الفصل الأوّل | سفاح كرموز (2)
وبمرور السنين أدّى تدليل الأم الزائد عن
الحد إلى إفساد "سعد" فنشأ رخواً ليّناً لا يقدر على تحمّل أتفه
المسؤوليّات ممّا أخّره في دراسته وأصبح لا يطيق الذهاب إلى المدرسة فضلاً عن عدم
التزامه بتعليمات مدرّسيه، وتمادت الأم في إتلاف ابنها أكثر فأكثر فشجّعته على
إهمال دروسه ووافقته على ترك المدرسة نهائيّاً لئلا تضغط عليه أو تتسبّب له في
الضيق أو تعب الأعصاب فيكفيها أنه تعلّم الكتابة والقراءة فذلك غاية المراد من رب
العباد، فأصبح الصبي غير مشغولٍ سوى باللعب واللهو مع غيره من رفقاء السوء الذين
التفّوا حوله لأنه كان ينفق عليهم من الأموال التي تغدق بها أمّه عليه فعلّموه شرب
السجائر والنرجيلة وأدمنوا معه التسكّع في الطرقات أو على المقاهي خاصة أنه رفض -
بعِلْم أمّه - الذهاب إلى ورشة أبيه التي تسلّمها أخوه الأكبر "مينا" وأصبح
يديرها بنفسه دون مساعدةٍ من أخوه الأصغر "سعد".
وذات يومٍ من أيّام أغسطس الحارّة عام 1943
جاء "مينا" ليلاً زائراً أمّه التي كانت ترقد على فراشها إثر وعكةٍ
صحيّةٍ شديدة وبعد أن حيّاها وقبّل يدها بادرها بالسؤال قائلاً :
- إزايِّك يا امّاي .. كيفِك ده الوقيت؟ ..
عسى الله تكوني بخير.
- الحمد لله يا ولدي .. كيفك انت وكيف مرتك
وعيالك وكيف حالك وحال الورشة؟
- نشكر الرب .. أهي ماشية .. والعيال
بيبوّسوا رجلِك.
- ما جيبتهمش على طرفك ليه؟ .. ده انا
اتوحشتهم قوي.
- يا ستّي بلاش دوشة .. إنتي محتاجة للراحة.
- صدّقني يا "مينا" .. أنا بترد
فيَّ الروح لمّا باشوفهم بيتنطّطوا حواليَّ .. عقبال ما اشوف عيال خوك
"سعد" قبل ما اموت.
- طولة العمر ليكي يا امّاي .. ما هوَّ اللي
مش عايز يتجوّز .. كل ما نجيب له عروسة ما تعجبوش ويطلّع فيها القُطط الفَطسانة ..
إدعي له انتي بس بالهداية .. أحسن ده باينّه مش ح يجيبها البر.
- ليه؟ .. حُصُل منه إيه؟
- مش عارف اقول لِك إيه يا امّاي .. مش عايز
اشيلك الهّم وانتي تعبانة إكده.
- لأ .. قول.
- النهار ده الصُبح جا لي المقدّس
"فانوس" يشتكي لي منه .. أصل بنته "مريم" كانت بتدلّى ف
التُرعة مع صاحباتها بيغسلوا ويتسبّحوا .. إنتي عارفة الدنيا حَر موت ازّاي
اليومين دول .. وف نُص ما همَّ بيستحمّوا بصّوا لقوا بسلامته سي "سعد"
ومعاه بطانة السوء بتاعته بيتفرّجوا عليهم وبيتعرّضوا لهم بالكلام القبيح ..
وبدأوا يقلعوا هدومهم علشان ينزلوا معاهم ف التُرعة .. لولا البنات أخدوا يصوّتوا
ولمّوا عليهم الخلق فجريوا .. بس "سعد" ما ارضاش يلايمها برضيك .. فضل
مستنّي ورا الساقية متربّص بالبِت "مريم" وهيَّ مروّحة وأوّل ما عدّت من
هناك هجم عليها وكان عايز يبوسها بس هيَّ ضربَته وجريت اشتكَت لابوها.
- ههههههه .. ده تلاقيها هيَّ اللي اتربّصت
بيه .. ما انت عارف خوك حليوة وزي فلقة القمر وأي بنت ف مركز "أبو تيج"
كلّه تتمنّى منه نظرة.
- يا امّاي انتي بتضحكي! .. باقول لِك الواد
التَلفان ده ح يعمل لنا مصيبة .. ده لولاش المقدّس "فانوس" راجل متعلّم
وطيّب كان زمانه طخ ابنِك عيارين.
- يا ضنايا اخوك لسّه صغار وطايش .. بكره
يعقل.
- يعقل ميتى بس يا امّاي .. ده بقى عنده
اربعة وعشرين سنة .. ده انا ف سنّه كان عندي عيّلين.
- يا بني الواد يتيم وما شافش حنيّة .. سيبه
على راحته.
- أكتر من اكده! .. مش كفاية ما بيعتّبش
الورشة نهائي .. ومش فالح بس غير إنّه يسحب ف فلوس كل يوم والتاني .. ده انا سمعت
إنه مضيّع فلوسه على شُرب الخمرة مع اصحابه.
- وماله .. خلّيه يشوف نَفسه ويفرح بشبابه
قبل ما يتجوّز واحدة تكبس على مراوح قلبه وتسلسله بالعيال .. مسيره ح يعقل ..
وبعدين ما هو كلّه من خير ابوه المتنيّح "إسكندر" ربّنا يقدّس روحه ..
أوعى يا واد يا "مينا" تبخل على خوك ولّا تقسى عليه بعد ما اموت.
- بعد الشر عنك يا امّاي .. أنا بس عايز
مصلحته .. أهو شوفي الساعة داخلة على عشرة وهوَّ لسّاته ما عاودش من برّه .. شوفي
بقى بيتسرمح فين لحد ده الوقيت.
وما إن أنهى "مينا" عبارته الأخيرة
حتى انفتح باب المنزل ودلف منهما "سعد" الذي قال :
- مسا الخير يا امّه .. يا مرحب يا
"مينا"
- مسا النور يا ولدي.
- مرحبا بك يا "سعد" .. كيفك؟
- مليح.
- كنت فين أومّال؟
- كنت مُطرح ما كنت يا "مينا" ..
ما لكش صالح.
- شايفة يا امّاي .. بيكلّمني كيف.
- ما هو انت راخر يا "مينا" كل ما
تشوفه بتفتح له تحقيق .. كفاياك.
- حاضر يا امّاي .. ح احط صرمة ف خشمي أها.
- على فكرة يا "مينا" .. ح ابقى
افوت عليك ف الورشة بكرة اخد قرشينات.
- بكره الاحد الورشة قافلة يا
"سعد" .. وبعدين كلّاتنا رايحين الكنيسة .. الأنبا "مرقص" ح
يكون هناك بكرة وهوَّ اللي ح يقول العِظة .. مش ح تيجي معانا؟
- يا عم اجي اعمل إيه .. الكنيسة بتبقى زحمة
.. هوَّ انا ناقص عرق وتلزيق ف الحر ده .. ثمّ ح يقول إيه يعني ف العِظة بتاعته
دي؟ .. أحِبّوا الرب .. أحِبّوا يسوع .. أحِبّوا أعداءكم .. بارِكوا لاعنيكم ..
وكلام من ده.
- فيه حد يقول كده على نيافة المطران! .. ده
قداسته بيقول كلام ينطِق الحجر .. يا ريت تيجي معايا يمكن تتوب وتنكتب لك الهداية
على إيديه.
- ييييي .. إبتدينا .. مش ح نخلص بقى.
- ما تسيبه على هواه يا واد يا "مينا"
.. دِه دي!
- طيّب .. أنا ماشي علشان ترتاحوا .. يسعد
مساكم.
وهكذا مرّت الأيّام سريعاً تهدر متتاليةً
كأمواج البحر فاستمر "سعد" على حاله من انفلات الأخلاق وفساد الحال حتى
جاء اليوْم الذي توفيت فيه والدته ففقد معها السند والعوْن وأصبح لزاماً عليه أن
يستفيق لنفسه ومستقبله خصوصاً بعد أن رفض أخوه "مينا" أن يعطيه قرشاً
واحداً قبل أن يشاركه العمل بورشة الغزل والنسيج التي استخلفهما فيها والدهما،
واضطر "سعد" أن يعمل في الورشة على مضض فقد كان يكره هذه المهنة ويبغض
بالذات الوقوف على ماكينات الغزل أو النسيج ممّا دفع أخاه إلى أن يعهد إليه بأمور
التسويق والبيع والتعامل مع الزبائن المشترين.