خبر
أخبار ملهلبة

"شيء من الخبث" | الفصل السابع (1)


شوارع مصر تمتلئ باللافتات الدعائية واليفط الانتخابية للمرشحين لمجلس النواب والشيوخ


"شيء من الخبث" | الفصل السابع (1)

 

لم تكن الثوْرة سبباً في تخليص جماعة إخوان "وديع" وجماعة دعوة "شحاته" من حالة الحظر والجمود الإجباريّة التي وضعهم فيها "عتريس" قبل الثوْرة فحسب؛ بل كانت سبباً أيْضاً في بزوغ جماعاتٍ وائتلافاتٍ وحركاتٍ وروابطٍ أخرى كثيرة قارب عددها على المائة متفوقين في ذلك على عدد جماعات عشر بلادٍ مجتمعة، وكانت كل جماعة تستميت في ضم أعضاءٍ جدد دون أن تهتم بمواصفاتهم أو تُلِح في استمالة مؤيدين لها دون أن تهتم بهويّتهم لا لشيءٍ إلّا تمهيداً لانتخابات المجلس المحلّي لقرية "الدهاشنة" من أجل الحصول على أكبر عدد من المقاعد في المجلس، وكان كلما ازداد استعدادهم للانتخابات ازداد استعدائهم لبعضهم البعض؛ فقد كانوا يستخدمون وسائل رخيصة ومتدنيّة للدعاية لأنفسهم مستغلّين حاجة بعض الناس وعَوَزهم أو تطلعات بعض الناس وطمعهم أو جهل بعض الناس وسطحيّتهم.

فهذه الجماعة توّزع نقوداً على بعض الناس فتعطي كل منهم النصف الأيمن فقط من العملة الورقيّة فئة الجنيه ( وهو مبلغٌ عظيم في ذلك الوقت ) على أن تستكمل لهم النصف الأيسر يوم الانتخابات لضمان الحصول على أصواتهم؛ ولكي لا تختلط أنصاف الجنيهات تتم كتابة اسم كل مرتشي منهم بخطٍ واضح على كل نصف يخصّه مما جعل كل الجنيهات التي يتداولها الناس بعد الانتخابات موصوفةً وموصومةً باسم شخصٍ ما دونما أي خجل وكأن الرشوة شيءٌ عادي لا تلفت إليها أنظار أحد؛ فترى سيدةً تتنازع مع بائع صائحةً: "والمصحف عطيتك الجنيه بتاع "حامد الكيلاني" وما اخدتش الباقي"؛ وتسمع رجلاً يأمر ابنه قائلاً: "خد يا له الجنيه ده بتاع عمك "خميس أبولبدة" واجري لعمّك "ساميرس" جيب لي منه علبة دخان وخلّيه ينزّل بقية الجنيه م الحساب اللي علىَّ"؛ ويتكلّم آخر مع رفيقه مقسماً: "والنعمة الشريفة دي على عيني وان شا الله تزول من وِشّي يوميها انا اللي محاسب ع المشاريب ف القهوة م الجنيه بتاع "مخيمر الصدغ" بعد ما عملته باللزّاق".

وذلك ائتلافٌ ثوْريٌ آخر يفرّق على بعض الناس ملابس وأحذية وأغطية رأسٍ عليها شعار الائتلاف؛ فتجد ازدحاماً شديداً لجموع المرتشين أمام مقر هذا الائتلاف وهم يتدافعون ويتصايحون في صخب: "والنبي يا خويا انا ما اخدتش.. أنا عايزة جزمتين.. أنا جزمة.. وجوزي جزمة" أو "إيش معنى "نفيسة" اللي اديتها هدوم تحتانيّة حمرا.. وانا سودة.. هوَّ يعني صوتي مش زي صوتها؟.. ولّا هيَّ صوتها باتنين؟" أو "يا راجل باقول لك ح اخلّي اخواتي التلاتة يدّوكم صوتهم.. هات لي بقى أربع كاسكيتّات علشان همَّ مش فاضيين ييجوا يقفوا ف الزحمة دي".

وتلك حركةٌ شعبيّة تلعب على وترٍ مختلف ألا وهو عمل قافلةٍ طبيّة تزور القرية قبل الانتخابات بيوميْن فقط لتقديم المساعدات الطبيّة من كشفٍ وعلاج لأفراد "الدهاشنة" الذين يأسوا من توفير الرعاية الصحيّة لهم فتعايشوا مع الأمراض وتكيّفوا على الآلام واستعانوا بالأعشاب الرخيصة في تخفيف معاناتهم، وكانت القافلة مكوّنةً من عدّة أطباء؛ أمّا عن تخصص كل واحد منهم فلا تسل؛ فها هو طبيب رمدٍ يكشف على "جعيدى" الذي يعاني من البواسير ولا بأس فكلّها عيون؛ وطبيب نساء وتوليد يأمر عم "بشندي الدقّاق" بأن يتمدّي على سرير الكشف لعمل اللازم؛ وأخصّائي جلديّة يصف علاجاً ناجعاً لمرضى الأمراض الباطنيّة في تطبيّقٍ عمليٍ أصيل للقاعدة الفقهيّة للشريعة الإسلاميّة: " التلازم بين الظاهر والباطن ".

في حين أن بعض الروابط الأخرى استحدثت أساليباً مبتكرة وطريفة لجذب أصوات الناس فتجد رابطةً تدعو الناس لاستلام كوبوناتهم بعد حجز بطاقاتهم الشخصيّة حتّى يوم الانتخابات لضمان الأصوات حيث أن هذه الكوبونات ستدخل سحباً على جوائزٍ عديدة مثل الأثاث والأجهزة الكهربائيّة والخراف الحيّة حيث عيد الأضحي على الأبواب، وتجد رابطةً أخرى تُجري قرعةً على رحلات الحج والعمرة أو رحلات الغردقة وشرم الشيخ ويمكن للفائز الاختيار بين الرحلات أيْنما يريد أن يولّيَ قبلته، وتجد رابطةً ثالثة تحدّد موْعداً لناخبيها لإجراء " تمبولّا " على خمسين عقد زواج؛ لكن الرابطة لم تحدّد الطرف الثاني الذي سيقترن بالفائز وهل هو أو هي محدد سلفاً أم سيأتي بالاختيار؟؛ كما أن الرابطة لم تحدّد نوع هذا الزواج من الأساس فهل هو زواجٌ شرعي أم عرفي أم سرّي أم مؤقّت أم مسيار أم متعة أم محلّل أم مدني أم سياحي أم أرثوذكسي أم كاثوليكي؟

أمّا جماعة إخوان "وديع" وجماعة دعوة "شحاته" فسلكوا منحى آخر يعتمد مبدأ "من أين تؤكل الكتف" والمقصود هنا كتف الناخب، وهذا المنحي يتلخّص في كلمتيْن "الترهيب والترغيب" ويمتزج فيهما - دون أن تستطيع أن تميّز بينهما - الخط الديني والخط الدنيوي، فالخط الديني يعتمد على دعوة الناس لانتخاب الإسلاميين لأن ذلك واجبٌ شرعي يثاب عليه المسلم ولأن من ينتخب مرشحاً غيرهم هو آثمٌ قلبه وكافرٌ طبعه وعليه كفّارةٌ لا محيص، وأفتى بعضهم أن الانتخابات هي ضربٌ من ضروب الجهاد بل وأسموها غزوة الصناديق (يقصدون صناديق الانتخاب) لدرجة أن بعض الجهلاء والسذّج من أهل القرية خلطوا بين "غزوة الصناديق" و"غزوة الأحزاب" على أساس أن الصناديق تأتي بالأحزاب أو الأحزاب تسعى للصناديق، أمّا الخط الدنيوي فاعتمد على عقليّة هؤلاء الإخوان والتي يسيطر عليها فكر الثريد؛ فالثريد (الفتّة) هو إرثٌ تاريخي للمشايخ على مر العصور؛ ولكنهم عدّلوا فيه تبعاً لمتغيّرات العصر فقد ثبت استراتيجياً في الانتخابات أن: " الثريد وحده لا يكفي " فبجانب مكوّنات الثريد من لحمٍ وأرزٍ ودقيقٍ وسمن أضافوا - شاكرين مهلّلين - الشاي والسكر والزيت والمكرونة والفول والعدس والصابون وخلافه، وفي سابقةٍ تاريخيّةٍ عمليّةٍ معمليّةٍ فذّة انفردت بها "الدهاشنة" تم تجميع كلّ هذه السلع في حقيبةٍ واحدة كانت تسمى باسم واهبها فتلك شنطة "وديع" وهذه شنطة "شحاته"؛ مما سبّب لضبّاط الهجّانة حالةً من الحساسية و الغيرة الشديدة فقرروا تدشين وطرح شنطة "الهجّانة 1" ثم شنطة "الهجّانة 2" المعدّلة بزيادة علبة صلصة حتّى يتفوّقوا في سباق الفوز بولاء أهل القرية تأسيساً على المثل القائل: إطعم الفُم تستحي العين.

وقد يري الغافل أن "وديع" و"شحاته" وجهان لعملةٍ واحدة ولكن النابه من يستطيع أن يلحظ ما بينهما من اختلافٍ شكلي وجوهري يصل لدرجة الصراع، وهذا يتضح جليّاً للمتأمّل لكواليس دعاية كل منهما وهي عبارة عن سُرادقاتٍ يجتمع فيها الأنصار والمؤيدون والمستفيدون والمتطفلون.

ففي أحد سُرادقات الدعاية "لوديع" تجد المنصّة تتسع لعدّة أشخاصٍ في حين أن مقاعد الجمهور من نوعٍ واحد وقد اصطُفَت في صفوفٍ متوازيةٍ منتظمة وفي أنحاء السُرادق تنتشر راياتٌ وبيارقٌ صفراء فاقعٌ لونُها تسرُّ الناظرين الذين ينتظرون "وديع" في هدوءٍ وثقة، وعندما يبدأ توافد "وديع" وصحبه يضج السُرادق بالتصفيق وسط هتافاتٍ متقطّعة بصوتٍ عالٍ ولكن في تؤدّةٍ ورويّة، ويجلس "وديع" في منتصف المنصّة وعن يمينه ويساره بضع أشخاصٍ أتوا ليؤازروه أمام هذا الجمع المهيب، وتبدأ وقائع اللقاء بقراءة "الفاتحة" برواية "حَفْصٍ عن عاصِم"؛ ثم يتحدّث "وديع" :

- بسم الله الرحمن الرحيم: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربّهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنّات النعيم" صدق الله العظيم.. إحنا النهار ده يا إخوان اجتمعنا على الخير.. على مصلحة البلد.. على ما فيه الصلاح والإصلاح.. وده مش ح يحصل إلا إذا حطّينا إيدينا ف ايدين بعض.. واختارنا اللي ينفع البلد.. اختارنا الأصلح.. لأ مش الأصلع يا عم "غباشى".. ها ها ها.. والأصلح ده هوَّ اللي كان بيقول الحق طول عمره وما كانش بيخاف من حد.. أنا لمّا "عتريس" سجنني شهور فَضَلْت اقول الحق.... .......... (حديثٌ طويل عن نضاله وكفاحه وخصاله الحميدة التي يتفرّد بها عن منافسيه).... .......... واحنا عايزين نرجّع حق الشهدا اللي همَّ السبب ده الوقت ف إننا قاعدين مع بعض بنتكلم بحريّة.. مش عايزين بعد ده كلّه نختار حد يمثّلنا يكون جاهل أو بيدوّر على مصلحته الشخصيّة أو موالس مع أعدائنا.. وكما قال أمير الشعراء "أحمد بيه شوقى":

حيّوا من الشهـــداءِ كلَّ مغـيّب .. وضعوا على أحـجاره إكليلا

ليكون حظُّ الحي من شكـرانكم .. جمّاً وحظُّ الميّت منه جـزيلا

لا يَلْمَس الدستورُ فيكم روحَــه .. حتّى يرى جــنديّه المجــهولا

ناشــدتكم تلك الدمـــاءَ زكــــيّةً .. لا تبعــثوا للبرلمانِ جـهـــولا

يعني الشاعر هنا بيقول إن الشُهدا....

- لا مؤاخذة يا سي "وديع".. هوَّ انت ما لك وما للشُهدا؟.. إلّا ما سمعنا إن حد من اخوانك استُشهِد من ساعة ما الثوْرة قامت.. غير كام واحد كده ما سمعوش كلامك لمّا قلت لهم ما لكمش دعوة بالثوْرة.. ده انتم ما نزلتوش الساحة إلّا بعد كام يوم من بداية الثوْرة لمّا الغَفَر غاروا ف داهية وما ظهروش خالص.. ح تيجوا ده الوقت تركبوا الموجة وتقولوا حق الشُهدا.

- هممم..

- إيه قِلّة الأدب دي؟

- إنت إيه اللي جابك هنا؟

- إنت مين اللي باعْتَك؟

- طلّعوه من هنا ده.

- لأ.. لازِم نضربه الأوّل.

- لأ لأ.. سيبوه يا جماعة.. خلّي كل واحد يقول رأيه بصراحة.. معلهش تلاقوه مُغيَّب أو مش فاهم أو حد عمل له غسيل مُخ.. بص يا أخ.. إحنا اللي فَرَقْنا مع الثوْرة.. صحيح ما نزلناش ف الأوّل.. بس الشباب اللي عملوا الثوْرة ما كانوش ح يقدروا لوحدهم يخلعوا إن شا الله ضِرس.. ولمّا نزلنا معاهم قدروا بفضلنا يخلعوا "عتريس"...

- أيوه ما هو ده اللي انا باقوله.. أنتم ما نزلتوش إلا لمّا الموضوع استوى وطلب الأكّالة.. وانتم ما كدّبتوش خبر ونزلتوا اكلتوا على طول.. ولسّه عمّالين تاكلوا ف دماغنا أهُه.

- لأ بقى.. ده انت فعلاً قليل الأدب.. أكيد اللي باعتك "شحاته" علشان يبوّظ لي الشادر.. إضربوه وارموه برّه.. ولمّا تخلّصوا ارجعوا اقعدوا علشان ح نبقى نتعاهد أمام الله على أنكم تنتخبوني أنا. 



(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent