهاً هذه التُهَم المحدَّدة إلينا، ولكني – في هذه اللحظة – مُهتمٌّ بنُقطةٍ بسيطة؛ فمِن بيْن الأسماء التي تمّ ذكرُها اسم "ويليام هنري بلور"، ولكن – حسب علمنا – لا يوجَدُ بيْننا شخصٌ باسم "بلور"، كما أن اسم "ديفيس" لم يُذكر، ما رأيُك بذلك يا سيّد "ديفيس"؟

فقال "بلور" بتجهُّم:

-       يبدو أن القِطّةَ خرجت من كيسها! .. أعتقدُ أنه من الأفضلِ أن أعترفَ بأن اسمي ليس "ديفيس".

-       هل أنت "ويليام هنري بلور"؟

-       هذا صحيح.

فقال "لومبارد":

-       أودُّ أن أُضيفَ شيْئاً: أنت لستَ هُنا فقط باسمٍ مُستعارٍ يا سيّد "بلور"، ولكن إضافةً إلى ذلك فقد لاحظتُ أنا هذا المساء بأنك كاذبٌ من الطراز الأوّل، أنت تَدَّعي أنك من "ناتال" في جنوب إفريقيا، وأنا أعرفُ "ناتال" وجنوب إفريقيا، وأنا مُستعدٌّ للقَسَمِ بأنك لم تدخُل جنوب إفريقيا طَوال حياتك.

اتجهتْ كُلُّ الأنظارِ إلى "بلور" مُفعَمةً بالغضبِ والشَّك، وتحرَّك "توني مارستون" خُطوةً باتجاهه وقد تكوَّرت قَبضتاه وقال:

-       والآنَ أيُّها الخنزير .. هل لديْكَ أيُّ تفسير؟

دفع "بلور" رأسَه إلى الوراءِ وحرَّك فكّيْه ثم قال:

-       لقد فهمتموني خطأ أيُّها السادة، إن لديَّ أوْراقاً مُوثَّقةً بوِسعكم رؤيتها، أنا رجلٌ عملتُ سابقاً في التحقيقات الجنائيّة وأُدير حالياً وكالة تحرياتٍ في "بلايموث"، وقد كُلِّفتُ بهذه المَهمّة.

فسأله القاضي "وارغريف":

-       من قِبَل مَن؟

-       من قِبَل هذا الرجُل "أوين"؛ بعثَ لي بمبلغٍ مُحترَمٍ لتغطية مصروفاتي وأصدرَ لي تعليماتِه حوْلَ ما يُريدُ عمله. لقد طلب منّي أن أنضمَّ إلى هذه المجموعةِ باعتباري ضيْفاً، وقد أعطاني أسماءَكم وطلب منّي أن أراقبُكم جميعاً.

-       هل ذكرَ لك أيَّ أسبابٍ تدفعه إلى ذلك؟

فقال "بلور" بمرارة:

-       جواهر السيّدة "أوين" .. هراءٌ وكلامٌ فارغ، لا أعتقد أنه توجَدُ سيّدةٌ بهذا الاسم.

قال القاضي "وارغريف" وهوَ يمسحُ بإصبعِه على شاربِه باستحسانٍ هذه المرَّة:

-       أعتقدُ أنه يوجدُ ما يُبرِّرُ استنتاجاتك، "أوليك نورمان أوين" .. وفي خطاب الآنسة "برنت" ورغم أن اسمَ العائلةِ في التوْقيع كان مُجرَّد خربشةً إلّا أن الأسماءَ الأولى كانت واضحةً بدرجةٍ معقولة: "أونا نانسي" ... في كِلتا الحالتيْن الأحرُف الأولى من الأسماءِ هي نفسها: "أوليك نورمان أوين" .. "أونا نانسي أوين"؛ أيْ أنه بالإمكانِ كتابتها "أ. ن. أوين"، أو بشيءٍ من التخيُّلِ يُصبِحُ الاسمُ مجهولاً.

صاحت "فيرا":

-       ولكن هذا خيالٌ مجنون!

فأوْمأَ القاضي برأسِه بلُطفٍ وقال:

-       أجل .. هذا صحيح .. ليس لديَّ أيُّ شكٍّ في أننا قد دُعينا إلى هُنا بواسطةِ رجلٍ مجنون .. هوَ على الأرجحِ قاتلٌ خطيرٌ مجنون.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent