خبر
أخبار ساخنة

ثم لم يبقَ أحد | أجاثا كريستي | الفصل الخامس



ثم لم يبقَ أحدٌ | الفصل الخامس

 

 

كانت مُفاجأةً مُذهلةً وغيْر مُتوقَّعة، مفاجأةٌ حبستْ أنفاسَهم فجمدوا في أماكنهم ينظرونَ ببلاهةٍ إلى الجسدِ المُتكوِّمِ على الأرض، ثم قفزَ الدكتور "آرمسترونغ" وذهبَ وركعَ إلى جانبه، وعندما رفعَ رأسَه بدت في عيْنيْه حيرةٌ شديدةٌ وحشرجَ هامِساً بفزع:

-       يا إلهي .. لقد مات!

لم يستوْعبوا الأمرَ في الحال: مات؟ .. مات؟! .. ذلك الشابُّ في عُنفوانِ صحّته وقوَّته يُصبِحُ جُثّةً هامِدةً في لحظةٍ واحدة!، الشباب الأصحّاء لا يموتونَ هكذا بمجرَّدِ أن يَشرَقوا بجَرعةٍ من العصيرِ بالصودا!، لا.. لم يكُن بوسعهم أن يُصدِّقوا ما حصل.

راح الدكتور "آرمسترونغ" يُحدِّقُ إلى وجه الرجُلِ الميّت، وأخذ يشتمُّ شفتيْه المُلتويتيْن الضاربتيْن للزُرقةِ ثم رفعَ الكأسَ التي كان "أنتوني مارستون" يشربُ منها، وقال الجنرال "ماك آرثر":

-       مات؟! .. هل تعني أن الرجل شَرِقَ فقط و ..... ومات؟!

فقال الطبيب:

-       يُمكِنك القوْل أنه شرِق إذا شئت، ولكنه ماتَ اختناقاً.

كان الطبيبُ يشتمَّ الكأس، ثم غمسَ إصبعَه في البقيّةِ الباقيةِ فيها وبكل حذرٍ لمسَ بإصبعِه طرفَ لسانه، وتغيّرت ملامحُه فوْراً!

قال الجنرال "ماك آرثر":

-       لم أعرفْ قًط أن رجُلاً قد يموتُ بهذه السَهولة؛ فقط لأنه شَرِقَ بجرعةِ شرَاب.

وقالت "إميلي برنت" بصوْتٍ واضح:

-       هذا في وسط الحياة، ولكننا هنا في مواجهةِ الموْت.

ونهض الدكتور "آرمسترونغ" وقال بحدة:

-       لا .. لا أحد يموت لمجرَّد أنه شَرِق بشيء، إن موْت "مارستون" لم يكُن طبيعيّاً.

فقالت "فيرا" على الفوْر بما يُشبِهُ الهًمس:

-       هل يوجدُ شيءٌ في العصير؟

أوْمأَ "آرمسترونغ" إيجاباً وقال:

-       نعم .. لا أعرفُ المادّةَ بالضبط ولكن كل شيءٍ يشيرُ إلى نوْعٍ من السيانيد، لم أشتم رائحةَ حامض البروسيك، قد يكونُ سيانيد البوتاسيوم، فهي مادّةٌ تفعلُ فِعلها فوْراً.

قال القاضي بحِدّة:

-       هل كانت تلك المادةّ في كأسِه؟

-       نعم.

خطا الطبيبُ إلى الطاولةِ التي كانت عليها المشروباتُ فرفعَ غطاءَ زجاجةِ العصيرِ وشمَّها وذاقها، ثم هزَّ رأسَه قائلاً:

-       لا عيْبَ فيه.

قال "لومبارد":

-       أتعني أنه وضعَ المادّةَ في الكأس بنفسه؟

أومأ "آرمسترونغ" بتعبيرٍ يدُلُّ على عدم ارتياحه وقال:

-       يبدو الأمرُ كذلك؟

وقال "بلور":

-       أتعني أنه انتحار؟! .. هذه ميتةٌ غريبة!

قالت "فيرا" ببطء:

-       لا يخطُرُ بالبالِ أبداً أنه قد يقتُلُ نفسَه، لقد كان ... كان ... يا إلهي .. لا أستطيعُ الوَصف.

ولكنهم كانوا يعرفونَ ماذا كانت تعني؛ كان "أنتوني مارستون" يبدو في أوْجِ شبابه ورجولته، وها هو الآن هامدٌ متكوِّمٌ على الأرض لا حياةَ فيه.

قال الدكتور "أرمسترونغ":

-       هل تروْنَ احتمالاً آخرَ غيْر الانتحار؟

هزَّ الجميعُ رؤوسَهم ببطء، فلا يمكن أن يكونَ للأمرِ تفسيرٌ آخر؛ المشروباتُ نفسُها لم يعبثُ بها أحد، وجميعُهم شاهدوا "أنتوني مارستون" يذهبُ ويصُبُّ شرابَه بنفسِه، إذن فمعني ذلك أن أيَّ مادّةٍ سامّةٍ وُضِعَت في الشرابِ قد وُضِعَت بيدِ "أنتوني مارستون" نفسه!، ولكن ما الذي يدفعُ "أنتوني مارستون" إلى الانتحار؟!

قال "بلور مُتفكِّراً:

-       أتدري أيُّها الطبيب؟ .. الأمرُ لا يبدو مُقنِعاً؛ ليس بوسعي القولُ بأن السيّد "مارستون" كان من نوْعِ الرجال الذين قد يُقدِمونَ على الانتحار.

فأجابَ "آرمسترونغ":

-       أوافقُكَ الرأي.

تركَ الجميعُ الأمرَ على حاله، فلم يكُن لديْهم ما يُمكِنُ أن يُقال، وحملَ "آرمسترونغ" و"لومبارد" معاً جُثّة "أنتوني" إلى غُرفته فأرقداها هُناك وغَطياها بملاءة، وعندما عادا إلى الطابقِ السُفلي كان الآخرونَ يقفونَ مُجتمعين ويرتعشونَ قليلاً رغمِ أن المساءَ لم يكُن بارداً.

قالت "إميلي برنت":

-       الأفضلُ أن نأوي إلى غُرفِنا؛ لقد تأخَّرَ الوقت.

كانت الساعةُ قد تجاوزت مُنتصفَ الليْلِ فبدا الاقتراحُ معقولاً، ومع ذلك فقد تردّدَ الجميع، وبدا كما لو أنهم يودّون البقاءَ معاً ليشعروا بالطمأنينة، وقال القاضي:

-       أجل، علينا أن ننامَ بعض الوقت.

قال "روجرز":

-       لم أنتهِ من التنظيفِ في غُرفةِ الطِعام بعد.

فقالَ "لومبارد" باقتضاب:

-       قُمْ بذلكَ في الصباح.

وقالَ له "آرمسترونغ":

-       هل زوْجتُك على ما يرام؟

-       سأذهبُ وأراها يا سيّدي.

ثم عادَ بعد دقيقةٍ أو دقيقتيْن وقال:

-       إنها نائمةٌ كالملائكة.

فقال الطبيب:

-       حسناً، لا تُزعِجُها:

-       بالطبع يا سيّدي، فقط سأضعُ الأشياءَ في غُرفةِ الطعامِ وأتأكَّدُ من إغلاقِ الأبواب، ثم سآوي إلى غُرفتي.

وخطا عبر القاعةِ إلى غُرفةِ الطعام، وصعدَ الجميعُ الدرَج في طابورٍ بطيءٍ مُتردِّد.

لو كانَ هذا البيْتُ قديماً تئِنُّ أخشابُه وتمتلئُ زواياه بالظِلالٍ المُعتَمة ولوْ كانت جُدرانه داكنةً لوُجِدَ ما يُثيرُ مشاعرَ الخوْف، ولكن هذا البيتَ كان غايةً في الحداثةِ وليست فيه أيُّ زوايا مُعتَمة، كانت الأضواءُ تغمُرُه ولم يكُن فيه أشياءُ مُخبّأة، لم يكُن له جوٌّ خاص، ولكن هذه الحقيقةَ كانت – على نحوٍ ما – أكثرَ الأشياء مَدعاةً للخوْف!

تبادلوا تحيّةَ المساءِ عندما وصلوا أعلى الدرَج، وذهبَ كلٌّ منهم إلى غرفته، وبصورةٍ تلقائيّةِ ودون انتباهٍ تقريباً أقفلَ كلٌّ منهم بابَ غُرفته على نفسِه.

في غُرفتِه المريحةِ التي طُليَت جُدراُنها بألوانٍ باهتةٍ جميلة خلعَ القاضي "وارغريف" ملابسَه واستعدَّ للنوْم، كانَ يُفكِّرُ بـ"إدوارد سيتونإنه يذكُرُ "سيتون" جيّداً: شعرَه – عيْنيْه الزرقاويْن – عادتَه في النظرِ إليْكَ مُباشرةً – الهالةَ اللطيفةَ من الاستقامةِ والصِدقِ التي كانت تبدو عليه .. كان ذلكَ قد تركَ في نفوسِ المُحلَّفين انطباعاً جيّداً عنه،كانَ "ليولين" (المُدَّعي العام) قد أدّى مَهمَّتَهُ بطريقةٍ سيّئةٍ مُبدياً حماسةً مُبالَغاً فيها ومُحاوِلاً إثباتَ الكثير، أمّا "ماثيوس" (مُحامي الدِفاع) فقد كانَ جيّداً؛ كانت أدلَّتُهُ قاطعةً وكانت مُناقشتُهُ للشُهودِ دقيقة، وكانَ بارعاً للغايةِ في استجوابِ مُوكِّلِه على منصّة الشُهود، كما أن "سيتون" كانَ قد أبلى بلاءً حسناً في مواجهةِ استجوابِ الادّعاء؛ فلم يتحمَّسْ أو يبالغْ أكثرَ مِمّا ينبغي وأعطى المُحلَّفين انطباعاً جيّداً، ولعلّه بدا لـ"ماثيو" كما لوْ أن كُلَّ شيءٍ يسيرُ كما ينبغي.

وضعَ القاضي ساعتَهُ بعِنايةٍ إلى جوار سريره، وتذكّر بدقّةٍ كيْفَ كانَ يشعرُ وهو جالسٌ هُناك يستمعُ ويأخذُ ملحوظاتٍ ويُقيّمُ كُلَّ شيءٍ مُرتِّباً كُلَّ ما فيه دليلٌ ضِدَّ المُتهَم، كانَ قد استمتَعَ بالقضيّة، وكانت كلمةُ "ماثيو" النهائيّة مُرافَعةً من الطرازِ الأوّل، وحين جاء الدوْرُ على "ليولين" بعدَه فشلَ في إزالةِ الانطباعِ الحَسن الذي تركَهُ مُحامي الدِفاع، ثم جاء دوْرُه هوَ لإجمالِ القضيّةِ وإعطاءِ توْجيهاتِه للمُحلَّفين.

خلعَ القاضي "وارغريف" بعنايةٍ طَقم أسنانِه ووضعَه في كوبِ ماء، فتراجعت شفتاهُ المُنكمِشتان داخلَ فمهِ الذي بدا قاسياً ومُتوحِّشاً، وابتسم القاضي لنفسِه وهو يضعُ قِناعاً على عيْنيْه، لقد مَكَرَ لـ"سيتون" بكل براعة، وتمدَّدَ على السرير وهو يئِنُّ قليلاً من آلامِ المفاصل، ثم أطفأَ النور.

وقفَ "روجرز" حائراً في غُرفةِ الطِعامِ في الطابقِ الأرضي، كان ينظرُ إلى تمائيلَ الجنودِ الخزفيّةِ في وسطِ الطاوِلة، ثم غمغمَ قائلاً لنفسِه: "إنه لأمرٌ غريب؛ أستطيعُ أن أُقسِمَ أنه كانَ هُنا عشرُ قِطَع!".

تقلَّبَ الجنرال "ماك آرثر" على سريره ولم يستطِعْ النوْم، وفي ظلالِ الغُرفةِ ظَلَّ يرى وجه "آرثر ريتشموند"، كان قد أحبَّ "آرثر"، بل كان مُعجَباً به إعجاباً شديداً، وكان سعيداً بأن "ليزلي" قد انسجمت معه أيضاً، كانت "ليزلي" امرأةً مُتعاليةً تنظُرُ بتعالٍ إلى كثيرٍ من الشُبّانِ المُتميّزين وتصفُهم بأنهم أغبياء، هكذا ببساطة:  أغبياء، إلّا أنها لم تجدْ "آرثر ريتشموند" غبيّاً بل انسجما معاً مُنذُ البداية، فكانا يتحدَّثانِ عن المسرحِ والموسيقى وكانت تُمازِحُه وتسخرُ منه، وكان ماك آرثر مسروراً بفكرةِ أنّ "ليزلي" تُبدي به اهتمامَ الأُم، ولكن أيَّ أُمومة؟!، يا لها من حماقةٍ لعينةٍ حينَ لم ينتبه وقتها إلى أن "ريتشموند" كانَ في الثامنة والعشرين و"ليزلي" في التاسعة والعشرين!، لقد أحبَّ "ليزلي"، وبوسعِه أن يراها الآنَ في خياله بوجهِها المُستديرِ وعيْنيْها الراقصتيْن بلوْنهما الرمادي العميق وشَعرِها البُنيِّ الكثيفِ الملفوف، لقد أحبَّ "ليزلي" ووثقَ بها تماماً.

كان هُناك في "فرنسا" وسط جحيم الحرب، كان جالساً يُفكِّرُ فيها ناظِراً إلى صورتِها التي كانَ قد أخرجَها من جيْبِ قميصه، وعندها اكتشفَ الأمر، تماماً كما تحدُثُ الأشياءَ في الروايات؛ كانت قد وضعت الرسالةَ في الظرفِ الخطأ، كانت تكتُبُ لكليْهما، وكانت قد وضعت رسالتها إلى "ريتشموند" في الظرفِ المُعنوَنِ إلى زوْجها!، وحتى الآن – وبعدَ كُلِّ هذه السنوات – ما زالَ يشعُرُ بوقْعِ الصدمةِ وبالألم، كم كانَ ذلكَ مُؤلماً،كانت علاقتُهما قد بدأت مُنذُ بعضِ الوقت، وكان ذلكَ واضِحاً في الرسالة: عُطلات نهايةِ الأسبوع، إجازة "ريتشموند" الأخيرة، قال لنفسِه بسخط: "ليزلي"! .. "ليزلي" و"آرثر"! .. لعنَ اللّٰه ذلكَ الرجُل، لعنَ اللّٰه وجهَه البسّام ولعنَ عبارة "نعم سيّدي" التي كانَ يهتِفُ بها بكل نشاط، يا له من كاذبٍ منافقٍ يسرِقُ زوْجةَ رجُلٍ آخر!

تجمَّعَ غضبُه ببطء، ذلك الغضبُ الباردُ القاتل، واستطاعَ الاستمرارَ في التعامُلِ معه كالمُعتاد ولم يُظهِرْ له شيئاً، وحاولَ المحافظةَ على سلوكِه الطبيعي مع "ريتشموند" كما هوَ، وهوَ يعتقدُ أنه نجحَ في ذلك فلم يتطرَّق إلى نفس "ريتشموند" أيُّ شَك، اختلافُ المِزاجِ كانَ له ما يُبرِّرُه هناك حيْث تضغطُ أهوالُ الحربِ على أعصابِ الرجُلِ باستمرار، وحدُهُ "أرمتياج" الشاب نظرَ إليه بفضولٍ مرّةً أو مرّتيْن، كانَ شابّاً صغيراً ولكن كانت لديْه قُدرةٌ قويّةٌ على الملاحظة، ورُبما كانَ "أرمتياج" قد عرفَ عندما حانَ الوقت، لقد أرسلَ "ريتشموند" بتدبيرٍ مُحكَمٍ إلى حتفه، فلم يكُن مُمكناً له النجاةُ إلّا بمعجزة، والمعجزةُ لم تحدث، نعم .. لقد أرسلَ "ريتشموند" إلى الموْت، ولم يكُن نادماً، كانت المسألةُ سهلةً تماماً؛ الأخطاءُ كانت تقعُ طولَ الوقت والرجالُ كانوا يُرسَلونَ إلى الموْتِ دون مبرِّر، وكان الجوُّ مشحوناً بالاضطرابِ والرُعب، فكان يُمكِنُ للناسِ أن يقولوا فيما بعد: "لقد فقدَ "ماك آرثر" أعصابه قليلاً فارتكبَ بِضعةَ أخطاءٍ كبيرةٍ وضحّى ببعضِ خيرةِ رجاله ..."، ولكن لم يكُن بوِسعِهم أن يقولوا أكثرَ من ذلك،ولكن الفتى "أرمتياج" كان مُختلِفاً؛ لقد نظرَ إلى قائده بدهشةٍ شديدة، رُبما عَلِمَ أن "ريتشموند" كان مُرسَلاً إلى موْتِه بتدبيرٍ مُسبَق، تُرى هل تكلّمَ "أرمتياج" بعد انتهاءِ الحرب؟، على الأقل "ليزلي" لم تعلم، افترضَ أنها بكت صاحبَها، ولكن بكاءَها كانَ قد انتهى حينَ عادَ هوَ إلى "إنكلترا"، لم يُخبرها قَط أنه اكتشفَ الأمرَ واستمرّا معاً، ولكنها لم تعُد إلى طبيعتِها كما كانت، ثم أُصيبت بالتهابٍ رئويٍّ بعد ثلاثِ سنواتٍ أو أربع وماتت.

كانَ ذلكَ مُنذُ وقتٍ طويل؛ خمسةُ عشر عاماً أو ستةُ عشر، وقد تركَ الجيْشَ وجاءَ للعيْشِ في "ديفون" فاشترى بيْتاً صغيراً من النوْعِ الذي كانَ يحلُمُ بامتلاكِه دائماً: جيرانٌ طيّبون ومنطقةٌ جميلةٌ من العالم وبعضُ الصيْدِ البرّي وصيْد الأسماك، كانَ الناسُ جميعاً ودودين في البداية، ولكنه بدأ يشعرُ بعد ذلك بالقلقِ من إحساسِه بأن الناسَ يتحدَّثون من وراءَ ظهره، وبدا له أنهم ينظرون إليه – على نحوٍ ما – بصورةٍ مُختلِفةٍ كما لو أنهم سمعوا شيئاً؛ إشاعةً ما، هل هوَ "أرمتياج"؟، هل من المُمكِنِ أن يكونَ "أرمتياج" قد تكلَّم؟، تجنَّب الناسَ بعد ذلكَ وتقوْقعَ داخل نفسه، كم هوَ مؤلمٌ أن تشعرَ أن الناس يتحدَّثون عنك.

كان ذلك كلّه منذُ وقتٍ طويل، كلامٌ لا جدوى منه الآن، "ليزلي" تلاشت بعيداً وكذلكَ "ريتشموند"، لا شيءَ ممّا حدثَ تبدو له أهميّةٌ الآن، ولكن ذلك جعله وَحيداً في حياته وأصبح حريصاً على تجنُّبِ رفاقِه القَدامى في الجيْش؛ فإذا كان "أرمتياج" قد تكلَّمَ فسيكونون على عِلمٍ بالموضوع.

والآن – الليْلة – دوّى صوْتٌ خفيٌّ مُعلِناً تلكَ القِصّة القديمة المخفيّة، هل تعاملَ مع الموْضوع كما ينبغي؟، هل تجنَّب الثرثرة؟، هل أظهرَ القَدْر الكافي من مشاعرَ الغضبِ والاحتقارِ دون الإحساسِ بالذنبِ أو الارتباك؟، من الصعبِ أن يُجزِمَ بذلك.

من المُؤكَّدِ أن أحداً لم يحمل الاتهام على محملِ الجدّ، لقد كانَ في ذلك الحديثِ الكثيرُ من الهُراءِ غيْر المعقولِ أيضاً، تلكَ الفتاةُ الجميلةُ اتهمها الصوْتُ بإغراقِ طفل!، إنه اتهامٌ أحمق؛ رجُلٌ مجنونٌ يرمي الناسَ بالتُهم جِزافاً!، "إميلي برنت" أيْضاً، وهي ابنةُ أخي "توم برنت" زميله في الكتيبة، اتهمها الصوْتُ بارتكابِ جريمةِ قتل، إن بوِسعِ أيّ واحدٍ (حتى لوْ كان بنصف عيْن) أن يرى كم هي تقيّةٌ صالحة، المسألةُ كلُّها شيءٌ غريبٌ لعين ... جنون، لا أقلَّ من ذلك.

منذُ وصولِهم إلى هذا المكان و... ولكن متى كان ذلك؟، كانَ ذلكَ هذا المساءِ فقط!، ولكن تبدو المُدّةُ أطول من هذا بكثير!، قال لنفسِه: "تُرى متى سنخرجُ من هُنا ثانيةً؟، غداً طبعاً .. عندما يعودُ القاربُ من الشاطئ"، ولكنه لم يكُن – في تلكَ اللحظة – مُهتمّاً كثيراً بمغادرةِ الجزيرةِ أوْ بالعوْدةِ إلى الشاطئ ثُمَّ إلى بيْته الصغير، العوْدةُ إلى كلِّ ذلكَ القلقِ والمتاعب، كان بوِسعه سماعُ صوْتِ الأمواجِ وهي ترتطمُ بالصخورِ من خِلال نافذتِه المفتوحة، كانَ الصوْتُ أعلى قليلاً ممّا كان عليه في وقتٍ سابقٍ من المساء، وكانت الريحُ تشتدُّ أيضاً، وفكَّر قائِلاً لنفسِه: "هذا صوْتٌ هادئٌ ومكانٌ هادئ، أفضل ما في أيّة جزيرةٍ أنك عند وصولِكَ إليها لا تستطيعُ الذهابَ إلى أبعدِ منها، فأنت تصلُ إلى نهاية الأشياء".

وأدرك فجأةً أنه لا يريدُ مُغادرةَ الجزيرة!

استلقت "فيرا كلايثورن" في سريرِها مفتوحةَ العيْنيْن تُحدِّق إلى سقفِ الغُرفة، كانَ المصباحُ إلى جانبها مُضاء، لقد كانت تخافُ الظلام، وكانت تُفكِّرُ قائلةً لنفسِها: "هوغو" .. "هوغو" .. لماذا أشعرُ أنكَ قريبٌ جِدّاً منّي في هذه الليْلة؟ .. قريبٌ جِدّاً في مكانٍ ما، أين أنتَ حقاً؟ .. لا أعرف، ولن أعرفَ أبداً، لقد خرجتَ من حياتي وذهبتَ بعيداً جِدّاً".

لم يكُن مُمكِناً عدمُ التفكيرِ في "هوغو"؛ لقد كانَ قريباً منها وكانت مُجبَرةً على أن تُفكِّرَ فيه، وأن تتذكَّر "كورنوول" ... وتتذكَّر الصخورَ السوْداء، الرمالَ الناعِمة، السيّدةَ "هاملتون" مرِحةَ الطِباع، و"سيريل" المُتذمِّرَ قليلاً دائماً وهوَ يشدُّ يدَها، كانَ يقولُ لها:

-       أريدُ أن أسبحَ إلى الصخرةِ يا آنسة "كلايثورن" .. لماذا لا أستطيعُ السباحةَ إلى الصخرة؟

ترتفعُ عيْناها وتلتقيانِ بعيْنَيْ "هوغو" وهوَ يُراقِبُها، وتذكَّرت أيضاً تلكَ الأُمسياتِ بعد ذهابِ "سيريل" إلى النوْم، كان يقولُ لها:

-       هل تأتينَ لتتمشّي معي يا آنسة "كلايثورن"؟

-       نعم .. سآتي.

تذكّرت المشيَ بهدوءٍ على الشاطئ، وضوْءَ القمر، ونسيمَ المُحيطِ الأطلسيِّ العَليل، ثم كفَّ "هوغو" وهي تحتضنُ كَفَّها وصوْتَه الرقيقَ وهو يقول:

-       أُحِبُّك .. أُحِبُّك .. أتعرفين أنني أُحِبُّكِ يا "فير"ا؟

نعم .. كانت تعرف، أو لقد خُيَّلَ لها أنها كانت تعرف، تذكّرَته حينَ قالَ لها:

-       لا أستطيعُ أن أطلُبَ منكِ أن تتزوَّجيني؛ فليس في جيْبي بِنسٌ واحد، ولا أستطيعُ أن أعولَ غيْرَ نفسي، شيءٌ غريب!، هل تعلمين؟: لقد حانت لي فرصةٌ مرّةً – لمُدّةِ ثلاثة أشهُر – لأن أطمحَ إلى أن أكونَ ثريّاً؛ فـ"سيريل" لم يولَد إلّا بعد ثلاثةِ شهورٍ من وفاة "موريس".

لو أنه كان بِنتاً .. لو كانَ هذا الطفلُ بِنتاً لكانَ "هوغو" قد حصل على كلِّ شيء، لقد اعترفَ بأن أملَه قد خاب، كان يقول:

-       لم أعتمدْ على ذلك بالطبع، ولكنها كانت صدمةً نوْعاً ما، الحظُّ هو الحظ!، "سيريل" طِفلٌ لطيفٌ وأنا مُعجَب به للغاية.

وفعلاً كان مُعجَباً به، كان مُستعداً دائماً ليلعبَ مع ابنِ أخيه أو يُسلّيه بأيِّ شكل، ولم يكُن الحقدُ في طبع "هوغو"، لم يكُن "سيريل" قويّاً حَقاً بل كانَ طِفلاً ضعيفاً ولا قُدرةَ له على الاحتمال، ورُبَّما كانَ من نوْعِ الأطفالِ الذين لا يعيشون حتى يكبروا، ثم ... اقتحم ذاكرتَها صوْتُ "سيريل" وهوَ يُلحُّ عليها في السؤال:

-       آنسة "كلايثورن": لماذا لا أستطيعُ السِباحةَ إلى الصخرة؟

كان السؤالُ مُزعجاً ومُتكرِّراً، وكانت تُجيبُه دائماً:

-       لأن الصخرةَ بعيدةٌ يا "سيريل".

-       ولكن يا آنسة "كلايثورن" ...

نهضت "فيرا" وتوجَّهت إلى طاولةِ الزينةِ فأخذت ثلاثَ حبّاتٍ من الأسبرين، وقالت لنفسِها: "حبّذا لو كانَ لديَّ حبوبٌ مُنوِّمةٌ حقيقيّة، لوْ أنني فكَّرتُ في قتلِ نفسي لأخذتُ جَرعةً زائدةً من الفيرونال أو شيءٍ من هذا النوْعِ وليس سيانيد!

سرت في جسدِها رجفةٌ حين تذكَّرَت وجهَ "أنتوني مارستون" الأحمر المُتشنِّج، وحين مرَّت بالمدفأةِ نظرت إلى مَقطوعةِ الشِّعرِ المُعلَّقةِ فوْقها:

عشرةُ جنودٍ صغارٍ خرجوا للعَشاء

أحدُهم شَرِقَ فمات فبقي تِسعة

وقالت لنفسِها: "يا لهُ من أمرٍ مُخيف؛ تماماً مثلما حدثَ هذا المساء!، لماذا كان "أنتوني مارستون" يريدُ الموْت؟".

هيَ لا تريدُ الموْت، لا تستطيعُ تخيُّلَ أنها تُريدُ الموْت! .. الموْتُ من نصيبِ الـ... الآخرين.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent