خبر
أخبار ملهلبة

الكونت دي مونت كريستو | ألكسندر دوماس (الأب) | الجزء العاشر


غلاف رواية الكونت دي مونت كريستو للكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس الكبير

الجزء العاشر

 

 

وعندما أدركت من نظرته أنه يريد شيئاً يبدأ بحرف الميم المضمومة نهضت وأحضرت قاموساً وراحت تنقل أصابعها بين كلمات الميم المضمومة فيه، إلى أن أوْمأ جدها بعيْنيْه موافقاً عند كلمة "مُسجِّل عقود" فدَقَّت الفتاة الجرس وطلبت استدعاء أحد مُسجِّلي العقود.

وبعد ثلاثة أرباع الساعة دخل "باروا" وبصحبته مُسجِّل العقود المطلوب ثم دخل في أعقابهما مسيو "فيلفور"، وبعد تبادل التحيـّات التقليديّة قال الابن يحدِّث المُسجِّل:

-       ها أنت ذا ترى الشخص الذي أرسل في استدعائك .. إن جميع أعضاء جسمه مصابة بالشلل حتى صوْته .. ونحن نجد صعوبةً كبيرةً في فهم ما يريد أن يقول.

وهنا أوْمأ المريض إلى حفيدته بنظرةٍ آمرة فهمت قصده منها، فقالت للمُسجِّل على الفور:

-       سيّدي .. إني أفهم كل ما يُريد جدّي أن يقوله.

فأجابها المُسجِّل:

-       لكي تكون الوصيّة نافذة ينبغي أن أستوْثق من رغبات موكِّلي .. إن عجز الجسم لا يؤثِّر في صِحَّة التصرُّف إذا كان العقل سليماً.

فقالت له الفتاة:

-       سوف ترى يا سيّدي أن جدّي مالكٌ لجميع قواه العقليّة ونشاطه الذهني .. وفي وسعك أن تتفاهم معه بالطريقة التي أتفاهم بها أنا معه .. إنه في مقام الموافقة يُغمِض عيْنيْه .. وفي مقام الرفض يحرِّك أهدابه عِدّة مرّات .. والآن تستطيع أن تتفاهم معه بسهولة.

وهنا نظر الجد إلى حفيدته نظرة شُكرٍ وامتنان لم تغب عن فِطنة المُسجِّل نفسه، فقال يسأله:

-       لقد سمعت وفهمت ما قالته حفيدتك .. فهل توافق على مغزى الإشارتيْن اللتيْن تحدَّثت عنهما كوسيلةٍ للتعبير عن آرائك؟

ولمّا أغمض الشيْخ عيْنيْه علامة الموافقة التفت المسجِّل إلى المسيو "دي فيلفور" قائلاً:

-       إنها طريقةٌ شاذّةٌ في التفاهم.

فقال هذا مُنتهِزاً الفرصة:

-       نعم .. وأعتقد أنها ستكون شاذّةً في تسجيل الوصيّة .. فلست أفهم كيف يمكن ذلك بلا تدخُّل من "فالنتين" .. ولعـل لها مصلحةً في الوصيّة تجعلها لا تصلُح مُفسِرةً لائقةً للتعبير عن رغبات جدّها الغامضة غير الصريحة.

وهنا حرَّك المشلول أهـدابه مُحتَجَّاً، فسأله "دي فيلفور":

-       ماذا تعني یا أبی .. أليس لـ"فالنتين" مصلحةً في الوصيّة؟

وأوْمأ الشيْخ نافياً أن لها مصلحةً فيها، فقال مُسجِّل العقود لـ"دي فيلفور":

-       سیّدي .. إن ما بدا لي مستحيلاً منذ ساعةٍ واحدة قد صار الآن ميْسوراً معقولاً .. وسوف تكون الوصيّة شرعيّةً نافذةً إذا قُرِئَت في حضور سبعةٍ من الشهود وأقرَّها الموصي وسجلِّها المسجِّل أمام الشهود.

ثم التفت إلى الشيْخ الموصي وسأله:

-       هل تعرف مقدار ثروتك بالضبط؟

فلما أجاب بإغماض عيْنيه دلالةً على الموافقة واصل المسجِّل كلامه فقال:

-       سأذكر لك عِدّة أرقام .. فإذا بلغت الرقم الصحيح فعليك أن تُنبِّهني بإشارة الموافقة .. هل ثروتك 300 ألف فرنك؟ .. كلّا إذن .. أهي 400 ألف؟ .. تقول: كلّا أيضاً؟ .. إذن هي 600 ألف؟ .. 700 ألف؟ 800 ألف؟ .. 900 ألف؟

وهنا أشار المسيو "نوارتييه" إشارة الموافقة، فكرَّر المسجِّل سؤاله:

-       هل تملك 900 ألف فرنك؟ .. حسناً .. وهل هي عقارات؟ .. كلا .. إذن أسهمٌ وسندات؟ .. حسناً يا سيّدي .. وهل الأسهم في حيازتك؟

وهنا نظر "نوارتييه" إلى خادمه "باروا" نظرةً فَهَمَ الأخير معناها فخرج من الحجرة ثم عاد بعد حين يحمل صندوقاً صغيراً .. فسأل المسجِّل الموصي:

-       هل تسمح لنا بفتح هذا الصندوق؟

فأغمض المشلول عيْنيْه علامة الموافقة فلما فتحوا الصندوق وجدوا فيه أسهُماً وأوْراقاً ماليّةً قيمتها 900 ألف فرنك بالضبط، فقال المسجِّل:

-       واضح أن المسيو "نوارتييه" محتفظٌ بقواه العقليّة ونشاطه الذهني کاملاً.

ثم التفت إلى الموصي يسأله:

-       إلى مَن تُريد أن تترك هذه الثروة؟

فقالت مدام "دي فیلفور" مقاطِعةً:

-       أوه .. ليس ثمة شكٍّ كبيرٍ في هذا الصدد .. فإن مسیو "نوارتييه" يحب حفيدته الآنسة "دي فيلفور".

وهنا التفت المسجِّل يسأل "نوارتييه":

-       إذن فأنت تترك هذه الثروة لحفيدتك الآنسة "دي فيلفور"؟

وتأهَّب المسجِّل لأن يُسجِّل موافقة الموصي على ذلك، وكانت "فالنتين" خلال ذلك قد انزوت في أحد أركان الغُرفة وأطرقت تبکي، فنظر جدُّها إليها نظرةً تفيض رِقّةً وعطفاً ثم حرَّك أهدابه عدّة مرّاتٍ علامة الإجابة عن سؤال المسجِّل بالنفي، وكانت مفاجأةً بدَّدها سؤال المسجِّل للموصي:

-       إذن .. هل تبغي ترك ثروتك لحفيدك "إدوار دي فيلفور"؟

لكن الشيْخ حرَّك أهدابه أيضاً بما ينم عن الرفض البات، فعاد المسجِّل يسأله:

-       أترفض ذلك أيضاً ؟ .. إذن ربما يكون قصدك الإيصاء بثروتك لابنك مسيو "دي فيلفور"؟ .. ولا هذا أيضاً؟

وهنا انتقلت نظرة المشلول بسرعةٍ من "فيلفور" وزوْجته إلى حيث استقرَّت على يد "فالنتين" فسألته في دهشة:

-       يدي؟ .. نعم؟ ....

ثم صاحت الفتاة:

-       آه فهمت .. أنت تقصد زواجي .. أليس كذلك يا جدّي العزيز؟

فكرَّر الجد إشارة الموافقة ثلاث مرّاتٍ وهو ينظر إلى حفيـدته نظرة عرفانٍ بالجميل لكوْنها فهمت مراده بينما قال "فيلفور":

-       حقّاً؟! .. إن هـذا أمرٌ شاذٌّ للغاية.

فأجابه المسجِّل:

-       اسمح لي يا سيّدي أن أقول إن الأمر على العكس فالمعنى الذي يقصده المسيو "نوارتييه" واضحٌ تماماً في نظري .. وفي وسعي أن أربط تسلسل الأفكار التي تدور في ذهنه بسهولة.

وهنا سألت "فالنتين" جدّها:

-       أنت تريدني ألّا أتزوَّج من مسيو "دي بیناي؟

فأجابتها إيماءة عيْن جدّها مؤمِّنةً على كلامها، وعندئذٍ استطرد المسجِّل يسأله:

-       وأنت تبغي تجريد حفيدتك من الإرث لأنها خُطِبَت إلى رجلٍ بلا موافقةٍ منك؟ .. حسناً .. هل إذا عَدَّلَتْ الفتاة عن الزواج من ذلك الرجل تصبح وريثتك الوحيدة؟

فأوْمأ الشيْخ المشلول موافِقاً، ثم ساد صمتٌ عمیق قطعه المسجِّل مُستطرِداً:

-       کیف تبغي أن توزِّع ثروتك فيما لو أصرَّت الآنسة "دي فيلفور" عـلى الزواج من مسيو "فرانز"؟ .. هل تريد تخصيصها للأعمال الخيْريّة؟ .. نعم .. لكنهم قد يثيرون نزاعاً حوْل تنفيذ الوصيّة بعد وفاتك؟ .. كلا.

وهنا تدخَّل "فيلفور" في المناقشة قائلاً:

-       إن أبي يعرفني ويثق من أن رغباته سوف تُعتَبَر مقدسـةً في نظري .. ثم إنه يدرك تماماً أني بحكم مركزي لا أستطيع اتخاذ موقفٍ عدائيٍ نحو الطبقات الفقيرة.

وهنا ومضت عيْنا "نوارتييه" ببريق الانتصار فسأل المسجِّل "دي فلیفور":

-       وماذا تعتزم إذن یا سیّدي؟

فأجاب هذا:

-       لا شيء .. اتخذ أبي قراراً وأنا أعلم أنه لا يُغيِّر رأيه مطلقاً .. فلم يبقَ أمامي غير الإذعان.

ثم غادر "دي فيلفور" الغرفة على الأثر مصحوباً بزوْجتـه، تارکین للمشلول أن يفعل ما يشاء.

وفي اليوْم نفسه سُجِّلَت الوصيّة بحضور الشهود، وأقرَّها الموصي، وخُتِمَتْ أمام الجميع ثم سُلِّمـَت إلى مسيو "دیشان" المشرِف على تنفيذ وصايا الأسرة.

مناوراتٌ في البورصة

غادر الكونت "دي مونت كريستو" "باريس" في اليوْم التالي لتسجيل الوصيّة مُتَّخِذاً الطريق المؤدِّي إلى "أورليان" فبلغ برج "مونت ليري" الواقع في أعلى بقعة السهل المعروف باسمه، وعند سفح التل ترجَّل الكونت وبدأ يتسلَّق ممرّاً ملتوياً يؤدِّي إلى حديقةٍ صغيرة، حتى وجد نفسـه وجهاً لوجه أمام رجلٍ في نحو الخمسين من عُمره يقطف ثمار الفراولة ويضعها على أوراق العنب، فابتدره الكونت قائلاً وهو يبتسم ابتسـامةً تنم عن الشعور بالعطف:

-       هدِّىء من روْعك يا صديقي .. إني لست مفتِّشاً بل سائحاً حضر مدفوعاً بفضولٍ يكاد يأسف الآن عليه إذ يراك توشك إن تُضيع جانباً من وقتك معه.

فقال الرجل:

-       هل حضرت یا سیّدي لترى البرقية؟

فقال الكونت:

-       نعم .. إذا لم يكن ذلك مخالِفاً للقواعد .. لقد قيل لي أنك - أنت نفسك - لا تفهم دائماً الإشارات التي تكرِّرها.

فأجاب الرجل وهو يبتسم:

-       هذا صحیحٌ یا سیّدي .. وهذا ما أُفضِّله .. لأنه يريحني من المسئولية ويجعلني أشبه بالآلة لا أكثر ولا أقل .. وما دُمت أعمل فلن يطلب مني أحدٌ شيئاً آخر.

وصعدا إلى غرفة البرق (التليغراف) في الطابق الثالث، فنظر الكونت إلى المقبضيْن الحديديّيْن اللذيْن تدار بهما الآلة، ثم قال:

-       هذا أمرٌ مُسَلٍّ للغاية .. وهل أنت حقّاً لا تفهم شيئاً من هذه الإشارات؟

فقال الرجل:

-       هناك إشاراتٌ دائماً ما تتكرَّر دون تغييرٍ ما .. مثل: "لا جديد - أمامك ساعة – اليوْم – غداً" .. وعدا ذلك فلا يمكنني أن أفهم شيئاً مطلقاً من هذه الإشارات؟

فقال الكونت:

-       هذا أمرٌ بسيط .. ولكن انظر .. ألا يخاطبك مراسلك الآن؟ .. ماذا يقول؟ .. هل فهمت شيئاً؟

فقال الرجل:

-       إنه يسألني أأنا مستعد؟ .. ومتى أجبته بالإشارة التي تُنبيء باستعدادي فإن مُراسلي الذي إلى اليمين يفهم ذلك أيضاً .. بينما مراسلي الذي إلى اليسار يأخذ أهبته بدوْره.

فقال الكونت:

-       إنه ابتكارٌ ينم عن الذكاء الخارق.

فقال الرجل مزهوّاً:

-       سوف ترى .. إنه سيتكلَّم خلال خمس دقائق.

وهنا حَدَّثَ "مونت کریستو" نفسه قائلاً:

-       أمامي إذن خمس دقائق .. إنها أكثر ممّا يلزم.

ثم استطرد يسأل الرجل:

-       هل أنت شغوفٌ بفِلاحة الحدائق يا سيّدي؟ .. وهل يسرُّك أن يكون لك بدلاً من هذه الحديقة - التي طولها عشرون قدماً - بستانٌ مساحته فدّانان؟

فقال الرجل:

-       إني لَكفيلٌ بأن أجعل منها جَنّةً أرضيّة.

فقال الكونت:

-       إذن .. أنت توافق لقاء هذا على تغييرٍ بسيطٍ أريده في رسالة مراسِلك.

فتساءل الرجل:

-       ماذا تعني یا سیّدي؟ .. إن هذا لا يمكن أن يحدث ما لم تقهرني على القيام به.

فقال الكونت:

-       أعتقد أن في وسعي أن أقهرك.

ثم أخرج من جيْبه ظرفاً مد يده به إلى الرجل قائلاً:

-       هاك خمسةً وعشرين ألف فرنك .. تستطيع أن تشتري بخمسة آلافٍ منها منزلاً صغيراً جميلاً تُحيط به أرضٌ مساحتها فدّانان .. وبقية المبلغ تدر عليك إيراداً سنويّاً قدره ألف فرنك.

-       منزلاً له حديقةٌ مساحتها فدّانان؟ ..وماذا تطلب مني أن أفعل مقابل ذلك؟

-       لا شيء سوى أن تُرسل هذه الإشارات إلى وزير الداخليّة.

وأخرج "مونت كريستو" من جيْبه ورقةً كُتِبَ عليها ثلاث إشاراتٍ مُوَضَّح أمام كلٍ منها رقم ترتيبها بالنسبة إلى الإشارتيْن الأخريّيْن، وبعد حوارٍ قصير نفَّذ الرجل ما طُلِبَ منه وقد احتقن وجهه وتصبَّب العرق من جبهته، وأرسل الإشارات الثلاث إلى وزير الداخليّة كما طلب الكونت.

وبعد وصولها إلى الوزير بخمس دقائق أمر سكرتيره "دوبراي" بإعداد عربته وهُرِع إلى منزل "دانجلر"، وحين لم يجده في البيْت سأل زوْجته البارونة:

-       هل يملك زوْجكِ أسهُما إسبانيّة؟

فقالت:

-       أعتقد ذلك .. وأذكر أن عنده منها ما قيمته سِتّة ملايين من الفرنكات.

-       إذن يجب أن يبيعها فوْراً بأي سعر .. فلقد فر "دون کارلوس" من "بورج" وعاد إلى "إسبانيا".

وهُرِعت البارونة إلى زوْجها الذي هُرِع بدوْره إلى وكيله وأمره ببيْع تلك الأوراق الماليّة فوْراً بأي ثمن، وحين رُئي في البورصة أن "دانجلر" يبيع ما عنده هبط سعر الأسهُم الإسبانيّة في الحال، وقد خسر "دانجلر" في البيْع خمسمائة ألف فرنك، ولكنه تخلَّص من جميع أسهُمه الإسبانية، وفى الليْلة نفسها نشرت جريدة "لوميساجير" النبأ التالي:

[[[من مراسلنا بالبرق: غافل الملك "دون كارلوس" حُرّاسه في "بورج" وعاد إلى "إسبانيا" مُخترِقاً حدود "كاتالونيا" فهبَّت "برشلونة" لمؤازرته ونُصْرته]]].

وفي تلك الأمسية لم يكن للناس من حديثٍ غير بُعد نظر "دانجلر" وحظّـه المواتي الذي جعله يبيع كل أسهُمه الإسبانيّة قبل انهيار أسعارها بساعات، فلم يخسر فيها غير خمسمائة ألف فرنكٍ فقط، بينما خسر الذين لم يبيعوا أسهُمهم والذين اشتروا أسهمه خسارةً مروِّعةً تجعلهم في عِداد المفلسين.

وفي صباح اليوم التالي نشرت صحيفة "لومنتيور" التكذيب التالي :

[[[لم يكن للنبأ الذي نشرته "لوميساجير" أمس - عن فرار الملك "دون كارلوس" من منفاه والثوْرة التي شبَّت في "برشلونة" - أي نصيبٍ من الصِحَّة، فالملك ما زال في "بورج" لم يبرحها، وبلاده تنعم بسلامٍ وسكينة، وقد نتج هذا الخطأ عن رسالة برقيةٍ أُسيء تفسيرها بسبب الضبـاب الذي كان منتشراً أمس]]].

وعلى أثر نشر هذا التكذيب عادت أسعار الأسهُم فارتفعت إلى أكثر ممّا كانت قبل الهبوط، فبلغت خسارة "دانجلر" من البيْع مليون فرنك.

وما وافت الساعة الخامسة مساءً حتى وصل الكونت "دي مونت کریستو" إلى منزله الريفي في "أوتوي" يتبعه "علي" خادمه العربي الأمين، وفي تمام الساعة السادسة سُمِعَ وَقْعُ حوافر جوادٍ عند مدخل البيْت، وكان "مكسيمليان موریل" هو الفارس القادم، وفى اللحظة نفسها وصلت عربةٌ تجرّها جيادٌ مُطْهَمةٌ يحف بها جـوادان آخران يمتطى صهوتهما رجلان، هبط أحدهما - وكان "دوبراي" سکرتیر وزير الداخليّة - وتقدَّم نحو باب العربة ففتحه ومد يده لراكبتها البارونة، فأخذت يد الشاب بطريقةٍ لم تغِب عن فِطنة الكونت "دي مونت کریستو" ثم لاحظ الكونت أيضاً أن البارونة دسَّت في يد الشاب ورقةً صغيرة، وقد فعلت ذلك في يُسرٍ وسهولة شأن المرأة التي ألِفت هذه المناورات، وفي أعقاب البارونة هبط "دانجلر" من العربة وقد شحب وجهه كأنه خارجٌ من قبره لا من عربته، ثم ألقت البارونة على الفناء المحيط بها وعلى واجهة المنزل نظرة استطلاعٍ سريعةٍ لم يغِب مغزاها على الكونت، وراحت تصعـد السُلَّم وهي تقمع انفعالها جاهدة.

وعلى أثر ذلك أعلن رئيس الخدم وصول البكباشي "بارتلمیو كافالکانتي" والكونت "أندريا كافالکانتي"، ودخل الاثنان يختالان في ثيابهما الجديدة الأنيقة، وفجأة شحب وجه "برتوشیو" وكيل الكونت "دي مونت کریستو" حين وقع بصره - من خلال باب الدخول المفتوح على مصراعيْه - على المرأة التي تصعد السلم، فهتف هامساً لسيّده:

-       ربّاه .. انظر لهذه المرأة ذات الثوْب الأبيض والجواهر الثمينة.

فسأله سيّده الكونت:

-       ما لها؟ .. إنها مدام "دانجلر".

-       لست أعرف اسمها .. لكنها هي بعينها العشيقة التي رأيتها في هذه الحديقة بالذات ليْلة الجريمة .. المرأة التي كانت تنتظر موْلوداً .. والتي رأيتها خلال السور تتمشّى بين الأشجار في انتظار....

-       في انتظار مَن؟

وثقل لسان "بورتشيو" في حلقه ووقف شعر رأسه فزعاً وهو يحملق في الداخلين ويشير نحو المسيو "دي فيلفور" كما يشير إلى شبحٍ قائمٍ من بين القبور:

-       في انتظار هذا .. إذن فأنا لم أقتله!

فقال له الكونت:

-       طبعاً ما دُمْتَ تراه حيّاً أمامك الآن فأنت لم تقتله .. إنك قد طعنته بين الضِلعيْن السادس والسابع حسب مألوف عادتكم أيّها القرويّون .. في حين كان ينبغي أن تطعنه في مكان يعلو أو يهبط قليلاً عن ذلك الموْضِع .. فإن هؤلاء المحامين يتشبَّثون بالحياة أكثر من سواهم .. والآن انظر إلى المسيو "أندريا كافالكانتي" الشاب ذي السُترة السوْداء.

وكاد "برتوشيو" يصرخ دهشةً لو لم تسكِته نظرةٌ حازمةٌ من سيّده، فاكتفى بأن غمغم:

-       "بنديتو"!

وإذ ذاك قال له الكونت متجاهلاً كل ما مضى:

-       الساعة الآن السادسة والنصف وقد أمرت بإعداد العشاء في هذه الساعة .. ولست أحب الانتظار.

ثم تركه وعاد إلى ضيوفه بينما استند "برتوشيو" إلى الجدار حتى تمالك نفسه فمضى متَّجِهاً إلى غرفة الطعام، وبعد خمس دقائقٍ فتح "برتوشيو" باب القاعة المُفضي إلى الصالون عـلى مصراعيْه وصاح:

-       العشاء مُعَد. !

وهنا نهض الكونت "دي مونت كريستو" فقــدَّم ذراعه إلى السيّدة "دي فیلفور" وقال يخاطب زوْجها:

-       هل لك أن ترافق البـارونة "دانجلر" إلى المائدة؟

وبعد الفراغ من العشاء الفاخر تناول الكونت "دي مونت کریستو" ذراع البارونة "دانجلر" وقادها و"دي فيلفور" إلى الحديقة، حيث وجدوا "دانجلر" يتناول قدحاً من القهوة وقد جلس بين "كافالكانتي" الأب و"كافالكانتي" الابن .. فقال الكونت بعد أن مهَّد لحديثه:

-       لكم أن تصدِّقوني أو لا تصدِّقوا .. لكني أعتقد أن جريمةً ما قد ارتُكِبَت في هذا المنزل، فهتفت السيدة "دي فيلفور":

-       خُذ حذرك .. فإن قاضي التحقيق هنا.

فأجاب الكونت على الفوْر:

-       إذا كان الأمر كذلك فسأنتهز فرصة وجودہ کي أُعلن ما عندي أمام شهود .. تعالوا من هذا الطريق يا سادة .. تعالَ يا مسيو "دي فيلفور" فإن ما سأعلنه ينبغي أن يُعلَن في مواجهـة السُلُطات المختصَّة.

ثم أخذ ذراع "دي فيلفور" من ناحية وذراع البارونة "دانجلر" من الناحية الأخرى، وقادهما إلي ظل إحدى الأشجار الكثيفة فتبعهما الباقون، ثم قال الكونت فجأةً وهو يدق الأرض بقدمه: هُنا .. في هذه البقعة بالذات .. كان بستانيٌ يحفر الأرض کي یزوِّدها بتربةٍ جديدةٍ خصبةٍ تُعين هذه الأشجار القديمة على الازدهار .. فعثر على هيْكل صندوقٍ صغيرٍ من الحديد بداخله بقايا جُثّة طفلٍ وليد.

وأحس الكونت "دي مونت كريستو" بذراع البارونة "دانجلر" يتصلَّب، وذراع "دي فيلفور" يرتجف، بينما تساءل البكباشي "كافالكانتي" في براءة:

-       وبماذا يقضي القانون هنا على قَتَلة الأطفال الحديثي الولادة؟

فأجابه "دانجلر":

-       بالإعدام طبعاً.

وإذ رأى الكونت أن الشخصيْن اللذيْن أَعَدَّ من أجلهما هذا المشهد يعجزان عن تحمُّل وطأته ورغبةً منه في أن يتدارك الأمر عند هذا الحد مؤقَّتاً قال في بساطةٍ مُتقَنة:

-       هيّا أيّها السادة نتناول القهوة .. لقد كِدنا ننساها.

ولم يتكلَّم "أندريا" إلّا قليلاً خلال العشاء فقد كان فتىً ذكيّاً، خشى أن ينطق بحماقةٍ ما أمام هذا الجمْع الحاشد من عِلية القوم الذين كان من بينهم رجل القانون والمالي الكبير .. إلخ.

وكان "دانجلر" قد نقل بصره بين الأب والابن اللذيْن تبدو عليهما مظاهر الثراء الفاحش، فخُيِّل إليه أنه في حضرة أميرٍ من أمراء بلدٍ شرقيٍ بعيدٍ قد أحضر ابنه ليتم تعليمه في "باريس"، فلمّا انتهى العشاء راح "دانجلر" يستجوب عميليْ بنكه الجديديْن عن أسلوبهما في المعيشة بحُجَّة التحدُّث في الأعمال، فأبدی كلاهما من اللُطف والدماثة في الاستجابة لفضوله ما أدهشه.

وفي خلال الحديث خاطبه "كافالكانتي" الأب قائلاً في أدبٍ مُفرط:

-       سوف يسرُّني أن أتشرَّف غداً يا سيّدي بزيارتك بصدد بعض الأعمال.

فاجابه "دانجلر":

-       وسوف يُسعدني أن أستقبلك.

ثم عرض عليه البارون أن يأخذه في عربته إلى حيث يقيم بفندق "دي برانسن" ما لم يحرمه ذلك من صُحبة ابه، فأجاب الضابط على هذه العبارة الأخيرة بقوْله:

-       إن ابني قد ألِفَ أن يعيش بعيداً عني .. وإن لكلٍ مِنّا عربته وجياده بحيث يستطيع أن يذهب ويجيء مُستقِلّاً عن الآخر.

وهكذا استقل الأب عربة "دانجلر" وجلس إلى جواره، أمّا الابن فقد نادى حوذيه وراح يعنِّفه لأنه وقف بعربتـه أمام الباب الخارجي لا الداخلي، الأمر الذي سيكلِّفه أن يمشي على قدميْه ثلاثين خطوةٍ حتى يبلغ مكانها، وإذ فرغ الشاب من هذا التأنيب وتأهَّب للركوب أحس يداً توضَع على كتفه، فلمّا التفت طالعه وجه رجلٍ قد لوَّحته الشمس ذي لحيةٍ كثّةٍ وعيْنيْن برّاقتيْن وأسنانٍ حادّةٍ مدبَّبةٍ كأسنان الذِئب أو ابن آوى، وقد ربط رأسه بمنديلٍ أحمر وارتدى ثياباً قذرةً ممزَّقةً لا تكاد تستر عِظامه النحيلة الشبيهة بهيْكلٍ عظمي، وكانت يده التي وضعها على كتف الشاب بالغة الضخامة فذُعِر لرؤيته وتراجع متسائلاً:

-       ماذا تريد مني؟

فأجابه الرجل ذو المنديل الأحمر:

-       اغفر لي يا صدیقي إزعاجي إيّاك .. لكني أريد أن أتحدَّث إليك .. وأن تجنِّبني مشقة العوْدة إلى "باريس" على قدمي .. إني جائعٌ جِدّاً ولم أتناول عشاءً فاخراً مثلك .. وها أنا ذا لا أكاد أقوى على الوقوف .. ومن ثَمَّ أريد أن تحملني معك في عربتك .. فهل فهمت یا سید "بندیتو"؟

ولدى سماع هذا الاسم فكَّر الشاب في الأمر لحظةً ثم اتجه إلى حوذيه قائلاً:

-       هذا رسولٌ كلَّفته بمهمّة وقد جاء ليُبلغَني أنباءها فاذهب أنت بإيّة وسيلةٍ أخرى واتركنا في العربة وحدنا.

وانسحب الحوذي متعجِّباً، بينما انطلق الرجلان بالعربة حتى غادرا حدود "أوتوي"، وإذ ذاك تلفَّت الشاب حوْله ليستوْثق من أن أحداً لا يمكن أن يراه أو يسمعه، ثم عقد ذراعيْه فوق صدره وابتدر الرجل الغريب قائلاً:

-       لماذا جئت تُزعِـج حياتي؟

فقال الرجل:

-       دعني أسألك أوّلاً لِـمَ خدعتني؟ .. لقد ذكرت لي عندما افترقنا في "بون دي فار" أنك ذاهبٌ إلى إقليميْ "بیدمونت" و"توسکاني" .. لكنك بدلاً من ذلك جئت إلى "باريس"

فقال له الشاب:

-       إذن أنت تتجسَّس على حرکاتي .. دَعني أحذِّرك یا سیّد "کادروس" من مغبَّة ذلك .. والآن حدِّثني ماذا تريد مني؟

فقال "كادروس":

-       أعتقد أني أستطيع العيْش بمبلغ مائة فرنكٍ في الشهر .. لكني لو حصلت على مائةٍ وخمسين سأكون أسعد حالاً.

وهُنا مد إليه الشاب يده بمائتيْ فرنك وقال له:

-       في وسعك أن تمر على وكيلي في بداية كل شهرٍ فيعطيك مثل هذا المبلغ .. والآن وقد حصلت على مبتغاك وصِرنا متفاهميْن اقفز من العربة واغرب عن وجهي.

في اليوم التالي أمر "دانجلر" حوذيه بأن يحمله في عربته إلى المنزل رقم (۳۰) بشارع "شانزليزيه"، حيث يقيم الكونت "دي مونت كريستو"، وهنـاك استقبله مرحِّباً وقال له:

-       إنك تبدو مُتعَباً مُحَطَّماً يا عزيزي البارون بحيث يزعجني أمرك.

-       لقد طاردني سوء الحظ خلال الأيّام الأخيرة .. فتوالت عليَّ الأنباء السيّئة .. وقد بلغني اليوْم نبأٌ جديد هو أن رجلاً ماليّاً آخر في "تريستة" قد أشهر إفلاسه.

-       حقّاً؟ .. تُرى هل يكون هذا المالي "جاکوبو مانفریدي"؟

-       هو بعيْنه .. هل تُصدِّق أن يفلس ماليٌ مثله كان طيلة السنوات الطويلة التي تعاملت معه خلالها مثالاً للانتظام في الدفع دون أي مماطلة.

-       إذن فقد خسرت ما يقرب من المليونيْن هذا الشهر؟

-       نعم .. ولهذه المناسبة حدِّثني عمّا يُطلَب مني أن أفعله لمسيو "كافالكانتي".

-       إذا كان أحدٌ قد أوصاك به وكانت التوصية موثوقاً بها فلا بأس بأن تعطيه ما يطلب من مال.

-       لقد قدَّم لي هذا الصباح صكّاً بمبلغ أربعين ألف فرنكٍ مسحوباً عليك ومحوَّلا منك إليَّ .. وهو بتوقيع "بوزوني" .. وقد صرفت قيمته له فوْراً بالطبع .. ولكن هذا ليس كل شيء .. فقد فتح عندي حساباً لابنـه هـذا الصباح أيضاً.

-       هل لي أن أسألك كم يُعطي ابنه من المال؟

-       خمسة آلاف فرنكٍ شهريّاً.

-       أي ستّين ألفاً في السنة .. لقد صدق ظنّي في مبلغ تقتير الرجل وشُحّه .. كيف يعيش شابٌ مثله بخمسة آلاف فرنكٍ في الشهر.

-       ولكن في وسع الفتى - إذا أراد - أن يحصل على بضعة آلافٍ أخرى.

-       إيّاك أن تدفعهـا له .. فلن يسدِّدها الأب لك .. إنك لا تعرف هؤلاء الأثرياء المحدثين .. إنهم غايةٌ في البخل.

-       ألَا تثق بـ"كافالكانتي"؟

-       أنا؟ .. اني أدفع سِتّة ملايينٍ من الفرنكات بضمان توْقيعه لا غير.

فقال "دانجلر" في عدم مبالاة:

-       آه .. إن النبلاء يتزاوجون فيما بينهم .. فهم يُحبّون أن يوحِّدوا ثرواتهم.

-       هذا طبيعيٌ بلا شك .. ولكن "كافالكانتي" مبتكر .. لا يفعل ما يفعله الآخرون .. وقد أحضر ابنه إلى "فرنسا" لينتقي له زوْجة.

-       آه .. إذن فسوف يجد له أميرةً من "بافاريا" أو "بيرو" .. فهو يطمع في تاجٍ أو ثروةٍ طائلة.

-       كلّا .. بل إن هؤلاء السادة العِظام الذين يعيشون في الجانب الآخر من جبال "الألب" غالباً ما يتزوَّجون من أسراتٍ بسيطةٍ .. ولذا لا أحسبك تفكِّر في الآنسة "دانجلر" .. إلّا إذا أردت أن يموت "أندريا" مذبوحاً بيد "ألبرت" المسكين.

فقال "دانجلر" وهو يهز كتفيْه:

-       "ألبرت"؟ .. آه .. إنه لن يعبأ بالأمر كثيراً فيما أعتقد.

-       كيْف؟ .. أليْست مخطوبةً له؟

-       لقد تحدَّثنا في الأمر أنا وأبوه المسيو "دي مورسيرف" .. لكن مدام "د مورسيرف" و"ألبرت"....

-       لا أحسبك تعني أنها لن تكون صفقةً موفَّقة.

-       إني أفضِّل مسيو "أندريا كافالكانتي" على مسيو "ألبرت دي مورسيرف" .. فرغم أني لم أولَد باروناً من النبلاء فإن اسمى الحالي هو اسمى الأصلي الحقيقي على أيّة حال .. أمّا هو فليس اسمه "مورسيرف" .. إن "مورسيرف" كان صيّادا حقيراً يُدعى "فيرناند مونديجو".

-       - إذن لماذا فكّرت في اعطائه ابنتك؟

-       لأن كُلّاً من "فيرناند" و"دانجلر" قد صار نبيلاً وغنيّاً مساوياً للآخر في مركزه الأدبي .. فيما عدا أن هناك بضعة أشياءٍ تقال عنه ولا تقال عني أنا مثلاً.

-       هذا الذي تقوله يذكِّرني بأني سمعت اسم "فرناندو موندييجو" يُقرَن في بلاد "اليونان" باسم "علي" باشا.

-       هـذا هو السر الذي أنا على استعدادٍ لأن أدفع أي ثمنٍ في سبيل الوقوف عليه.

-       الأمر غايةٌ في السهولة .. اكتب اذا شئت إلى وكيلك في "بانينا" واسأله عن الدوْر الذي لعبه فرنسيٌ يُدعى "فيرناند مونديجو" في كارثة "علي" باشا.

فقال دانجلر وهو ينهض مُسرعاً:

-       أنت على حق .. سأكتب إليـه اليوْم.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent