خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (6) بعض الصدق في القصة


صخرة كبيرة على قمة هضبة على شكل إنسان

(6) بعض الصدق في القصة

 

 

 

طلع الفجر أخيراً، فجلست في الزوْرق أُصغي إلى حفيف الماء، وأرقُب قُرص الشمس وهو يظهر في الأفق رويْدا رويْداً، وسرعان ما أخذت عيناي الصخرة الغريبة أو الأَكَمَة التي تنتهي بالرأس الصخري، فرُحت أحدق فيها حتى نزلنا إلى الشاطئ، وسِرت نحوها وأنا ذاهل، فقد كان شكلها يُشبِه رأس زنجيٍ له وجهٌ مُخيف، كان المنظر غريباً فلم تُساوِرني الريْبة في أن هذا الرأس ليس من صُنع الطبيعة، وإنما من صُنع شعبٍ مجهولٍ نحته في الصخر رمزاً لقوّته وسخريةً من أعدائه، كما قصد قدماء المصريّين من صُنع "أبي الهوْل".

بیْد أنني لم استطِع التثبُّت من حقيقة الأمر لاستحالة وصولي إلى الصخرة برّاً أو بحراً، على أن الحقائق التي تكشفت لنا فيما بعد أثبتت أن هذا الرأس من صُنع الإنسان، وأنه قد انقضى عليه ألفا عامٍ وهو رابضٌ في مكانه ينظر إلى المحيط بعيْنيْه الجامدتيْن، وسيظل هكذا جيلاً بعد جيل.

وكان "جوب" جالساً على حافّة الزوْرق، فأشرت إلى رأس الزنجي وسألته:

-       ما رأيك في ذلك يا "جوب"؟

وللمرّة الأولى حوَّل "جوب" عيْنيْه إلى حيث أسير، ولم يلبث أن هتف:

-       یا إلهي! .. أكبر ظنّي أن هذا السيّد قضى طيلة حياته في انتظار المُصوِّر ليلتقط صورته.

فانفجرت ضاحكاً بصوْت عالٍ، فاستيقظ "ليو" على ضِحكي وصاح:

-       يا الله! .. ماذا دهاني؟! .. أشعر بالجمود يُسيْطِر على جميع أعضاء جسمي .. أین السفينة؟ .. إليَّ بكأسٍ من الخمر يا "جوب".

فقلت له:

-       شد ما يسرني أنك نجوْت من الموْت يا بُني .. لقد غرقت السفينة بمَن عليها إلّا نحن .. وأمّا أنت فقـد نجوْت من الموْت بمعجزة.

وطفقت أقص عليه ما لاقيْناه من أهوالٍ شدادٍ أثناء الليل، وأخيراً قال بصوْتٍ خافت:

-       يا للسماء! .. إن مجرِّد التفكير فيما تقول يُرسِل الذُعر إلى القلب.

وأقبل "جوب" بزجاجة خمرٍ في تلك اللحظة، فشربنا جميعاً كميّةً كبيرةً منها، وشعرنا بالدماء تتدفَّق في عروقنا بعد أن كاد يجمد، وأرسل "ليو" بصره إلى المحيط، ثم هتف:

-       آه!! .. هو ذا الرأس الذي جاء ذِكره في الكتابة العتيقة.

فقُلت:

-       نعم .. ها هو.

فقال بلهجةٍ جديّة:

-       إذن فالقصّة كلها حقيقيّة!

-       لست أرى ما يحملنا على هذا الاعتقاد .. فقد رآها أبوك من قبل وكنا نعلم أنها هنا .. ومن المُحتَمَل أن تكون هذه هي الصخرة نفسها التي ورد ذِكرها في الكتابة العتيقة .. ولكن ذلك لايدل على شيء.

فانفرجت شَفتا "ليو" عن ابتسامةٍ خفيفةٍ وقال:

-       إنك يهوديٌ مُكابِر أيّها العم "هولي" .. مَن يعِش يرَ.

-       أصبت یا بُني .. إننا سائرون الآن نحو مصب النهر .. أمسك المجداف يا "جوب" .. ودعنا نبحث عن مكانٍ لننزل فيه إلى البر ونُعسكِر هناك.

وأعملنا المجاديف في اليم، ولم تلبث أن هبَّت ريحٌ قويّة ساعدت الزوْرق على السيْر، وبعد قليلٍ وصلنا إلى مصب النهر، فأجَلنا البصر على شاطئه، فرأينا مستنقعاتٍ واسعةً وتماسيح ممدَّدةً فوْق الطمي كجذوع الأشجار، وعلى مبعدة ميلٍ إلى الأمام لمحنا أرضاً يابسة فجدَّفنا نحوها، ولم يمضِ وقتُ طويلٌ حتى بلغناها، فشدَدنا الزوْرق إلى جذع شجرةٍ على شاطئ النهر، ونزلنا إلى البر، وخلعنا ثيابنا وتركناها لتجفَّ في الشمس، ثم اغتسلنا في النهر وصعدنا إلى البر، فأفطرنا بشهيّة، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث بعض الوقت.

وأخيراً؛ فرغنا من تناول الطعام، فرُحنا نقلِّب الطرف فيما حوْلنا فألفيْنا أنفسنا في قطعة أرضٍ جافّة عرضها نحو مائتي ياردة وطولها نحو خمسمائة، يحيط بها النهر من ناحية وتُحيط بها مستنقعاتٌ تمتد إلى مدى البصر من النواحي الثلاث الأُخرى، وكانت هذه البقعة تمتد إلى مدى البصر من النواحي الثلاث الأخرى، كما كانت مرتفعةً فوق سطح النهر والمستنقعات بنحو خمسة وعشرين قدماً، ويُوحي شكلها بأنها من صُنع الإنسان.

هتف "ليو" بلهجة التوْكيد:

-       لقد كانت هذه البقعة رصيف ميناء .

-       حديث خرافة .. مَنذا الذي يبلغ به الجنون إلى حد أن يبني رصيفاً في بلادٍ كلّها مستنقعات وسُكّانها من المتوَحِّشين؟

ثم استدركت:

-       هذا إذا كان فيها سكان.

فقال ليو:

-       ربما لم تكُن هذه البلاد مملوءةً بالمستنقعات في الماضي .. وربما لم يكُن أهلها من المتوَحِّشين.

وأشار إلى شجرة مانجوليا اقتلعتها العاصفة مـن جذورها في الليْلة الماضية وقد اقتلعت معها جُزءاً من الأرض، ثم قال:

-       انظر هناك .. أليست هذه أحجار بناء؟

فقُلت للمرّة الثانية:

-       حديث خرافة.

وتقدَّمنا من الشجرة، ثم أنعمنا النظر في الحُفرة التي قُطِعَت منها فرأينا بها الأحجار وأثر الأسمنت، ووجدنا في قاعها حلقةً حجريّة، وعندئذٍ لُذْتُ بالصمت التام، في حين قال "ليو":

-       يُخيِّل أنه كان هنا رصيف ميناءٍ لرسو السُفُن الکبری .. أليس كذلك أيّها العم "هولي"؟

حاولت أن أُسَفِّه رأيه ثانيةً ولكن الكلمات انحبست في حلقي، فقد أفصحت الحلقة عن تاريخها بما لا يدع مجالاً للشك، وقلت لنفسي أنه من المُحتَمَل أن تكون المدينة التي كانت تنقل هذه السفائن تجارتها واقعةً وراء هذه المستنقعات.

قال "ليو":

-       يبدو أن في القصّة شيئاً من الحقيقة أيّهـا العم "هولي".

فلم أُجِب مباشرةً، وما كان في استطاعتي أن أُجيب بعد أن رأيْت هذه الأدِلَّة الساطعة التي تفقأ العيْن المُبصِرة، وأخيرا قُلت:

-       لا بُد أن تكون في الممالك الأفريقيّة آثار قومٍ ماتوا من زمنٍ بعيد .. فإن أحداً لا يستطيع أن يُحدِّد عُمر المدنيّة المصرية، ومن المُحتَمَل أنه كانت لها فروعٌ، ثم أن هناك الفينيقيّين والبابليّين والفُرس وغيرهم من الشعوب التي بلغت حَدَّاً كبيراً من الحضارة والرُقي، فمن المحتمل أنه كان لأحد هذه الشعوب مستعمراتٌ هنـا أو أسواقٌ للتجارة.

-       أصبت أيّها العم .. ولكنك لم تقُل ذلك من قبل.

فقلت مُغيِّراً مجرى الحديث:

-       حسناً .. والآن ماذا ستفعل؟

ولمّا لم يُجِب؛ سِرنا إلى حافّة المُستنقعات، وأطلن النظر إليها، ولكننا رأيْناها تمتد على مدى البصر وقد خيَّم فوقها الضباب وأخذت تتصاعد منها روائحٌ كريهة، فانثنيْت إلى رفاقي الثلاثة وقلت:

-       ثَـمّة أمران لا يقبلان الجدل: أوّلهما استحالة اجتياز هذه المستنقعات .. وثانيهما أننا إذا بقينا هُنـا لفتكت بنا الأوبئة .. فإمّا أن نعود إلى زوْرقنا لنبحث عن أحد المرافئ - وهو عملٌ محفوفٌ بالأخطار - وإما أن نسير في النهر.

فقال "ليو":

-       لقد حزمت رأيي على السيْر في النهر.

فتأوَّه "جوب" والأعرابي، أمّا أنا فقد مِلتُ إلى الأخذ برأی "لیو"، إذ أثارت رأس الزنجي ورصيف الميناء فى نفسي عوامل الفضول إلى حدٍّ مُعيَّن.

عُدنا إلى الزوْرق ونشرنا الشراع ثم انطلقنا في النهر تساعدنا ریحٌ مُعتدِلة، وكلّما وقع بصرنا على أحد الطيور البحريّة اصطدناه حتى تجمَّع لدينا عددٌ وافرٌ منها.

وانتصف النهار واشتدَّت حرارة الشمس إلى درجة لا تُطاق، وكانت الروائح الكريهة تتصاعد من المستنقعات فاضطررنا إلى تناول مقدارٍ من "الكينا" (نوع من المشروبات)، وبعد قليلٍ كفَّت الريح عن الهبوب فآثرنا الالتجاء إلى الشاطئ من وهج الشمس وقد رسوْنا تحت ظلال أشجارٍ تُشبِه أشجار الصفصاف حتى أذنت الشمس بالمغيب فـخفَّت آلامنا ومتاعبنا.

وقد اصطاد "ليو" وعلاً جميلاً جاء ليشرب من النهر، فعوَّلنا على البقاء في هذه البُقعة لنتخذ منه طعـاماً للعشاء، وإذ فرغنا من تناول الطعام حاولنا النوْم، ولكن عبثاً؛ فقد داهمتنا جيوشٌ هائلةٌ من البعوض أخذت تلدغنا بوحشيّةٍ حتى كدنا نفقد عقولنا، فاضطُرِرنا إلى الاحتماء بالأغطية من قـِمَّة الرأس الى إخمص القدم.

وفجأة؛ مزَّق السكون زئير أسدٍ أعقبه زئير أسدٍ آخر وسط الغابات على قيْد نحو سِتّين ياردةٍ مِنّا، فأخرج "ليو" رأسه من تحت الغطاء، ولم يلبث أن هتف:

-       يا للشيْطان! .. انظروا هناك.

فأطل كلٌ منا برأسه، وهتف "جوب":

-       إنها الأسود تزحف نحونا لتفترسنا ياسیّدي.

وتناول "ليو" بندقيّته في الحال، فاقتدیْت به، بيْد أننا لم نلبث أن رأينا لبؤةً تتقدَّم نحونا حتى صارت علی قيْد خمسة عشر قدماً، ثم زأرت، فانتهز "ليو" الفُرصة وأطلق عليها رصاصةً اخترقت فمها المفتوح ونفذت من عنقها، فسقطت في الماء وأحدث سقوطها دويّاً عظيماً، وعندئذٍ زأر الأسد وصرخ صرخةً مروِّعةً انخلعت لها قلوبنا، ثم وثب إلى داخل المياه، فصاح "محمد":

-       يا الله! .. لقد أمسكه تمساحٌ من قائمته الخلفيّة.

وفي الواقع رأينا تمساحاً يُمسِك بالأسد من قائمته، فحاول الأسد أن يفلِت منه، ولمّا لم يفلح أخذ يملأ الجوْ بزئيره المخيف، ثم قبض على رأس التمساح واشتبكا في صراعٍ عنيف، انتصر التمساح في نهايته على الأسد فقتله، ولكن هذا لطم التمساح في رأسه وهو في النزع الأخير فقتله أيْضاً.

كان هذا الصراع المميت منظراً عجيباً ومُخيفاً معاً، وأكبر ظنّي أن قلائل من البشر رأوا مثله.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent