خبر
أخبار ملهلبة

الفصل الأول | سفاح كرموز (3)


سعد اسكندر سفاح كرموز في شبابه قبل القبض عليه

الفصل الأوّل | سفاح كرموز (3)

 

 

وظلَّ الحال على ما هو عليه حتى أواخر عام 1945 حينما تعرّف "سعد" على إحدى الدلّالات اللاتي يشترين منه الخيوط المغزولة في الورشة، وكانت تلك السيّدة أرملةً ثريّة تدعى "لواحظ" وكانت على قدرٍ كبيرٍ من الجمال ممّا لفت نظر "سعد" فأخذ يرمي بحباله حولها حتى لانت له شكيمتها تحت تأثير كلامه المعسول ووسامته الجذّابة فصارت بينهما علاقةٌ سريّة رعاها وباركها الشيطان الذي وسوس لهما أن يلتقيا في منزل العشيقة كثيراً تحت جنح الظلام ليطفئا لهيب أشواقهما المستعرة بعلاقتهما الأثيمة التي لم تزِدهما بمرور الأيّام إلا عطشاً لمزيدٍ من الخطايا والآثام.

واستمر "سعد" في علاقته مع هذه السيّدة التي كانت تهبه - فوق جسدها - المال والهدايا والتي كانت أوّل سيّدةٍ يعرفها بعد أمّه فجسّدت له أسوأ مثالٍ للمرأة اللعوب التي تجري وراء شهواتها دون حسابٍ لشرفها أو إخلاصٍ لذكرى زوجها فأدخلت في روْعه أن كل السيّدات سيّئات السلوك وأن كل الفتيات لا تخضعن سوى للغة الجسد التي لا تعرف معنى الحب والوفاء ورسّخت كذلك في عقله الباطن أن كلّهن مثلها جسدٌ بلا روح؛ لا تقيمن للمبادئ والأخلاق وزناً؛ ولا تقدّرن للشرف والعرض سعراً؛ فهنَّ في الرذيلة سواء وهنَّ في الخطايا متساويات.

ولم يكُن يكدّر صفو "سعد" غير معاملة أخيه الجافّة له وتقتيره الشديد عليه بحجّة إصلاح حاله ودفعه إلى الطريق القويم، وبعد تفكيرٍ عميق قرّر "سعد" أن يكسر الطوق الذي يحيط به أخوه رقبته ويخرج عن سيطرة أخيه التي قهره بها ووجد أن المال هو الأداة الوحيدة التي تمكّنه من فعل ما يريد فرسم خطته المحكمة للحصول على المال بأيّة طريقة.

وفي إحدى الأمسيات الغراميّة التي كان يقضيها مع "لواحظ" اصطحب معه زجاجةً من الخمر وأخذ يسقيها لضحيته حتي فقدت اتزانها وراح يستدرجها في الكلام حتى باحت له بالمكان الذي تخبئ فيه أموالها الوفيرة التي ورثتها عن زوجها المغدور، واستمرت السيّدة في تجرّع المزيد من الخمر حتى فقدت وعيها تماماً فقام "سعد" من فوره واتّجه نحو الأريكة (الكَنَبة) التي تتوسّط قاعة المنزل وأزال الحشيّة (المَرتَبة) القطنيّة من فوقها فوجد ألواحاً خشبيّة تخفي تحتها سحّارةً بها صندوقٌ يمتلئ بمئات الجنيهات فأخذ يعبَّ منه ويضع في كيسٍ من القماش كان قد أحضره خصّيصاً لذلك حتى فرغ الصندوق عن آخره وامتلأ الكيس بكامله، وسارت خطّته على ما يرام وبقي فقط أن يعيد الأريكة إلى سابق وضعها ويتسلّل خارجاً قبل أن تستيقظ الأرملة الطروب التي لن تستطيع أن تتهمه بسرقتها فهي أوّلاً لم تعِ أنها باحت له بمكان أموالها فقد كانت تحت تأثير الخمر وهي ثانياً لن تقدر على فضح نفسها بكشف علاقتها الفاسقة به؛ حتى وإن حدث عكس ما يظن فبمقدوره الاعتراف بأنه قضى معها ليلةً حمراء وانصرف إلى حال سبيله دون أن يسرق منها شيئاً بل يمكنه أن يتهمها بأنها تلفّق له هذه التُهمة وتدبّر له هذه المكيدة لأنه أنهى علاقته بها وأبلغها بهجره لها بعد هذه الليلة، وعليها أن تقيم هي الدليل على أنه سرقها فالشرطة تدرك جيداً أن البيّنة على من ادعى واليمين على من أنكر، فليس هناك أعسر من كشف سرقةٍ بلا آثار وليس هناك أيسر من اليمين على السارق الذي لا خَلاق له ولا خُلُق.

وبعد دقائقٍ وبينما هو يعيد ألواح الأريكة الخشبيّة إلى مكانها فوجئ بالسيّدة وهي تقف وراءه تترنّح من أثر الخمر وقد شاهدت ما يفعله ولاحظت الكيس القماش الذي يبرز منه بعضٌ من أموالها المنهوبة فأدركت ما كان وأفاقتها الصدمة فأطلقت عقيرتها بالصراخ فأُسقِط في يد "سعد" ولم يشعر بنفسه إلّا وهو يندفع إليها يكتم أنفاسها لئلا يسمعها أحد ثم يلتقط سكيناً كانا يقطعان به الفاكهة من على المنضدة المجاورة وينهال به على رقبتها وخزاً وطعناً فنفرت من أوداجها الدماء غزيرةً ووقعت على الأرض وفاضت روحها في الحال، وجلس "سعد" بجانب جثّتها وهو ينتفض وقد تقطّعت أنفاسه بعد أن أجبرته الظروف على هذه الجريمة الشنعاء التي لم يرسم لها أو يتوقّعها، وبعد دقائق قام القاتل فغسل يديْه جيّداً وأمسك بمنشفةٍ قطنيّةٍ مبلّلةٍ بالماء وراح يمسح بها بصماته من فوق السكين والأكواب وزجاجة الخمر والأطباق ومقابض الأبواب والأثاث وأيَّ شيءٍ يمكن أن يكون قد ترك عليه آثاره ثم أخذ كيس النقود وانصرف من منزل القتيلة قبيل الفجر بيْن قِطع الظلام الموحِش الذي لم يكن يقشعه سوى أضواء البرق المتقطّعة ووسط الصمت الرهيب الذي لم يكن يقطعه غير قصف الرعد الرهيب وهطول الأمطار في تلك الليلة المطيرة الزمهرير.

وفي غضون عدة أيّام اكتشفت الجريمة إحدى جارات المقتولة التي ارتابت في وفاة "لواحظ" عندما غابت الأخيرة عن الأنظار وعندما اشتمّت الأولى رائحةً نتنة تزكم الأنوف تنبعث من منزل الأخيرة، فأفضت بشكوكها إلى عسكري الدرك الذي أبلغ ضابط القراقول (الكراكون) فأمر بكسر باب منزل "لواحظ" بإحدى الأَجَنات ليعثروا على جيفتها بعد أن انتفخت وتعفّنت.

وأخذت الشرطة في عمل تحريّاتها وقامت بحصر علاقات الذبيحة والمتصلين بها خاصةً الذكور منهم بعد أن أثبتت المعاينة وجود آثارٍ تدل على قضاء سهرةٍ حمراء فضحتها ملابس الضحيّة وباقي زجاجة الخمر، وحامت الشبهات حول "سعد" وبعض الأشخاص الآخرين فتم القبض عليهم جميعاً وإحالتهم إلى التحقيق الذي أفضى بعدم ثبوت التهمة على أيٍّ منهم لعدم وجود دليلٍ مادي ملموس أو آثارٍ مؤكّدة تدل على مرتكب الجريمة فتم الإفراج عنهم واحداً تِلو الآخر، وأُفرِج عن "سعد" بكفالةٍ قدرها ثلاثون جنيهاً دفعها من أموال ضحيّته التي احتفظ ببعضها في جيبه وخبّأ أغلبها داخل الكيس في حفرةٍ حفرها تحت دولاب بيته.

وخرج "سعد إسكندر" من هذا الحادث سليماً معافى ؛ بل كسب قدراً كبيراً من المال يستطيع به الآن أن يستغني عن أموال الورشة وتحكّمات أخيه وأعباء العمل الشاق، ولم يكن هناك ما يمنعه من أن يبدأ حياته من جديد في مكانٍ آخر بعد أن تشجّع على المضي قُدُماً في سبيل الانحراف والتمادي في طريق الجريمة والاستخفاف بالقانون.

google-playkhamsatmostaqltradent