ثم لم يبقَ أحد | الفصل الثاني
خارج محطة "أوكبريدج" وقف حشدٌ من
الناس يبدو عليهم شيءٌ من الحيرة، وخلفهم وقف حمّالون معهم حقائب سفر، وصاح صوْتٌ
من بيْنهم: "جيم"، فتقدّمَ أحدُ سائقي
سيّارات الأُجرة وقال بلهجة أهل "ديفون" الرقيقة: "هل بينكم مَن
يريدُ الذهاب إلى "جزيرة الجنود"؟، ردّت أربعةُ أصواتٍ بالإيجاب، ثم ما
لبثوا أن تبادلوا نظراتٍ متشكِّكة، فوجّه السائق كلامه إلى القاضي "وارغريف"
باعتباره أكبر المجموعة سِنّاً وقال: "توجد هُنا سيّارتان يا سيّدي، إحداهما
يجب أن تنتظرَ حتى يصلَ القطارُ البطيء من "إكستر" بعد نحو خمسِ دقائقٍ
من الآن، وسيصل رجلٌ واحدٌ في ذلك القِطار، هل يستطيعُ أحدُكم الانتظارَ إن لم يكُن
لديْه مانع؟، سيكونُ ذلكَ مُريحاً أكثرَ لكم"، وبدافعٍ
من إدراكها أنها تُمثِّل دوْر السِكرتيرة قالت "فيرا كلايثورن" على الفوْر:
"أنا سأنتظر .. إن أردتم أنتم الذهاب"، أوْحت نظرتُها ولهجتُها بشيءٍ من
السُلطة المُكتسَبة من تعوّدها ممارسة منصبٍ قيادي، وبدت كما لو كانت تُوجِّه
مجموعةً من الفتيات وهُنَّ يلعبن التنس.
قالت الآنسة "برنت" بلهجةٍ جافّة:
"شكراً"، ثم دخلت سيّارةً كان سائقُها يمسِكُ بابَها المفتوحَ بيده،
وتبعها القاضي "وارغريف" في حين قال الكابتن "لومبارد": "سأبقى
مع الآنسة"، قالت "فيرا":
-
إسمي "كلايثورن".
-
وأنا "لومبارد"
.. "فيليب لومبارد".
كان الحمّالون
يضعون الحقائبَ داخل سيّارة الأُجرة حين قال القاضي "وارغريف" بتحفّظ
رجل قانون: "لديْنا طقسٌ جميلٌ اليوْم"، فردّت الآنسة "برنت":
"أجل .. هذا صحيح"، وفكّرت بينها وبين
نفسِها بأن هذا العجوز تبدو عليه سمات الرجال الفُضلاء الذين يختلفونَ تماماً عن
نوْعيّات هؤلاء الذين يرتادون فنادق الشواطئ، فقالت لنفسِها: "يبدو أن السيّدة
أو الآنسة "أوليفر" ذات علاقاتٍ جيّدة".
قال القاضي "وارغريف" مُستفسِراً: "هل
تعرفينَ هذه المناطق جيّداً؟
-
سبق لي أن زُرتَ "كورنوول"
و"توركاي"، ولكن هذه أول زيارة لي إلى هذا الجزءِ من "ديفون".
قال القاضي: "وأنا أيضاً لستُ مُلِمّاً
بهذه المنطقة.
تحرّكت سيّارة الأُجرة فقال سائقُ السيّارة
الثانية: "هل تُريدونَ الجلوسَ في أثناء انتظاركم؟"، فردّت "فيرا"
بحزم: "لا".
ابتسم
الكابتن "لومبارد" وقال: "ذلك الحائطُ المُشمسُ يبدو أكثر جاذبيّة،
إلّا إذا أردتِ الدخول إلى المحطّة.
-
في الواقع لا أريد؛
فمن المُبهج أن يخرجَ المرءُ من جوْ ذلك القطار الخانق.
-
أجل .. السفرُ
بالقطارِ مُتعِبٌ في هذا الطقس.
قالت "فيرا": "آملُ أن يدومَ
هذا .. أعني الطقس، إن صيْفنا الإنكليزي مُخادِعٌ للغاية!".
سأل "لومبارد" بنبرةٍ يُعوزُها الصِدق
قليلاً: "هل تعرفينَ هذا الجُزءُ من العالَم جيّداً؟
-
لا .. لم آتِ هُنا
من قبل.
ثم أضافت
بسرعة وهي عازمةٌ على توْضيحِ موْقِفها في التّوْ:
-
ولا حتى شاهدتُ مُستخدمي
صاحب العمل بعد.
-
مُستخدِمك؟
-
نعم .. أنا سكرتيرة
السيّدة "أوين"
-
آه .. فهمت.
ثم رانَ عليه هدوءٌ واضحٌ وأصبحَ أكثر
اطمئناناً ولهجته أكثر ارتياحاً وقال: "أليْسَ هذا غَريباً نوعاً ما؟!".
فضحكت "فيرا" وقالت:
-
لا أظنّه غَريباً؛
لقد مرضَتْ سكرتيرتها فجأةً فأبرقتْ إلى وكالةِ توْظيفٍ تطلُبُ بديلةً لها فأرسلوني.
-
هكذا كان الأمر إذن؟
.. ولكن ماذا لوْ لم تُعجِبْكِ الوظيفة عندما تصلين هناك؟
ضحكت "فيرا" ثانيةً وقالت: "إنها
وظيفةٌ مؤقَّتةٌ على أي حال؛ وظيفةٌ صيْفية، ولديَّ وظيفةٌ دائمةٌ في مدرسة بنات،
أنا في الواقِع مُشتاقةٌ بشِدّةٍ لرؤية "جزيرة الجنود"؛ فقد نُشِر
الكثيرُ عنها في الصحف، هل هي بهذه الروْعةِ حقّاً؟
قال "لومبارد": لا أعرف؛ لم أرَها
من قبل.
-
حقاً؟ .. إن عائلة "أوين"
مُغرَمون بها للغاية كما أظن، أيُّ نوْعٍ من الناس هم؟ .. أخبرني.
ففكّر "لومبارد" وقال لنفسه: "يا
لها من وَرطة! .. هل المفروض أنه سبق لي الالتقاء بهم أو لا؟"، ثم قال بسُرعة:
"أرى دَبّوراً يزحَفُ على ذراعِك! .. لا .. لا تتحرّكي.
وطوَّح
يدَهُ بما يوحي بإزاحته، وقال: "حسناً .. تخلّصنا منه الآن".
-
يا إلهي! .. شُكراً
لك، توجد دبابيرُ كثيرةٌ هذا الصيْف!
-
أجل .. لعلّها
الحرارة، مَن هو الذي ننتظره؟ .. هل تعلمين؟
-
ليْست لديَّ أيّ
فكرة.
ثم تناهى إليهم الصوْتُ الزاعِقُ الطويلُ المُمَيَّزُ
لقِطارٍ يقترب، فقال "لومبارد": "ها هو القِطارُ قادماً".
ثم ظهرَ من بابِ الخروج من الرصيف رجلٌ عجوزٌ
طويلٌ ذو مظهرٍ عسكريٍ وشعرٍ أشيبٍ مُصفَّفٍ بعناية وشاربٍ أبيضَ مُشذَّب، وتبعه
حمّالٌ ينوء قليلاً بحمل حقيبة سفرٍ جلديّة، وأوْمأَ باتجاهِ "فيرا" و"لومبارد"
فاندفعت "فيرا" بطريقةٍ تنمُّ عن الكفاءة وقالت: "أنا سِكرتيرة
السيّدة "أوين" .. توجد سيّارةٌ في الانتظار"، وأضافت بسرعة: "وهذا هو السيّد "لومبارد"
المحترم".
نظرَ الوافِدُ الجديدُ بعيْنيْن زرقاويْن باهِتتيْن
يلمعُ فيهما الذكاء، وكانت نظرتُهُ إلى "لومبارد" نظرةَ تقييم، فلو كان
شخصٌ ما يُراقِبه لرأى عيْنيْه تزِنان الرجل، وقال لنفسه: "رجلٌ حسنُ المظهر،
ولكنَّ فيه شيْئاً يثيرُ الريبة".
ركبَ الثلاثةُ سيّارةَ الأُجرة فسارت بهم عَبْرَ
شوارعِ "أوكبريدج" النائمة، ثم تابعت السير ميلاً آخرَ على طريق "بلايموث"
قبل أن تدخُلَ في شبكةٍ من الطُرُقِ الريفيّةِ الخضراءَ الضيّقةِ شديدةِ الانحدار.
قال الجنرال "ماك آرثر": "لا
أعرفُ هذه المنطقة من "ديفون" إطلاقاً؛ إن منزلي الصغير يقعُ في شرق "ديفون"
قُرب خط الحدود مع "دورست".
قالت "فيرا": "المكان جميلٌ هُنا
حقّاً، التلال والأرض الحمراء، وكل شيءٍ أخضرَ ومُنمَّق".
قال "فيليب لومبارد" مُنتقِداً قولَها:
"المنطقة مُغلقةٌ إلى حدِّ ما، وأنا أُفضِّلُ المناطقَ الريفيّةَ المفتوحة حيْث
بوسعك مُشاهدة الأشياءِ عن بُعد".
فقال الجنرال "ماك آرثر": أظنُّ
أنك شاهدتَ جُزءاً لا بأس به من العالَم، أليس كذلك؟" فهزَّ "لومبارد"
كتفيْه باستخفافٍ وقال: "لقد تجوّلتُ هُنا وهُناك يا سيّدي"،وقال بيْنه
وبيْن نفسِه: "سيسألُني الآن عمّا إذا كنتُ قد عاصرتُ الحرب، هؤلاء العجائِز
يسألونَ أشياءَ كهذه دائماً"، إلا أن الجنرال "ماك
آرثر" لم يذكرْ شيئاً عن الحرب.
صعدت بهم السيّارة مُرتفَعاً حادّاً، ثم نزلت
في طريقٍ متعرِّجٍ إلى "ستيكلهيفن" التي لم تكُن سوى مجموعةٍ صغيرةٍ من
الأكواخ وقاربِ صيْدٍ أو اثنيْن يرسوان على الشاطئ، وفي ضوْء الشمس التي توشِكُ
على المغيب شاهدوا للمرّة الأولى "جزيرة الجنود" تبرُزُ من البحرِ من
الجهة الجنوبيّة.
قالت "فيرا" بدهشة: "المسافة
بعيدةٌ إلى هناك!"، كانت قد تصوّرَتها
أقربَ إلى الشاطئ ويعلوها بيْتٌ أبيضُ جميل، ولكن لم يكُن هناك بيْتٌ يُمكِن رؤيته
على هذه الجزيرة، فشعرتْ لدى رؤيتها بشعورٍ غير مريح، وأحسَّتْ برعشةٍ خفيفة.
خارج نُزُلٍ صغيرٍ يُدعى "النجوم السبعة"
جلس ثلاثةُ أشخاصٍ بدا بينهم الهيْكلُ الأحدبُ للقاضي العجوز والقامةُ المنتصبةُ
للآنسةِ "برنت" وشخصٌ ثالثٌ ضخمٌ عريضُ الكتفيْن تقدَّم نحوهما مُقدِّماً
نفسه قائلاً:
-
رأيْنا أن ننتظرَكم
لنُتابعَ معكم بقية الرحلة، اسمحوا لي بأن أُقدِّم نفسي: اسمي "ديفيس ناتال"،
ومسقط رأسي "جنوب إفريقيا".
قالها وأطلق ضحكةً خفيفة، فنظر إليه القاضي "وارغريف"
بحنقٍ ظاهرٍ وبدا كما لو أنه يرغب بإعطاء أمرٍ بإخلاء محكمة، أمّا الآنسة "برنت"
فلم تكُن تميلُ إلى رجال المستعمَرات، وسأل السيد "ديفيس" داعياً
المجموعة:
-
هل يوجَدُ مَن يرغبُ
في تناولِ شرابٍ قبل أن نستقلَّ القارب؟
ولم يتلقَّ ردّاً من أحد فاستدار رافعاً
إصبعه وقال:
-
إذن يجبُ أن لا نتأخَّر؛
فمُضيفنا ومُضيفتنا الكريمان في انتظارنا.
ولعلّه لاحظ توتُّراً غريباً على بقيّة أفراد
المجموعة، وكأنما كان لذِكر المُضيف والمُضيفة أثرٌ مُحبِطٌ بشكلٍ غريبٍ على
الضيوف.
واستجابةً للإشارة التي أبداها السيّد "ديفيس"
بإصبعه برز رجلٌ من جانب حائطٍ مجاورٍ كان يميلُ عليه، وبدا من مشيته أنه رجلٌ
يعملُ في البحر؛ كان ذا وجهٍ بدت عليه آثارُ تقلباتِ الطقس وذا عيْنيْن داكِنتيْن
وإيحاءٍ خفيفٍ بشخصيّةٍ مُراوِغة، وقال بصوْتٍ ديفونيٍ رقيق:
-
هل أنتم مُستعدون
للتحرُّك إلى الجزيرة أيُّها السيّداتُ والسادة؟ .. القاربُ في الانتظار .. سيصلُ
رجلانِ بالسيّارة، ولكن السيد "أوين" أمرَ بأن لا ننتظرهما لأنهما قد
يصلان في أيّ وقت.
نهض أفرادُ المجموعةِ وساروا خلف دليلهم على
ممرِّ المرفأ الحجري الصغير مُتجهين إلى قاربٍ بُخاريٍّ كان راسياً في انتظارهم،
فقالت "إميلي برنت":
-
هذا قاربٌ صغيرٌ
جداً.
ردّ صاحبُ القارب بلهجة مَن يُحاوِل الإقناع:
-
هذا قاربٌ مُمتازٌ
يا سيّدتي، وبوسعِك الإبحارُ على متنه إلى "بلايموث" بكل سهولة.
قال القاضي "وارغريف" بحدّة:
-
ولكن عددَنا كبير!
-
هذا القارب يتّسِعُ
لضِعفِ العدد يا سيّدي.
قال "فيليب لومبارد" بصوْته العذب
الخفيف:
-
كلُّ شيءٍ على ما يُرام
.. الطقسُ ممتازٌ ولا توجدُ أمواج.
وبشيءٍ من التشكُّكِ استجابت الآنسة "برنت"
لعرض مساعدتها في ركوب القارب، ثم تبعها الآخرون، لم تكُن الأُلفة قد حلّت بيْن
أفراد المجموعة بعد، وبدا كما لو أنّ كُلَّ فردٍ فيها كان في حالة حيرةٍ من أمر
الآخرين.
كانوا على وشك الانطلاق حين توقَّفَ الدليل
فجأة ومرساة القارب في يده، وأبصروا سيّارةً قادمةً في طريق القرية المنحدِر، بدت
سيّارةً قويّةً جميلةً مُلفِتةً للنظر، وقد جلس خلف مقودها شابٌّ جعلت الريحُ شعرَه
يتطايرُ إلى الوراء، وبدا في غسقِ المساء كما لو لم يكُن رجلاً؛ بل تمثالاً، وعندما
ضغط بوق السيّارة دوّى صوتٌ تردّدَ صداه على صخور الميناء، وكانت لحظةً رائعة بدا
فيها "أنتوني مارستون" كما لو كان مخلوقاً خالداً! .. كثيرون من أفراد
المجموعة تذكّروا هذه اللحظة فيما بعد.
جلس "فريد ناراكوت" إلى جانب مُحرِّك
القارب وفكّر بينه وبين نفسه بأن هذه المجموعةَ تبدو غريبة، فلم يكُن أحدٌ يتوقَّعُ
أن يكونَ ضيوف السيّد "أوين" من هذا الطراز بل كان يتوقّعُ أشخاصاً أكثر
رُقيّاً: رجالاً ونساء في ثيابٍ فاخرة، أثرياء وذوي مظهرٍ محترَم، هؤلاء ليسوا
كضيوف السيّد "إلمر روبسون"، وافترّت شفتا "فريد ناراكوت" عن
ابتسامةٍ باهتةٍ وهو يتذكَّر ضيوفَ ذلك المليونير، كان ذلك ما يستطيع أن يسمّيه
حفلةً حقاً، أمّا السيد "أوين" هذا فلا بُدَّ أنه رجلٌ مختلف.
قال "فريد" لنفسه: "غريب! ..
أنا لم أرَ السيّد "أوين" ولا زوْجته، فهما لم يأتيا هُنا من قبل، كل
شيءٍ تمَّ طلبُه ودُفعَت تكاليفه من قِبَل السيّد "موريس"، والتعليماتُ
واضحةٌ دائماً والفواتيرُ تُدفَعُ في وقتها، ولكن مع ذلك كان الأمر غريباً!، الصُحُف
ذكرت أن بعضَ الغموضِ يُحيطُ بالسيّد "أوين"، والسيّد "ناراكوت"
يتَّفِقُ مع هذا الرأي"، فكَّر أنه ربما كانت
الآنسة "غابرييل تيرل" هي التي اشترت الجزيرةَ فِعلاً، ولكن تلك النظريةَ
لم تصمُدْ في ذهنِه حين نظرَ إلى رُكّابه.
لا .. ليست هذه المجموعة؛ لا أحد منهم يبدو
ذا صلةٍ بنجمةٍ سينمائيّةٍ شهيرة، واستعرضهم في ذهنه ببرود: سيّدةٌ كبيرةُ السِنِّ
من ذلك النوْع الجافّ الذي يعرفه جيّداً، ورجلٌ عسكريٌّ عجوز عليه هالةٌ حقيقيّةٌ
لضابطٍ في الجيْش، وفتاةٌ شابّةٌ حلوة ولكنها ليست من النوْع الفاتن، بل فتاةٌ
عاديةٌ ليست فيها لمسةٌ هوليووديّة، وذلك الرجل الضخم المرِح لم يكُن سيّدَ
مجتمعاتٍ حقّاً بل رُبما ٌكان تاجراً مُتقاعِداً.
كان ذلك ما يدورُ في ذِهن "فريد ناراكوت"،
أمّا الرجلُ الآخر الرشيق الذي بدا جائعاً وذا عيْنيْن تتحرَّكان بسرعةٍ فهو شخصٌ
غريب، نعم .. هو كذلك، يُحتمَل أن تكون له علاقةٌ بالعملِ في مجال الأفلام
السينمائيّة، فقط شخصٌ واحدٌ يثيرُ
الإعجابَ في القارب: الرجُلُ الأخيرُ الذي وصل بالسيّارة .. ويا لها من سيّارة!،
سيّارةٌ لم تشهد "ستيكلهيفن" مثلَها من قبل!، لا بٌدَّ أن سيّارةً كهذه
ثمنُها مئاتٌ ومئات!، هذا هو الشخص المناسب، من الواضح أنه وُلِد ثريّاً، لو كانت
المجموعة كلها على شاكِلته لكانت تبدو مُقنِعةً له، الحكاية
كلُّها غريبةٌ حين تُمعِنُ النظرَ فيها .. كُلُّ شيءِ غريب .. غريبٌ جِدّاً!
شقَّ القاربُ طريقَه حوْلَ الصخرة، وعندئذً
ظهر البيْتُ واضِحاً، كان الجانبُ الجنوبيُ
للجزيرة مُختلِفاً تماماً؛ كان ينحدر تدريجيّاً باتجاه البحر وكان البيْتُ يواجه
الجنوب، كان بناءً مُنخفِضاً مُربّعاً ذا طرازٍ عصريٍ ونوافذَ مُستديرةٍ تسمحُ
بدخول الكثير من الضوْء، كان بيْتاً مُدهِشاً كما كان مُتوقَّعاً.
أطفا "فريد ناراكوت" المُحرِّك
فانساب القاربُ بلطفٍ من خلال فجوةٍ طبيعيّةٍ بين الصخور، وقال "فيليب
لومبارد" بحِدّة:
-
لا بُدَّ أن الرسوَّ
هُنا صعبٌ في الطقس السيّء.
فردَّ "فريد ناراكوت" بمرح:
-
لا يُمكِن الرسوُّ في
"جزيرة الجنود" عندما تهبُّ الريحُ الجنوبيّةُ الشرقية، وأحياناً تُصبِحُ
الجزيرةُ معزولةً لمُدّةِ أسبوعٍ أو أكثر.
فكّرت "فيرا كلايثورن" قائلةً لنفسِها:
"لا بُدَّ أن تأمينَ اللوازمِ الغذائيّةِ سيكونُ صعباً للغاية، وهذا أسوأ ما
في موضوعِ العيْش في جزيرة، المُشكلاتُ المنزليّةُ مُقلِقةٌ جِدّاً".
وحين لامسَ القارِبُ الصخورَ قفز "فريد
ناراكوت" واشترك مع "لومبارد" في مساعدة الآخرين على النزول، وبعد
أن ربط "ناراكوت" القاربَ إلى حلقةٍ معدنيّةٍ مُثبَّتةٍ في الصخر سار في
مُقدِّمة المجموعةِ صاعداً الدَرَج المحفور في المنحدَر الصخري، وقال الجنرال "ماك
آرثر":
-
يا له من مكانٍ جميل!
لكنه لم يكُن مُرتاحاً للمكانِ الذي بدا في
عيْنيْه وكأنه مكانٌ لعينٌ غريب، وعندما صعدت المجموعةُ الدرجات ووصلت إلى الشُرفةِ
في الأعلى بدا أنهم استعادوا حَيَويّتَهم، ووجدوا في انتظارهم في مدخل البيْت
مسؤول الخدم بهيْئةٍ لائقةٍ ومظهرٍ بعثَ فيهم شعوراً بالاطمئنان.
وكان البيْتُ نفسُه جميلاً للغاية والمنظرُ
من الشُرفةِ رائعاً، وقد كان مسؤولُ الخدم رجُلاً طويلاً ناحِلاً ذا شعرٍ أشيب
وهيئةٍ تبعثُ على الاحترام، وانحنى لهم انحناءةً خفيفةً وقال:
-
أرجو التفضُّلَ من هُنا.
في القاعةِ الواسعة كانت أنواعٌ من المرطِّباتِ
الباردة جاهزةً للتقديم، وفَهِمَ الضيوفُ من الخادمِ أن السيّدَ "أوين"
تأخّرَ لسوءِ الحظِّ ولن يستطيعَ الوصولَ إلى المكانِ قبل الغَد، وقد ترك تعليماتٍ
بتنفيذِ كُلَّ ما يرغبُ فيه الضيوف، وهم يستطيعونَ الذهابَ إلى غُرَفِهم، أمّا
العشاءُ فسوْفَ يكونُ جاهِزاً في الثامنة تماماً.
تبعتْ "فيرا" السيّدةَ "روجرز"
إلى الطابقِ العُلوي، وفتحت المرأةُ باباً في نهاية الممر فدخلت "فيرا"
غُرفةَ نوْمٍ جميلةٍ ذات نافذةٍ كبيرةٍ تطلُّ على البحر ونافذةٍ أُخرى جهة الشرق،
وردَّدت كلماتِ إعجابٍ قصيرةٍ فقالت لها السيدة "روجرز":
-
آملُ أن تكوني قد
وجدتِ كُلَّ ما تريدينَ يا آنستي.
نظرت "فيرا" حوْلها، وكانت حقائبُها
قد أُحضرت إلى الغُرفة، وفي أحد جوانب الغُرفة
كان هُناكَ بابٌ يُفضي إلى حمّامٍ ذي بلاطٍ أزرق فاتح فقالت بسُرعة:
-
أجل .. أعتقد أن كل
شيءٍ على ما يرام.
-
أرجو أن تدُقّي
الجرسَ إذا احتجتِ إلى أيّ شيءٍ يا آنستي.
كان صوْتُ السيّدة "روجرز" خافِتاً
رتيباً، فنظرت إليها "فيرا" بفضول، كانت تراها كامرأةٍ أشبه بالشبح
الأبيض الجامد، وكان مظهرُها يبعثُ على الاحترامِ بثوْبها الأسود وشعرِها المُصفَّف
إلى الخلف وعيْنيْها الباهتتيْن الغريبتيْن اللتيْن تتحرَّكان طول الوقت، فقالت "فيرا"
لنفسِها: "تبدو كأنها مذعورةٌ من خيالها!، نعم .. هي كذلك .. مذعورة!".
كانت تبدو كأنها امرأةٌ دخلت حالةً من الخوْف
المُميت، فشعرت "فيرا" برجفةٍ في جسمها، ما الذي تخاف منه هذه المرأة يا
تُرى؟، وقالت لها بمودّة:
-
أنا سِكرتيرة السيّدة
"أوين"، وأعتقد أنك تعرفينَ ذلك.
ردّت السيّدة "روجرز":
-
لا يا آنسة .. أنا
لا أعرف شيْئاً، فقط لديَّ قائمةٌ بأسماء الرجال والسيّدات والغُرف المُخصَّصة لهم.
قالت "فيرا":
-
ألم تذكُر السيّدة "أوين"
شيْئاً عنّي؟
برقت عيْنا السيّدة "روجرز" وقالت:
-
أنا لم أرَ السيّدة "أوين"
بعد، لقد وصلنا هُنا منذ يوْميْن فقط.
فقالت "فيرا" لنفسها: "الزوْجان
"أوين" شخصان غير عاديَّيْن".
ثم قالت بصوت عالٍ:
-
مَن العاملون هنا؟
-
أنا وزوْجي فقط يا
آنستي.
فقطّبَت "فيرا" حاجبيْها وهي تُفكِّر:
"ثمانية أشخاصٍ في المنزل، عشرةٌ مع المضيف والمضيفة، ولا يوجد سوى رجُلٍ وزوْجته
لخِدمتهم!"
قالت السيّدة "روجرز":
-
أنا طاهيةٌ ماهرة
وزوْجي مُلِمٌ بصيانة المنزل، لم أكن أعرف أنه ستكونُ في المنزل مجموعةً كبيرةً
كهذه بالطبع.
قالت "فيرا":
-
ولكنكِ ستتدبّرين
الأمر، أليس كذلك؟
-
طبعاً .. طبعاً يا
آنسة؛ أستطيعُ تدبُّر الأمر، وحتى إذا كان سيتم إقامةُ حفلاتً كبيرة فقد تستطيع
السيّدة "أوين" جلب أشخاصٍ إضافيين.
قالت "فيرا":
-
أعتقدُ ذلك.
واستدارت السيّدة "روجرز" للخروج،
فتحرَّكت قدماها بخِفّةٍ ودون صوْت وخرجت من الغُرفة كما لو كانت شبحاً، ذهبت "فيرا" إلى الشبّاك فجلست على
المقعد المُجاوِر له، وكانت تشعُر باضطرابٍ خفيف؛ كل شيءٍ كان يبدو غريباً بعضَ
الشيء على نحوٍ ما: عدمُ وجودِ السيّد والسيّدة "أوين" – السيّدة "روجرز"
الشاحبة كالشبح – والضيوف .. الضيوفُ أيضاً كانوا غريبين، مجموعةٌ ملفَّقةٌ بطريقةً
عجيبة!
قالت لنفسها: "أتمنى لو كنتُ أعرفُ السيّد
والسيّدة "أوين"، أتمنى لو أعرفُ كيْف يبدوان".
ثم نهضتْ فتمشَّتْ في الغُرفة بقلق، كانت غُرفة
نوْمٍ مُمتازةٍ مُجهَّزةٍ كلّياً بطرازٍ عصري: سجاجيد فاتحة اللوْن على الأرضيّة
الخشبيّة اللامعة، وجُدران خفيفة التلوين، ومرآةٌ طويلةٌ محاطةٌ بالأضواء، وسطح
مدفأةٍ خالٍ من أيّ زخرفةٍ باستثناء قِطعةٍ ضخمةٍ من الرُخام الأبيض على شكل دُبٍّ
من النحت العصري وفي داخلها ساعةٌ وفوْقها إطارٌ من الكروم اللامع، ورأتْ هناك
مخطوطةً مُربَّعةَ الشكل تُمثِّل قصيدة، فوقفت "فيرا" أمام المدفأة
وقرأت القصيدة.
وكانت هي ذاتُها الأنشودةَ التي تذكُرُها من
أيام طفولتها:
عشرةُ
جنودٍ صغارٍ خرجوا للعَشاء
أحدهم شَرِقّ فماتَ فبقيَ تسعة
تِسعةُ جنودٍ صغارٍ سهروا حتى ساعةً متأخِّرة
أحدُهم أخذه النوْمُ فبقيَ ثمانية
ثمانيةُ جنودٍ صغارٍ سافروا إلى "ديفون"
أحدُهم قال إنه سيبقى هناك فبقيَ سبعة
سبعةُ جنودٍ صغارٍ كانوا يقطعون خشباً
أحدُهم قطع نفسَه نِصفيْن فبقيَ سِتّة
سِتّةُ جنودٍ صِغارٍ كانوا يلعبون بخليةِ نحل
أحدُهم لسعته نحلةٌ طَنَّانةٌ فمات فبقيَ خمسة
خمسةُ جنودٍ صغارٍ ذهبوا إلى القَضاء
أحدُهم بقيَ في المحكمة فبقيَ أربعة
أربعةُ جنودٍ صغارٍ ذهبوا إلى البحر
سمكةُ رنجةٍ حمراءَ ابتلعت أحدَهم فبقيَ
ثلاثة
ثلاثةُ جنودٍ صغارٍ ذهبوا إلى حديقةِ الحيوان
دُبٌّ كبيرٌ احتضن أحدَهم فبقيَ اثنان
جُنديّانِ صغيرانِ جلسا في الشمس
أحدُهما أُصيب بضربةِ شمسٍ فبقيَ واحد
جنديٌ صغيرٌ بقيَ وحيداً تماماً
فذهب وشنق نفسه
ثم لم يبقَ أحد
ابتسمت "فيرا" وقالت لنفسِها: "طبعاً
.. فهذه هي جزيرة الجنود"، ثم ذهبت وجلست ثانيةً
إلى جوار النافذة، كَم هوَ كبيرٌ هذا البحر!، من هُنا لم يكُن بالإمكانِ رؤيةُ أيِّ
أرضٍ أيْنما كانت، بل مساحاتٍ شاسعةٍ من الماءِ الأزرق الذي يتموّجُ في شمسِ
المغيب، قالت لنفسِها: "كَم
هو هادئٌ هذا البحر اليوْم!، أحياناً يكونُ في غايةِ القسوة".
انطلقتْ إلى ذاكِرتِها عِدّةَ كلماتٍ فجأة:
البحر الذي سحبك إلى أعماقه .. غريق .. وُجِدَ غَريقاً .. غرق في البحر .. غرق ..
غرق .. غرق!
ثم أفاقت
فجأةً وقالت لنفسِها: "لا .. لا أريدُ التذكُّر، لا أريدُ التفكيرَ في ذلك!،
كُلُّ هذا قد انتهى".
وصلَ الدكتور "آرمسترونغ" إلى "جزيرة
الجنود" عند مَغيب الشمس، وفي طريقه إلى الجزيرة كان يتبادلُ الحديثَ مع عاملِ
القارب، وهو رجلٌ من المنطقة نفسِها، كان الدكتور "آرمسترونغ" مُهتَمّاً
بمعرفةِ بعضِ المعلومات عن الأشخاصِ الذين يمتلكون الجزيرة، ولكن ذلك الرجلَ "ناراكوت"
بدا جاهلاً، أو ربما لم يكُن يريدُ الكلام، ولهذا فقد حوّل الدكتور "آرمسترونغ"
حديثَه إلى الطقس وصيْدِ الأسماك، كان مُتعَباً بعد رحلته الطويلة بالسيّارة،
وكانت مُقلتاه تؤلمانه فالسيْرُ غرباً يعني السيرَ باتجاه الشمس.
نعم .. كان مُتعباً جِدّاً، والآن هو مع هذا
البحر وهذا الهدوء التام، هذا ما كان يحتاجُه حَقّاً؛ كان يودُّ أن يقضيَ إجازةً
طويلةً فِعلاً، ولكن ذلك لم يكُن بوِسعه، لم تكُن لديْهِ مُشكلةٌ من الناحية المالية
بالطَبع، ولكنه لا يستطيعُ تركَ عملِهِ لأن هذا يُمكِنُ أن يتسبَّبَ في أن ينساهُ
الناس، والآن ها هو قد وصلَ وعليه التركيزُ فيما هو فيه، قال لنفسِه: "هذا
المساءُ سأتخيّلُ أنني لن أعودَ وأنني قد انتهيْتُ من "لندن" ومن شارع "هارلي"
وكُلِّ ما يتعلَّقُ به.
شيءٌ سحريٌّ كان يتعلَّقُ بكلمةِ "جزيرة"؛
الكلمةُ ذاتُها توحي بالخيال، بمغامرةٍ تجعلُكَ تنفصلُ عن العالم؛ فـ"الجزيرة"
عالَمٌ قائمٌ بذاته، عالَمٌ قد لا تعودُ منه أبداً.
قال لنفسِه: "فلأتركُ حياتي الرَتيبةَ خَلفي"،
ثم بدأ يرسِمُ خُططاً خياليّةً للمُستقبَلِ وهو يبتسمُ لنفسه، وكان لا يزالُ يبتسمُ
وهو يصعدُ الدرجاتِ المنحوتةَ في صخرة الجزيرة.
رأى في الشُرفةِ رجُلاً عجوزاً يجلسُ على
مقعد، وبدا منظره مألوفاً بشكلٍ غامضٍ للدُكتور "آرمسترونغ"، أيْنَ رأى
ذلكَ الوجهَ الذي يُشبِهُ الضفدع وتلكَ الرقبةَ التي تُشبِه رقبة السُلحفاة وذلكَ
الجسمَ المُنحني وهاتيْن العيْنيْن الشاحبتيْن الذكيّتيْن؟، آه .. إنه العجوزُ "وارغريف"
بالطبع!، لقد سبقَ أن طُلِب "آرمسترونغ" للشهادة أمامه، وكان يبدو
دائماً شِبْهَ نائمٍ ولكنه كان يقِظاً تماماً إذا برزتْ نقطةٌ قانونيّة، كان ذا سُلطةٍ
كبيرةٍ على المُحلّفين، وكان يُقالُ إن بوسعه الإيحاءَ لهم بقرارِهم في أيِّ وقتٍ
يشاء، وقد استطاع أن ينتزع منهم قراراتِ إدانةٍ غيْرِ مُتوقَّعةٍ مرّةً أو اثنتيْن،
حتى إن بعضَ الناسِ وصفوه بأنه "قاضي الإعدام"!
غريبٌ أن يقابِلَه في هذا المكانِ البعيدِ
النائي من العالَم!
قال القاضي "وارغريف" لنفسِه وهو
يصافحُ الطبيب: "الطبيب "آرمسترونغ"! .. إنني أذكُرك
على مِنصّةِ الشُهود؛ دقيقٌ وحَذِرٌ تماماً، الأطباءُ كُلُّهم حَمقى، وأكثرهم حُمقاً
أطباءُ شارع "هارلي"بالطبع".
وتذكَّر حانِقاً مُقابلةً جرت له مع شخصيّةٍ أُخرى
حمقاءَ في ذلك الشارع مُؤخَّراً، ثم قال بصوْتٍ عالٍ أجش:
-
إن المُرطِّباتُ المُنعشةُ
هناكَ في القاعة.
فقال الدكتور "آرمسترونغ":
-
يجبُ أن أذهبَ
لتحيّةِ مُضيفي ومُضيفتي أوّلاً.
فأغمض القاضي "وارغريف" عيْنيْه
ثانيةً وقال وهو يبدو كأحد الزواحف:
-
ليْسَ بوسعك ذلك.
قال الدكتور "آرمسترونغ" مَدهوشاً:
-
لِـمَ لا؟
قال القاضي:
-
لا مُضيف ولا مُضيفة!
.. إنه لأمرٌ غَريب؛ لا أفهم ما الذي يحدُثُ هنا!
حدَّقَ إليه الدكتور "آرمسترونغ" قَليلاً،
وعندما ظنَّ أن ذلكَ العجوزَ قد نام بالفِعل قال "وارغريف" فجأة:
-
هل تعرفُ "كونستانس
كلمنغتون"؟
-
لـ .. لا .. لا أظنُّ
أنني أعرفُها.
قال القاضي:
-
ليْسَ لذلك أهميّة،
إنها امرأةٌ غامِضةٌ جِدّاً، وخطُّها لا يكادُ يُمكِنُ قراءتُه، لقد كُنتُ أتساءلُ
للتوْ ما إذا كنتُ قد أخطأتُ طريقي إلى هذا المكان.
فهزَّ الدكتور "آرمسترونغ" رأسَه
وتوجَّهَ إلى المنزل، في حين أخذ القاضي "وارغريف" يتأمَّلُ في موضوعِ "كونستانس
كلمنغتون"، كانت امرأةً لا يُمكِنُ الاعتمادُ عليها مثل سائر النساء، ثُمَّ
تحوَّلَ تفكيرُه إلى المرأتيْن الموجودتيْن في المنزل: العجوزُ منقبضةُ الفَمِ
والفتاة، لم يكترِثْ بأمرِ الفتاة؛ فهي مُجرَّد فتاةٌ مُبتذَلةٌ عديمةُ الإحساس ..
ولكن لا .. في المنزلِ ثلاثُ نساء إذا أخذنا السيّدة "روجرز" في الحُسبان،
تلك المخلوقةُ الغريبةُ التي تبدو ميّتةً من الخوْف، مع أنها هي وزوْجَها شخصان
محترمان ويُجيدان عملَهما.
في تِلكَ اللحظةِ خرجَ السيّد "روجرز"
إلى الشُرفة فسأله القاضي:
-
هل تتوقَّعون قدومَ
السيّدةِ "كونستانس كلمنغتون"؟، هل لديْك عِلمٌ بذلك؟
فحدَّق إليه "روجرز" وقال:
-
لا يا سيّدي .. لا عِلم
لي بذلك.
ارتفع حاجِبا القاضي، ولكنه اكتفى بالغمغمةِ
وقال لنفسِه: "جزيرة الجنود! .. يبدو وكأن جُندياً يختبئ في كوْمة الحطب".
كان "أنتوني مارستون" في حمّامه
ينعَمُ بالمياهِ الساخنةِ تنسابُ على جسده، وكان يشعرُ بتصلُّبِ أطرافِه بعد رحلته
الطويلة، لم تكُن تدورُ في رأسِهِ أفكارٌ كثيرة، فقد كان مخلوقاً عمليّاً، قال
لنفسه: "أعتقدُ أنني يجبُ أن أُؤدّي تِلَك المَهمّة، لا مناص"، ثم صرفَ تفكيرَه عن أيِّ شيءٍ وقال لنفسِه: "سأنتهي
أوّلاً من هذا الحمّامِ اللَطيف وأُريحُ جَسدي المُتعَب، ثم أحلِقُ ذَقني وأتناولُ
بعضَ المرطِّبات، ثم أتناولُ العشاء، ثم .. ثم ماذا ؟!
كان السيد "بلور" يعقدُ رَبطةَ عُنُقِه،
ولكنه لم يكُن ماهِراً في هذه الأمور فقال لنفسِه: "هل أبدو على ما يُرام؟ ..
أعتقد ذلك".
وعندما
وصل إلى المكان الذي يضُمُّ الضيوف لم يُبدِ أحدٌ له أيَّ مودَّةٍ فعليّة، وكانت
طريقةُ نظرِ بعضِهم إلى بعضٍ غريبة؛ بدا وكأنهم يعرفون أن ... حسناً، الأمر عائد
له؛ لقد عَزَم على أن لا يفشلَ في مَهمّته، سرحَ ببصره إلى تِلكَ الأُنشودة الموْضوعة
فوقَ المدفأة، كان وضع تلك الأنشودةِ هناك لمسةً أنيقة، قال لنفسه: "أذكُرُ
هذه الجزيرةَ عندما كنتُ طِفلاً، ولم يخطُر لي قَطٌ أنني سأقومُ بعملٍ كهذا في
منزلٍ كهذا، ربما كان أمراً جيّداً أن المرءَ لا يستطيعُ التنبّؤَ بالمُستقبل.
قطب الجنرال "ماك آرثر" جبينه مُفكِّراً
وقال: "كُلُّ شيءٍ يبدو غريباً!، ليس هذا ما كنتُ أتوقَّعه أبداً"، تمنّى لو استطاع أن يجدَ عُذراً ويُغادر
الجزيرةَ تاركاً كل شيء، ولكن القارب كان قد عاد إلى الشاطئ فأضحى مُجبَراً على
البقاء، هذا المدعو "لومبارد" شخصٌ غريب، وهو ليس فوق مستوى الشُبهات،
هذا أمرٌ مؤكَّد .. ليس فوق مُستوى الشُبهات.
خرج "لومبارد" من غُرفته فيما كان
جرسُ العَشاء يُقرَع، ومضى إلى رأسِ الدَرَج، كان يتحرَّكُ بخِفّةٍ كالفهد، شيءٌ
ما فيه يُشبِهُ الفَهدَ أو الوَحشَ المفترس، ولكنه كان جميلَ الشكل!، كان يبتسم
بينه وبين نفسه وهو يقول: "سيكونُ أُسبوعاً مُمتِعاً.
جلست "إميلي برنت" في غُرفتها تقرأُ
كِتاباً دينيّاً وقد ارتدت ثوْباً حريريّاً أسود استعداداً للعَشاء، تحرَّكت
شفتاها وهي تقرأ: "الكَفَرةُ سوف يغرقونَ في الحُفرةِ التي حفروها هم أنفُسُهم،
في الشِباك التي أخفّوها ستنزلق أقدامهم"، ثُمَّ زَمَّتْ شفتيْها وأغلقت الكتاب، ونهضت فوضعت حِليةً
في رَقبتِها ونزلتْ إلى العَشاء.
