خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (4) فتح الصندوق الحديدي


شعب من الزنوج الأفارقة يرتدون أقنعة ملونة ويرقصون

(4) فتح الصندوق الحديدي

 


استعدنا الصندوق الحديدي من المصرف في اليوم السابق لليوْم المُـحَدَّد لفتحه، وعقب إفطارنا في صباح اليوْم التالي جاءنا الخادم "جوب" بالصندوق، ووضعه فوق النضد ثم استدار للانصراف، فاستوْقفته قائلاً:

-       مهلاً لحظةً يا "جوب" .. إني أُفضِّل أن تبقى شاهِداً على ما سيحدث .. إذا لم يضر ذلك مستر "ليو".

فقال "ليو":

-       ليكُن ما تشاء يا عمّاه.

قُلت:

-       أوْصِد الباب بالمفتاح يا "جوب" .. وهات صندوقي.

فامتثل الخادم، وأخرجت المفاتيح الثلاثة - التي أعطانيها "فنسي" ليْلة وفاته - من الصندوق، وكان أحدها عاديّاً، والثاني قديماً، والثالث غريب الهيْئة، إذ كان مصنوعاً من الفضّة على شكل مفاتيح قُضبـان السِكك الحديديّة.

وتحوَّلت إلى رفيقيَّ وقُلت:

-       هل أنتما على استعداد؟

فلم يُجيبا، فتناولت أكبر المفاتيح بيدٍ مُرتجِفةٍ وعالجت القُفل حتى فتح، فوجدنا بداخله صندوقا آخر أخرجناه وأزلنا ما علق به من غُبار، وكان هذا الصندوق من خشب الأبنوس الأسود، ورفعت الغطاء، فلم تلبث أن أفلتت من شفاهنا جميعاً صيْحات الدهشة؛ إذ رأيْنا بداخل هذا الصندوق علبةً كبيرةً من الفضّة طولها اثنا عشر قيراطاً وارتفاعها ثمانية قراريط، ولا ريْب أنها كانت من صُنع قدماء المصريّين، فقد كانت قوائمها الأربع على شكل "أبي الهول"، وفوْق غطائها المُقوَّس تمثالٌ صغيرٌ لـ"أبي الهول" أيضاً.

رفعت العُلبة من مكانها ووضعتها على المنضدة ثم أولجت المفتاح الغريب في ثقب القُفل وأدرته ففتح، وإذا بداخلها مادّةٌ خيْطيّةٌ أشبه بأوْراق الأشجار الجافّة إلى حدٍ ما، فأخرجتها بحذرٍ تام، وحينئذٍ عثرت على مظروفٍ عاديٍ كُتِب عليه العنوان التالي بخط صدیقي نفسه:

[[[إلى ابني الحبيب "ليو" إذا قُدِّر له أن يعيش حتى يفتح هذه العُلبة]]]

قدَّمت الرسالة إلى "ليو" فنظر إلى المظروف ثم ألقاه فوق النضد، وأشار إلىَّ أنِ استأنِف إخراج محتويات العُلبة ففعلت، وعثرت على قطعةٍ من الجلدٍ الرقيق طُـوي بعنايةٍ شديدة ففضضته، وألفيْته مكتوباً بخط "فنسي" أيضاً، وفي أعلاه ما يأتي:

[[[ترجمة الكتابة اليونانيـّة المنقوشة على قطعة الخزف]]]

فوضعتها جانباً، ثم أخرجت حزمة أخرى من الجلد الأصفر وفضضتها، فإذا بها تتضمَّن ترجمة نفس الكتابة اليونانية المنقوشة على الخزف ولكن إلى اللاتينيّة هذه المرّة، وقد أوْحى إليَّ شكل هذه اللفافات الجلديّة بأنها قد كُتِبت في صدر القرن السادس عشر تقريبا.ً

كان تحت هذه الحزمة مباشرةً جسمٌ صلبٌ ثقيلٌ ملفوفٌ بخِرقةٍ بالية من الكِتّان، فأخرجت هذا الجسم من مكانه بكل عنايةٍ وحذر، وإذا بها قطعةٌ من الخزف صفراء اللوْن، طولها عشرة قراريط ونصف وعرضها سبعة قراريط وسُمكها رُبع قيراط، وهي مكتوبةٌ بالخط اليوناني القديم في سطورٍ ضيّقةٍ رفيعةٍ زالت بعض كلماتها، ولكن ذلك لم يؤثِّر في إمکان قراءتها.

وقد لفت نظري أثر لحامٍ بالأسمنت عنـد منتصف القطعة ممّا دَلَّني على أنها كانت قد كُسِرت في يوْمٍ من الأيّام، على أن النقوش المتعدَّدة التي رأيْتها في جوْفها استرعت نظري بصفةٍ خاصّة وجعلتني أعتقد أنهـا سُطِرت بمعرفة قوْمٍ مُختلِفين في أزمنةٍ مُختلِفة.

حينذاك همس "ليو" في انفعال:

-       هل من شيءٍ آخر؟

كان هناك كيسٌ من الكِتّان يحتوى جسميْن صلبيْن صغيريْن نُقِش على أحدهما بالهيروغليفيّة ما معنـاه "سوتین – رع" أي بمعنى "ابن الشمس"، وكان الجسم الثاني صورة أم "ليو" اليونانيّة، وهي امرأةٌ جميلةٌ ذات عيْنيْن سوْداويْن، وقد دوَّن "فنسي" المسكين على ظهرها هذه العبـارة "زوْجتي المحبوبة".

تحوَّلت إلى "ليو" وقلت:

-       لا شيْء غير ذلك.

فوضع "ليو" الصورة فوق النضد، وكان ينظر إليهـا بحنانٍ وعطف، وقال:

-       حسناً .. لنبدأ الآن بقراءة الرسالة.

ثم فض المظروف، وقرأ علينا ما يلي بصوْتٍ مرتفع:

[[[ولدي العزيز:

عندما تفض هذا المظروف - إذا قُدِّر لك أن تعيش لتفعل ذلك - تكون قد بلغت مبلغ الرجال، أمّا أنا فأكون قد قضيْت وبِت نسياً منسيّاً، لكن تذكَّر وأنت تقرأ هذه الرسالة أنني - بواسطة المداد والورق - أبسط إليك يدي من وراء هاوية الموْت ويخاطبك صوْتي من جوْف القبر الرهيب، وإني - وإن كنت قد مُت ولم يبقَ في ذِهنك شيءٌ من ذكرياتي - فإنني معك في هـذه اللحظة التي تقرأ فيها رسالتي.

منذ ولادتك ألى هذا اليوْم لم أرَ وجهك الجميل، فاصفح عني فقد قضت حياتك على حياة مَن أحببتها حُبـّاً مَلَكَ عليَّ شغاف قلبي، ولو أطال الله في أجلي لتغلَّبت على هذا الشعور المُنطوي على الحماقة، لكن مثلي لم يُخلَق ليعيش طويلاً، فإن متـاعبي وآلامي العقليّة والجسمانية أثقل من أن أستطيع حملها، ولذا عوَّلت على أن أضع حدّاً لهذه الآلام إذا ما نجحت في إتمام الترتيبات اللازمة كي أضمن لك السعادة، وليغفر لى الله إذا اقترفت إثماً فإنني لن أعيش أكثر من عامٍ واحد....]]]

فهتفت مقاطِعاً:

-       أکبر ظنّي أنه انتحر.

فلم يُجِب "ليو"، ولكنه استأنف قراءة الرسالة:

[[[....كفاني الآن حديثاً عن نفسي، إذ يجب أن أتحدَّث عنك، لأنك لا تزال على قيْد الحياة، أمّا أنا فقد طواني الموْت وانتقلت إلى عالم النسيان.

لا ريْب أن صديقي "هولي" الذي سأجعله وصيّاً عليك - إذا قَبِل - قد أفضى إليك بشيءٍ من تاريخ أُسرتك القديم، وستجد داخل هذه العُلبة ما يكفي لإثبـات ذلك التاريخ، وقد أعطاني أبي وهو على فراش الموْت قطعةً من الخزف التي سجلت جدّتك الأولى عليها قصّتها الغريبة، فأثَّرت في ذِهني تأثيراً عجيباً، وحاولت أن أستجلي غموضها وأنا في التاسعة عشرة، كما حاول أحد أجـدادنا أيضاً إبّان حُكم الملكة "اليصابات"، ولست بمستطيعٍ الآن أن أسرد عليك تفاصيل ما أصابني، لكن يكفي أن أُقرِّر أنني شاهدت صخرةً تُشبِه رأس زنجيٍ على شاطئ "أفريقيا" - لم تُكتَشَف بعد - على مبعدةٍ من شمال مصب نهر "الزمبيزي"، وهذه الصخرة تُشبِه تمام الشبه تلك التي جاء ذِكرها في الأوراق القديمة، وقد نزلت إلى البر في تلك البقعة وعلمت من أحد الوطنيّين الجوَّالين - الذين نفاهم مواطنوهم لجرائمٍ اقترفوها - أن في الأراضي الداخلية جبالاً سامقة (شاهقة) على هيْئة أوْعية، وكهوفاً تُحيط بها مستنقعاتٌ لا حد لها.

كما علمت أيضاً أن السُكّان هناك يتكلّمون اللغة العربيّة وتحكمهم امرأةٌ بيضاء جميلة، لا يروْنها إلّا لماماً (نادراً)، ولكنها تحظى بسُلطةٍ واسعةٍ تشمل الأحيـاء والأموات معاً.

وبعد أن تحقَّقت من صحّة أقواله بيوميْن مات الرجل، وكان قد تعهَّد بُمرافقتي فلم أجد مندوحةً من العوْدة لقِلَّة المؤن ولإصابتي بمرضٍ ألزمني الفراش فيما بعد.

وقد لاقيْت في عوْدتي أهوالاً شداداً، إذ جنحت بي السفينة على شاطئ جزيرة "مدغشقر"، وأنقذتني إحدى السُفُن الإنجليزيّة بعد عِدّة شهور، ونقلتني إلى "عدن"، ومنها أتيْتُ إلى "إنجلترا" وفي نيّتي مواصلة البحث بعد أن أعيد ترتيب أوراقي وأعد العدة لرحلةٍ أخرى، على أنني عرجت في طريقي على "اليونان"، وفيها التقيت بأُمّك المحبوبة وتحابيْنا، وارتبطنا برباطةٍ زوْجيّة، ولكن وا أسفاه؛ فقد ماتتت أُمّك عقب ولادتك، ثم أصابني مرضي الأخير، فعُدت إلى هنا لأموت، بيْد أنني لم أقطع الأمل، فتعلَّمت اللغة العربيّة، وقـد حزمت أمري على العودة الى شاطيء "أفريقيا" إذا تحسَّنت صحّتي لأحِل اللُغز المُغلَق الذي فشل أفراد أُسرتنا في إماطة اللثام عنه عبر العصور، ولكن صـحّتي زادت سوءاً، فانتهت  المسألة عند ذلك بالنسبة لي، ولكنها لم تنتِه بالنسبة إليك، وهأنذا أعهد إليك بنتيجة أبحاثي مع البراهين التاريخيّة عن مصدرها.

وقد رأيْت ألّا تصلك هذه البراهين إلّا وأنت في سِنٍّ تستطيع فيها أن تختار بين البحث في أمرٍ إذا صَحَّ كان أعظم سِرٍّ في العالم، أو نبذه كأسطورةٍ اخترعها ذِهن مُضطرِب لامرأةٍ مكلومة، على أنني لا اعتقد إنها كذلك، إنما أعتقد أنه إذا أمكن معرفة سِرّها - أي الأسطورة - سَهُلَ الوصول إلى حيث توجد القوّة الحيويّة للعالم، إذ لمّا كانت الحياة موجودةً فعلاً؛ فلماذا لا توجد كذلك الوسائل اللازمة لصيانتها إلى أجلٍ غير مُسمَّى؟!

مهما يكُن من أمرك وقارك فلا رغبةٌ عندي في التأثير عليك، فاقرأ واحكُم نبفسك، فإن شِئتَ في النهاية أن تقوم بالمهمّة فقد زوَّدتك بما أنت في حاجةٍ إليه من الوثائق، أمّا إذا أخذت القصّة على أنها أسطورة فأوصيك أن تعدِم قطعة الخزف والكتابات المُرفَقة بها حتى تستريح أُسرتنا من هذا الأمر إلى الأبد.

فاختَر يا بُنيَّ لنفسك ماتشاء، ولتحفظك تلك القوّة التي تُسيْطِر على الجميع ولتُرشِدك إلى سعادتك وسعادة العالم.]]]

وبهذا انتهت الرسالة دون تاريـخٍ أو توقيع.

وضع "ليو" الرسالة على المنضدة وهو يلهث، ثم قال:

-       ما رأيك أيّها العم "هولي" .. ها نحن أولاء قد عثرنا على اللُغز الذي سعيْنا إليه.

فأجبت:

-       أترید رأيي؟ .. ليكُن .. لقد ركب أبوك متن الشطط ولا ريْب .. وقد كان هذا رأيي فيه منذ عشرين عاماً عندما جاء إلى غُرفتي .. ولا يخالجني الشك الآن في أنه
قضى على نفسه .. وهذا جنونٌ محض.

فقال "جوب" مُعقِّباً:

-       أصبت یا سیّدي.

فالتقط "ليو" الترجمة التي كتبها أبوه، وقال:

-       لننظر الآن فيما جاء بقطعة الخزف.

وقرأ علينا ما يلي:

[[[أنا "أمنارتس" من البيْت الملكي في "مصر" وزوْجة "كاليكراتس" (الجميل ذو البأس) وهو أحد كهنة المعبودة "إيزيس"، أقول لابني الصغير "فينسينيس" "المُنتقِم الجبّار" وأنا على وشك الموْت أنني هربت مع أبيه من "مصر" في عهد الملك "نختافيس"، بعد أن دفعه حُبّه لي إلى التنكُّر لعهود الرهبنة التي قطعها على نفسه، فأوْغلنا صوْب الجنوب وعبرنا المياه، وتجوَّلنا عاميْن على شاطئ "أفريقيا" المواجه للشمس عند مشرِقها حيث توجد صخرةٌ كبيرة تُشبِه رأس زنجيٍ ضخم بجانب النهر العظیم وقد قذفتنا المياه على مسيرة أربعة أيّامٍ من مصب هذا النهر، فغرق بعضنا، وقضت الأمراض على البعض الآخر، وأمّا نحن فقد قبض علينا قوْمٌ زنوجٌ متوَحِّشون، وحملونا كَرْها معهم واجتازوا بنا صحاری ومرتفعات، وظلّوا يضربون في بطن الأرض عشرة أيّامٍ حتى بلغنا جبلاً مُجوَّفاً شُيِّدَت بمداخله مدينةٌ تهدَّمت، بها كهوفٌ ومغائر (جمع مغارة) لم تكتحل عيْنا أحدٍ برؤية نهايتها، وهناك قدَّمونا إلى ملكتهم الحاكمة، وهي ساحرةٌ تعرف كل شيْء، وتتمتَّع بجمالٍ وحيويّةٍ لا يفنيان بل خالدتان خلود الدهر، فلما وقع بصرها على أبيك أحبّته وأرادت التُخلُّص مني لتستخلِصه لنفسها وتتزوّجه، ولكنه كان يهيم بي حُبّاً فلم يُذعِن لإرادتها.

وأخيراً؛ ساقتنا بوسـائلٍ سحريّةٍ مُروِّعةٍ إلى الهاوية السحيقة التي وضعت جُثّة أحد الفلاسفة عند مدخلها، وأرَتنا "عامود الحياة الدائر" سر الخلود والذي يُشبِه صوْته صوْت الرعد، ثم دخلت فيه وتوسَّطت النيران فلم يمسسها أذى، وبعد بُرهةٍ خرجت من بين اللهب سالمةً وقد ازدادت قوّةً وفِتنةً وخلوداً، ثم أقسمت أن تسمح لأبيك بالدخول في نار "عامود الحياة" لتجعله في مأمنٍ من الموْت مثلها إذا قتلني ووهبها نفسه حيث أنها لم تسطِع قتلي بسحرها إذ كنت أقوى منها سحراً، بيْد أن أبيك أبي أن يُذعِن أيضـاً، وغطَّى عيْنيْه بيديْه، فاستشاطت غضباً وسلَّطت عليه سحرها فقتلته في الحال بعد أن تملّكتها نوْبة غضبٍ سريعة، ولكنها ثابت لرشدها  فجأة بعد أن سبق السيْف العَذَل فجلست بجوار جثمانه تبكي عليه طويلاً، وحملته وهي تعول (تُكثِر من النواح والعويل)، ولمّا كانت تهابني فإنها أرسلتني إلى مصب النهر العظيم حيث حملتني إحدى السُفُن إلى مكانٍ سحيق، وهُناك ولدتك يا "فينسينيس"، وبعد التجوُّل في عدّة بلدانٍ مجهولة وصلت إلى "أثينا".

يا بُني: ابحث عن هذه المرأة ، وتعلّم سِر الحياة، وإذا استطعت فاقتلها انتقاماً لأبيك "كاليكراتس"، أمّا إذا تقاعست - جُبناً منك أو عجزاً - فليقُم بإتمام هذا الواجب المُقدَّس أيُّ ممَّن يجيئون بعدك من سلالتك، فليغتسل بنيران الخلود ويرتقي عرش الفراعنة.

ربما يخطر ببالك أن ما أُحدِّثك عنه من باب الأساطير والخرافات، ولكنني أؤكِّد لك أنها حقائقٌ ثابتةٌ لا أثر للكذب أو الاختلاق فيها.]]]

وكان "جوب" يُصغي إلى تلك القصّة الخارقة وهـو مأخود، فلم يلبث أن صـاح:

-       عفا الله عنها.

وأمّا أنا فلذُتُ بالصمت، وخطر لي بادئ الأمر أن صديقي المسكين "فنسي" اخترع القصّة كلها عندما فقد وعيه، ولو أني كنت واثقاً أن أی إنسانٍ يعجز عن اختراع مثل هذه القصّة المُدهِشة، ولكى أُزيل هواجسي وريبتي التقطت قطعة الخزف، وشرعت أقرأ الكتابة اليونانيّة المُسطَّرة فوقها فألفيتها بخطٍّ جميلٍ قديم ولهجـةٍ صحيحةٍ بالنسبة لأميرةٍ مصريّةٍ من بيْت فرعوْن، أمّا الترجمة اللاتينيّة والإنجليزيّة فقد كانت دقيقةً إلى أقصى حد،

قلَّبتُ قطعة الخزف في يدي وقد زادت حيرتي، فوقع بصري على توْقيعاتٍ وملاحظاتٍ كُتِبَتْ باللغة اليونانيّة واللاتينيّة والإنجليزيّة، ومن بينها العبارة التالية موقَّعاً عليها بإمضاء "فينسينيس" ومكتوبةً باللغة اليونانيّة القديمة:

[[[لم أستطِع الذهاب ... من "فينسينيس" إلى ابنه "كاليكراتس الثاني"]]]

وأمّا :كاليكراتس الثاني" فقد سجَّل العبارة التاليـة باليونانيّة القديمة أيضاً بعد أن حاول إتمام المهمّـة ففشل:

[[[لم أستطِع لأن الآلهة قاومتني ... من "كاليكراتس الثاني" إلى ابنه]]]

وهكذا كان أفراد العائلة يتوارثون هذه المهمّة الشاقّة من جيلٍ إلى آخر وقد تلت ذلك قائمةٌ بأسماء كثيرين سجَّلوا أسماءهم بالخط الروماني ممّا يدل على أن الأُسرة هاجرت إلى "روما"، ويعقب ذلك قائمةٌ أُخـرى مكتوبةٌ بالإنجليزيّة وجميعها يحمل لقب "فنسي".

كل هذه الأسانيد التاريخيّة القاطعة جعلتني أُجزِم بأن القصّة حقيقيّةٌ لا غُبار عليها رغم غرابتها وشذوذها.

وإذ فرغت من فحص هذه النقوش العجيبة تحوَّلت إلى "ليو"، وقلت:

-       هذه هي كل القصّة يا "ليو" .. فكوِّن رأيك عنها .. أمّا أنا فقد كوَّنته.

فأسرع "ليو" يقول:

-       وما هو؟

-       أرى أن ما جاء بقطعة الخزف صحيح .. وأن هذه القِطعة في حوْزة أُسرتك منذ القرن الرابع قبل الميلاد .. ولا أدل على ذلك من النقوش التي في بطنها .. فيجب قبول الحقيقة على عِلّاتها.

فسأل "ليو":

-       وما رأيك فيما ذكره أبي عمـّا رآه وسمعه هناك؟

-       ذلك من قبيل الصُدَف .. إذ لا ريْب في أن الشاطيء الأفريقي مزدحمٌ بالصخور التي تُشبه رأس إنسان .. كما أن كثيرين من سُكّان القارّة يتكلّمون لغةً عربيّةً غير صحيحة .. ويؤسفني أن أُقرِّر أن أباك لم يكن يتمتع بكامل قواه العقلية عندما كتب هذه الرسالة .. ولا ريْب عندي أن إيمانه العميق بهذه القصّة ملأ ذِهنه .. وهو بطبيعته رجلٌ خیالي .. فجسَّمت له مُخيِّلته المُضطرِبة ما فيها من حقائق قد لا تعدو ما نراه كل يوم .. لكن مهما يكن؛ فإني لن أُصدِّق حتى أرى بعيْني تلك النيران المقدَّسة التي جاء ذكرها والتي تُمكِّن الإنسان من التخلُّص من الشيْخوخة والموْت ولو إلى حين.

وتحوَّلت إلى "جوب" وسألته:

-       ما رأيك يا "جوب"؟

-       إنها قصّةٌ مكذوبةٌ ياسيّدي .. وحتى إذا كانت صحيحة؛ أرجو ألّا يعيرها مستر "لیو" أي اهتمام .. إذ لا جدوى منها ولا خيْر من ورائها.

ثم قال "ليو" في لهجةٍ حازمة:

-       قد تكونان صادقيْن .. ولكنني حزمت أمرى على وضع حدٍ لهذه المشكلة إلى الأبد .. فإذا لم ترغبا في مُرافقتي فسأذهب وحدي.

أمعنت النظر في وجهه، فتميّزت أمارات العـزم والتصميم مرتسمةً عليه، وعندئذ تملَّكني الإعجاب برجولته وبطولته، وقرَّرت فيما بيني وبين نفسي أن أرافقه في رحلته.

استطرد "ليو" والحماسة تعلو قسماته (ملامحه وتقاطيعه):

-       نعم .. لقد قرَّرت الرحيل يا عمّاه .. فإذا لم أعثر على "عامود الحياة الدائر" فإنني على الأقـل سأجد المجال واسعاً لصيْد الوحوش في غابات "أفريقيا".

وحينئذٍ وجدت الفُرصة مناسِبةً للتدخُّل، فقلت:

-       الصيْد؟! .. حقّاً .. لم يخطر ذلك ببالي .. نعم .. إن "أفريقيا" قارّةٌ واسعةٌ مُكتظَّةٌ بالحيوانات والوحوش .. ولَعَمري أن الفرصة سانحة لكي نجرِّب مهاراتنا في إصابة الهدف .. فإذا كنتَ مُصمِّماً على السفر فسأرافقك إلى "أفريقيا" بكل ارتياح.

فقال الشاب:

-       حسناً تفعل .. لكن كيف السبيل للحصول على المال اللازم؟

-       لا تهتم بالمال .. فعندنا منه الشيء الكثير.

وهنا تدخَّل "جوب" في الحديث وأعرب عن رغبته في مرافقتنا، فأجبناه إلى طلبه لِما عهدناه فيه من أمانةٍ وإخلاص خلال العشرين عاماً الماضية.

وبعد ثلاثة أشهرٍ ركبنا البحر في طريقنا الى "زنزيبار". 

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent