خبر
أخبار ملهلبة

"شيء من الخبث" | الفصل السابع (2)


رسم كاريكاتيري لغفير من الريف يحمل بندقية ويقف فوق كتفه غراب

"شيء من الخبث" | الفصل السابع (2)

 

 

أما في أحد سُرادقات الدعاية "لشحاته" فتجد المِنَصّة بها كرسيٌ واحدٌ لمتحدثٍ واحدٍ فقط في حين أن مقاعد الجمهور من أنواعٍ مختلفة فبعضها خشبي وبعضها بلاستيكي وبقيّتها معدني وقد تراصّوا كيفما اتُفِق دون ترتيبٍ واضح وفي أنحاء السُرادق تنتشر راياتٌ وبيارقٌ بيضاء من غير سوء، أمّا جمهور الحاضرين فينتظرون "شحاته" في صخبٍ وجَلَبَة، وعندما يدخل "شحاته" يرتج السُرادق بالتهليل والتكبير وسط هتافاتٍ متواصلة بصوتٍ جهوري في عصبيّةٍ وانفعال لحد التشنّج، ويجلس "شحاته" وحيداً على المنصّة ومعه الله فهو نِعْمَ الناصر ونِعْمَ المعين، وتبدأ وقائع اللقاء بقراءة الفاتحة ثم سورتيْ "البقرة" و"آل عمران" برواية "وَرْشٍ عن نافِع"؛ ثم يتحدّث "شحاته" :

- بسم الله الرحمن الرحيم: "وسيق الذين كفروا إلى جَهَنَّم زُمَراً حتّى إذا جاؤوها فُتِحَت أبوابُها وقال لهم خَزَنَتها ألم يأتِكم رُسُلٌ منكم يتلون عليكم آيات ربّكم وينذرونكم لقاءَ يومكم هذا قالوا بلى ولكن حَقَّت كلمة العذاب على الكافرين" صدق الله العظيم.. إحنا النهار ده يا جماعة الخير اجتمعنا على الإيمان والتقوى.. على مصلحة الإسلام.. على ما فيه عزّة الإسلام ومجده.. وده مش ح يحصل إلّا إذا اتّبعنا السلف الصالح.. واخترنا الأتقى والأنقى الذي لا يخاف في قوْل الحق لوْمة لائم.. وعندما كان ينكّل بي "عتريس" في غياهب سجونه لشهورٍ طويلة كنت استمر في قوْل الصدق.... .......... (حديثُ طويل عن نضاله وكفاحه وخصاله الحميدة التي يتفرّد بها عن منافسيه).... .......... وانا عارف إن الانتخابات حرام شرعاً بس انا مُكْرَه عليها علشان اوصل انا واخواني لسدّة الحكم.. وساعتها ح نغيّر كل شيء تبعاً لأحكام الإسلام وشريعته.. قال تعالي: بسم الله الرحمن الرحيم: "ذلكم بأنه إذا دُعِيَ اللهُ وحده كفرتم وإن يُشْرَك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير".. وقال: "قُل إني على بيّنةٍ من ربّي وكَذَّبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقصُّ الحقَّ وهو خير الفاصلين".. وقال: "ثم رُدّوا إلى الله مولاهم الحـق ألا له الحـكم وهو أسـرع الحاسبين".. وقال: "ولا تدعُ مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهه له الحكم وإليه تُرجَعون".. وقال: "وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه تُرجَعون" وقال: "ما تعبدون من دونه إلّا أسماءً سمّيْتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إيّاه ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون" صدق الله العظيم.. يعني الحكم الإسلامي هو مقياس نجاح الثوْرة اللي احنا عملناها لأن....

- ثوْرة إيه اللي انتم عملتوها يا شيخنا؟.. مش هيَّ دي الثوْرة اللي انتم كفّرتوا اللي عملوها وقلتوا عليهم خوارج هذا العصر.. وقلتوا إن الخروج على الحاكم وعدم طاعة ولي الأمر اللي هو"عتريس" من أكبر الكبائر.. ده الوقت جاي انت واللي معاك تنطّوا ع الثورة وتقولوا إن إنتم إلى عملتوها؟

- هممممممم..

- إيه الكُفر ده؟

- إنت إيه اللي لقّحك هنا؟

- إنت مين اللي حدفك علينا؟

- إرموه برّه ده.

- لأ.. لازم نطفّحه الدم الأوّل.

- لأ لأ لأ.. سيبوه يا اخواننا.. ده واحد جاهل إمّعة زنديق وكافر كمان.. لازم يستتاب ويرجع لدينه.. بص يا أخ.. إحنا من زمان واحنا بنجاهد ضد الطاغوت "عتريس" والظَلَمة اللي حواليه.. مش ح ييجي واحد زيّك يزايد علينا.. لإننا أوّل جماعة ف "الدهاشنة" رفعنا صوتنا و...

- رفعتوا صوتكم بالدعا "لعتريس".. وكنتم بتقولوا عليه راجل صالح وح يدخل الجنّة حدف.. وقلتوا عليه لمّا ادّي الجاز "للكهاينة" إنه ما عملش حاجة حرام بدليل إن الرسول ذات نفسه كان بيتعامل مع اليهود.. هو انتم مع الرايجة وخلاص؟

- لأ بقى.. ده انت فعلاً كافر.. ثكلتك أمُّك.. أكيد اللي باعتك "وديع" علشان يبوّظ لي الشادر.. أقيموا عليه الحد وكوّموه برّه.. ولمّا تخلّصوا ارجعوا اقعدوا علشان ح نبقى نحلف ع المصحف على إنكم تنتخبوني أنا.

وهكذا مرّت أيّام الانتخابات.. لقاءات اجتماعات تمويهات مساومات تهديدات إغراءات رشوات تنازلات مجادلات خلافات اشتباكات.. ولكن طائفةً قليلةً من أهل البلد ظلّت على وعيها وأدركت أن إجراء الانتخابات في هذا التوقيت وتحت سيطرة حُكم العسكر ما هو إلّا التفافٌ حوْل مطالبهم الأصيلة وتسليطٌ للأضواء بعيداً عن الساحة الأماميّة حتّى تنزوي في ركنٍ مظلمٍ وتكريسٌ لحالة التشرذم والخلاف بين الناس، وشكّ البعض منهم أن وراء ذلك الأمر صفقةً من نوعٍ ما بيْن الهجّانة ورؤس الجماعات والفصائل التي تخوض الانتخابات في هذه الظروف بإصرارٍ دونه الموت.

ويبدو أنه قد صدق حَدْسُهم بهذا الخصوص؛ فقد لمح أحدهم "وديع" وهو ينسلُّ خِلْسَةً قبيل منتصف الليل متسلّلاً نحو دوّار العموديّة وكان يسير بخفةٍ وهو يتلفّت يميناً ويساراً مرتدياً عباءةً سوداء واسعة وشالاً فضفاضاً يغطي معظم ملامح وجهه، وتساءل من رآه: تُرى ما الذي دفع "بوديع" للخروج تحت جُنْح الظلام في هذه الساعة المتأخّرة وبهذه الملابس المريبة؟

الإجابة عند "طهطاوي" الذي جلس على الأريكة الكبيرة في دوّار العموديّة منتظراً "وديع" وكان في أثناء ذلك يتسلّى بتناول ما تيسّر من فاكهة الموسم: موز وبرتقال ويوسفي فقد أدركه الجوع بعد أن تناول عشاءه منذ أكثر من ساعتين فهو- كغيره من ضبّاط الهجّانة - أكولٌ تلقام لا يفرغ من وجبةٍ حتّى يشرع في الأخرى بكل نهمٍ وشراهة، ونادى "طهطاوي" على خادمه صائحاً :

- يا "مصيلحي".. هات طبق فاكهة تاني.. بس كبير.. إنت بتحنّسني؟.. زي ما تكون بتجيب الفاكهة من جنينة الأبعد ابوك.

وحضر "مصيلحي" حاملاً طبقيْن مهوليْن من الفاكهة وهو يتمتم مبرطماً بكلماتٍ يلعن فيها الزمن الذي بلاه "بعتريس" ثم استبدله بمن هو أردأ، وفي طريقه لوضع الفاكهة على المنضدة إذا به يسمع طرقاً خفيفاً على الباب فذهب ليفتح فألفى أحد الخفر و"وديع" يقف خلفه منتظراً الإذن بالدخول وسمع "طهطاوي" يأمره قائلاً :

- ده تلاقيه "وديع".. خلّيه يدخل يا "مصيلحي".

فنفذ "وديع" للداخل في خطواتٍ قصيرةٍ متلاحقة تعوّد أن يمشيها عند مقابلة الكبار وقال وهو ينحني إكباراً وتوْقيراً :

- دستور يا اللي هنا.. السلام عليكم.. يسعد مساك يا سي "طهطاوي".

- يسعد مساك يا سيدي.. أقعد.. مِد إيدك.. كُل معايا.

- كتّر خيرك.. لسّه متعشّي.

- وما له.. البحر يحب الزيادة.. أهو يبقى بيننا عيش وفاكهة.. ها ها.

- من يَد ما نعدمهاش يا سي "طهطاوي".. أأمرني.

- بقى يا سيدي سلامه ف خير وخير ف سلامه.. أنا باعت لك علشان نتفق سوا بدل ما الناس توقّع بيناتنا ويبقى بيننا عداوة زي اللي كانت بينك وبين "عتريس".. مش أحسن برضه؟

- أحسن قوي.. حد يكره؟

- إستبينا.. يبقى اساعدك وتساعدني.

- إزّاي بلا مؤاخذة؟

- يعني نتفق على اتفاق زي اللي عمله معاكم "عتريس" من كام سنة.

- إحنا اتفقنا مع "عتريس" قبل كده!؟.. ده كان بيننا وبينه ما صنع الحداد.

- أهو انت كده مش دوغري معايا.. يا "وديع" مبروم على مبروم ما يلفّش.. بطّل اللؤم بتاعك ده شويّة.. "عتريس" قال لي ع الاتفاق اللي كان بينكم من ست سنين.. لمّا اتفقتوا على إنه يدّيك انت واخوانك كام كرسي ف المجلس المحلّي قصاد ما تعدّوا له الموضوع بتاع قانون زيادة فترة العموديّة من غير حد أقصى للمدد والقانون التاني اللي كان متفصّل على ابنه "كمال" لاجل ما يمسك العموديّة بعده.

- إحنا؟.. ده احنا الناس اللي اختارتنا ف الانتخابات.. وجينا بمجهودنا وبحب الناس.

- لا والنبي إيه؟.. خُش ف عِبّي خُش !.. ما هو كان "عتريس" قادر يلعب ف الصناديق ويخلّيكم ما تشمّوش ريحة المجلس أياميها زي ما كان بيعمل ف كل انتخابات.. وزي ما عمل ف آخر انتخابات لمّا قلب عليكم بعد ما خد غرضه منكم.

- ..........

- يعني بَلّمت وما حطّيتش منطق؟

- اللي تشوفه يا سي "طهطاوي".

- أيوه كده.. تعالى لي ف العِدِل علشان آجي لك انا كمان ف العِدِل.. إحنا أوراقنا مكشوفة لبعض وما يصحّش نقعد نتنطط على بعض طول الليل زي الأراجوزات.

- طلباتك إيه يا سي "طهطاوي"؟

- أوّل هام تسيبوكم من شويّة العيال الصيّع اللي ف الساحة القدّمانيّة واللي كل شويّة والتانية عاملين لنا وَش ف نافوخنا.. يعني تسحب ناسَك م الساحة وتبيعوا العيال دي علشان ما تتأذوش ويّاهم.. خلّونا احنا بقى نلاعبهم لوحدينا راجل لراجل.. تاني هام ما تجيبوش سيرة الهجّانة وظبّاطها إلا بكل خير ولو حد داس لنا على طرف تقفوا له انتم قبل مننا.. تالت هام يبقى للهجّانة وضع مخصوص ف البلد.. ما حدّش يراجعهم ف الفلوس اللي بياخدوها.. ولا بيجيبوا بيها إيه ولا بيصرفوها ف أي داهية.. وماحدّش يتداخِل ف الهجّانة بتاتاً ويبقى لها شرطتها ونيابتها ومحكمتها.. وكمان ما حدش يحاسب الظبّاط ع اللي فات.. نخرج من العموديّة بأمان يعني.. رابع هام ما لكوش دعوة بشياخة البلد.. إحنا اللي ح نعيّن شيخ البلد ونعيّن شيخ الغفر وبقية الكُبارات.. خامس هام ما ترشحوش حد من عندكم ده الوقت لانتخابات العموديّة.. ولا حتّى تشجّعوا حد من المترشحين اليومين دول.. سادس هام يبقى لنا الحق نتدخّل ف حكم البلد ف أي وقت لو حصلت أيّتها حاجة غلط م العمدة الجديد أو حتّى من شيخ البلد الجديد.. بس كده.. شفت المسألة سهلة إزّاي.

- والطلبات دي ح انفّذها لك قُصاد إيه؟

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent