خبر
أخبار ملهلبة

صورة واحد سيرياليزمي | صور مقلوبة | أحمد رجب


كاريكاتير بريشة مصطفى حسين عن رسام لوحات فنية سريالي من كتاب صور مقلوبة لأحمد رجب

صورة واحد سيرياليزمي

 

 

السبت:

فکري مشغول جداً بلوحتي الجديدة "الحلاق والقفا" .. فبعد تفكيرٍ سریالي استطلاعي استضماني استغراقي توصّلت إلى أن القفا لا يفارق عيون أى حلّاق فهو في المحل يراه أمامه دائماً وهو في الشارع تنجذب عيونه إلى أي قفا يمر به .. فإن كان ذلك القفا طويل الشعر لعبت أصابعه ورقصت - غصب عنه - رقصة المقص .. وإن كان القفا حليقاً نظر بعين الناقد إلى فنيّة الشُغل .. والخلاصة أن عيون الحلّاق مشتبكة بكل قفا في كل مكانٍ وزمان .. فالدنيـا عنده قفا والحياة عنده قفا والبني آدم في نظره قفا .. ولذلك قرّرت أن يكون مضمون اللوحة مضموناً قفويّاً سيرياليّاً.

الثلاثاء:

منهمكٌ في اللوْحة .. ولهذا اعتذرت عن عـدم حضور اجتمـاع جمعيّتنا السيرياليّة العُليا التي تضم روّاد مذهبنا العظيم في كل میْدان من ميادين الفن: الرسّـام الكبير "زكي هـلاوس"، الكاتب الطليعي "عبده المجنون"، المخرج الطليعي "فهمي بارانويا"، المثّال العظيم "أحمد عباسيّة"، الموسيقار السيريالي الكبير "حنفی مورستان".

الأربعاء:

مشغولٌ في اللوْحة .. زارني زمیلي "أحمد عباسيّة" ومعـه تمثـال "الصبر" الذي ناقشته الجمعيّة في اجتماعها أمس .. بهرني التمثال حقّاً لمـا احتواه من مضمونٍ استبطاني میتافيزيقي .. فالتمثال عبارة عن قالب طوب أحمر مكتوبٌ عليه "مصنع طوب ابو جبل" .. تأمّلت التمثـال لمدة ساعة محلّقاً بفكري في آفاق ما فوق الواقع وما وراء الطبيعة ولم أتمالك نفسي من شِدّة الإعجاب فقمت أحتضن "أحمد عباسـيّة" بشِدّة مهنّئاً على تلك التحفة الفنيّة الرائعة.

الاثنين:

أنا سعيدٌ سعيد .. فقد انتهيْت اليوْم من لوْحتي الخالدة "الحلّاق والقفا" وعرضتها على اخوتي الثلاثة في البيْت فلم يفهمها أي واحدٍ منهم مع أنهم من هواة ذلك المذهب العظيم ويسمّون أنفسهم "فِرقة الأشبال السيرياليّة" .. فقد حملق أخي الكبير في صورة القفـا الذي رسمته ثم قال:

-     دى صورة زمبلك؟

فعارضه أخي الأوْسط بعد طول تدقيقٍ في اللوْحة مؤكّداً أنها صورة مكرونة اسباجيتّي مدلّلاً على ذلك برمزيّة النقط الحمراء .. فالنقط الحمراء ترمز إلى الصلصة باللحمة المفرومة لزوم الاسباجيتّي .. بينما أكّد أخي الأصغر في ثقة أنها صورة صفيحة زبالة.

كنت في قِـمّة سعادتي وهم يتخبّطون .. وبحركةٍ من يدى أوْقفت مناقشاتهم قائلاً:

-     هذه صورة قفا أمام عيون حلّاق.

فعادوا جميعاً يحملقون في اللوْحة صامتين بينما قلت أنا:

-      ألا تروْن عيون الحلاق؟

فأمعنوا التفرّس في اللوْحة طويلاً بحثاً عن عيون الحـلّاق .. وأخيرا أعلنت لهم أنني لم أرسم عيون الحـلّاق لأن المفروض أن تكون عيون الحلّاق أمام القفا أي أمام اللوْحة فلا يمكن رسمها في الصورة طبعاً وإنما يجب إدراك ذلك بالتصوّر السيريالي الأعلى للاوعي الاستبطاني .. فهزّوا رؤوسهم في راحة .. وأشار أخي الأوْسط إلى الهواء ـ أمام اللوْحة قائلاً:

-      فعلاً .. هذه هي عيون الاسطى.

وسألني زوج أختى عن معنى الخطوط اللوْلبيّة الغليظة التي يتكوّن منها القفا فقلت له أن هذه الخطوط هي المصارين

-     المصارين؟؟

هكذا تساءل في دهشةٍ فأفهمته أنه ما دام الإنسان هو مجـرّد "قفا" في نظر الحلاق فيجب أن تكون المصارين والقلب والمعـدة والطحال والكبد وخلافه داخل هذا القفا .. واستوضحني فعدت أقول له أن الانسان في نظر الحلّاق يتركّز في القفا فقط ولهذا يجب أن تضم صورة القفا جميع أعضـاء الإنسان فهذه الخطوط اللوْلبيّة هي المصارين أما النقط الحمراء فهي رموز سيرياليـّة للقلب والكبد وخلافه .. وإن كان الجهـلاء سيفسّرونها بأنها حبوب في القفا إذا عرفوا أن هذا قفا.

انبهرت "فرقة الأشبال" باللوْحة انبهاراً شديداً بعد هذا التفسير الاستبطاني.

الثلاثاء:

حضرت ندوة الجمعيّة اليوم .. كانت ندوةً رائعـة استهلّها الموسيقار السيريالي الكبير "حنفي مورستان" بعزف مقطوعةٍ عاطفيّة اسمها "مضمون حبیبي" .. وقد عزفها موسيقارنا بمفرده على البيانو والكمنجة والعود والطبلة في وقتٍ واحد .. يده اليمنى كانت على أوْتار العود الموضوع فوق البيانو ويده اليسرى على البيانو وبين اسنانه قوس الكمنجة و"أحمـد عبّاسيّة" يمسك له بالكمنجة بينمـا رِجل الموسيقار تدق الطبلة الموضوعة على الأرض.

كانت لحظاتٍ باهرة استمتعنا فيها بنغماتٍ طليعيّة مذهلة نابعة في اللاوعي الخامد في أعماقنا كحمارٍ عظیم نائم هدّه التعب .. وعندما انتهى من هذه المقطوعة استعدناه .. وفي المرّة الثانية عزف المقطوعة بنغماتٍ أخرى مختلفة تماماً عن المرّة الأولى مؤكّداً بذلك مقدرته السيرياليّة الفائقة.

وبعد ذلك أعلن سكرتير الندوة الفنان "زکی هلاوس" أن كاتبنا الكبير "عبده المجنون" سوف يتحفنا بآخر انتـاجٍ له وهو قصّته الجديدة "هك يك" فشـد انتباهنا ذلك العنـوان السيريالي المشوِّق الذي يحرّك كل فضلات اللاوعي المسطولة في أعماقنا لكي تنشط وتستنبط المفاهيم الانضمانيّة العليا.

وبدأ "عبده المجنون" في قراءة قصّته الرائعة حتى فوجئنا بالمخرج "فهمي بارانويا" يلطم خديْه إعجاباً بالفقرة التي يقول فيها الأستاذ "المجنون":

      ومشى في الطريق يغني في سعادةٍ عظيمة .. فقد كان يعاني تعاسةً فظيعة .. كان الغناء يتصاعد من حواجبه السفلى في نشوةٍ متألمّـة حتّى توقّف وهو يمشي ..ومشى وأقدامه لا تتحرّك .. وعنـد حافة الفنجان استطال الحبـل حتى قصر قصراً شديداً .. وزاد طوله انكماشاً في تلك الآونة المزدانة بأوراقٍ نضرةٍ شديدة الجفـاف .. وكانت حمراء ولكنها بيضاء .. كانت حلوةً شديدة المرارة في حلقوم حـذائه الأسود .. فصرخ حاجبـاه صرخةً مدوية بينمـا افترت أذنه عن ابتسامةٍ هادئةٍ كشفت عن أسنانه الذهبيّة في طبلة الأذن .. وأخرج لسانه من أنفه ليمسح به شعره الأخضر .. ونظر بفمه إلى الطريق وقد ندت عن حاجبيْه صيْحةٌ قويّة: "هك يك" .. فجاءته الأصداء مردّدةً : "يك هك" .. وعلى الفوْر لاحت في الأفق جموعٌ هائلةٌ من مشابك الغسيل تعدو نحوه فصرخ في فزع: "أنا مكنسة .. أنا مكنسة" .. وانبطح على الأرض زاحفاً ليكنس الطريق فوجد الأسفلت رز بلبن وقد نبتت فيه زهور الباذنجان والكفتة.

وبعد أن هدّأنا من روْع المخرج "فهمی بارانويا" فوجئنـا بالأستاذ "عبده المجنون" يأكل الورقة التي كان يقرأ منها وهو يصيح بشدة: "أنا مكنسة.. أنا مكنسة" .. فاحتضنّاه جميعاً مهنّئين بتلك اللحظـة الرائعة من لحظات اكتشاف اللاوعي عنده بأن حقيقته الإنسانية هي مجرد "مكنسة" .. تلك اللحظات المضيئة التي كانت تعاوده من حينٍ لآخر عندما كان نزيلاً بمستشفى "الخانكة" .. وتحدّث بعد ذلك المخرج "فهمی بارانويا" مشيدا بتلك العبقرية الخلّاقة .. وأعلن أنه سوف يُخرِج قصّة "هك يك" للمسرح ليضيف إلى التراث المسرحي العالمي رصيداً جديداً سوف يُخَلَّد على مر الزمان.

وأعقب ذلك مناقشةٌ في دراسة لوْحة الفنان "زكي هلاوس" .. وهي لوْحةٌ سيرياليّة بعنوان "زمهرير الشتاء" وإن كان لم يكتب اسم اللوْحة فوقها .. وتعاقبت التعليقات تمتدح اللوْحة الرائعة .. فقال المثّال "أحمد عباسيّة" أن الألوان والخطوط توحي بجوٍ شـديد الحرارة .. ثم فتح قميصه وراح يهوّي على وجهه من الحر بسبب تأثير اللوْحة .. بينما قال "عبده المجنون" أن الألوان والخطوط توحي بنسمةٍ ربيعيّةٍ نشوانةٍ همدانةٍ حيرانة .. وعلّق الموسيقار "حنفي مورستان" قائلاً أن اللوحة توحي بصوت صفّارة قطار .. وتدارسنا اللوْحة دراسةً استبطانيّةً عميقة تشعّبت فيها المناقشات وانتهت الندوة عند هذا الحد.

الجمعـة:

ذهبنا جميعا لزيارة زميلنا السابق في الجمعيّة المهندس "محمود محمود محمود" بمستشفى العباسيّة .. فقد دخل المستشفى كضحيّةٍ من ضحايا التخلّف الفنّي والعقلي عند الناس .. إذ كلّفه واحدٌ جاهل ببناء عمارة فبنى له عمارةً سيرياليّةً رائعة ليس بها أبوابٌ ولا نوافذ ولا غرف ولا سلالم ولا حاجة فأبلغ عنه الشرطة .. مسكين "محمود محمود محمود".

السبت:

أرسلت لوْحتي الجديدة "فاتنة" لأشترك بها في معرض الفن السيريالي .. لقد بهرت اللوْحة المخرج "فهمی بارانويا" انبهاراً شديداً وقال لي أنها توحي في مضمونها بصورة "أمّنا الغولة" .. وقد كان "فهمي بارانويا" في زيارتي ليكلّف خادمي بطبخ عشرين كيلو أرز بلبن يفرش به أرض المسرح ضمن ديكورات مسرحيـّة "هك يك" للكاتب الطليعي "عبده المجنون".

الأحـد:

فازت لوْحتي "فاتنة" بالجائزة الأولى في المعرض.

الاثنين:

سافرت إلى الأسكندرية لتسلّم الجائزة .. فوجدت لوْحتي مُعلَّقة بالمقــلوب.

google-playkhamsatmostaqltradent