خبر
أخبار ملهلبة

الكونت دي مونت كريستو | ألكسندر دوماس (الأب) | الجزء التاسع



الجزء التاسع

 

 

فقال الكونت في غير مبالاة:

-       عند الكيميائيّين والمولِعين بالكيمياء أيضاً.

واستطردت المرأة وهي تحاول جاهدةً التخلُّص من أفكارها المُلِّحة:

-       ثم أن الجريمة مهما يتم تدبيرها ببراعةٍ فإنها تبقى آخر الأمر جريمةً يعاقِب عليها القانون .. وحتى إن أفلت مُرتكِبها من حُكم القانون فلن تغفل عنها عيْن الله الساهرة .. إن الشرقيّين أقوى جناناً مِنّا في مسائل الضمير .. ولا جحيم عندهم .. هذا هو الفارق.

فقال:

-       الواقع يا سيّدتي أن هذا شكٌّ خليقٌ بأن يراود ذِهناً طاهراً مثل ذِهنك .. لكنه لا يلبث أن يتبدَّد أمام المنطق السليم .. فهناك أشخاصٌ قليلون يعمد الواحد منهم إلى إغماد سِكّينه في قلب مخلوقٍ بشريٍ مثله .. أو يدس له مثل تلك الكميّة التي تحدَّثنا عنها من الزرنيخ کي يزيله من الوجود و يمحوه محواً .. ومثل هذا القاتل المتوحِّش يكون شاذّاً أو غبيّاً وخارجاً على المألوف .. ولكي يبلغ هذه الدرجة من التوحُّش يجب أن يغلي دمه في عروقه ويرتفع نبضه وتُستَثار مشاعره إلى أقصى حد ..ولكن لو فرضنا أنه استعاض عن الكلمة الخشنة بمرادفها الأكثر نعومة وبدلاً من أن يرتكب جريمة القتل الفظيعة يكتفي بإبعاد خصمه عن طريقه ببساطة دون عنفٍ أو خشونة ودون لجوءٍ إلى الآلام التي تجعل من الضحيـّة شهيداً ومن المُعتدى جزّاراً بل دون دمٍ أو تأوُّهاتٍ أو هزّاتٍ عنيفة ودون إحساسٍ بوطأة اللحظة المروِّعة الحاسمة - لحظة ارتكاب الجريمة الفاصلة بين الحياة والموت - عندئذٍ يصبح في إمكان الشخص أن ينجو من قبضة القانون البشري الذي يقول: "لا تُزعِـج المجتمع" .. وتلك هي الطريقة التي يُدير بها الشرقيّون هذه الأمور وينجحون فيها حيث لا يقيم الناس اعتباراً للزمن ولا يستعجلون النتائج.

فقالت مدام "دي فیلفور" بصوْتٍ منفعلٍ وتنهيدةٍ مُختنقة:

-       ولكن .... يبقي هناك عقاب الضمير.

فأجاب "دي مونت کریستو":

-       نعم .. من حُسن الحظ أن عقاب الضمير يبقى .. ولوْلا ذلك لكانت الحياة تعسةً شقيّةً لا تُطاق .. فعلی أثر كل فعلٍ يتطلَّب إجهاد النفس في التبرير والتخريج يتولّى الضمير وحده إنقاذنا .. فهو يزوِّدنا بألف عُذرٍ وعُذر يكون قبوله في يدنا وحدنا على أن هذه الأعذار - التي تفعل فِعل السحر في جلب النُعاس إلى أجفاننا - لا تكاد تُجدينـا نفعاً حين نمثُل أمام المحكمة كي نُحاكَم عن جريمتنا .. ومن قبيل ذلك مثلاً أن ضمير "ريتشارد الثالث" خدمه أَجَلَّ خدمةٍ بعد أن قتل ولديْ "إدوارد الرابع" .. فقد راح يُلقي في روْعه أن هذيْن الولديْن اللذيْن ورثا عن أبيهما القاسي المستبِد مساوئه وصفاته البغيضة يقفان حجر عثرةٍ في سبيل ارتقـائه العَرش وإنقاذه الشعب الإنجليزي من مظالمهما .. وكذلك كان ضمير "ليدي ماكبِث" - في رواية "شكسبير" - خيْر شفيعٍ لها حين أرادت أن تمنح ابنها - وليس زوْجها - عرش البلاد .. إن حب الأُم لإبنائها فضيلةٌ عظيمةٌ وحافزٌ قوي .. بل إنه من القوَّة بحيث يُبرِّر أشياءً كثيرة.

وبقيت مدام "دي فیلفور" تُصغي صامتةً إلى هذه المبادىء والآراء الرهيبة ثم قالت له:

-       هل تعلم يا عزيزي الكونت أن لك منطِقاً مُقنِعاً شديد الخطر .. وأنك کیمیائيٌ بارع .. فإن الدواء الذي أعطيْته لابني في ذلك اليوم قد أعاده فوْراً إلى وعيه.

فقال لها:

-       الواقع أن قطرةً واحدةً من ذلك الإكسير أعادت الطفل المُغمى عليه إلى وعيه .. ولكن ثلاث قطراتٍ كانت كفيلةً بأن تقذِف الدم إلى رئتيْه بعنفٍ يُحدِث سرعةً هائلةً في نبضه .. وكانت ست قطراتٍ كافيةً لأن تُوقِف تنفُّسه وتُحدِث له إغماءً أخطر من الذي أُصيب به يومئذٍ .. أمّا لو أعطيته عشر قطراتٍ فإنها تقتله .. أَوَلا تذکرین یا سیدتي کیف اختطفت القارورة من جواره حين لمسها بيده؟

فقالت:

-       هل كان السائل الذي تحويه سُمّاً فظيعاً إلى هذا الحد؟

قال:

-       کلّا یا سیدتي .. ولنبدأ أوّلاً بالتفاهُم على أن كلمة سُم لا وجود لها .. لأن الطب يستخدم أعنف السموم فيجعل منها - وفقاً لطريقة استعمالها - أحسن الأدوية وأفضلها للعلاج.

فسألته:

-       إذن ماذا كان السائل الذي بها؟

فأجاب:

-       لم يكن سوى مستحضرٌ ناجع الأثر من تركيب صـديقي البارع الراهب "أديلمونت" الذي علَّمني طريقة استعماله.

فقالت:

-       إذن فهو مفيدٌ في معالجة التشنُّجات العصبيّة؟

فقال:

-       نعم یا سیدتي .. كما رأيتِ بنفسِك وأنا أستعمله كثيراً في العلاج .. مع مراعاة مُنتهى الحذر طبعاً.

فقالت:

-       الواقع أنني في حاجةٍ إلى استشارة مثل الدكتور "أديلمونت" کي يبتدِع لي دواءً لنوْبات الإغماء العصبي التي تنتابني ليجعلني أتنفَّس بسهولة ويُهدِّئ ثائرتي وانزعاجي الذي مبعثه الخوْف من أن أموت يوْماً مُختنقةً خلال نوْبةٍ من تلك النوْبات .. وحتى يتيسَّر لي ذلك العلاج - وحتى يكون صديقك الراهب مُستعدّاً للحضـور إلى "باريس" خِصّيصاً من أجلي - فإني مُضطرَّةٌ لأن أستمر في استعمال دواء مسـيـو "بلانشين" المضاد للتشنُّجات .. فضلاً عن قطـرات "هوفمان" وأقراص النعناع .. وإليك بعض الأقراص التي رُكِّبَتْ خِصّيصاً من أجلي.

وفتح الكونت الصندوق الصغير الذي قدَّمته إليـه واختبر رائحـة الأقراص بمقدرة الهاوي الخبير بما تحوي من مُركَّبات، ثم قال:

-       إنها قويّة الأثر .. ولكن لمّا كانت تؤخذ عن طريق الفم فإن تناولهـا يتعذَّر على الإنسان أثناء إغمائه .. ولهذا أُفضِّل عليها دوائي.

فقالت:

-       بلا شك .. وأنا أيضاً أُفضِّله بعد ما رأيت من قوّة تأثيره .. لكنك تعتبره سِرّاً بطبيعة الحال .. ولست من التطفُّل بحيث أطلبه منك؟

فقال:

-       لكني من الشهامة بحيث أتطوَّع لتقديمه لكِ يا سيّدتي.

وبدا السرور والاغتباط في وجه "مدام دي فيلفور" ، بينما واصل الكونت كلامه فقال:

-       إن جرعةً صغيرةً منه علاجٌ نافع .. أمّا الجرعة الكبيرة فسُمٌّ قاتل .. القطرة الواحدة تكفى لرد الحياة إلى الجسم كما رأيْتِ .. أما خمس قطراتٍ فإنها تقتل .. ويزيد في خطورتها أنها لو وُضِعَت في كأسٍ من النبيذ مثلاً لا تبين لها رائحةً مُطلقاً.

وهنا دقَّت الساعة السادسة والنصف وأعلن الخادم وصول سيّدةٍ من صديقات مدام "دي فيلفور" جاءت لتتناول العشاء معها، فقالت ربّة البيْت لضيْفها الكبير:

-       لو كانت هذه هي زيارتك الثالثة أو الرابعة يا سيّدي الكونت .. ولو كان لي شرف الحظوة بصداقتك - بدلاً من أن تكون لى سعادة العِرفان بجميلك فقط - لأصررت على دعوتك للبقاء وتناول العشاء معنا .. لكني أخشى أن يشوب رفضك الدعوة الآن صداقتنا في بدايتها.

فقال:

-       أشكرِك ألف شُكرٍ يا سيّدتي .. لكني في الواقع مرتبطٌ بموْعدٍ لا أستطيع أن أتحلّل منه.

فقالت:

-       إذن فإلى اللقاء .. ولا تنسَ الدواء.

فقال:

-       لن أنساه یا سیّدتي .. لأني لكي أنساه يجب أن أنسى الحديث الطلي الذي كان بيننا طيلة ساعةٍ كاملة .. وهذا أمرٌ مستحيلٌ في نظري.

ثم نهض محيّياً وانصرف، بينما بقيت مدام "دي فيلفور" شاردة الفكر لحظة تُحدِّث نفسها:

-       أنه رجلٌ غريب الأطوار .. وأعتقد أنه هو نفسه الطبيب "أديلمونت" مبتكر طريقة تركيب الدواء.

أمّا الكونت "كريستو" فقد فاقت نتيجة المقابلة كل ما كان يرجوه، فحدَّث نفسه وهو منصرفٌ من البيت:

-       هذا بديع .. إنها تربةٌ خصبةٌ وأنا واثقٌ أن البذرة التي بذرتُها لن تموت.

وفي صباح اليوْم التالي أرسل قِنّينة الدواء وفاءً بوعده.

أب .. وابن ... زائفان

نهض الكونت "دي مونت کریستو" لاستقبال ضيْفه الغريب وابتـدره بقوله:

-       دعني أتذكَّر .. ألست الماركيز "بارتلميـو كافالكانتي" البكباشي بالجيْش النمسوي سابقاً؟ .. لقد أرسلك الأب "بوزوني" أليس كذلك؟

وأوْمأ الضيْف موافقاً، وقال وهو يناول الكونت خطاباً مُغلقاً:

-       وقد حمَّلني إلى فخامتك هذا الخطاب.

فتناول منه الكونت الخطاب وقرأ فيه :

[[[البكباشي "كافالكانتي" من نبلاء "لوتشا" (مدينة بـ"إيطاليا") وسليل أسرة "كافالكانتي" الشهيرة بـ"فلورنسا" يملك إيراداً قدره نصف مليون فرنك، وهو شخصٌ لا ينقصه من أسباب السعادة غير أن يسترد ابنه الحبيب الضائع الذي سُرِق منه في طفولته، إمّا بواسطة عدوٍ له من أسرته النبيلة وإمّا بواسطة الغجر، وقد جدَّدت أمله حين ذكرت له أن في مقدورك أن ترد إليه ابنه الذي يبحث عنه دون جدوى منذ خمسة عشر عاماً]]].

فقال الكونت:

-       إن في مقدوري حقّاً أن أصنع لك ذلك .. أستطيع أن أرد إليك ابنك "أندريا".

فقال الضابط في برودٍ تام:

-       لقد حسبت ذلك .. ولعلّه هنا؟

فقال الكونت:

-       نعم .. ولكن ينبغي أن تتمالك عواطفك ريثما أعد الشاب للقائك.

ثم مضى الكونت إلى غرفةٍ جانبيّةٍ حيث كان يوجد شابٌ أنيق المظهر جليل الهيئة، وصل منذ نصف ساعة، فخاطبه بقوله:

-       أعتقد أني أتحدَّث إلى الكونت "أندريا كافالکانتي؟

فكرَّر الشاب الاسم وراءه وهو ينحني:

-       الكونت "أندريا كافالکانتي".

-       وأنت تحمل خطاب تقديمٍ موجَّهٌ إليَّ ومُوَّقَعٌ عليه بإمضـاء "السندباد البحري" .. أليس كذلك؟ .. إنه صديقٌ حميمٌ لي .. وهو ثريٌ إنجلیزيٌ ذو شذوذٍ يبلغ حد الجنون .. واسمه الحقيقي اللورد "ويلمور" .. فهلا تكرَّمت بأن تعطيني بعض المعلومات عن نفسك وأسرتك؟

-       بلا شك .. أنا الكونت "أندريا كالفالكانتي" ابن البكباشي "بارتلميو كالفالكانتي" سليل أسرة "كافالكانتي" التي ورد ذكرها في الكتاب الذهبي لمدينة "فلورنسا" .. وأسرتنا برغم أنها ما تزال تتمتّع بالثراء وإيراد أبي يصل إلى نصف المليون إلّا أنها عانت كثيراً من المتاعب والأحداث السيّئة .. فأنا مثلاً قد اختُطِفت في سن الخامسة بمساعدة مُعلِّمي الخائن .. بحيث انقضت عليَّ منذ ذلك التاريخ خمسة عشر عاماً لم أر فيها الشخص الذي كان السبب المباشر في وجودي .. ومنذ بلغت رُشدي وصِرت سيّد نفسي لم أتوانَ عن البحث عن والدي بكل الوسائل ولكن دون جدوى .. حتى تلقيْت أخيراً هذا الخطاب من صديقك المذكور وفيه أن أبي موجودٌ في "باريس" .. وأن عليَّ أن أتَّصل بك كي تُرشِدني إلى المعلومات الخاصّة به.

-       لقد أحسنت إذ نفَّذت تعليمات صديقي السندباد البحري بدِقّة .. فإن أباك موْجودٌ هُنا حقّاً .. وهو يبحث عنك كما تبحث عنه.

-       حقّاً؟! .. هل أبي هُنا حقّاً؟!

-       نعم .. أبوك البكباشي "برتلميو كافالكانتي" بعيْنه.

وعندئذٍ تبدَّد تعبير الرُعب الذي كسا وجه الشاب لدى سماع النبأ لأوّل وهلة، ثم قال:

-       آهٍ یا سیّدي .. لقد مضت سنواتٌ طويلةٌ منـذ افترقنا بحيث لم أعد أذكر شكل أبي على الإطلاق.

-       سوف تراه الآن .. إنه مليونير .. إیراده السنوي 500 ألف فرنك .. سوف يمنحك منها خمسين ألفاً كل سنةٍ طيلة مُدَّة بقائك في "باريس" .. على أن تتسلَّم نصيبك الشهري منهـا من بنك "دانجلر" الذي هو من أكبر البيوت الماليّة الباريسيّة.

-       وهل يعتزم أبي البقاء في "باريس" طويلاً؟

-       بضعة أيّامٍ فقط .. فإن خدمته العسكريّة لا تسمح له بالتغيُّب أكثر من أسبوعيْن أو ثلاثة على أكثر تقدير.

وهنا بدا على "أندريا" السرور بقُرب رحيل أبيه بينما قال الكونت:

-       إنني لن أعوق لقاءكما المُرتَقَب وقتاً آخر .. فهل أنت متأهبٌ لمعانقة أبيك؟ .. أدخل إذن الحجرة المجاورة أيّها الصديق فأباك مُتشوِّقٌ إلى رؤيتك.

وانحنى "أندريا" للكونت مُحيّياً شاكراً ثم دخل الحجرة، أمّا الكونت فقد انتظر حتى أغلق الشاب الباب وراءه، وإذ ذاك مضى هو إلى صـورةٍ كبيرةٍ مُعلَّقةٍ على الحائط فأزاحها في رفقٍ حتى انكشفت له وراءها ثغرةٌ خفيّةٌ تسمح للناظر خلالها برؤية ما يدور في الغُرفة المجاورة فرأى الشاب يتقدَّم نحو الكهل قائلاً بصوْتٍ عالٍ تعمَّد أن يُسمِعه للكونت في الحجرة الأخرى:

-       آهٍ يا أبي العزيز .. أهذا حقّاً أنت؟

فقال الضابط في لهجة الجد:

-       كيف أنت يا ابني العزيز؟

وعندئذٍ أردف الشاب هامساً وهو يأخذ ذراع الضابط في ذراعه كمن يعرفه منذ زمن:

-       أيّها العزيز مستر "كافالکانتي" .. کم دفعوا لك كي تمثِّل دوْر أبي؟ .. إني سأصارحك بسرّي کي تُصارحني بسرّك .. إنهم يدفعون لي خمسين ألف فرنك في السنة كي أكون ابنك.

-       وأنا بدوْري يدفعون إليَّ مثل هذا المبلغ لأمثِّل دوْر أبيك.

واختار الكونت هذه اللحظة كي يدخل الحجرة، فلمّا سمعا مقبض الباب يُفتَح ألقى كلاهما نفسه في أحضان الآخر وراحا يتبادلان القُبلات .. وفي خلال عناقهما دخل الكونت فابتدرهما بقوْله:

-       والآن أيّها السيّدان طاب يوْمكما فإني منصرف.

فتساءل "كافالكانتي":

-       متى يكون لنا شرف رؤية فخامتك مرّةً أُخرى؟

فأجابه:

-       يوْم السبت إذا شِئتما .. وسوف أتناول العشاء في منزلي في "أربوي" شارع النافورة رقم (۲۸) .. وقد دعوْت كثيرين بينهم مسيو "دانجلر" .. ويسرّني أن أعرِّفكما إليـه فهو الذي سيدفع لك يا "أندريا" مرتَّبك الشهري.

وعندئذٍ انحنى الاثنان للكونت مُوَدِّعين، ثم غادرا المنزل.

وصيّة مشلول

مشى "مكسمليان موريل" إلى حديقة دار مسيو "دي فيلفور" وقد سـادها السكون وحجبتها أشجار الكستناء العالية المحيطة بها عن الأنظار، ولبث بعض الوقت قلقاً يترقَّب ظهور "فالنتين دي فيلفور" من بين الاشجار، ويُرهِف سمعه ليسمع وقع خُطاها فوق الممشى المفروش بالحصى، ولم تمضِ دقائقٌ حتى أقبلت "فالنتين" للقائه ووقفت إزاءه يفصل بينهما سور الحديقة المرتفع، ثم ابتدرته قائلة:

-       طاب مساؤك يا "مكسمليان" .. أعلم أني تركتك تنتظر لكن "أوجيني دانجلر" كانت معي فعاقتني، كانت تحدِّثني عن نفورها من الزواج من مسيو "دي مورسيرف" .. فصارحتها أنا أيضاً بنفوري من فكرة الزواج من مسیو "دی بیناي".

فسألها "مكسمليان":

-       هل الآنسة "دانجلر" تنفر من الزواج بالمسيو "مورسيرف" لأنها تحب شخصاً آخر؟

فأجابت:

-       كلّا .. فقـد ذكرت لي أنها لا تحب أحداً .. وأنها تعارض الزواج ذاته .. وتُفضِّل أن تعيش حرةً بلا قيود .. حتى أنها لَتتمنّى أحياناً أن يفقد أبوها ثروته كي تحترف الفن مثل صديقتها الآنسة "لويز دارمین" .. لماذا تبتسم؟

-       دعينا من إضاعة وقتنا في الحديث عنها .. فإني أريد أن نتحدَّث عنك أنتِ.

-       هذا صحیح .. ويجب أن تُسرع فليس أمامنا غير عشر دقائقٍ نقضيها معاً .. ثم أنت على حق .. فلست سوى صديقةً فقيرةً لك .. وأيّة حيـــاة أفرضها عليك يا عزيزي المسكين "مكسمليان" .. أنت الذي خُلِقت للسعادة .. إني لألوم نفسي لوْماً مريراً.

-       ما هـذا الذي تقولين يا "فالنتين"؟ .. وماذا يُهمُّكِ من الأمر ما دمت أنا قانعاً بهذه الحال وما دمت شاعراً بأن لقاءك ولو لخمس دقائق وسماع بضع كلماتٍ من فمِك العذب يعوِّضاني حتى عن هذا الانتظار الطويل الموجع؟ .. إني لأعتقد اعتقاداً حازماً أن السماء ما كانت لتخلِق قلبيْن منسجميْن مثل قلبْينا وتسمح لنا بأن ننشأ معاً لو أنها كانت تريد أن تُفرِّق بيننا آخر الأمر.

-       كلماتك رقيقةُ ومشجِّعةٌ يا "مكسمليان" .. إنها سوف تمنحني على الأقل سعادةً جزئيّة.

-       ولكن ما الذي يُلجِئك إلى أن تفارقيني هكذا سريعاً؟

-       لست أدري التفصيلات بالضبط .. وكل ما أعرفه أن مدام "دي فيلفور" قد أرسلت في طلبي لأمرٍ يتعلَّق بجزءٍ من ميراثي .. ليتهم يأخذون ثروتي فلیست بی حاجةٌ إليها .. ولعلَّهم لو أخذوها يكفُّون عن إزعاجي ويتركونني في سلامٍ وسكينة .. وإني لعلى يقينٍ من أنك ستحبّني حينذاك مثلما تحبّني اليوْم .. أليس كذلك یا "مکسمليان"؟

-       إني أحبكِ دائماً .. وماذا يهمّني من الغنى أو الفقر ما دامت حبیبتی "فالنتين" بجانبي؟ .. آه .. كنت أوشِـك أن أذكر لك أنني قابلت مسيو "مورسيرف" منذ أيام .. وكان قد تلقَّى خطاباً من صديقه "دي بیناي" يخبره فيه بأنه عائد تواً.

وهنا شحب وجه "فالنتين" واتكأت بيدها على سور الحديقة قائلة:

-       ربّاه .. لو كان الأمر كذلك .... ولكن لا .. إن المفاوضات قد لا تأتي من طريق مدام "دي فيلفور" .. فقد خُيِّل إليَّ أنها عارضت ذلك الزواج .. وإن لم تشَأ أن تصرِّح بذلك علانيّةً.

-       أظن أنها تعارض زواجِك من مسيو "دي بیناي" وحده .. أي أنها سترحِّب بأي اقتراحٍ آخر؟

-       کلّا یا "مكسمليان" .. إنها تعارض فكرة الزواج ذاتها وحين فكَّرتُ منذ نحو عام في أن أعتزل الدنيا وألجأ إلى أحـد الأديرة سَعَتْ خفيةً إلى تنفيذ هذه الفكرة .. بل لقد أَقنَعَتْ أبي بقبولها .. ولوْلا توسُّلات جدّي المسكين لنفذَّتُ عزمي يوْمذاك .. إنك لا تستطيع أن تتخيَّل التعبير الذي يبدو في عيْنيْ الشيْخ الفاني حين ينظر إليَّ .. أنا المخلوق الوحيد الذي يحبُّه ويبادله الحب.

-       حبيبتي "فالنتين" .. إنكِ لَملاكٌ كريم .. ولست أدري أي عمـلٍ طيّبٍ عملته حتى أستحق منك حبّكِ وثقتكِ .. ولكن حـدِّثيني بربِّك: أية مصلحةٍ لمدام "دي فيلفور" في أن تبقي أنتِ بغير زواج؟

-       ألم أقل لك منذ لحظة أنني غنيّة .. بل غنيّةٌ جدّاً .. لقد ورثت عن أمّي ما يُدِر عليَّ سنوياً نحو خمسين ألف ريال .. فضلاً عن إيرادٍ مماثلٍ سوف يترکه لی جدّي وجدتي - لأمي - الماركيز والماركيزة "دي سـانت ميران" .. وفضلاً عمّا يعتزمه مسيو "نوارتییه" - جدّي لأبي - من جعلي وريثته الوحيدة .. وهكذا يصبح أخى "إدوار" - الذي لن يرث شيئاً عن أُمّه - فقيراً بالنسبة لي .. أمّا لو دخلت الدير فسوف تؤول كل ثروتي هذه إلى أبي ثم إلى أخي "إدوار" ابنها.

-       ما أغرب أن تكون بهذا الطمع امرأةٌ مثل مدام "دى فيلفور".

-       إنها لا تحب المال لنفسها بقدر ما تحبّه لابنهـا .. وما تعتبره أنت رذيلةً يغدو فضيلةً من وجهة نظر الحب الأموي .. هل تسمع؟ .. إنهم ينادونني.

ثم صعدت "فالنتين" فوق مقعدٍ خشبي ومدَّت يدها إلى حبيبها من خلال السور، فتلقَّى "مكسمليان" اليد الممدودة نحوه بغبطةٍ ونشوةٍ فائقتيْن، ثم طبع عليها قبلةً حارّةً تذكّيها العاطفة وإذ ذاك ارتدَّت اليد إلى داخـل السور، ثم رأى الشاب محبوبته تهرع عائدةً إلى المنزل.

في الوقت الذي جرى فيه ذلك الحـديث بين "فالنتين" و"مكسمليان" كان المسيو "دي فيلفور" وزوْجته قد دخلا حجرة أبيه مسيو "نوارتييه"، وبعد أن أوْمآ بالتحيّة إلى الشيْخ المُسِن المشلول وقفا بجانبه يتحدَّثان مع خادمه "باروا" الذي قضى في خدمته خمسةً وعشرين عاماً وكان المسيو "نوارتييه" قد انتهت حياته العامّة والسياسيّة بوصفه من حزب "نابليون" منذ انفجر أحد الأوعية الدموية في مخِّه، فقضى عليه بأن يظل بقية حياته حبيس مقعده المريح ذي العجلات الذي كان يوضع طيلة النهار في مواجهة مرآةٍ كبيرةٍ يستطيع المريض أن يرى أكثر أجزاء المسكن مُنعكسةً على صفحتها كما يُرى كل شخصٍ يدخل الحجرة وكل شيءٍ يدور حوْله.

وبرغم أن مسيو "نوارتييه" كان في جلسته أشبه بالجُثّة الهامدة إلّا أنه ألقى على الداخلين نظرةً سريعةً ذكيّة أدرك بها من طريقتهما الحائرة في تحيّته أنهما جاءا ليتحدَّثا إليه في أمورٍ ماليّةٍ ذات طابعٍ هام، ولم يكن قد بقي للمسكين من حواسه غير حاستيْ النظر والسمع اللذيْن تركَّز فيهما كل نشاطه وحِدَّة ذِهنه، فصارت النظرة منه تُغني عن حركة الذراع ونبرة الصوْت ومرونة الجسم في التعبير عمّا يريد أن يُفصِح عنه ، ولو أن لغته هذه لم يكن يفهمها بوضوح غير أشخاصٍ ثلاثة: ابنه "دي فيلفور" وحفيدته "فالنتين" وخادمه "باروا".

وكان "دى فيلفور" قد أرسل ابنته إلى الحديقة ثم أشار إلى الخادم "باروا" بمغادرة الحجرة، وجلس بعد ذلك عن يمين أبيه المشـلول، بينما جلست زوْجته إلى يساره، واستهل حديثه بقوله:

-       إننا نُفكِّر في تزويج "فالنتين" يا أبي .. وسوف يتم الزواج في مدى ثلاثة أشهر.

وهنا أضافت مدام "دي فیلفور":

-       لقد كُنّا واثقيْن من أن هـذا النبأ سوف يُفرِحك .. ولاسيّما أنك تخص "فالنتين" بحبِّك وحنانك .. ولم يبقَ إلّا أن نذكر لك اسم الشخص الذي وقع عليه اختيارنا .. إنه شابٌ يملك الثروة الطائلة والمكانة الرفيعة في المجتمع وكل الصفات الكفيلة بإسعاد "فالنتين" .. وهو ليس بالشخص الذي تجهله أنت تماماً .. إنه "فرانز دي کینیل" بارون "دي بیناي".

وبدا الغضب في عيْنيْ "نوارتييه" واحتبست في حلقه صيْحة حنق وحزن، بينما استطردت المرأة:

-       وهـذا الزواج يصادف هوىً من نفس المسيو "دی بیناي" نفسه وأسرته وأقرب الأحياء من أقربائه إليه وهما عمّه وعمّته .. فقد ماتت أُمُّه عند ولادته وقُتِل أبوه سنة ١٨١٥ .. أي بعد سنتيْن من موت أمه .. وهكذا يمكن القوْل بأن الفتى نشأ سيّد نفسه وليس لأحد سلطانٌ على رأيه أو اختياره لشريكة حياته.

وأردف "فيلفور" قائلاً:

-       إن مصرع أبيه كان مأساةً غامضة .. وقد نجا القَتَلة من العقاب .. وإن حامت الشُبهة حوْل أكثر من واحد.

ثم عادت الزوْجة فقالت:

-       والآن يا سيّدي أستأذنك في الانصراف .. هل تريدني أن أرسل إليك "إدوار" ليؤنسك بعض الوقت؟

فحرّك الشيْخ المشلول أهداب عيْنيْه عِدّة مرّاتٍ كعلامةٍ للرفض، وعندئذٍ سألته المرأة:

-       إذن هل أُرسِـل إليك "فالنتين"؟

فأغمض عيْنيْه كعلامةٍ للقبول، وهنا انحنى له الزوْجان وغادرا الغرفة، بعد أن أوصيا الخَدَم باستدعاء "فالنتين" تلبيةً لرغبة جدِّها، وكانا يعلمان أنها ستجد عناءً كبيراً في تهدئة ثائرته.

دخلت "فالنتين" بعد خروج أبيها وزوجته من الحجرة بقليل، وأدركت من أوّل نظرةٍ إلى جدِّها أنه قلق وأن في ذهنه كلاماً كثيراً يريد أن يُفضي به إليها فصاحت جزعة:

-       جـدّاه .. ماذا حدث؟ .. هل حدَّثاك عن تزویجي؟

فأجابها الرجل بنظرةٍ غاضبةٍ أن "نعم".

-       إنك لا تحب مسیو "دي بیناي"؟

فأجابتها عيْناه أن "لا".

وعندئذٍ ارتمت الفتاة على ركبتيْها وأحاطت رقبة جدّها بذراعيْها قائلة:

-       وأنا أيضاً لا أحبّه.

فلمعت في عيْنيْ الشيخ نظرة فرح، ثم سألته:

-       هل تعتقد أنك تستطيع مساعدتي یا جدّي العزيز؟

فأغمض عيْنيْه عِدّة مرّاتٍ يعني أنه يستطيع هذه المساعدة، ثم رفع بصره إلى السماء إشارةً إلى أنه يريد شيئاً، فسألته "فالنتين":

-       ماذا تريد يا جدّي العزيز؟

ثم راحت تُردِّد على مسمعه الأشياء التي رجَّحت أن تكون مُبتغاه، لكنه أجابها عن كلٍ منها بإشارة الرفض من عيْنيْه، ففكَّرت في تجربة طريقةٍ أخرى، وبدأت تسرد عليه الحروف الأبجديّة بالترتيب، حتى أبدى حركة الموافقة عند نُطقها بحرف "الميم"، فقالت جـذلة:

-       إذن فالشيء الذي تريده يبدأ اسمه بحرف "الميم" .. تُری: هل ميمه مفتوحةٌ أم مكسورةٌ أم مضمومة؟

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent