خبر
أخبار ساخنة

ثم لم يبقَ أحد | أجاثا كريستي | الفصل الرابع


غلاف الرواية البوليسية "ثم لم يبق أحد" لأجاثا كريستي حيث تظهر مركب وسط البحر تتجه نحو جزيرة الجنود

ثم لم يبقَ أحدٌ | الفصل الرابع

 

 

سادت فترةٌ من الصمت، صمتُ الفزعِ والذهول، ثم عادَ صوْتُ القاضي مُنخفضاً واضحاً والتقطَ الخيْطَ مرّةً أُخرى وقال:

-       سننتقلُ الآنَ إلى الخُطوةِ التاليةِ في تحقيقِنا، ولكن دعوني أوّلاً أُضيفُ معلوماتي إلى قائمةِ معلوماتِكم.

وأخرَجَ من جيْبه رسالةً فألقى بها على الطاولة، ثم استأنفَ الكلامَ قائلاً:

-       فحوى هذه الرسالة أنها مُوجَّهةٌ لي من صديقةٍ قديمةٍ هي الليدي "كونستانس كليمنغتون" التي لم أرَها مُنذُ عِدّة سنوات، فقد رحلت إلى الشَرق، وهي رسالةٌ من ذلك النوْعِ من الرسائلِ الغامضةِ غيْر المُترابطةِ المُتوقَّع أن تكتبَها، وفيها تحثُّني على الانضمامِ إليها هُنا وتشيرُ إلى مضيفِها ومضيفتِها بأكثرِ العباراتِ غُموضاً، لاحِظوا أنه الأسلوبُ نفسُه، أذكُر هذا فقط لأنه يتوافقُ مع الدلائل الأُخرى، ومن كل ذلك تبرُزُ نُقطةٌ هامّةٌ واحدة، وهي أنه أيّاً كان الشخصُ الذي استدرجَنا إلى هذا المكانِ فهو يعرف؛ أو أنه بذلَ جهداً ليعرفَ الكثيرَ عنّا جميعاً، إنه – أيّاً كان – على علمٍ بصداقتي مع الليدي "كونستانس"، وهو مُلِمٌ بأسلوبِها في كتابةِ الرسائل، ويعرفُ شيْئاً عن زملاءِ الدكتور "آرمسترونغ" وأماكن وجودِهم حالياً، ويعرفُ لقبَ صديق السيّدِ "مارستون" ونوْعَ البرقيات التي يكتبُها، ويعرفُ تماماً أيْن كانت الآنسة "برنت" تقضي عُطلتَها قبلَ عاميْن ونوعَ الأشخاصِ الذينَ التقت بهم هُناك، وهو يعرفُ كُلَّ شيءٍ عن رفاقِ الجنرال "ماك آرثر" القُدماء.

وصمتَ لحظةً ثم تابع:

-       إنه يعلمُ الكثيرَ كما تروْن، ومن معلوماته هذه عنّا استطاع أن يوجِّهَ لنا تُهَماً مُعيَّنةً مُحدَّدة.

وعلى الفوْر انطلقت التعليقاتُ من كلِّ جانب، فصاح الجنرال "ماك آرثر":

-       إنها مجموعةٌ من الأكاذيبِ اللعينة .. افتراءات!

وقالت "فيرا" صارخةً:

-       هذا ظلم.

ثم أضافت لاهثةً:

-       هذا هو الشَرُّ بعيْنه!

وقال "روجرز" بصوْتٍ أجش:

-       هذه كذبة .. كذبةٌ شِرّيرة! .. لا .. لم نفعل .. كلانا لم نفعل.

ودمدمَ "أنتوني مارستون" قائلاً:

-       لا أعرفُ ما الذي كان هذا الأحمقُ اللعينُ يقصدُه!

رفع القاضي "وارغريف" يدَهُ فوضعَ حَدّاً لنوْبةِ الهياج هذه، ثم قال وهو ينتقي كلماتِه بعناية:

-       أوَدُّ أن أقولَ إنّ صديقَنا المجهولَ يتهمُني باغتيالِ شخصٍ يُدعى "إدوراد سيتون"، وأنا أتذكَّرُ "سيتون" جيداً، لقد جيء به إلى المُحاكَمة أمامي في شهر حزيران (يونيو) عام ١٩٣٠ ، وكان مُتَّهماً بقتلِ امرأةٍ عجوز، وقد حظيَ بدفاعٍ مُمتاز، وأعطى للمُحلَّفين انطباعاً جيّداً حينَ وقفَ على منصةِ الشهود، ومع ذلكَ فقد ثبتَ بالأدِلّةِ أنه مُذنِبٌ بالتأكيد، وقد أجَّلتُ المُحاكمةَ وأعطيْتُ توْجيهاتي للمُحلَّفين على هذا الأساس، ووجدَته هيْئةُ المُحلَّفين مُذنِباً، وعندما نطقتُ بالحُكمِ عليه بالإعدام كان ذلكَ مُتَّفِقاً مع قرارِ المُحلَّفين، تلا ذلكَ أنه قدَّمَ استِئنافاً على أساسِ أنني وجَّهتُ المُحلَّفين توْجيهاً خاطِئاً، ولكن الاستئنافَ رُفِض وتمَّ إعدامُ الرجُل، أوَدُّ أن أقولَ أمامَكم الآنَ بأنَّ ضَميري مرتاحٌ تماماً في هذهِ القضيّة، فقد قُمتُ بواجبي ولا شيءٍ غيْر ذلك، لقد نطقتُ حُكماً عادِلاً بحَقِّ مجرِمٍ جُرِّمَ بصورةٍ قانونيّة.

بدأ "آرمسترونغ" يتذكَّرُ في تِلكَ اللحظةِ قضيةَ "سيتون"، كان قرارُ الإدانةِ مفاجأةً كبيرة؛ كان قد التقى بـ"ماثيوس" مُحامى المُتهَم في أحد أيّام المُحاكمة وهو يتناولُ الطعامَ في أحدِ المطاعم، وكان "ماثيوس" واثِقاً من النتيجةِ حيْث قال: "لا شكَّ فيما سيكونُ عليه قرارُ المُحلَّفين، إن البراءةَ مؤكَّدة".

ثم فيما بعد سمعَ تعليقاتً مُتنائرة: "القاضي كانَ مُنحازاً تماماً .. أثّرَ على المُحلَّفين وقَلَبَهم ضِدُّه فأدانوه .. كلُّ شيءٍ قانوني فـ"وارغريف" العجوز يعرفُ كيْف يستخدِمُ القانون .. كما لو أن لديْه ضغينةً شخصيّةً ضِد ذلك المسكين" ..... كل هذه الذِكرياتِ تتابعت في مخيّلةِ الطَبيب، ثم نظرَ إلى القاضي فوجَّه إليْه سُؤالاً دونَ أن يتريَّثَ للتفكيرِ في الحِكمةِ من سُؤاله، قال:

-       هل كنتَ تعرفُ "سيتون" بأيِّ شكل؟ .. أعني قبلَ القضيّة .

فحدَّقَ إليه القاضي وأجابَه بصوْتٍ باردٍ واضح:

-       لا .. لم أعرف شيئاً عن "سيتون" قبل القضيّة.

قال آرمسترونغ لنفسِه: "الرجُل يكذِب .. أنا مُتأكِّدٌ أنه يكذِب.

تحدَّثتْ "فيرا كلايثورن" بصوْتٍ مُرتعِشٍ وقالت:

-       أوَدُّ أن أخبرَكم عن الطِفلِ "سيريل هاملتون"، كنتُ أعملُ مُربيةً له، ولم يكُن مسموحاً له أن يسبحَ بعيداً عن الشاطئ، وذات يوْمٍ غفلتُ عنه قليلاً فسبحَ مسافةً بعيدةً فسبحتُ خلفه، ولكني لم ألحق به في الوقتِ المُناسِب، كان ذلك مُريعاً ولكنها لم تكُن غَلطتي، وعند التحقيق برَّأني المُحقِّق، وأمُّ الطفل ... أُمُّ الطِفلِ كانت في غاية اللُطف، إذا كانت أُمّه لم تلُمني فلماذا ...؟ لماذا ينبغي أن تُقالَ أشياءٌ فظيعةٌ كهذه؟، هذا ظُلم ... ظلم!

ثم انفجرتْ في بكاءٍ مريرٍ فجأة، فربَّتَ الجنرال "ماك آرثر" على كتفها وقال:

-       هوِّني عليكِ يا عزيزتي، هذا غيْر صحيحٍ بالطبع. هذا الرجل مجنون، مجنونٌ ولديْه خللٌ في عقله، إنه يمسِك العصا من طرفها الخطأ، وكل أمورِه مُشوَّشة.

ثم وقف مُنتصباً وشدَّ كتفيْه وصاح قائلاً:

-       الواقِعُ أن من الأفضلِ ترْك هذا النوْعِ من الأمورِ دون تعليق، أنا أشعُرُ أن عليَّ القوْلَ إنه لا توجدُ ذَرَّةٌ من الصدقِ فيما قاله عن ذلك الشاب "آرثر ريتشموند"؛ فـ"ريتشموند" كان أحد الضُبّاطِ العاملين معي، وقد أرسلتُه في مَهمّةٍ استكشافيّةٍ فقُتل، وهذا حادثٌ طبيعيٌّ في وقتِ الحرب، وأوَدُّ أن أُضيف أنني استأتُ كثيراً من تلطيخِ سُمعة زوْجتي، فهي أفضلُ امرأةٍ في العالم، لا شَكَّ في ذلك.

ثم جلس الجنرال ويده المرتعشة تمسحُ شاربيْه، وكان الجهدُ الذي بذله في الحديثِ قد أثَّرَ عليه كثيراً.

وتحدّثَ "لومبارد" وفي عيْنيْه نظرةٌ ساخرةٌ فقال:

-       بخصوصِ أولئكَ السُكّان الأصليّين .....

قال "مارستون":

-       ماذا بخصوصِهم؟

همهمَ "فيليب لومبارد" قائلاً:

-       القصةُ صحيحةٌ تماماً؛ لقد تركتُهم، كانت مسألةَ حياةٍ أو موْتٍ بالنسبة لي، كنّا قد تُهنا في الغابةِ فأخذتُ أنا ورفيقانِ آخرانِ ما تبقّى من طعامٍ وتركناهم.

قال الجنرال "ماك آرثر":

-       تخلّيْتَ عن رجالِك؟، تركتَهم يجوعونَ حتى الموْت؟!

فأجاب "لومبارد":

-       ليْسَ تماماً بهذا الوصف، ولكَنَّ النجاةَ بالنفسِ هي الواجِبُ الأوّلُ للإنسان، والحياةُ بالنسبة لهؤلاءِ السُكّان الأصليّين ليست على هذه الدرجةِ من الأهميّة كما تعلم، فهم لا يشعرون بالحياةِ كما يشعرُ بها الأوروبيّون.

رفعت "فيرا" وجهَها من بيْنِ يديْها وقالت وهي تُحدِّق إليه:

-       تركتَهم يموتون؟!

فردَّ "لومبارد" قائلاً:

-       نعم .. تركتُهم يموتون.

نعلَّقت عيْناه الساخرتانِ بعيْنيْها المرعوبتيْن، وقال "أنتوني مارستون" بصوْتٍ بطيءٍ وخائر:

-       كُنتُ أُفكِّرُ للتوِّ بـ"جون" و"لوسي كومبس" .. لا بُدَّ أنهما الطفلان اللذان صدمتُهما بسيّارتي قُربَ "كامبردج"، حظٌّ سيءٌ جِدّاً.

قال القاضي "وارغريف" بسُخرية:

-       لهما أم لك؟

فقال "أنتوني":

-       حسناً .. قصدت أنه ... أعني أن حظّي هو السيّء، أنتَ على حقٍ سيّدي، كان حظُّهما سيّئاً تماماً، بالطبع كان الأمرُ كلُّه مجرَّدَ حادث؛ فقد اندفعا بسُرعةٍ من كوخٍ أو مكانٍ ما، لقد تمّ سَحبُ رُخصتي لمُدّةِ سنة، وكان هذا غايةً في الإزعاج.

قال الدكتور "آرمسترونغ" بحماسةٍ:

-       السُرعةُ خطأٌ تماماً .. خطأٌ تماماً .. إن الشُبّانَ من أمثالِكَ خطرٌ على المجتمع.

هزّ "أنتوني" كتفيْه وقال:

-       إن الطُرق الإنكليزيةَ سيّئةٌ جِدّاً، ولا يُمكِنكَ السيْرُ فيها بسُرعةٍ معقولة.

ثم نظرَ حوْله حائراً بحثاً عن كوبه، وأخيراً التقطَه عن إحدى الطاولاتِ ومشى إلى الطاولةِ الجانبيّة، فملأه بالعصير مرّة أُخرى وقال وهو يُلقي نظرةً جانبيّة:

-       حسناً، لم تكُن غَلطتي على أيّةِ حال، كان مُجرَّدُ حادث.

بلّلَ "روجرز" شفتيْه وهو يُحرِّكُ يديْه حركاتٍ دائريّة، وقال بصوْتٍ خافتٍ ونبرةٍ توحي بالاحترام لسامعيه:

-       هل لي أن أقولَ كلمةً يا سيّدي؟

فقال "لومبارد":

-       تفضَّلْ يا "روجرز".

فتنحنحَ "روجرز" ومرَّرَ لِسانَهُ مرّةً أُخرى فوْقَ شفتيْه وقال:

-       لقد وردّ اسمي ومعي السيّدة "روجرز" والآنسة "برادي"، لا توجدُ ذَرّةٌ من الحقيقة في هذا؛ فزوْجتي وأنا كُنّا إلى جانب الآنسة "برادي" حتى وفاتها، كانت دائماً مُعتلّةَ الصِحّة مُنذُ التحقنا بخدمتِها، وكانت تلكَ الليْلةُ عاصفة، ليْلةُ موْتِها، وكان الهاتِفُ مُتعطِّلاً ولم نتمكن من طلبِ الطبيب، فذهبتُ بنفسي سيْراً على الأقدامِ لإحضارِ الطبيب، ولكنه وصل بعد فواتِ الأوان، لقد بذلنا كلَّ شيءٍ مُمكِنٍ من أجلِها – يا سيّدي – وكُنّا مُخلِصَين لها، وكل الناسِ يعرفون ذلك، لم يسمع أحدٌ كلمةً ضِدّنا قَط، ولا كلمة واحدة.

نظرَ "لومبارد" بتأمُّلٍ إلى الوجه المُرتعِشِ للرجُل وشفتيْه اليابستيْن والرعب في عيْنيْه، وتذكَّرَ ارتطامَ صينيّةِ القهوةِ بالأرضِ عند سقوطِها فقال في نفسِه ساخراً: "حقاً؟!

ثم تكلَّمَ "بلور"؛ تكلَّم بلهجته الاستعلائيّةِ القويةِ وقال:

-       ولكنكم – مع ذلكَ – وجدتم هديّةً صغيرةً لكم عند موْتها .. أليْسَ كذلك؟

فاعتدلَ "روجرز" في وقفته وقال بلهجةٍ جافّة:

-       لقد تركتْ لنا الآنسةُ "برادي" إرثاً تقديراً منها لخدماتنا المخلِصة، فماذا في ذلك؟، أودُّ لو أعرف.

قال "لومبارد":

-       وماذا عنك يا سيّد "بلور"؟

-       ماذا عنّي؟!

-       اسمك وردَ في القائمة.

