خبر
أخبار ملهلبة

"شيء من الخبث" | الفصل العاشر والأخير (1)


رجل يجلس على كرسي مكتوف الأيدي ومشدود الوثاق بعد أن تم تكتيفه

"شيء من الخبث" | الفصل العاشر والأخير (1)



كانت "فؤادة" تتمنّى الخلاص وترغب في الحريّة وتشتهي الانعتاق؛ فقد أحسّت - بعد شهور من هربها ومكوثها في دوّار العموديّة القديم - بأنها خرجت من سجنٍ إلى سجن فلم يستجِد بخصوصها شيءٌ اللّهمَّ إلا رفقة "موفّق" الذي كان يشجعها على الصبر والاحتمال والجَلَد، فقد كان نِعْم الرفيق والحبيب، فبرغم عجزه عن إيجاد حلٍ لاختراق الحصار الذي تفرضه الهجّانة على "الدهاشنة" حتّى يتسنى لهما الخروج من البلدة بأمان إلا أنه لم يسمح للقنوط أن يتسرب إلى نفسيْهما وطفق يشجّعها على التمسّك بأهداب الأمل ويرسم لها صورة الغد المشرق باستمرار، كما أنه ملك شغاف قلبها وأسر جميع جوارحها وحواسها، فقد كان يحلو لها أن تسمع صوته الحنون وتنظر في عيْنيْه الحالمتين وتستنشق عبير حنانه اللا نهائي وتتذوّق من نبع حبّه المتدفّق وتلمس شهامته ورجولته الحقيقيّة، فهو أوّل رجل يقابلها لم يستغلّها ولم يسِئ معاملتها كمن عرفتهم قبله، فيكفيها منه أنه كان يحترمها ولم يحاول أن يطلب منها ما ليس له فيه حق؛ فكان يبيت لياليه في القاعة بعيداً عنها ليحرسها ولم يدخل عليها غرفتها قط بل كان يطرق على بابها لتَلْحَق هي به في القاعة؛ فيا له من رجل ويا له من حبيب.

وقطع حبل أفكارها صوتُ يأتي من خارج الدوّار فخرجت من غرفتها وهي تسير على أطراف أصابعها، ونظرت وهي واقفةٌ أمام غرفتها حيث يمكث "موفّق" فأَلْفَته يشير لها بأن اختبئي؛ وسارع هو بالاختباء تحت السرير؛ فأطاعته ودخلت إلى داخل السحّارة وسدّت مكان دخولها ببعض القش واقتربت برأسها من داخل السحّارة حيث الماسورة التي تطل على القاعة لتراقب ماذا يحدث.

وفجأة انكسر باب الدوّار واندفع عددٌ كبير من عساكر الهجّانة إلى داخل القاعة وأمرهم أحد الضبّاط بأن يفتّشوا في أرجاء المكان، وجلس هذا الضابط فوق السرير الذي كان يختبئ تحته "موفّق" انتظاراً لما سيسفر عنه التفتيش، فتضرّعت "فؤادة" إلى الله بأن يحمي حبيبها فلا يلحظه الضابط وأخذت تتلو في سريرتها: {وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيْناهم فهم لا يبصرون} عدّة مرّات، واستمر الجنود يفتّشون وينقّبون ويقلّبون الأثاث القديم رأساً على عقب ويبعثرون محتويات المنزل في كل مكان كأنهم الإعصار الذي لا يبقي ولا يذر على شيءٍ في مكانه، وبدا كما لو كانت السماء قد استجابت "لفؤادة" فلم يترك الجنود مكاناً دون تفتيش اللّهمَّ سوى مكانيْن: الأوّل هو كومة القش التي لم يتخيّل أحد أن تكون بداخلها سحّارة والثاني هو المضجع الذي يختبئ تحته "موفّق" ويجلس فوْقه الضابط؛ فلم يجرؤ أحدٌ من العساكر أن يطلب من الضابط أن ينهض ليفتّش مكانه، وانقضت عشر دقائقٍ من التفتيش مرّت على "فؤادة" كأنها عشرة أعوام، وتوارد العساكر الذين كانوا يفتّشون تباعاً على الضابط ليؤدوا له التحيّة العسكريّة ويفيدوه بتمامٍ واحد ألا وهو "ما فيش حَد يا فندم".

وتنفّست "فؤادة" الصعداء وبدأ الجنود ينصرفون إلى خارج الدوّار، وما إن قام الضابط من فوق المضجع إلا وقد صدرت عن "موفّق" صوْت عَطْسَةٍ عالية أَفْصَحَت عن مكانه فأمر الضابط جنوده بأن يعودوا ليفحصوا المضجع فوجدوا "موفّق" أسفله فأمسكوا به وجرّوه على الأرض ثم أجلسوه على مقعدٍ خشبي وشدّوا وثاقه بإحكام وهَمَّ أحد الجنود بصفعه إلّا أن الضابط نهره مذكّراً إيّاه بأن الأوامر الصادرة تقتضي بألا يلمسه أحد إلى أن يصل الضابط "طهطاوي"؛ فامتثل الجندي وانزوي بجانب زملائه.

حدث كل هذا تحت سمع وبصر "فؤادة" التي انخلع قلبها لما حدث وكادت أن تخرج من مخبأها وتنزل القاعة لترتمي في أحضان حبيبها لتحاول أن تَدْفَع عنه ما قد يصيبه من أذى بسببها؛ ولكنها تراجعت عن هذه الفكرة فور أن تذكّرت ما قاله لها "موفّق" وقت أن أوصاها بأن تحافظ على رِباطة جَأْشها حتي تسنح لها فرصة الاستنجاد بأهل البلد لإنقاذه؛ فجمدت مكانها لئلا يشعر بها أحد ليس حرصاً على نفسها بقدر ما هو حرصٌ على حبيبها.

ولم تكد تمر نصف ساعة حتّى سمعت صوت صهيل خيْلٍ عديدة وضَبْح حوافرها خارج الدوّار، ووجدت العساكر والضابط يهبّون واقفين وهم يُصلِحون من هِندامهم ويعتدلون في وَقفتهم إلى أن نفذ الضابط "طهطاوي" إلى القاعة ومعه "عدنان" و"جاهين" فصاح "طهطاوي" في الجَمْع قائلاً :

- إنصراف كل الناس.. ثابت مكانك يا حضرة الظابط.

فغادر القاعة كل الجنود فيما عدا ضابطهم الذي وقف انتباهاً من حديد فعاجله "طهطاوي" بقوْله :

- عفارم عليك يا حضرة الظابط.. اسمك إيه؟

- يوزباشي "مهاود عبد المأمور" يا فندم.

- ها.. الواد ده قَر بحاجة؟

- ما حدّش استجوبه أصلاً يا فندم.. إحنا مستنيين وصول سيادتك زي ما أمرت.

- تمام.

وتوجّه "طهطاوي" إلى حيث كان يجلس "موفّق" مربوطاً إلى الكرسي الخشبي وصاح فيه:

- ودّيت فين "فؤادة" يا له؟

فلم يجب عليه "موفّق" فزجره "طهطاوي" محذّراً:

- إنطق يا له أحسن بالذوق بدل ما ح تنطق بالعافية.

- ..........

- طيّب.. إنت اللي جبته لنفسك.. باقول لك إيه يا.. قلت لي اسمك إيه؟.. آه "مهاود".. إقطع لي يا "مهاود" سلك الأباجورة دي وحط الفيشة ف الكبس وارفع سكّينة الكهربا اللي ف المطبخ.. أنا ح اخلّيه يتكلّم بطريقة نضيفة وسهلة.. لا ضرب ولا دَم ولا وَجَع قلب.. أنا ح اتعب نفسي ليه معاه ابن الكلب ده؟......... ها؟.. خلاص؟.. رفعت السكينة؟.. عال عال.. ياللا بينا.

ومسك "طهطاوي" الطرف الآخر من السلك الذي كان طرفه الأوّل موصولاً في القابس وقرّب نهاية السلك المكشوف من جبهة "موفّق" حتّى تلامسا فانتفض "موفّق" وظلّ يرتَجّ ويرتجف وهو يصرخ من أثر الكهرباء المؤلم، وبعد حوالي عشر ثوان أزال "طهطاوي" السلك من فوق جبين "موفّق" الذي كان لا يزال يتأوّه من شدّة الألم وهو يتنفّس بصعوبة، وبعد عشر ثوانٍ أخرى كَرّر "طهطاوي" ما فعله في المرّة الأولى فعاد "موفّق" للصراخ من جديد ولكن بصورة أعنف من سابقتها، وظلّ "طهطاوي" يعذّب "موفّق" بالصعق بالكهرباء أكثر من عشرين مرّة؛ وفي كل مرّة يكاد قلب "فؤادة" أن يغادر صدرها ولكنها احتملت كما احتمل حبيبها.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent