خبر
أخبار ملهلبة

الخيميائي | باولو كويلو | الجزء الرابع



الجزء الرابع

 

 

تُشرِف على مدينة "تاريفا" الصغيرة قلعةٌ قديمةٌ بناها المغاربة في سالف الزمان، ويُمكِن لمَن يجلس على سورها أن يرى ميْداناً وبائعاً للفيشار وجُزءاً من "أفريقيا"، وفي تلك الليلة جلس "ملكي صادق" ملك "سالم" على سور القلعة ولفحت وجهه الرياح المُسمّاة بالشرقيّة، كما كانت الأغنام بالقرب منه لا تكف عن الحركة القلقة وهي تشعر بالاضطراب لتغيير راعيها، فكانت كل ما ترغب فيه هو أن تجد ما تأكل وما تشرب.

وأخذ الملك "ملكي صادق" يرقُب الباخرة الصغيرة التي راحت تبتعد عن الميناء، لن يرى الراعي الصغير أبداً منذ اليوْم بعد أن منحه عُشر غنمه، إلّا أن هذا هو عمـله.

ورغم أن الآلهة لا ينبغي أن تكون لها أمنيات - لأنها لا تملك أسطورةً ذاتيّة – إلّا أن الملك العجوز – الذي اعتبر نفسه من ضمن الآلهة - تمنّى من أعماق قلبه نجاح ذلك الشاب، وقال لنفسه:

-       يا للأسف! .. سينسى اسمي عمّا قريب.

كان ينبغي أن أجعله يكرِّر اسمي عِدّة مرّات حتى إذا ما تكلَّم عني تسنّى له أن يقول إنني "ملكي صادق" ملك "سالم"، ثم رفع عيْنيْه نحو السماء مرتبكاً وشعر بالذنب بسبب أفكاره تلك وقال:

-       نعم .. أعرف أن هذا غرورٌ وأنه باطل الأباطيل مثلما قلتَ أيّها الرب .. ولكن ألا يحق لملكٍ عجوزٍ أن يفخر بنفسه أحياناً؟!

*****

-       يا لغرابة "أفريقيا"!! .. إنها بلادٌ عجيبة.

هكذا فكَّر الشاب - بعد أن وصل إلى "طنجة" التي تقع على الضفّة الأخرى من "تاريفا" - وهو جالسٌ في مقهى شبيهٍ بالمقاهي الأخرى التي رآها وهو يجتاز الأزِقّة الضيّقة لتلك المدينة، كما رأى رجالاً يُدخِّنون غلايين عملاقة (يقصد النارجيلة) يتناقلونها من فمٍ إلى فم، وشاهد أيضاً رجالاً يسيرون مُتشابكي الأيدي ونساءً مُحجَّبات الوجه وشيوخاً يصعدون إلى قِـمّة أبراجٍ عالية ويشرعون في النداء (يقصد أنهم يؤذِّنون للصلاة من فوْق المآذن) ورجالاً يركعون ويلمسون بجباههم الأرض، فقال بصوْتٍ خفيض:

-       يا لها من هرطقة!!

(تعليق من المُترجِم: يصف المؤلِّف ما رآه الراعي في الشوارع المغربيّة على نحوٍ سطحيٍ غير دقيق دون دراسة متعمِّقة للديانة الإسلاميّة ومناسك العبادة فيها)

كان قد رأى وهو طفلٌ في كنيسة قريته تمثالاً للقِدّيس "جاك" الكبير على صهوة حصانه الأبيض مُسدِّداً رُمحه نحو أشخاصٍ يشبهون هؤلاء الناس، وشعر بقلقٍ شديد ووجد نظراتهم مخيفة، وبالإضافة إلى ذلك فإنه - في عجلة الرحيل الكبير - نسى أحد التفصيلات، نسى تفصيلاً صغيراً جدّاً يمكن بالفعل أن يحول بينه وبين كنزه لفترةٍ طويلة، وهو أن كل الناس في هذا البلد يتكلّمون اللُغة العربيّة.

اقترب منه صاحب المقهى فأشار له بإصبعه إلى مشروبٍ رآه يقدِّمه على منضدةٍ أخرى، اتضح أنه شاي، وشايٌ مُرٌّ أيضاً، وكان هو يُفضِّل أن يشرب نبيذاً ولكن تلك لم تكن بالتأكيد هي اللحظة التي ينبغي أن يُفكِّر فيها في هذه الأشياء، الأحرى ألا يفكِّر إلّا في كَنزه وفي الطريقة التي سيضع بها يده عليه.

لقد استطاع بعد بيْع قطيعه أن يضع في جيْبه مبلغاً كبيراً من المال، وكان يعرف أن للمال قوّة السِحر فالإنسان لا يكون مع المال وحيداً تماماً، وكان يعرف أيضاً أنه بعد قليلٍ من الوقت - ربّما في خلال بضعة أيام - سيكون تحت سفح الأهرام، وفكَّر في كلام الملك الشيْخ عن الكَنز فوجده معقولاً ويُمكِن تصديقه، فشيْخٌ مثله - يملك كل هذا الذهب والجواهر التي تلمع على صـدره - لا يحتاج لأن يُؤلِّف أكاذيب لكي يحصل على سِتّة خرافٍ فقط، حدثه الملك العـجـوز عن العلامات والإشارات فظل طول عـبـور المضيق يُفكِّر في تلك العلامات، نعم .. هو يعرف جيداً ما كان يتكلَّم عنه، فقد اعتاد طوال تلك الفترة التي قضاها في ريف "الأندلس" أن يقرأ على الأرض وفي السماء عـلامـات الطريق الذي ينبغي له أن يسلكها، وتعلَّم أن هذا الطيْر يكشف عن وجود ثُعبانٍ قريب، وأن تلك الشُجيْرة تدل على وجود الماء على مبعدة بضعة كيلو مترات، لقد علَّمته رعاية الخِراف هذه الأشياء، وقال في سِرّه:

-       إن كان الله يُرشِد الغنم بهذه الطريقة فسيُرشِد الإنسان أيضاً.

حينئذٍ شعر بالاطمئنان والارتياح وبدا مذاق الشاي أقل مرارة، ثم سمع شخصاً يسأله بالإسبانيّة:

-       من أنت؟

وشعر براحةٍ غامرة، فقد كان يُفكِّر في العلامات وإذا بشخصٍ ما يظهر له في الحال، فسأله "سنتياجو" بدوْره:

-       كيف تعرف الإسبانيّة؟

كان الوافد الجديد فتىً يرتدي زِيّاً غربيّاً ولكن لوْن بشرته أوْحى بأنه عربيٌ من أبناء المدينة، وكان في مثل قامة "سنتياجو" وسِنّه تقريباً، فأجاب الفتى:

-       هُنا يتكلَّم كل الناس تقريباً اللغة الإسبانية .. فنحن على مبعدة بضع ساعاتٍ لا غير من "إسبانيا".

-       اجلِس واطلب شيئاً على حسابي .. واطلب لي نبيذاً فأنا أمقُت هذا الشاي.

-       لا يوجد نبيذٌ هنا .. فالدين الإسلامي هُنا يُحرِّمه.

عندئذ قال "سنتياجو" إنه لا بُد أن يذهب إلى الأهرام، وكان على وشك أن يتحدَّث عن الكَنز ولكنه آثر الصمت فبوسع هذا العربي أن يطلب منه جُزءاً من الكَنز في مقابل اصطحابه حتى هُناك، وتذكَّر نصيحة الشيْخ عندما قال له ألّا يَعِد بمنح ما لم يملكه بعد حتى لا يفقد الرغبة في الحصول عليه، فنظر إلى الفتى العربي وسأله:      

-       أبوسعك أن تُرشدني للذهاب إلى "مِصر"؟ .. إنني أستطيع أن أدفع لك أجراً كمُرشِدٍ عندما تصحبني للأهرام.

ولاحظ "سنتياجو" ساعتها أن صاحب المقهى كان يقف بالقرب منهما وهو يُنصِت بانتباهٍ إلى ما يقولان فشعر بعدم الارتياح لوجـوده، ولكنه قد وجد مُرشِداً له فلن يُفرِّط في هذه الفُرصة، ثم قال له الفتى العربي:

-       يجب أن تعبُر الصحراء الكُبرى بكاملها .. ولكي تفعل ذلك فينبغي أن يكون لديك المال .. هل لديك مالاً يكفي هذه الرحلة؟

وجـد "سنتياجو" هذا السـؤال فـضـوليّـاً، ولكنه كان يثق في الشـيْخ الذي قال له إنك عندما تريد شيئاً بإخلاص فـإن الـعـالـم بأسره سيطاوعك للحصول عليه، فأخرج نقوده من جيْبه وأظهرها لرفيقه الجديد، فاقترب صاحب المقهى ونظر بدوْره ثم تبادل الرجلان بضع كلماتٍ بالعربيّة بدا أثناءها صاحب المقهى غاضباً، ثم قال الفتى:

-       هيّا بنا ننصرف من هنا .. فهو لا يُريدنا أن نبقى.

شعر "سنتياجو" بأنه أكثر اطمئناناً، فنهض لكي يدفع ما عليه لكن صاحب المقهى أمسك بذراعـه وراح يُهـدِر بـحـديثٍ طويل دون توقُّف، كـان "سنتياجو" متين النبيان ولكنه في بلدٍ غريب فلم يعترض الرجل الغاضب، غير أن صاحبه العربي كان هو الذي دفع صاحب المقهى جانباً، واصطحب الفتى العربي "سنتياجو" إلى الخارج قائلاً:

-       كان يُريد نقودك .. فـ"طنجة" ليست كبقية "أفريقيا" .. نحن هنا في ميناء .. والموانئ عادةً أوْكارٌ للصوص.

وأحس "سنتياجو" أن بوسعـه إذن أن يثق بصديقه الجديد الذي هَبَّ لنجـدتـه وهو في موقفٍ حرج، أخرج النقود من جيْبه وشرع يعدّها، قال الفتى العربي وهو يأخذ النقود:

-       يُمكِننا أن نكون غـداً عند سفح الأهرام .. ولكن يجب أن أشـتـري جمليْن.

ثم مضيا معاً عبر أزِقّة "طنجة" الضيّقة، كانت كل الزوايا والأركان مزدحمةً ببضائع معروضةٍ للبيْع، وأخيراً وصلا إلى قلب الميْدان الكبير حيث يُـقـام السـوق، وكان هناك آلافٌ من الأشخاص يـتـجـادلون ويبيـعـون ويشـتـرون الخُضَر والخناجـر جـنباً إلى جنب ومـعـهـا السـجـاجـيـد والنـراجـيـل من كل الأنواع، ولم تفارق عيْنا الشـاب صـاحـبـه الجـديد فهو لم ينسَ أنه يحمل الآن كل ثروته، وفكَّر في أن يطلب منه ردّهـا ولكنه قـدَّر أن هذا سيكون عـمـلاً خـالـيـاً من الذوْق، لم يكن يـعـرف عـادات هذه البـلاد الأجنبيّة التي وطأها الآن بقدميْه وقال في سِرّه:

-       يكفي أن أراقبه.

وكان الفتى العربي أمتن بنياناً منه، وفـجـأة وسط ذلك الزحـام الهائل وقعت عيْناه على أجـمـل سـيْفٍ في الوجود، كان سلاحه فضيّاً ومقبضه أسود مُرصَّعاً بالحجارة الكريمة، وعـاهـد "سنتياجو" نـفـسـه أن يشـتـري هـذا السيْف لدى عـوْدته من "مِـصـر"، فقال لصاحبه:

-       اسأل التاجر عن ثمنه.

ولكنه انتبه إلى أنه قد غفل عن صاحبه العربي لمدة ثانيتيْن كان يتأمَّل خلالهما السلاح، انقبض قلبه كما لو كان صدره قد تقلَّص في الحجم، وخشي أن ينظر جانباً مُدرِكاً تماماً ما ينتظره، ظل يُثبِّت عيْنيْه لحظةً على السيْف البديع، ثم تسلَّح بالشجاعة والتفت، كان الناس حوْله في الميْدان في كل مكانٍ يذهبون ويجيئون ويصيحون ويشترون السجاجيد والجوز والسلاطة الخضراء والصواني النُحاسيّة، كان هناك الرجال المتشابكو الأيْدي والنِسوة المُحـجَّـبـات وروائح البـضـائع الحـرّيـفـة، ولكن لم يكن هناك في أي مكانٍ على الإطلاق طیْف صاحبه، أراد - مع ذلك - أن يعتقد أنه قد تاه عنه بالمُصادفة، وقرَّر أن يظل في مكانه على أمل أن يرجع.

وبعد فترةٍ صعد شخصٌ إلى واحـدٍ من تلك الأبراج (المآذن) وشـرع في ندائه المُرتَّل (الآذان) فبدأ كل من حوْله يركـعـون ويـلمـسـون بجباههم الأرض (يُصلّون) ويُرتِّلون بدوْرهم، وبعـد ذلك - وكـمـا لو كانوا مملكةً من النمل تعـمـل بنشاط - شـرعـوا يُفكِّكون منصّاتهم التي كانوا يضعون عليها بضائعهم ثم انصرفوا.

وغابت الشمس بدوْرها، وظـل الشـاب يـُراقـبـهـا مُـدّةً طويلةً إلى أن اخـتـفـت خـلـف البـيـوت البـيـضـاء التي تُحيط بالميْدان، وفكَّر أنه عندما أشرقت هذه الشمس نفسها في الصباح كان في قارّةٍ أُخرى وكان راعياً وكان يمتلك سِتّين من الخِراف ولديه موْعدٌ مع إحدى الفتيات، في الصباح كان يعرف كل ما يُمكِن أن يجري له وهو يعبُر الريف، أما الآن وقد غرُبت الشمس فهو في بلدٍ غريبٍ لا يفهم فيه حتى اللُغة التي يتكلَّم بها الناس، لم يعُد راعياً ولم يعُد يملك شيئاً ولا حتى النقود اللازمة لكي يعود أدراجه ويبدأ من جديد، وقال لنفسه:

-       لقد حدث ذلك كلّه ما بين شروق الشمس وغروبها.

وأخذ يرثى لحاله وهـو يفكِّر أن الأشياء تتغيَّر في الحياة خلال بُرهةٍ قصيرةٍ حتى قبل أن يُتاح للإنسان وقتٌ كافٍ لكي يعتاد الأشياء، خجل من أن يبكي فهو لم يبكِ أبداً أمام شياهه، لكن ميْدان السوق كان واسعاً وكان هو بعيداً عن وطنه فبكى، بكى لأن السـمـاء لم تكن عـادلةً ولأنها تُكافئ الأشخاص الذين يُصدِّقون أحلامهم بهذه الطريقة القاسية، وقال لنفسه:  

-       عندما كنتُ مع غنمي كنتُ سعيداً وكنتُ أُشرِك في سعادتي كل مَن حوْلي .. كان الناس يرونني قادماً فيُحسِنون استقبالي .. أمّا الآن فأنا حزينٌ وتعيس .. فماذا سيحدث لي؟! .. سأصبح أكثر حذراً وألّا أثق بأحد لأن أحدهم قد خدعني .. سأكره كل مَن وجدوا كنوزاً مخبوءةً لأني لم أعثر على کَنزي .. وسأظل إلى الأبد حريصاً على القليل الذي أملكه لأني أصغر من أن أفهم العالَم.

فتح جرابه لكي يرى ما بداخله عسى أن تكون هناك قضمةٌ أُخرى من الشطيرة التي أكلها على ظهر الباخرة، ولكنه لم يجد غير الكتاب الكبير والمعطف والحجريْن اللذيْن أعطاهما إيّاه الرجل العجوز، وعندما رأى هذيْن الحجريْن شعر براحةٍ كبيرة، لقد استبدل سِتّةً من غنمه بحجريْن كريميْن مُنتَزَعيْن من درعٍ ذهبي، يستطيع أن يبيعهما وأن يحصل بذلك على ثمن تذكرة العوْدة للوطن، وقال لنفسه:

-       منذ الآن سأصبح أشد حِرصاً.

وأخرج الحجريْن من الجراب لكي يضعهما في جيْبه فهذا ميناءٌ والشيء الوحيد الصحيح الذي قاله ذلك الشخص هو أن الموانئ مُمتلِئةٌ دائماً باللصوص، الآن فقط فهم محاولات صاحب المقهى اليائسة، كان يُريد أن يقول له ألّا يثق بهذا الشخص، وتتابعت الأفكار داخل عقله:

-       ولكنني مثل الآخرين .. أرى الدُنيا على نحو ما أرغب في أن تكون لا كما هي عليه بالفعل.

ظلَّ يتأمَّل الحجريْن ويتحسَّس كلاً منهما برقّةٍ مُستشعِراً حرارتهما ونعومة ملمسهما، هما الآن كَنزه، وتذكَّر بهما - مرّةً أُخرى - الرجل العجـوز وما قاله له: "عندما تريد شيئاً بإخلاص فإن العالم كلّه يطاوعك للحصول عليه"، ووَدَّ أن يفهـم كيف يُمكِن أن يتحقَّق ذلك فها هو - في ساحة سـوقٍ مهجور - خاوی الوِفاض ولا يملك قطيعاً يرعاه أثناء الليْـل، لكن الحجريْن دليلٌ على أنه قد قابل ملكاً يـعـرف قِـصّـة حـيـاته وما فعله بسلاح أبيه ويعرف تجربته الجنسيّة الأولى، وهمس لنفسه:

-       ثم إن هذين الحـجـريْن يُسـاعِـدان على التنبّـؤ .. واسـمـهـمـا "أوريم" و"تومـيـم".

وضعهما في مكانهما في الحقيبة وقرَّر أن يُجري التجربة، وكـان الشيْخ قـد قـال لـه أن يسـأل أسئلةً مُـحـدَّدة لأن الحـجـريْن لا ينفعان إلّا إن كان المرء يعرف ما يريد، وهكذا فقد تسائل "سنتياجو" عمّا إذا كانت بركة الشيْخ ما زالت تحـل علـيـه، ثم سـحـب أحـد الحـجـريْن وكان هو "نعم" ثم سأل:

-       هل سأعثر على كَنزي؟

ووضع يده داخل الجراب، وكان على وشك أن يسحب أحـد الحـجـرين عندما انزلقا معاً من ثُقبٍ في قماش الجراب، ولم يكن قد لاحـظ قط أن جـرابـه مـثـقـوب، انـحـنى لكي يلتقط "أوريم" و"توميم" ويضعهما داخل الحقيبة، ولكنه عندما رأهما على الأرض عادت إلى ذهنه عبارةٌ أُخرى قالها الملك العجوز: "تعـلَّم أن تحترم العلامات وأن تتَّبعها"، علامات! .. شرع الشاب يضحك في سِرّه باستخفاف، ثم وضع الحجريْن في الجراب، لم تكن لديه النيّة في أن يخيّطه، يمكن للحجريْن أن يسقُطا من هذا الثُقب عندما يريدان، أدرك أن هناك أشياءً ينبغي ألّا يسأل عنها لكي لا يهرب من مصيره وقال لنفسه:

-       لقد قطعت وعداً بأن أتخذ قراراتي بنفسي.

ولكن وجود الحجريْن أثبت أن الشيْخ معه دائماً، وقد أعاد إليه ذلك ثقته بنفسه، تأمَّل - من جديد - تلك السوق المهجورة التي غادرها الناس ولم يعُد يشعر باليأس الذي كان يعاني منه من قبل، لم يعُد هذا عالماً غريباً بل أصبح عالماً جديداً، وفي النهاية ألم يكن هذا بالضبط هو ما أراد، أن يعرف عوالم جديدة؟! .. وحتى ولو لم يصل قط إلى الأهرام فهو قد ذهب بالفعل إلى أبعد بكثيرٍ ممّا ذهب إليه أي راعٍ يعرفه، وفكَّر:

-       آهٍ لو عرف الناس في وطنه أنه على مبعدة أقل من ساعتيْن بالباخرة توجد كل هذه الأشياء المختلفة!!

كان العالم الجديد يبدو الآن لعيْنيْه في صورة سـوقٍ خـالٍ، ولكنه رأى بالفعل هذا المكان وهو يضج بالحياة ولن ينساه أبداً، وتذكَّر السيْف، لقد دفع ثمنا غالياً لكي يتأمَّله للحظة، ولكنه أيضاً لم يرَ مثيلاً له أبداً قبل الآن، وباغته الشعور بأنه يُمكِن أن يبدو أمام العالم إمّا كضحيّةٍ تعيسةٍ لأحد اللصوص أو كمغامرٍ يبحث عن كَنز، وأخذ يُردِّد لنفسه قبل أن يغرق في النُعاس من الإجهاد:

-       أنا مغامرٌ أبحث عن كَنز.

*****

أيقظته يدٌ تهـز كـتـفـه وكـان قـد نام وسط سـاحـة السـوق الذي بدأ الآن يسترد حياته، تلفَّتَ حوْله يبحث عن غنـمـه ثم أفاق على أنه الآن في عالمٍ جديد، وبدلاً من أن يحـزن شـعـر بالسعادة، لم يعُد عليه أن يسعى بحثاً عن الماء والعشب لخرافه، وبوسـعـه أن يشرع في البحث عن كَنزه، فقد اخـتـار مساء الأمس أن يُصبِح مـغـامـراً مـثـل شـخصيّات الكُتُب التي اعتاد أن يقرأها.

أخذ يتجوَّل في الميْـدان مُـتـمـهِّـلاً، كان الباعة قـد شـرعـوا يـُقـيـمـون منصّاتهم ويرصّون عليها بضاعتهم، فساعد "سنتياجو" رجلاً يبيع الحلوى على نصب منصّته، كانت تُميّز وجه ذلك الرجل ابتسامةٌ تختلف عن الآخرين، كان سَمِح الوجه مُتفتِّحاً على الحياة ومُستعِدّاً لاستقبال يوْمٍ طيّبٍ من العمل، كانت ابتسامة البائع قد ذكَّرته - بطريقةٍ ما - بالشيْخ العجوز، ذلك الملك الغـامـض، وقال لنفسـه:

-       هـذا البائع لا يصنع الحـلـوي لأنه يُريد أن يرحل أو يُريد أن يتـزوَّج ابنـة تاجـر .. لا .. إنـه يصنع الحلوى لأنه يُحِب هذه المهنة.

هكـذا فكَّر الشـاب، ولاحـظ أنه يستطيع أن يفعـل مـثـل الشيْخ أي يستطلِع - بمجرَّد نظرةٍ - ما إذا كان الشخص قريباً من أسطورته الذاتيّة أو بعيداً عنها، وقال لنفسه:

-       هذا شيءٌ سهلٌ جداً .. ولـكـنني لم أفعله أبداً من قبل.

وعندما انتهيا من نصب المنصّـة قـدَّم له الرجل أوَّل قطعةٍ أعـدَّها من الحلوى فالتهمها الشاب مُغتبِطاً وشكره ثم مضى في الطريق، وعندما ابتعد قليلاً خطر على باله أن شخصيْن هُما اللذان نصبا المنصّة، أحدهما كان يتكلَّم العربيّة والآخر الأسبانيّة، ومع ذلك فقد كان هذان الشخصان مُتفاهميْن تماماً، وقال في سِرّه:

-       هناك لغةٌ تتجاوز الكلمات .. عرفتُ ذلك بالفعل مع الشياه وها أنذا الآن أعرفه مع الرجال.

ها هو إذن في طريقه إلى أن يعرف الكثير من الأشياء الجديدة، أشياءٌ جربَّها من قبل ولكنها جديدةٌ مع ذلك لأنها كانت تعبُر طريقه دون أن يُعيرها التفاتاً لأنه اعتاد عليها، ولو توصَّل إلى معرفة كُنه هذه اللُغة التي تتجاوز الكلمات لتوصَّل إلى معرفة كُنه العالم كله.

قرَّر أن يتجوَّل على مهلٍ في شوارع "طنجة"، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي سينجح بها في سبر أغوار العلامات، وهذا يقتضي - دون شك - قدراً كبيراً من الصبر، ولكن الصبر هو أُولى الفضائِل التي يتعلَّمها الراعي، ومرّةً أُخرى أدرك أنه يُطبِّق في هذه الأرض الغريبة الدروس نفسها التي تعلَّمها من غنمه، وكان الشيخ قد قال: "كل الأشياء هي شيءٌ واحد".

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent