صورة واحد من النُخبة المُثقّفة (2)
-
الأستاذ
"محفلط": يا جماعة – مع احترامي للجدال الدائر – أنا شايف إن موْضوع
النقاش بينكم سفسطائي بوهيمي .. أولاً: ليس ثَمّة اتفاق بخصوص معنى الثقافة ومَن
هوَ المثقف .. وثانياً: افتراض أن المُثقّفين مجموعة واحدة مُنسجِمة فكريّاً تتفق
على أفكار مُعيّنة على أنها صحيحة وجديرة بالتعليم هو نفسه افتراض مغلوط ..
فالثقافة نفسها تقوم على التنوّع والاختلاف والبحث الدائم في معنى الأشياء وتغيُّر
دلالاتها حسب اختلاف السياقات وليس على الانسجام والاتفاق الذي يعني ذبولها
وموتها.
-
أحد الحاضرين: أنا
اسمي "عارف علم الدين" .. تسمح
لي بكلمة يا أستاذ "صلاح"؟
-
أنا: اتفضّل .. بَس
عرّف نفسك الأوِّل.
-
"عارف":
أنا "عارف" صحفي بجريدة "كلام عميق في قعر الثقافة الغويط" ..
أنا شايف إن المُثقّقين ليسوا منعزلين في برج عاجي بعيداً عن المجتمع وفوقه ..
وإنما هم نتاج صيْرورات مُجتمعيّة عميقة تسحب معها الكثير من المُثقّفين أحياناً
.. كما هو الحال في انجراف بعض المُثقّفين في موْجات الطائفيّة والعُنصريّة وشيْطنة
الآخر المختلف عندما يُهيْمِن الخوف على مجتمعٍ ما.
-
أنا: بمعنى؟!!
-
"عارف":
بمعنى أن مهمّة الثقافة – وبالتالي مهمّة المُثقَّف الحقيقي – هي التنوير .. أي
الإيمان بقيم التنوير ونشرها وهي قيمة إنسانيّة بطبعها وتقوم على الإقرار غير
المشروط بفردانيّة المواطن وضرورة حصوله على الحقوق الطبيعيّة والقانونيّة
والامتيازات التنافُسيّة المشروعة التي تُمكِّنه من تشكيل خياراته في الحياة بمنتهى
الحريّة ليعيش على النحو الذي يشاء ما دامت هذه الخيارات لا تُشكِّل خطراً ماديّاً
على المجتمع ولا تتعدّى على حقوق الآخرين وامتيازاتهم المشروعة.
-
أحد الحاضرين
المجهولين (لم يُعرِّف نفسه): يا خوانّا إزاي جات لكم الجرأة على مُحاسبة نُخبتنا
المُثقّفة دون أن يُعطيها المجتمع حقّها الأصيل في قيادته ويمنحها دوْرها الطليعي
المُستحَق في تقرير أشكال ومحتوى الثقافة التي ينبغي أن تتعلّمها الجماهير .. ده
حتى يبقى ظُلمٌ مُجحِف .. لا تحاسبونا على الواجبات قبل أن تُمكِّنونا من الحقوق
أوّلاً .. فالنُخبة المُثقّفة الحقيقيّة الآن مُخترقة وفاسدة والشريف منها مُستضعَف
ومُهمَّش .. يجب أن نحرِّرها أوّلاً ونُعزِّز مكانتها فوق الجميع وننزع من قلبها
الرُعب والخوْف ونُعيد شرفها الذى انتهكته العصا الغليظة للأنظمة البوليسيّة
السابقة .. ثم أخيراً نُحاسِبها ونُمحِّص دوْرها.
وتشعّب بنا النقاش في أكثر من اتجاه حتى بلغنا
منتصف الليْل حين فوجئنا بأن القاعة قد أظلمت فجأة بسبب انتهاء وقت تأجير القاعة
وقطع التيّار الكهربائي بالكامل عنها ورحيل العاملين بها، ورغم ذلك ظللنا نتحاور وحدنا
في مُساجلةٍ طويلة تحت أضواء كشّافات هواتفنا المحمولة حتى انطفأ أغلبها بسبب نفاذ
شحن بطّاريّاتها قبيْل بزوغ الفجر، فاتفقنا على عقد ندوةٍ أُخرى يوم الجُمعة
القادمة لاستكمال ما بدأناه ربما نصل إلى نتائجَ ملموسةٍ وتوْصياتٍ محسوسةٍ لهذه
الندوة الهامّة التي تتبنّى تلك الأطروحة الجدليّة سواء على المستوى المادّي
الواقعي أو المفاهيمي المُصطلحي.
الإثنيْن:
اتصل بي اليوم مُعِد البرنامج التليفزيوني
"مُناظرة نخبويّة" الذي يُذاع على قناة "الفيل" الثقافيّة،
وعرض عليَّ الرجل أن أكون طرفاً في مُناظرةٍ ثقافيّةٍ معرفيّة تبحث في علاقة
النُخبة المُثقّفة بثوْرة يناير والصراعات السياسيّة التي تلتها، ولكني رفضتُ ذلك
العرض رفضاً باتّاً وقاطعاً عندما عرفت منه أن طرف المُناظرة الآخر سيكون المُفكِّر
"زاخر فاخر شاخر".
ذلك المُفكِّر الفَسل هو أعدى أعداء الثقافة
ونُخبتها، فهو شخصٌ مُدّعٍ فاسدٌ نفعي أوَنطجي مصلحجي لا يفقه شيئاً عن الغرض
النبيل الذي من أجله تعيش تلك النُخبة، بدليل أنه تحالف مع أعداء ثوْرة
"يناير" وباع الثوّار الحقيقيّين ليتصدّر هوَ المشهد ويُحقِّق مصالحه
الشخصيّة بعد أن أخفى الحق وأظهر الباطل وساهم في تضليل المواطن المغلوب على أمره
ممّا أضر بصورة النُخبة أمام الرأي العام وأبعدها بشكلٍ مؤثِّر عن دورها الجليل في
الانفتاح الفكري والانفشاخ التنويري.
الأربعاء:
فتحتُ اليوم بريدي الإلكتروني (الإيميل)
لأُطالِع الرسائل التي وصلتني عليه (الإنبوكس) فوجدت أهمها دعوات استضافة لأحِل
ضيْفاً على عدّة جهات ومؤسّسات ثقافيّة كُبرى لمناقشة القضايا الآنية التي ماجت
بها حركة الثقافة في وطننا العربي الكبير.
لم أقبل سوى ثلاث دعواتٍ فقط جائتني من: "المركز
الثقافي الاستنباطي الاستبطاني" ونادي الـ"روتارآكت" ومنظّمة
"الإنرويل" .. بصراحة التلاتة دول بيدّوني مُقابِل مُحترم بالدولار نظير
حضوري ندواتهم .. ده غير إن الندوات دي بتتعمل في فنادق فخمة (خمس نجوم) وبيعقبها
عشاء فاخر لا يُقاوَم.
الجُمعة:
دبّت خناقة لرب السَما بيني وبين الوليّة
مراتي، كان سبب الخناقة دي خلاف فكري بحثي مأزوم عن الانتقاء والتخيير بين الأكل
والثقافة، بسلامتها طلبت مني ميتين جنيه علشان تشتري خضار وفرخة للغدا النهار ده
ولكني أفهمتها أننا آخر الشهر وأنني لا أحتكم سوى على ميتين وخمسين جنيه فقط
شايلهم لشراء كتاب "فن اللامبالاة لعيْش حياة تُخالف المألوف" للكاتب
الأمريكي "مارك مانسون"، وعندما اعترضَتْ حاولت إفهامها – في البداية
وبكل هدوء - أن "الإنسان العاقل يأكل ليعيش وأن الإنسان الأحمق هو الذي يعيش
لكي يأكل" ولكنها لم تقتنع بل وأمعنت في وصفي بصفاتٍ حقيرة فجعلتني أبذل
جهداً أكبر في إقناعها أن "على الإنسان أن يعيش من أجل السعي لاحتلال مكانته
وتحقيق ذاته"، وعندما بالغت وأسهبت في ذكر تلك الصفات ثم تعدّت ذلك بذكر
صفاتٍ أُخرى لوالدتي أجبرتني على تعريفها بأن "للإنسان المُتصالح مع نفسه
قُدرةٌ محدودةٌ على الاحتمال وطاقةٌ ضئيلةٌ على الصبر إذا نفذت انفجر فيتضرّر كل مَن
حوْله".
وعرفتُ أخيراً أنها اقتنعت بتلك الحِكمة الثقافيّة الأخيرة بعد أن شاهدتُ بنفسي دلائل وأمارات ذلك الاقتناع على وجهها قبل أن يُغطّيه رجال الإسعاف وهم يحملونها للمشرحة .. رحمها الله وتغمّدها بواسع رحمته.