فامتقعَ وجهُ "بلور" وقال:

-       تعني "لاندور"؟ .. تلك كانت حادثةُ سرقةِ البَنك، بَنك "لندن" التجاري.

تململَ القاضي "وارغريف" وقال:

-       أذكُرُ القضية، لم أنظر فيها ولكنّي أذكُرُها، جُرِّم "لاندور" نتيجةَ شهادتك، ألم تكُن أنت ضابط الشُرطة المكلَّف بالقضية؟

-       بلى .. وقد حُكم على "لاندور" بالأشغالِ الشاقّةِ المؤبَّدة، وماتَ في سِجن "دارتمور" بعد سنةٍ من ذلك، كان رجُلاً رقيقاً بسيطاً.

-       بل كان نصّاباً، وكان هو الذي قتلَ الحارس، كانت التُهمةُ واضحةً ضِدّه تماماً.

فقال "وارغريف" ببطء:

-       أعتقِدُ أنك نِلتَ ثناءً على كفاءتك في مُعالجة القضيّة .. أليس كذلك؟

ردّ "بلور" مُقطّباً:

-       لقد حصلتُ على ترقية.

ثم أضافَ بصوْتٍ أجش:

-       كنت أؤدّي واجبي فقط.

وضحك "لومبارد" فجأة ضحكةً رنّانةً عاليةً وقال:

-       يا لنا من مجموعةٍ من عُشّاقِ أداءِ الواجب وطاعةِ القانون!، باستثنائي أنا بالطبع، ماذا عنك يا دكتور وخطئِكَ المِهَنيِّ البَسيط؟، هل كانت عمليةً غيْر قانونيّة؟

نظرَتْ إليه "إميلي برنت" بازدراءٍ حادٍّ وارتدَّت للوراءِ بعضَ الشيء، وقال الدكتور "آرمسترونغ" بثقةٍ وهزَّ رأسَه قائلاً:

-       لستُ قادراً على فهمِ الموْضوع، الاسمُ لا يَعني لي شيْئاً، ماذا كان الاسم؟، "كليز" .. "كلوز" .. لا أذكُر حقّاً أنني عالجتُ مريضاً بهذا الاسم أو أن تكونَ لي صِلةٌ بحالة موْتٍ من أيّ نوْع، إن الموْضوعَ كلَّه غامضٌ تماماً بالنسبةِ لي، الحكايةُ قديمةٌ – بالطبع – وليسَ مُستبعَداً أن تكونَ إحدى حالاتِ العمليّاتِ التي أجريْتُها في المُستشفى، والكثيرُ من هؤلاءِ الناسِ يأتونَ مُتأخِّرينَ جِدّاً، وعندما يموتُ المريضُ يعتبرون أنها غلطةُ الطبيبِ دائماً.

وتنهَّدَ وهزَّ رأسَه وهو يُفكَّرُ قائلاً لنفسِه: "سكران؟ .. نعم .. كُنتُ سكراناً وأجريْتُ العمليّة، كانت أعصابي مُنهارةً ويداي ترتعشان، لقد قتلتُها دون شك، قتلتُ تِلكَ المرأةَ العجوزَ المسكينة، كانت عمليةً بسيطةً لو كُنتُ متنبهاً، وكان من حُسنِ حظّي ذلك الولاءُ في مهنتِنا، فالمُمرِّضةُ كانت تعرفُ بالطبع، ولكنها أمسكت لِسانَها، يا إلهي! .. كان ذلك صدمةً لي هزَّتني بعنف، ولكن مَن الذي كان يُمكِنُ أن يعرفَ تلكَ الحكايةَ بعد كلِّ هذه السنين؟!".

سادَ صمتٌ في الغُرفة، وكان الجميعُ ينظرون خُفيةً أو مباشرةً إلى "إميلي برنت"، ومرّت دقيقةٌ أو دقيقتان قبل أن تشعُرَ بوطأةِ النظراتِ المُترقَبة، فارتفع حاجباها على جبينِها الضيّقِ وقالت:

-       هل تنتظرونَ منّي أن أقولَ شيْئاً؟، ليس لديَّ ما أقوله.

فقال القاضي:

-       لا شيء يا آنسة "برنت"؟

-       نعم .. لا شيء.

وأطبقتْ شفتيْها، فمسح القاضي على وجهِه وقال بلُطف:

-       هل تحتفظينَ بحقِّك في الدفاع؟

فقالت الآنسة "برنت" ببرود:

-       لا ضرورة للدفاع؛ لقد كُنتُ أعملُ دائماً بوحيٍ من ضميري وليْسَ لديَّ ما أخجلُ منه.

أشاعَ ردُّها إحساساً بالإحباط، ولكن "إميلي برنت" لم تكُن ممّن يؤثِّرُ فيهم الرأيُ العام، واستمرّت في الحفاظِ على رباطة جأشِها، فتنحنح القاضيُ مرّةً أو مرّتيْن ثم قال:

- لنترك تحقيقَنا عند هذه النقطة، والآن يا سيّد "روجرز": مَن يوجدُ أيضاً على هذه الجزيرة بالإضافةِ لنا وأنت وزوْجتِك؟

-       لا أحدٌ يا سيّدي .. لا أحدٌ أبداً.

-       هل أنت متأكِّدٌ من ذلك؟

-       مُتأكِّدٌ تماماً يا سيّدي.

قال "وارغريف":

-       لستُ مُتأكِّداً بالضَبطِ من قصدِ مُضيفِنا المجهول في جَمْعِنا هُنا، وفي رأيي أن هذا الشخصَ – كائناً مَن كان – ليس بكاملِ قواه العقليّة بالمعنى المُتعارَف عليه، قد يكونُ خطيراً، ومن الأفضلِ لنا – في رأيي – أن نُغادرَ هذا المكانَ بأسرعِ ما يُمكِنُنا، وأقترِحُ أن نُغادرَه الليْلة.

فقال "روجرز":

-       عفواً يا سيّدي، ولكن لا يوجدُ قاربٌ على الجزيرة.

-       لا يوجدُ أيُّ قارب؟!

-       نعم يا سيّدي.

-       كيف تتصلون بالشاطئ إذن؟

-       "فريد ناراكوت" يأتي صباحَ كل يوْمٍ يا سيّدي، يُحضِر معه الخُبزَ والحليبَ والبريدَ ويأخُذُ قائمةً بطلباتنا.

فقال القاضي "وارغريف":

-       إذن قد يكونُ من الأفضلِ أن نُغادرَ غداً صباحاً حالمَا يصلُ قاربُ "ناراكوت".

سرت همهمةُ موافقةٍ باستثناءِ صوْتٍ مُعارضٍ واحدٍ هو "أنتوني مارستون" الذي لم يتفق مع الأغلبية، وقال:

-       أليسَ هذا نوْعاً من الانهزام؟، يتعيّنُ علينا كشفُ هذه المسألةِ الغامضةِ قبل أن نُغادرَ المكان، ويبدو لي الأمرُ كلُّه كقصّةٍ بوليسيّةٍ في غاية الإثارة.

فقال القاضي بسخريةٍ لاذِعة:

-       في مثل سنّي هذه: ليس لديَّ أيُّ رغبةٍ في تِلك الإثارةِ التي تتكلَّمُ عنها.

فقال "أنتوني" مُدمدِماً:

-       إن الحياةَ القانونيّةَ تُصيبُ المرءَ بالضيق!

ثم رفعَ كأسَه وأفرغَها مرّةً واحدةً في جوْفه، وبسُرعةٍ بدأ يشرَقُ بصورةٍ سيّئة؛ فقد بدا على وجهِه أنه يتلوّى ألماً، ثم أصبح وجهُه أزرقَ اللوْن وأخذَ يشهقُ مُحاوِلاً التنفُّس، ثم سقطَ عن كرسيه ووقعت الكأسُ من يده!

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent