خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (5) عاصفةٌ في البحر


سفينة شراعية قديمة تغرق في مياه البحر بعد أن هاجمتها عاصفة

(5) عاصفةٌ في البحر

 

 

انتصف الليل، وآوی أغلب رُكّاب السفينة إلى قُمراتهم إلّا أعرابيّا قوي الجسم اسمه "محمد" وقف بجانب الدَفّة، يُحرِّكها مُسترشِداً بالنجوم.

وفجأة، برز من جوْف البحر خطٌّ ضئيلٌ لا يكاد يُرى على مبعدة ثلاثة أميال، وكان هذا الخط شـاطئ وسط "أفريقيا" وفيما كنا نرقب الطبيعة الساحرة؛ إذ مزَّق السكون صوْتٌ مُروِّع صادرٌ من ناحية الشاطئ .. فرفع الأعرابي يده مشيراً إلى مصدر الصوْت وقال:

-       هذا أسد.

وتكرَّر الزئير فارتعدت أوصالنا جميعاً، وقلت لـ"ليو":

-       ينبغي أن نبحث غداً صباحاً عن الصخرة التي تُشبِه رأس الزنجي لنبدأ بالصيْد.

فابتسم "ليو" وأخرج غليونه من فمه، ثم أجاب:

-       بل لنبدأ بالبحث عن أطلال المدينة المُخرَّبة و"عامود الحياة الدائر".

-       حديث خُرافة .. لقد سمعتك تتحدَّث إلى الأعرابي اليوْم بلغته .. فماذا قال لك؟ .. إنه قضى معظم حيـاته في الاتجار بالرقيق في هذه البقاع وشاهد الصخرة الغريبة ولا ريْب .. فهل يعرف شيئاً عن المدينة المُخرَّبة أو المغاور والكهوف؟

-       لا .. لقد قال أن الأراضي الداخليّة ملأى بالمستنقعات .. وتكثر فيها الأفاعي والوحوش .. وأنها خالية من السُكّان.

-       هذا صحیح .. وكذلك تكثُر فيها الأمراض .. وإني لعلى ثقةٍ من أننا لو أطلعنا أحداً ممَّن يرافقوننا في هـذه الرحلة على الحقيقة لرمونا بالجنون .. فخيْر لنا أن نعود أدراجنا إلى "إنجلترا" على أن نقذف بأنفسنا بين الوحوش والسفّاكين.

-       رويْدك يا عمّاه .. لقد قَرَّ رأیی علی إتمام هذه الرحلة .. ولن أعدِل عن هذا الرأي مهما كانت الظروف .. أنظر .. ما هذه السحابة؟!

وأشار إلى بقعةٍ سوْداء على مبعدة بِضعة أميالٍ من مؤخِّرة السفينة، فأجبته:

-       اذهب وسَل الرجل الواقف عند الدَفّة.

فأطاع، ولم يلبث أن عاد وقال:

-       يقول أنها زوْبعة .. ولكنها ستمر بعيداً عَنّا.

وأقبل "جوب" في تلك اللحظة وهو يرتدي ملابس الصيْد، وترتسم على وجهه أمارات القلق وقال:

-       أرى من الأوْفق أن أنام داخل الزوْرق الصغير في مؤخِّرة السفينة حيث توجد بنادقنا وأمتعتنا لأتولّى حراسته بما فيه .. فإنني لا أستطيع احتمال نظرات هؤلاء السود التي تُشبِه نظرات اللصوص .. لنفرض أن أحدهم تسلَّل إلى الزوْرق وقطع الحبل الذي يشدّه إلى السفينة فماذا يكون حالنا؟!

أعجبني اقتراح "جوب" فقد كنا نعتز بهذا الزوْرق الذي صنعناه في "إنجلترا" خصّيصاً للتجوال في الفجوات الضيّقة التي يمتاز بها الشاطئ الأفريقي، حيث كان لهذا الزوْرق حافظاتٌ هوائيّةٌ مبنيّةٌ فيه ومن شأنها أن تجعله طافياً حتى إذا امتلأ من الداخل بالماء ،وكنا قد وضعناه على صفحة الماء خلف السفينة وربطناه بحبلٍ متينٍ بخلفيّتها لتجرّه ورائها أثناء تلك الرحلة البحريّة، فقلت لـ"جوب":

-       ليكُن ما تشاء يا "جوب".

ثم تعاونّا في شد الحبل الواصل بين السفينة والزوْرق فجذبناه حتى حاذي السفينة، فقفز "جوب " إلى داخله، وسقط بين الأمتعة كما لو كان جوالاً من البطاطس، وأمّا أنا و"ليو" فعدنا إلى أماكننا وجلسنا حوالي الساعة ثم غلب علينا النعاس فنمنا.

ولا أذكر شيئاً بعد ذلك سوى أنني استيقظت فجأةً على زئير الرياح ورشاش ماء المحيط وهو يضرب وجوهنا بقسوة، ورأيت الرجال يحاولون إنزال الشراع لكنهم أخفقوا ،فانبعثت واقفاً وتعلَّقت بأحد الحبال وكان الجوْ مُظلِماً من ناحية المؤخِّرة ولكن القمر كان ينير لنـا السبيل من ناحية المقدِّمة، ثم لم ألبث أن رأيْت موْجـةً جبّارةً مُقبِلةً نحونا بسرعةٍ هائلة وأشعة القمـر الفضيّة تنعكس على قـِمَّتها المُغطّاة بالزَبَد، وجاءت مياه الموْجة مندفعةً إلى الأمام بقوّةٍ فأغرقت كل شيءٍ على سطح السفينة، وبعد أن مرّت تلك الموْجة العملاقة رأيْت صاري السفينة ينكسر وشراع السفينة يطير بعيداً كأنه سحابةٌ تدفعها الريح، ومالت السفينة للخلف بشِدَّة آخذةً في الغرق، حينئذٍ سمعت "جوب" يناديني وهو متشبّثٌ بسور الزوْرق صارخاً:

-       تعالَ إلى الزوْرق .. اقفز بسُرعة.

غاص قلبي بين جنبيَّ في تلك اللحظة فقد غمرني الماء حتى خصري، وبدأت السفينة تغوص ببطءٍ إلى قاع المحيط، وكان الزوْرق يترنَّح بقوّةٍ تبعاً لاهتزاز السفينة، ثم رأيت "محمداً" الأعرابي يقفز إلى القارب، فجذبت الحبل الذي يشدّه إلى السفينة بكل قوّتي إلى أن اقترب الزوْرق مني فوثبتُ إليه وتلقّاني "جوب" بين ذراعيْه، وأسرع "محمد" فقطع بمطواته الحبل الذي يربط الزوْرق بالسفينة حتى لا تشد الزوْرق معها إلى الأعماق، وما هي إلّا لحظاتٌ حتى ابتلع اليَم السفينة بالكامل، وبعد هُنيْهة كان الزوْرق يسير بنا مُبتعِداً عن الزوْبعة.

وبعد أن تمالكت أعصابي صرخت فجأة:

-       یا إلهي .. أين "ليو"؟! .. "ليو" .. "ليو".

فصاح "جوب" في أُذُني - وكان صياحه كهمسٍ خفيفٍ لشِدَّة هبوب الزوْبعة – قائلاً في حُزن:

-       لقد ذهب ياسيّدي .. فليساعده الله.

فضربت كفّاً بكفٍ في يأسٍ وقنوط فقد مات "ليو" وبقيت أنا حيّاً أندبه، وهتف "جوب":

-       حذارِ ياسيّدي .. فقد أقبلت موْجةٌ أُخرى.

أدرت عيْني فرأيت موجةً هائلةً قادمةً نحونا فتمنيْت لو أغرقتنا.

ولمّا راقبت الموْجة باهتمام - وكان القمر قد اختفى ولم يبقَ إلّا ضوْءٌ ضئيل - رأيْت فوق قِمَّتها جسماً داكناً معتماً لم يلبث أن اقترب منا، فممدت ذراعي نحو هذ الجسم بدافعٍ خفيٍ لم أدرِ كنهه، وعندئذٍ شعرت بشيءٍ يقبض على يدي بعنف، وعلى الرغم من قوَّة بنيتي وساعديَّ فقد شعرت في تلك اللحظة بأن ذراعيَّ تكادان تنفصلان عن جسدي بسبب ثقل الجسم الطافي، ولو قد استمرَّت زوْبعة هذه الموْجة لحظةً أخرى لأفلت ذلك الجسم من يديَّ أو لسقطت أنا في اليم، بيْد أن الموْجة مرَّت بعد أن غمرت المياه الزوْرق إلى منتصفه، وصاح "جوب":

-       انزح الماء .. انزح الماء.

بيْد أنني لم آبه له؛ إذ كنت منصرفاً إلى انتشال الجسم بمعاونة الأعرابي، وقد نجحنا أخيراً في إخراجه من الماء ومددناه في الزورق.

وفي تلك الأثناء تبدَّد الظلام قليلاً  فتفرّست في وجه ذلك الغريق، ولشد ما كانت دهشتي وفرحي حين عرفت فيه أنه "ليو"، وصرخ "جوب":  

-       انزحوا الماء .. انزحوا الماء.  

فتناول كلٌ مِنّا وعاءً وأخذنا ننزح الماء لإنقـاد أرواحنا، وكانت الزوْبعة تزأر من حوْلنا وتتلاعب بالزوْرق، ولكننا لم نأبه لها وانصرفنا إلى عملنا حتى أمكننا أن ننزح الماء بعد خمس دقائق.

لكن وا أسفاه، طغت علينا في تلك اللحظـة أمواجٌ أُخرى أشد هوْلاً من الأولى، ولكن "محمـداً" استطاع أن يتغلَّب عليها جميعاً بفضل خبرته الواسعة ومعرفته بأحوال تلك البقاع الغريبة.

طلع القمر ثانيةً، فرأينا على ضوئه رأسا صخريّاً داخلاً في البحر إلى مسافة نصف ميلٍ أو أکثر وينتهي بأكَمَةٍ غريبة الشكل لا تبعد عنا أكثر من ميلٍ واحد.

فتح "ليو" عْينيْه في تلك الأثناء، وشرع يهذي بكلامٍ غير مفهوم، فأمرته أن يُغمِض عيْنيْه ويلزم الصمت، فأطاع دون أن يُدرِك دِقّة موقفنا، وأمّا نحن فانصرفنـا إلى الابتهال والصلاة لعل الله يُنقِذنا من تلك الورطة المؤلمة، وكان الإعياء قد بلغ منا كل مبلغٍ فلم نستطِع التحرُّك، إلّا "محمداً" فإنه ظل يُحرِّك الدَفّة والزوْرق يسير بنا حوْل الصخرة التي مر ذِكرها.

والتف الزوْرق حوْل الصخرة يدفعه التيار إلى أن قلّت سرعته فجأة ثم وقف تماماً، إذ كنا قد بلغنا منطقة المياه الراكدة.

وهدأت الزوْبعة، وانقشعت الغُيوم، وصفا الجوْ، فألفيْنا أنفسنا عند مصب نهرٍ كبير فولجناه، ثم سِرنا فيه بهدوءٍ وسلام، وكان "ليو" نائماً نوْماً عميقاً فرأيت من الحكمة ألّا أوقظه خشية أن يُؤثِّر ذلك في أعصابه، وآثرت أن أترکه بثيابه المُبتلَّة حتى يستيْقظ من تلقاء نفسه فلم تكُن لديْنا ثيابٌ جافّة.

وهكذا قضت الزوْبعة على رُكّاب السفينة جميعاً إلا نحن الأربعة .

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent