خبر
أخبار ملهلبة

الكونت دي مونت كريستو | ألكسندر دوماس (الأب) | الجزء الثامن


غلاف رواية الكونت دي مونت كريستو للأديب ألكسندر دوماس الأب من سلسلة روائع القصص العالمية

الجزء الثامن

 

 

فقال الكونت دي مونت كريستو في لهجة تساؤل:

-       عسى أن يكون الله قد شفى أحزانكم بفضله ورحمته كما يصنع لجميع المعذَّبين الصابرين؟

فأجابت "جولي":

-       نعم يا سيّدي الكونت .. ليس يسعنا إلّا أن نعترف بذلك .. فلقد صنع الله من أجلنا ما لا يصنعه إلّا لخاصّته المختارين فأرسل إلينا أحد "ملائكة الرحمة" لإنقاذنا ممّا كُنّا نعانيه.

وهُنا تورَّد خَدّا الكونت فصارا في لوْن القُرمُز، ثم سعل کي يجد مبرِّراً لوضع منديله على فمه بينما أردف "إيمانويل" قائلاً:

-       إن أولئك الذين يولدون في الثراء ويملكون وسائل إشباع جميع رغباتهم لا يعرفون كيف تكون السعادة الحقيقيّة في الحياة .. أمّا الذين عاشوا وسط أمواج الحيـاة وأعاصيرها فهؤلاء وحدهم يُقدِّرون قيمة الجوْ الذي يسوده الصفاء والهدوء.

ونهض الكونت دون أن يجيب بكلمةٍ خشية أن يفضح صـوْته مدى انفعاله، ثم راح يذرع الحجرة ذاهباً آيباً في خطواتٍ بطيئة، فقال له "مكسمليان" وهو يتبعه بعيْنيْه:

-       إن أقوالنا تدهشك .. أليس كذلك؟

فوضع الكونت إحدى يديْه على قلبه ليُهدِّىء من ثائرته، وأشار باليـد الأخرى إلى غطاءٍ من البللور تحته كيسٌ من الحرير موْضوعٌ فوْق وسادةٍ من القطيفة السوْداء وقال:

-       کلّا یا سیّدي .. وإنما كنت أتأمَّل هذا الكيس الذي يحوى ورقةً في أحد طرفيْه وماسةً كبيرةً في طرفه الآخر!

فقال "مكسمليان" وقد ارتسمت على وجهه علائم الجد:

-       سيّدي الكونت .. هذه هي أثمن كنوزنا العائليّة.

فقال الكونت:

-       حَقّاً .. إن هذه الماسة تبدو ثمينةً جِدّاً.

وهُنا تدخّلت "جولي" في الحديث قائلة:

-       إن أخي لا يعني قيمة هذه الماسة ..  برغم أنها قُدِّرت بمائة ألف ريال .. ولكنه يعني أن الأشياء التي احتواها هذا الكيس هي تذكار "الملاك" الذي حدَّثتك عنه الآن.

فقال الكونت وهو ينحني لها:

-       عفواً یا سیّدتي .. إنني لا أفهم شيئاً من هذا .. ولست أطلب الوقوف على خفايا أمره .. فليس من عادتي أن أتطفَّل على أسرارٍ عائليةٍ لا تخصُّني.

فقالت "جولي" متحمِّسة:

-       ليس هذا تطفُّلاً یا سیّدی .. كلّا .. بل إنه ليسعدنا أن تعطينا الفرصة كي نفيض في هذا الموضوع .. ولو كنا نبغي إخفاء الصنيع النبيل الذي يرمُز إليه هذا الكيس لَما عرضناه للعيان هكذا .. أوه .. ليْتنا نستطيع أن نروي القِصّة لكل إنسان وفي كل مكان .. لعل هذا يوصلنا إلى معرفة ذلك المحسن المجهول.

فتساءل الكونت في صوْتٍ أشبه بالمختنق:

-       حَقّاً؟

وسارع "مكسمليان" إلى رفع الغطاء البللوري عن الكيس الحريري ثم لثمه في احترامٍ وتوقير، وقال للكونت:

-       سيّدي .. إن هذا الكيس قد لمس يد الرجل الذي أنقذ أبي من الانتحار .. وأنقذنا نحن من الدمار .. بل أنقذنا من العار والفضيحة .. نعم إن ذلك "الملاك" الكريم الذي لا يُبارى جعلنا ننجو من مصيرٍ كله فاقةٌ وعَوَز ونصبح في حالٍ يحسدنا عليها الناس ويغبطوننا على سعادتنا .. وإليك الخطاب الذي كتبه ذلك "الملاك" الكريم في اليوْم الذي انتهى فيه أبي إلى اتخاذ قرار الانتحار .. أمّا هذه فهي الماسة التي وهبها المحسن المجهول لأختي لمناسبة زواجها.

ونشر الكونت الخطاب وقرأه في غِبطةٍ ظاهرة، وكان الخطاب موجَّهاً إلى "جولي" وموَّقعاً عليه باسم "السندباد البحري"، فتساءل الكونت:

-       هل الرجل الذي أدّى لكم هذه الخدمة مجهولٌ لديكم تماماً حتى الآن؟

فأجاب "مكسمليان":

-       نعم يا سيّدي .. إذ لم يسعدنا الحظ يوْماً بأن نصافحه برغم أننا طالما التمسنا من السماء أن تمنحنا هذه المِنّة .. لكن الأمر كله قد اتخذ اتجاهاً غامضاً عجزنا عن فهمه .. وقادته من بدايته إلى نهايته يدٌ خفيّة - وإن تكن قويّة - أشبه بأن تكون يد ساحر.

فهتفت "جولي":

-       إني لم أفقد الأمل بعد في أن أستطيع يوْماً تقبيل تلك اليد كما أُقبِّل الآن هذا الكيس الذي لمسته .. ولقد كاد يتم لي ذلك فمنذ أربعة أعوام كان "بنيلون" البُستاني الذي يعمل في حديقة الدار - وقد كان فيما مضى بحّاراً يجول على رصيف ميناء "تريستا" - حين رأى ثريّاً إنجليزيّاً يتأهَّب للإبحار في يخته الخاص .. فعرف فيه الشخص الذي زار أبي في الخامسة من يونية سنة ١٨٢٩ والذي كتب لي هذا الخطاب في الخامس من سبتمبر .. وقد استوْثق "بنيلون" من شخصه لكنه لم يجرؤ على مخاطبته.

فقال الكونت "كريستو" وقد أقلقته النظرة الفاحصة التي رمقته بها "جولي":

-       إنجليزي؟ .. أهو ثريٌ إنجليزي؟

فأجاب "مكسمليان":

-       نعم .. إنجليزيٌ تقدَّم إلى أبي باعتباره المندوب الخاص لبنك "تومسون وفرنش" في "روما" .. وهذا ما جعلني أجفل حين سمعتك تذكر في منزل مسیو "دي مورسيرف" أن البنك الذي تتعامل معه هو بنك "تومسون وفرنش" .. فقُل لي بربِّك: هل تعرف ذلك الثـري الإنجليزي؟

فقال الكونت وهو يتكلَّف الهدوء:

-       لكنك ذكرت لي أن بنك "تومسون وفرنش" أنكر جازماً أنه أدّى لكم تلك الخدمة؟

فأوْمأ "مكسمليان" موافقاً، بينما واصل الكونت كلامه فقال:

-       إذن ألا يُحتَمَل أن يكون ذلك الإنجليــزى شخصاً أدى له والدك صنيعاً يوْماً ما نسيه بعد ذلك ففكر هو أن يردَّه له بهذه الطريقة الغامضة؟  

-       كل شيءٍ جائزٌ في هذا الشأن!

-       وما اسم هذا الإنجليزي؟

-       إننا لا نعرف له اسماً غير اسم "السندباد البحري" الذي وقَّع به على خطابه

-       ألم تكُن له قامتي أو أطول قليلاً .. وكان يرتدي رباط رقبةٍ يصل إلى ذقنه وسترةً مُلتصقةً بجسمه ومن عادته أن يُخرِج قلمه من جيْبه كل حين؟

فهتفت "جولي" وقد لمعت عيْناها غِبطةً:

-       نعم .. نعم .. إنك إذن تعرفه یا سیّدی .. وافرحتاه.

فقال الكونت:

-       كلّا .. وإنما أنا أستنتج فقط .. فقد عرفت شخصاً اسمه اللورد "ويلمور" اعتاد أن يقوم بتصرُّفاتٍ من هذا النوْع.

فسألته:

-       هل كان لا يُفصِح عن شخصيّته أيضاً؟

فأجاب:

-       إنه كان مخلوقاً شاذّاً لا يؤمن بأن لعرفان الجميل وجوداً

فهتفت متعجِّبةً:

-       ربّاه .. وبِمَ كان يؤمن إذن؟!

فأجاب الكونت وقد لمست شغاف قلبه لهجة "جولي" الفيّاضة بالامتنان:

-       إنه لم يكن يؤمن بذلك في الفترة التي عرفته فيها .. ولعلَّه تبيّن بعد ذلك أن الاعتراف بالجميل ما زال موْجوداً على الأرض.

فقالت له متوسِّلةً:

-       إذا كنت تعرف هذا الشخص فإني أرجو مُلِحّةً في الرجاء أن تُرشِدَنا إلى مكانه .. آهٍ لوْ عثرنا عليه! .. إذن لأقنعناه بوجود الاعتراف بالجميل والاعتراف الصادر من القلب.

وأحس الكونت أن الدموع تكاد تطفر من عيْنيْه، فنهض وراح يذرع الحجرة مرّةً أخرى بخطواتٍ سريعة، بينما ناشده "مکسمليان" قائلاً:

-       بحق السماء .. أذكر لنا ما تعرفه عن ذلك الشخص.

فهتف الكونت "دي مونت كريستو" وهو يجاهد ليقمع انفعاله:

-       إذا كان لورد "ويلمور" هو ولي نعمتكم المجهول فأخشى أنكم لن تروه ثانيةً .. لقـد افترقت عنه منذ عاميْن في "باليرمو" .. وكان يتأهَّب للإبحار إلى أقصى أطراف الأرض .. بحيث أعتقد أنه لن يعود مرّةً أخرى.

فقالت "جولي" وقد طافت الدموع بمآقيها:

-       تعني أنني لن أراه یا سیّدي .. هذه قسوةٌ منك.

فأجابها الكونت في لهجةٍ جادَّةٍ وهو ينظر بشغفٍ إلى اللؤلؤتيْن المنحدرتيْن على خديْها:

-       لو كان لورد "ويلمور" قد رأى ما أراه الآن لأحب الحياة .. فإن الدموع التي تذرفينها كانت كفيلةً بأن تعيد إليه حُسن ظَنِّه بالبشر.

ثم مد الكونت يده إلى "جولي" مُصافحاً، فقالت وهي تضع يدها في يده:

-       ولكن .... أليس للورد "ويلمور" أسرةٌ أو أصدقاءٌ نستطيع أن ....؟

فقطع الكونت كلامها قائلاً في تلطُّف:

-       لا تتعبي نفسك في الاستقصاء .. فلعلَّه لا يكون الشخص الذي أدّى لكم ذلك الصنيع .. لقد كان اللورد صديقي الحميم .. ولم يكن يُخفي عليَّ أي سرٍ خاصٍّ به .. فلوْ أنه كان صاحب ذلك الصنيع لأفضى إليَّ بما فعل.

وعندئذ خَفَّ "مكسمليان" إلى نجدة الكونت وقال لأخته:

-       إن السيّد على حقٍ يا أختاه .. تذكَّري ما طالما قاله لنا أبونا البار: "ليس الرجل الإنجليزي هو الذي أنقذنا".

وهنا سأله الكونت في لهفة:

-       ماذا قال لك والدك يا مسيو "موريل"؟  

فأجاب:

-       كان مِن رأي والدي أن ذلك الصنيع من قبيل المعجزات .. وأن صانعه قد بُعِثَ مِن القبر لينقذنا .. أوه .. إنها كانت خرافةً مؤثِّرةً يا سيّدي .. وبرغم أني شخصيّاً لم أصدِّقها فإني لم أشأ أن أُحطِّم إیمان أبی بها .. وكَم مِن مَرّةٍ حام حوْلها وذكر اسم الصديق العزيز الذي فقده للأبد .. والذي عزا إليه ذلك الصنيع .. بل إنه حين حضرته الوفاة وأضاءت ساعة الاحتضار ذهنه بنورٍ خارقٍ للطبيعة تحوَّلت عنده هذه الفكرة إلى يقينٍ قاطعٍ فكانت كلماته الأخيرة لي: "مكسمليان .. إنه إدمون دانتيس الـذي أنقذنا".

وهنا بلغ شحوب وجه الكونت درجةً مزعجة، فلم يقوَ على الكلام، ونظر إلى ساعته كمَن نسى موعداً هامّاً، ثم نطق على عجلٍ ببضع عباراتٍ موجَّهةً إلى مدام "هربول"، وصافح كُلّاً من "مكسمليان" و"إيمانويل" وهو يقـول لها:

-       سیّدتي .. إني لأطمع في أن تسمحي لي بزيارتكم بين حينٍ وآخر .. فأنا أُقدِّر صداقتكم وأشكركم على حفاوتكم .. فهذه هي المرّة الأولى التي أُطلق فيها العنان لمشاعري منذ سنوات.

ثم غادر البيْت مُسرعاً، وقال "إيمانويل" على أثر خروج الكونت:

-       إن الكونت "دي مونت كريستو" رجلٌ غريب الأطوار.

فقال "مكسمليان":

-       نعم .. لكني أحس عن يقينٍ أن له قلباً نبيلاً .. وأنه يحبُّنا.

وقالت "جولي":

-       لقد تغلغل صوْته إلى أعماقي .. وخُيِّل إليَّ مرّتيْن أو ثلاثاً أنني سمعته من قبل.

درسٌ في السموم

لم يُبطِىء الكونت "دي مونت كريستو" في العوْدة إلى زيارة مدام "دي فيلفور"، ولم يكد الخادم يُعلِن اسمه حتى عَمَّ الهرج والمرج أنحاء البيت، وطلبت مدام "دي فيلفور" - التي كانت في الصالون وحدها وقتئذٍ - أن تُحضِر المربية ولدها كي يُجَدِّد شُكره وامتنانه للكونت.

وكان الصبي - واسمه "إدوار" قد سمع أهله يتحدَّثون عن هذه الشخصيّة العظيمة طيلة اليوميْن السابقيْن، فبذل جهده کي يخف إليـه سريعاً، لا طاعةً لأمه أو تقديراً لفضل الكونت عليه؛ بل بدافع الفضول المحض ورغبةً في أن يجد في شخصه ما يصلح لأن يتَّخذه فيما بعد مادَّةً لتعليقاته السليطة التي تُطلِق لسان أُمِّه بلوْمه وتأنيبه من حينٍ لآخر وإن كانت معجبةً بذكائه.

وبعد تبادل التحيّات المألوفة؛ التفتت إلى ابنها "إدوار" قائلة:

-       ماذا تفعل أختك "فالنتين"؟ .. دع أحداً يُبلغها أني أريدها لأتشرَّف بتقديمها للكونت.

فسألها الكونت:

-       أَلَكِ إبنةٌ أيضاً يا سيّدتي؟ .. لا بُد أنهـا صغيرة السن؟

فأجابته الزوْجة الشابّة:

-       إنها ابنة مسيو "دى فيلفور" من زوْجتـه الأولى .. وهي فتاةٌ رائعة.

فقاطعها الصبى "إدوار" وهو ينتزع بضع ريشاتٍ من ذيْل ببغاءٍ كانت تتصايح فوْق قفصها الذهبي:

-       لكنها متهوِّسة.

فصاحت به أُمُّه:

-       صَهٍ يا "إدوار".  

ثم أضافت تُحَدِّت ضيْفها:

-       هذا الولد الشقي اللعين مُصيبٌ - مع ذلك - إلى حَدٍّ ما .. وهو يُردِّد ما سمعني أقوله متألمةً مائة مرة .. ذلك أن الآنسة "دي فيلفور" - برغم كل ما نبذله من أجلها - ذات طبيعةٍ سوْداويّةٍ ومَيْلٍ إلى الصمت والانزواء .. الأمر الذي يغض من جمالها .. ولكن ما الذي يعوقها؟! .. اذهب یا "إدوار" وادعها.

فقال "إدوار":

-       أنهم يبحثون عنها في المكان الذي لن يجدوها فيه .. كما هو شأنهم دائماً.

فسألته:

-       أين يبحثون عنها؟

فأجاب:

-       عند جدّي "نوارتييه" .. وأنا على يقينٍ من أنها ليست هناك.

فسألته:

-       وأين هي إذن؟ .. إذا كنت تعرف مكانها فلِـمَ لا تقول؟

فأجاب:

-       إنها تحت شجرة الكستناء الكبيرة.

فمدَّت الأم يدها إلى الجرس کي تُرشِد الخدم إلى مكان الفتاة، ولكن هذه سرعان ما ظهرت مقبلةً وقد بدت عليها الكآبة بحيث كان الفاحص المُدقِّق يستطيع أن يلمح في عيْنيْها آثار دموعٍ قد جُفِّفَت.

كانت "فالنتين" فتاةً طويلة القامة رشيقة القَد، في التاسعة عشرة من عُمرها، ذات شعرٍ كستنائی، وعيْنيْن زرقاويْن عميقتيْن، ومظهرٍ وقورٍ يوحي بالأرستقراطيّة الهادئة التي كانت تُميِّز أمها، وكانت أصابعهـا البيضاء الدقيقة وعنقها العاجي وخَدّاها المصطبغان بألوانٍ وظِلالٍ شَتّی تُذكِّر الناظر إليها بالحسان الإنجليزيّات اللواتي قارنهن الشعراء بالبجعات ذوات الجلال.

وحينما دخلت الفتاة الحجرة ورأت إلى جوار زوْجة أبيها الرجل الذي سمعت كثيراً من الأحاديث عنه عمدت إلى تحيّته دون أي ارتباكٍ صِبياني، بل دون أن تغض من بصرها نحوه وبرشاقةٍ ضاعفت انتباه الكونت إليهـا، فنهض ليرد لها التحيّة.

وحين قدَّمتها له زوْجة أبيها باسمها اردف أخوها "إدوار" يُكمِل التعريف وهو يرمقها بنظرةٍ ماكرة:

-       وهذا مسيو "دي مونت كريستو" ملك "الصين" وإمبراطور "الهند الصينية".

وهنا شحب وجه أمّه واستبد بها الغضب على الغلام الشقي، لكن الكونت ابتسم في غير غضاضةٍ ونظر إلى "إدوار" في تسامحٍ جعل قلب الأم يسترد فرحته وتحمُّسه، ثم واصل حديثه فقال وهو ينقل بصره بين مدام "دي فيلفور" و"فالنتين":

-       ألم أتشرَّف من قبل بلقائكما؟ .. لقد دار هذا بخاطري منذ البداية .. وحين دخلت الآنسة أضاف مرآها شُعاعا جديداً من الضوْء على ذِكرىً مشوَّشةٍ في ذِهني.

فأجابت السيّدة "دي فيلفور":

-       لست أعتقد ذلك يا سيّدي .. فإن الآنسة "دي فيلفور" ليست شغوفةً بالمجتمعات ونحن لا نخرج إلّا نادراً.

فقال:

-       إذن .. لم يكن المجتمع موْضع لقائي بالآنسة أو بكِ يا سيّدتي .. أو بهذا الغلام المرح الجذّاب .. ثم أن مجتمعات باريس غريبةٌ عليَّ تماماً .. فإني لم أحضر إلّا منذ أيّام .. ولكن ربما كان ذلك اللقاء في "إيطاليا" .. كانت الآنسة تسير في الحديقة وذهب ابنك يطارد طاووساً.

وهُنا تدخَّل الغُلام "إدوار" فقال بعد أن أوْمأ موافقاً:

-       نعم .. نعم يا أُمّاه .. وقد أمسكت بذلك الطاووس وانتزعت ثلاث ريشاتٍ من ذيْله .. ألا تذكرين؟

واستطرد الكونت:

-       أمّا أنتِ یا سیّدتي فبقيتِ في ظِل الكَرْمة .. ألا تذكرين إنك وأنتِ جالسةٌ على مقعدٍ حجري في غيْبة الآنسة "دي فيلفور" وابنك تحدثتِ فترةً من الوقت إلى شخصٍ ما؟

فأجابت الزوْجة الحسناء وقد صعد الدم إلى وجهها:

-       نعم .. هذا صحیح .. أذكر أني تحدَّثت إلى رجلٍ يرتدي عباءةً طويلةً من الصوف كان طبيباً على ما أذكر.

فقال الكونت:

-       تماماً يا سيّدتي .. وذلك الرجل أو الطبيب لم يكن سواي .. كانت قد انقضت مُدّةٌ على وجودي في الفندق .. وقد استطعت خلالها أن أشفي خادمي من حُمّى أصابته .. وأشفي صاحب الفنـدق من داء اليرقان (الصفراء) .. فاكتسبت بذلك صيْتاً ذائعاً هناك .. وقد تحدَّثنا يوْمئذٍ یا سیّدتي فترةً طويلةً من الوقت في موضوعاتٍ شَتّى مثل "بيروجنتو" و"رافاييل" والعادات والأزياء .. كما تحدَّثنا عن علم مزج السوائل .. وذكرتِ لي أن أشخاصاً معيَّنين في "بيروجيا" (مدينة إيطاليّة) يحتفظون بسرّه.

فقالت المرأة متعجِّلةً في شيءٍ من القلق:

-       نعم .. هذا صحيح .. أذكر ذلك الآن.

واستطرد الكونت فقال في هدوءٍ تام:

-       لست أذكر جميع الموضوعات التي تكلَّمنا فيها يوْمئذٍ يا سيّدتي .. لكني أذكر بوضوح أنكِ وقعتِ في الخطأ الذي وقع فيـه غيرِك بصـدد براعتي في الطب فاستشرتِني بشأن صحّة الآنسة "دي فيلفور".

وفي تلك اللحظة دَقَّتْ الساعة السادسة، فالتفتت مدام "دي فيلفور" إلى "فالنتين" وقالت لها في انفعـال:

-       الساعة السادسة الآن .. هل لكِ أن تذهبي لتري إن كان جدِّك يريد تناول عشائه؟

فنهضت "فالنتين" وغادرت الغرفة بعد أن حيَّت الكونت دون أن تجيب بكلمة، فقال الكونت:

-       أوّاه یا سیّدتي .. هل بسببي أبعدت الآنسة "دي فيلفور" عن الغرفة؟

فقالت:

-       کلّا .. إنها الساعة السادسة .. وهي الموْعد المحدَّد لإعطاء المسيو "نوارتييه" الوجبة الإجباريّة التي تُعينه على الاحتفاظ بما بقي من قواه .. إنك على علمٍ يا سيّدي بحالة الانحلال التي أُصيب بها والد زوْجي .. أليس كذلك؟

فقال:

-       نعم .. لقد حدَّثني مسيو "دى فيلفور" عنها مرّة .. إنها حالة شللٍ على ما أذكر.

فقالت:

-       نعم .. إن الكهل المسكين لا يقوى على أيّة حركة .. ولم يبقَ مُحتفظاً بنشاطٍ في جسمه غير عقله .. ولو أنه بدأ يضعف ويختلج كنور المصباح الذي يوشك أن ينطفىء .. ولكن اغفر لي يا سيّدي كلامي في متاعبنا البيْتيّة .. لقد قاطعتك في اللحظة التي كنت فيهـا تحدِّثني عن براعتك في الكيمياء.

فقال:

-       کلّا یا سیّدتي .. لم أقُل ذلك تماماً .. وما درست الكيمياء إلّا على أثر اعتزامي العيْش في الأجواء الشرقيّة .. كي أنهج نهج الملك "ميتريداتس" الذي ....

وهنا قطع الصبي كلامه وقال وهو ينتزع بعض الصور الجميلة من ألبومٍ ثمين:

-       أهو الملك "ميتريداتس" الذي كان يفطر كل صباحٍ بكأسٍ من السُم الممزوج بالكريمة؟

فهتفت به وهي تنتزع ألبوم الصور من قبضته:

-       أسكت أيّها الشقي .. لقد صِرت لا تُحتَمَل .. إنك تُزعجنـا وتقطع حديثنا .. فاتركنا والحق بأختك "فالنتين" في غرفة جدّك.

ثم نهضت فقادت الغُلام من يديْه حتى الباب، وتبعها الكونت بعيْنيْه وهو يحدِّث نفسه:

-       تُری هل تُغلِق الباب خلفها؟

وأغلقت مدام "دي فيلفور" الباب بإحكامٍ بعد خروج الصبي، فتظاهر الكونت بأنه لا يلحظ حركتها، ولمّا عادت إلى مقعدها أخذت تُلقي على ما حوْلها نظرةً فاحصة، فاستطرد الكونت قائلاً:

-       لقد قاطعتِ الغُلام وهو يذكر فذلكةً تاريخيّةً تُثبِت مدى اهتمام مُعلِّمه بتثقيفه.

فقالت الأم في شيْءٍ من الزهو:

-       إنه ذو قابليّةٍ للعِلم .. وهو لا ينسى أي درسٍ يُلقى عليه .. لكن عيْبه الوحيد أنه شديد العناد .. وبمناسبة هذا الذي قاله؛ هل تُصدِّق حَقّاً أن "ميتريداتس" كان يستعمل تلك الوسائل وأنها كانت ذات أثرٍ حقیقي؟

فقال الكونت:

-       نعم .. أعتقد ذلك يا سيّدتي .. لأني أنا نفسي قد جرَّبتها کي آمن شر الموْت بالسُم في رحلاتي المتعدِّدة في "نابولي" و"بالرمو" و"أزمير" .. أعنى في مناسباتٍ ثلاثٍ كنت فيها سأفقد حياتي لوْلا تلك الوسائل الاحتياطيّة.

فقالت:

-       إنني أذكر الآن أنك أشرت إلى شيْءٍ من هذا القبيل خلال حديثنا في "بيروجيا" .. أليس كذلك؟ .. كما أذكر أني سألتك يوْمها: "هل السموم تُحدِث أثرها في أهل الشمال وأهل الجنوب على حدٍ سواء؟ .. فأجبتني بأن الشماليّين بطبعهم أميَل إلى البرود والكسل .. وهـذا يجعل قابليّتهم للتسمُّم أخف من قابليّة أهل الجنوب ذوي الطبائع النشطة والحيوية.

فقال:

-       هذا صحیح .. ولقد رأيت بعيْني أفراداً من الروس يتناولون أعشاباً خاصّةً لوْ تناولها إنسانٌ من العرب أو سُكّان الشرق الأوسط لقتلته فوْراً.

فسألته في اهتمام:

-       أتعتقد هذا حقّاً؟ .. أعني هل خطر هذه الأعشاب أشد على مَن يعيشون في جَوٍّ لا تكثر فيه الأمطار والغيوم لأن هذه تجعل الأجسام أقل قابليّةً لامتصاص السموم؟

فأوْمأ الكونت موافقاً وقال:

-       نعم ولا ریْب یا سیّدتي .. لذلك ينبغي أن يُحصَّن ضد السم مَن لم يألفه من قبل لكي يتعوّده جسمه.

فقالت:

-       أستطيع أن أفهم ذلك .. ولكن كيف تُعَوِّد نفسك على السُم؟ .. أعني كيف عوَّدت نفسك في المرّات السالفة؟

فقال:

-       هذا سهلٌ جِدّاً فلوْ فرضنا أنكِ عرفتِ سلفاً نوْع السُم الذي سوف يُدَس لكِ .. وليكن هو "البروسين" مثلاً .. ثم تناولتِ في اليوْم الأوّل مقداراً منه .. وفي اليوْم الثاني ضعف هذا المقدار .. وهكذا لمدَّة عشرة أيّامٍ فإنك تصيرين قادرةً على أن تتعاطي مِقداراً كبيراً منه دون أن يصيبكِ ضررٌ يُذكَر .. بينما لو أُعطيتِ هذا المقدار نفسه لإنسانٍ لم يتناول المقادير الصغيرة السابقة فإنه يقتله .. وهكذا يمكنك في نهاية الشهر أن تشربي الماء من إناءٍ واحدٍ مع شخصٍ آخر فيموت هو في حين لاتشعرين أنتِ بغيْر مضايقةٍ بسيطة.

فقالت مدام "دي فيلفور" في لهجة مَن تمعَّن في الفِكْر:

-       لقد طالما قرأت تاريخ "میتریداتس" وأعدت قراءته لكني كنت أعتبره بمثابة أسطورةٍ خُرافيّة.

فقال:

-       کلّا یا سیّدتي .. إنه - بعكس أكثر ما يرويه التاريخ - صحیحٌ تماماً .. لكن ما تستفسرين عنه ليس فيما يبدو ثمرة فضولٍ طارئ .. فمنذ عاميْن سألتيني هذه الأسئلة نفسها وقلتِ لي يومئذٍ أن تاريخ "میتریداتس" قد شغل فكرك زمناً.

قالت:

-       هذا صحیح .. فقد كان علم النبات والجيولوجيا أحب العلوم إليَّ في زمن الدراسة .. وأنا أميل بطبعي إلى العلوم التي تخاطب الخيال كالشعر .. والعلوم التي تخضع للأرقام مثل الجبر .. ولكن استمر فحديثك يلذ لي جدّاً.

فقال الكونت:

-       الأغرب من ذلك يا سيّدتي أن الشرقيّين لا يستخدمون السُم كدرعٍ للوقاية - كما فعل "میتريداتس" - بل كخنجرٍ للعدوان .. فالعلم في أيديهم لا يكون سلاحاً دفاعيّاً فقط .. بل للهجوم أيضاً .. وهكذا يحميهم من خصومهم ويخلِّصهم منهم في الوقت نفسه فهم بواسطة الأفيون وسِت الحُسن (البلادونّا) وغيرها من العقاقير يُنيِّمون إلى الأبد كل مَن يخشون أن يبقوا ساهرين .. وما من امرأةٍ من نساء المصريّين والأتراك و"اليونان" اللواتي نسميهن هنا "النساء الفاضلات" لا تعرف كيف كيف تستعين بالكيمياء على قضاء أغراضها .. بحيث تُدهِش الطبيب المحترف .. وتُذهِل العالم النفساني الذي يتلقّى اعترافات الناس.

فتساءلت مدام "دي فيلفور" وقد لمعت عيْناها بوهجٍ غريب:

-       حقّاً ؟!

بينما استطرد الكونت فقال:

-       أمّا عندنا نحن فإن أی ساذجٍ تملَّكه شيْطان الحقد أو الطمع ورغب في التخلُّص من عدوٍ أو قريب يذهب عادةً إلى حانوت البقّال أو الصيْدلي مُنتحلاً لنفسه اسماً زائفاً - يؤدّي إلى افتضاحه في الواقع أكثر ممّا لو ذكر اسمه الحقيقي - ثم يبتاع خمسة جراماتٍ أو ستة من الزرنيخ بحُجَّة أن الفئران تزعج نوْمه .. وإذا كان الشخص ماكراً فإنه يحصل على هذه الكميّة من حوانيتٍ مختلفةٍ يكرِّر في كلٍّ منها القصّة ذاتها .. فيضع نفسه تحت رحمة شهودٍ عديدين مُتَّفقي الشهادة .. ثم يسقي خصمه جرعةً من السُم تكفي لقتل أضخم فيلٍ أو حوت .. وتجعله يصرخ مستغيثاً فيجمع حوْله الجيران وسكّان المنطقة .. ثم لا يلبث أن يصـل رجال البوليس والمباحث .. وفي أثرهم الطبيب الشرعي الذي يُشرِّح الجُثّة فيجد في أمعائها من بقايا الزرنيخ ما يملأ ملعقة .. وفي اليوْم التالي تَصدُر الصُحُف جميعاً وفي صدرها كل البيانات واسم القتيل والقاتل .. فيهرع البقّالون والصيادلة ليشهدوا ضد المتهم الذي يساق إلى المحاكمة كما يساق الكبش إلى الذبح .. ثم يصدر ضده الحُكم ويُنـَفَّذ فيه الإعدام .. أو - إذا كانت امرأة - تُسجَن مدى الحياة .. هذه هي الطريقة التي تفهمون بها أنتم أهل الشمال علم الكيمياء .. لكن "ديرو" كان في الواقع أبرع من ذلك.

 فقالت المرأة ضاحكة:

-       ماذا تنتظر مِنّا يا سيّدي؟ .. نحن نفعل ما في مقدورنا .. وليس جميع الناس على علمٍ بأسرار وسائل أسرة "بورجيـا" وأسرة "مديتشي" (أسرتان من الطبقة الحاكمة الأرستقراطيّة الإقطاعيّة).

فأجاب الكونت وهو يهز كتفيْه:

-       هل تبغين أن أذكر لكِ سبب هذه الحماقات؟ ... إنها مسارحكم التي أَلِفَ النَظَّارة (الناظرين) فيها أن يروا الممِّثـل يجرع محتویات قارورةٍ بأكملها فيسقط ميّتاً على الفوْر .. وبعد خمس دقائقٍ يُسدَل الستار ويتفرَّق المتفرِّجون دون أن يفكِّروا فيما يحدث عادةً في مثل ذلك الحادث من حضور مُفتِّشي المباحث واستجوابهم المتهم ثم الاقتصاص منه .. وهذه الروايات غير المتقنة تؤثِّر في ذوي العقليّات الضعيفة فيتوهَّمون أن الأمور تجري على هذا المنوال .. ولكن ابتعدي عن "فرنسا" وتوغَّلي جنوباً إلى "حلب" أو "القاهرة" أو حتى إلى "نابولي" و"روما" فلسوف تجدين هناك أُناساً يمرّون بجانبك في الطريق منتصبي القامة باسمي الثغور متورِّدي الوجوه .. ولكن لو رآهم "أسموديوس" (اسم شيْطان في التوْراه) لقال على الفوْر: "هذا الرجل قد دُسَّ له السُم منذ ثلاثة أسابيع وسوف يموت بعد شهر".

وهنا سألته مدام "دي فيلفور":

-       إذن فقد اكتشفوا مرّةً أخرى أسرار عِلم السوائل والسموم الذي قيل أنه فُقِدَ في "بيروجيا"؟

فقال:

-       نعم یا سیّدتي .. وهل تفقد البشريّة يوْماً شيئاً؟ .. أن السموم تُحدِث أثرها بصفة خاصّة في عضوٍ من الجسم دون آخر .. فهناك سُمٌ يُسَبِّب سُعالاً مثلاً .. والسعال يُحدِث التهاباً في الرئتيْن أو شيئاً من هذه الأمراض المميتة المنصوص عليها في كتب الطب .. وهي - وإن لم تكن مميتةً بطبيعتها - فإن الأطباء الأغبياء - الذين هم عادةً جهلةٌ بالكيمياء - کفیلون بأن يُزيدوا الداء استفحالاً .. ثم يموت المريض الذي قُتِل ببراعةٍ وفن .. دون أن يصل إلى علم العدالة شيءٌ عن الجريمة.

فقالت الزوجة الشابّة وقد أجلسها الانتباه جامدةً في مكانها بلا حراك:

-       هذا أمرٌ مخيفٌ جِدّاً .. لكنه شائقٌ في الوقت ذاته .. وأعترف بأنی کنت أحسب هذه الأقاصيص من ابتداع القرون الوسطى.

فقال الكونت:

-       إنها لكذلك حقّاً .. ولكن تحسيناتٍ كثيرةً أُدخِلت عليها في عصرنا الحاضر .. فما جـدوى الزمن بل ما جـدوى مكافآت التفوُّق والأوْسمة والنياشين والجرائد العلميّة إذا هي لم تأخذ بيد المجتمع نحو الكمال؟ .. على أن الانسان لم يبلغ درجة الكمال المُطلق حتى يتعلَّم كيف يخلق ويهلك .. وهو الآن يعرف بالفعل كيف يهلك فقط .. وهذه نصف المعركة.

وهنا بدا على مدام "دي فيلفور" الانهماك في التفكير، ثم قالت:

-       إنه لمن حُسن الحظ أن تلك المواد لا توجد ولا تُرَكَّب إلّا عند الكيميائيّين .. وإلّا لقتل الناس جميعاً بعضهم بعضاً بالسُم.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent