أقوال تاريخية مأثورة | خذوا الحكمة من على ضهر التكاتك

صورة واحد من النُخبة المُثقّفة (1)

الخميس:

أخيراً انتهيْت من توْزيع ثلاثمائة وخمسين دعوةً من دعوات حضور سيمينار الحلقة النقاشيّة التي نظّمتُها في "قاعة الحِكمة" بـ"ساقية الصاوي" والتي عنوَنتُها بـ"ندوة حوْل أزمة النُخبة المُثقّفة (الإنتيليجينسيا) المصريّة مع عوامل الطرد الفكري وميكانيزمات التكيّف المُجتمعي وإشكاليّات الوَسم العشوائي للاستقطاب المُفرِط".

ذهبتُ للقاعة لأطمئن على تجهيزات الندوة وتوافر جميع عناصر نجاحها فقابلتُ صديقي الكاتب الكبير المُنمّق "محفلط المزفلط" فداعبتُه قائلاً:

-       ظبطّتك يا راجل يا هرّاب.

-       أهلاااااااااااااً حبيبي .. معقولة! .. أخيراً شُفت أديبنا العظيم "صلاح اصطلاح" .. إزايّك يا "ابو الصُلح" .. عاش مَن شافك.

-       يا سيدي أنا تحت النظر .. الدور والباقي عليك انتَ .. مش باين بقى لك كام شهر .. فينك؟

-       واللهِ يا "صلاح" يا خويا كُنت مسافر "باريس" و"مونت كارلو" ولِسّه راجع من عشر أيّام بَس.

-       كُنت بتعمل إيه هناك يا خلبوص؟!

-       أبداً .. دي كانت رحلة عمل واللهِ .. كنت ف "باريس" باشرِف على ورشة أدبيّة عن "تأثير الحضارة العربيّة والإسلاميّة على أيْدلوجيا الغرب في عصر التنوير والمعرفة الحديث" .. وعدّيت تخاطيف كده على "مونت كارلو" علشان أحضر افتتاح أتيلييه لوحات صديقنا الفنّان التشكيلي "منصور أبو منظور" .. ما انت عارفه .. ده حتى موصّيني أسلِّم عليك.

-       الله يسلّمك ويسلّمه .. إنت لازم تيجي الندوة بتاعتي بقى .. معلهش الدعوات كلّها خلصت .. بَس انتَ مش غريب .. ح استنّاك بُكره الساعة سبعة مساءً .. إوْعى ماتجيش لاحسن أزعل.

-       وانا اقدر برضه .. عن إيه الندوة دي؟

-       عن أزمة نُخبتنا الثقافيّة اللي بنعاني منها.

-       برافو .. موضوع مُهِم ويستحق البحث والتمحيص فعلاً.

-       خلاص .. أشوفك بُكره علشان تساهم بأفكارك معانا.

-       بالتأكيد .. أراك عصي الدمع .. إلى اللقاء.

الجُمعة:

اضطُررتُ لبدء الندوة الساعة الثامنة عسى أن يحضر المزيد من المدعوّين ولكن دون فائدة، فقد حضر أحد عشر شخصاً فقط رغم الأهميّة المُلِحّة للندوة قي خِضَم تلك المنعطفات التاريخيّة التي يمر بها مجتمعنا المصري الذي يشهد حُزمةً من التغيّرات الأنثروبولوجيّة والتحوّلات الفلسفيّة والتقلّبات التنمويّة والتناقضات المُستقبليّة التي تؤثّر على الأقليّة النخبويّة المُهيْمنة التي توجّه وتقود الأغلبيّة المُهمّشة الظاهرة من ناحية السلعنة الماديّة واللامعياريّة الافتراضيّة.

بدأتُ إدارة الندوة بإلقاء مُحاضرةٍ سريعةٍ زميعةٍ زموعة لم تستغرق سوي ساعتيْن ونصف فقط بعنوان "المنظور البنائي الحيوي التشابُكي للإطار النظري والمنهجي لاستشرافات النُخبة المُثقّفة نحو مُستقبلٍ أفضل لأنساق القيم الاجتماعيّة"، ثم فتحتُ باب النقاش بيني وبين الحاضرين:

-       أنا: يا ترى فيه حَد يحب يُدلي بدلوه في هذا الأمر.

-       أحد الحاضرين: بدايةً أنا الدكتور "حازِم حازِق" الأستاذ المُساعد بكليّة الآداب قسم الفلسفة وعلم النفس بجامعة "عين شمس".

-       أنا: غني عن التعريف يا دكتور .. اتفضّل.

-       الدكتور "حازِم": أنا أرى أن نُخبتنا المُثقّفة كان من المنوط بها قيادة المجتمع أخلاقيّاً وثقافيّاً وتوفير الحصانات له لمنعه من التدهور الثقافي والأخلاقي من خلال التزامها بنشر الوعي بين أفراد المجتمع .. ولكنها – وللأسف الشديد – فشلت في تأدية هذا الدور المُفترَض وصارت مُتقاعِسة أو مُقصِّرة أو غارقة في نرجسيّتها وصراعاتها.

-       أنا: اسمح لي أختلف معاك كُليّاً وجُزئيّاً .. تبنّيك لمثل هذا الفهم للمُثقّف أو النُخبة إشكالي وجذره استبدادي بل وينتمي إلى فهم طبقي ارستقراطي وإقطاعي للمجتمع وعلاقات الأفراد فيه.

-       الدكتور "حازِم": إزّاي؟!

-       أنا: النخبة القائدة ثقافيّاً أو مُعلِّمة الجماهير هي في أصلها التاريخي نمطٌ من أنماط التفكير ينتمي للأنظمة الشموليّة تندرج فيه النخبة المُثقّفة كي تُمثِّل من خلاله هموم ومصالح الكادحين من فلّاحين وعُمّال .. وكانت النتيجة المنطقية لمثل هذا الإندراج هو إلحاق الثقافة بالسياسة وأصبح الساسة هُم الذين يُقرِّرون أشكال ومحتوى الثقافة التي ينبغي أن تتعلّمها الجماهير وعلى المثقفين أن يروِّجوا لها .. وده طبعاً بغرض الهيْمنة على ذلك العقل الجَمعي للجماهير وتوْجيهها إلى حيْث يريد هؤلاء الساسة والحُكّام .. وده بالتالي حوِّل النُخبة المُثقّفة إلى فئة نفعيّة اتسم سلوكها بالأنانيّة وبدأت في ابتزاز السُلطة الحاكمة للتشويش على بوصلة الجماهير والتخلّي عن دورها في حماية الهويّة الوطنيّة وتعزيز دعائم صمودها في مواجهة التحديات الداخليّة الناجمة عن الأزمات العالميّة.

 

(يتبع)