خبر
أخبار ملهلبة

الخيميائي | باولو كويلو | الجزء الخامس

 

الراعي سنتياجو أثناء رحلته في الصحراء ذاهباً لمصر ضمن أحداث رواية الخيميائي لباولو كويلو

الجزء الخامس

 

 

استقبل بائع الكريستال النهار الجديد وهو يشـعـر بنفس إحساس القلق الذي ينتابه كل صباح، ظل ما يقرب من ثلاثين عاماً في هذا المكان نفسه، في دُكّانٍ يقع في قِـمّـة شـارعٍ صاعدٍ من النادر أن يمر فـيـه زبون، والآن تأخَّـر الوقت لأن يُغيّر أي شيء، فكل مـا تعلَّمـه في حياته هو بيْع القطع البللوريّة، جاء وقتٌ عرف فيه محلّه رواجاً لدى كثيرٍ من الناس: تُجّارٌ من العرب وجـيـولوجـيّـون فرنسيّـون وإنجليز وجنودٌ ألمان كانت جيوبهم دائماً عامرةً بالمال، في ذلك الوقت كان بيْع الكريستال مغامرةً ناجحة، وتخيَّل كيف سيصبح رجلاً ثريّاً وتخيّل حشد الجميلات اللائي سيكُنَّ من نصیبه لكن الوقت ضاع شيئاً فشيئاً شأنه شأن المدينة نفسها، فقد ازدهرت مدينة "سِبتة" أكثر من "طنجة"، واتخذت التجارة سبيلاً آخر، فانصرف بعض جيرانه بحثاً عن أماكن أخرى، ولم تبقَ سوى نُدرةٍ من المحلّات في ذلك المُرتَفَع، ولم يعُد هناك مَن يرغب في أن يتسلَّق شارعاً صاعداً من أجل التسوّق من بضعة محلّاتٍ بائسة، ولكن لم يكن أمام تاجر الكريستال أي خيار، فقد عاش ثلاثين عاماً من حياته يشتري القطع البللوريّة ويبيعها وقد فات الأوان على اختيار مهنةٍ مُختلِفة أو محلٍّ جديد.

أخذ تاجر الكريستال طول النهـار يرقُب المارّة القليلين في الشارع الصغير، وكان هذا هو ما ظل يفـعـله منذ سنواتٍ طويلة، فـأصـبح يعـرف عـادات كل واحدٍ من المارّة، وقبيْل دقائق من موْعد الغداء توقَّف شابٌّ أجنبيٌ أمام الواجهة الزُجاجيّة، كان يرتدي ثياباً عاديّة كسائر الناس ولكن عيْن بائع الكريستال المُدرَّبة أبصرت أنه مُفلِس، وبالرغم من ذلك فقد قرَّر أن يعود إلى داخل محلّه وأن ينتظر بضع دقائق إلى أن ينصرف الشاب.

كانت هناك لافتةٌ مُعلَّقةٌ على الباب تقول إنهم يتحدَّثون هُنا عِدّة لغات، ورأي الشاب شخصاً يظهر من خلف طاولة البيْع فقال له:

-       أستطيع - إذا ما أردت - أن أُنظِّف هذه المزهريّات .. فلن يشتريها أحد بحالتها هذه.

نظر إليه البائع دون أن يقول شيئاً فأضاف:

-       وفي المقابل ستدفع لي ثمن وجبة طعام.

ظل الرجل صامتاً، وفهم الشاب أن عليه هو أن يُبادِر بالقرار، كان في جرابه المعطف الذي لن يحتاج إليه في الصحراء فـأخـرجـه وشـرع في تنظيف المزهريّات وتمكَّن فـي خـلال نـصـف سـاعـةٍ من تنظيف كل الكريستال الموجود في نافذة العرض، ودخل أثناء ذلك اثنان من الزبائن اشتريا منه الكثير.

وعندما انتهى من تنظيف كل شيء طلب من صاحب المحل أن يُقدِّم له شيئاً من الطعام، فقال بائع الكريستال:

-       فلنذهب لنتغدّى معاً.

علَّق التاجر لافتةً على الباب تفيد بأن المحل مغلق وسيعاد فتحه بعد بُرهة، وذهبا معاً إلى مطعمٍ صغيرٍ جِدّاً في قِـمّة المُرتفع، وبمجرد جلوسهما إلى المائدة الوحيدة في المكان قال له بائع الكريستال وهو يبتسم:

-       لم يكن هناك داعٍ إلى أن تنظف أي شيء .. فـشـريـعـة القـرآن تقـضي بتقديم الطعام إلى أي جائع.

-       فلِـمَ إذن تركتني أقوم بهذا العمل؟

-       لأن الكريستال كـان قذراً .. ولأنك أنت وأنا كُنّا بحاجةٍ إلى أن نُنظِّف رأسيْنا من أفكارٍ سيّئة.

وحين انتهيا من طعامهما التفت بائع الكريستال إلى الشاب قائلاً:

-       أود أن تعمل في محلّي .. فقد دخل اليوْم اثنان من الزبائن بينما كنت تُنظِّف الكريستال .. وتلك علامة فألٍ حسن.

وفكر الراعي في سِرّه:

-       إن الناس يتحدَّثون كثيراً عن العلامات .. ولكنهم لا يعرفون بالضبط عمّا يتكلَّمون .. مثلي تماماً .. فأنا لم ألاحظ أبداً أنني ظللتُ منذ سنواتٍ أتحدَّث مع شياهي لغةً بلا كلمات.

ألح البائع في السؤال:

-       هل ترغب في أن تعمل معي؟

-       أستطيع أن أعمل بقية اليوم .. سأنظِّف كل الكريستال الموجود في المحل حتى الفجر .. وفي المقابل ستعطيني مالاً لكي أكون غداً في "مصر".

فجأة انفجر العجوز في الضحك وقال:

-       حتى ولو نظَّفتَ كل ما عندي من الكريستال طوال عامٍ بأكمله .. وحتى لو أخذتَ عمولةً مُجزيةً مُقابِل بيْع كل قطعةٍ منه .. فسيلزمك بعد ذلك كله أن تقترض مالاً لكي تصل إلى "مصر" .. فبين "طنجة" والأهرامات آلاف الكيلو مـتـرات من الصحراء.

وحلَّ عندئذٍ صمتٌ رهيب كما لو أن المدينة بأكملها قد نامت فجأة، لم تعد هناك بازارات ولا مُجادلات بين التُجّار ولا رجالٌ يصعدون المآذن ويؤذِّنون ولا سيوفٌ جميلةٌ ذات مقابض مُرصَّعةٍ بالصدف، فقد انتهى الأمل في المغامرة والملوك والشيوخ والأساطير الذاتيّة، وداعاً للكَنز ووداعاً للأهرامات.

بدا وكأن الخرس قد أصاب العالم كلّه لأن روح الفتى لزمت الصمت، لم يكن هناك ألمٌ ولا معاناةٌ ولا خيبة أمل، بل هي نظرةٌ خاويةٌ عبر باب المطعم الصغير ورغبةٌ عارمةٌ في الموْت وفي رؤية كل شيءٍ يزول إلى غير رجعة، ونظر إليه البائع مبهوتاً وكأن كل ذلك الحماس الذي رآه من "سنتياجو" في الصباح قد تبخَّر فجأة ممّا جعله يقول:

-       أستطيع يا بُنيَّ أن أُعطيك نقـوداً كي تعود إلى بلدك.

ظل الشاب صامتاً، ثم نهض وسوّى ثيابه وأمسك بجرابه وقال:

-       سأعمل عندك.

وبعد فترةٍ أخرى من الصمت أنهى كلامه قائلاً:

-       يلزمني بعض المال لكي أشتري غنماً.

*****

انقضی شهرٌ تقريباً منذ عمل الشاب لدى تاجر الكريستال دون أن يجد في العمل ما يُرضيه حقّاً، لم يكن التاجر يكُف عن الدمدمة طول النهار من خلف طاولته ليوصيه بأن يحترس لدى تناول قطع الكريستال حتى لا يكسر شيئاً، ولكنه رغم ذلك ثابر في عمله لأن تاجر الكريستال - وإن كان عجوزاً - دائم التذمُّر، إلا أنه - على الأقل - كان مُنصِفاً معه واعتاد أن يمنحه عمولةً مُرتفعةً مقابل كل قطعةٍ تُباع، فاستطاع "سنتياجو" بالفعل أن يدَّخر بعض المال، وحين أجرى حساباته - هذا الصباح – وجد أنه إذا استمر يعمل على هذا المنوال كل يوْمٍ فستلزمه سنةٌ بأكملها ليتمكَّن من شراء بضعة خراف.

وذات يوْمٍ قال الشاب لمخدومه:

-       أود أن أعمل خزانةً لتكون واجـهـةً لعـرض قطع الكريسـتـال .. ويُمكِننا أن نضع حـامـلاً للرفوف في الخارج لنجتذب المارّة من عند سفح الطريق.

-       لم أفعل شيئاً مثل هذا من قبل .. فالناس قد يصطدمـون بـحـامل الرفوف أثناء مرورهم فيتحطَّم الكريستال.

-       عندما كنت أجـول في الريف مع شياهي كان من الممكن دائماً أن تسقط إحداها ضحيّةً للدغة ثعبان ، ولكن هذا الخطر هو جزءٌ من حياة الأغنام والرُعاة.

انصرف التاجر ليخدم زبوناً يُريد أن يشتري ثلاث مزهريّاتٍ من الكريستال، فهو يبيع الآن أكثر بكثيرٍ من ذي قبل كما لو كان الزمن قد رجع إلى الوراء أيّام كان الشارع إحدى نقاط الجذب الرئيسيّة في "طنجة"، وبعد أن غادر الزبون قال التاجر لعامله:

-       الناس يتوافدون علينا الآن باستمرار .. وما نكسبه يكفي لكي أعيش حياةً أفضل ولكي تشتري خرافاً من جديد خلال وقتٍ قصير .. فما الداعي إلى أن تطلب من الدنيا المزيد؟!

رد الشاب دون تفكير:

-       لأننا يجب أن نتبع العلامات.

ندم "سنتياجو" على ما قاله لأن التاجر لم يتسنَّ له قط أن يُقابِل ملكاً تحدَّث عن مبدأ المواتاة وعن حظ المبتدئين وعن الأسطورة الذاتيّة، ولكن التاجر - رغم ذلك - فهم ما كان يتحدَّث عنه عامله، فمجرَّد وجوده في المحل كان علامة، وهو لم يندم أبداً على استخدامه للشاب الإسباني بعد أن راحت الأموال تتدفق عليه يوْماً بعد يوم، وبما أنه قد ظل يعتقد لفترةٍ طويلةٍ أن مبيعاته لن تزيد قط فقد راح الآن يُقدِّم للشاب عمولةً مُرتفعة، وكان حدسه يقول له أن الفتى سيرحل عمّا قريبٍ إلى شياهه، ولكي يُحوِّل دفّة الحديث بعيداً عن حكاية واجهة العرض والرفوف فقد سأله:

-       لماذا تُريد أن تذهب لرؤية الأهرامات؟

-       لأني سمعتُ عنها الكثير.

تجنَّب "سنتياجو" الحديث عن حلمه، فقد أصبح الكَنز الآن ذكرى مُؤلِمةً يُجاهد كي لا تعود إلى ذهنه، ثم قال البائع:

-       لا أعرف أحداً هُنا يود أن يعبر الصحراء لمجرَّد أن يرى الأهرامات .. هي لا تعدو أن تكون كوْمةً من الحجارة .. يمكنك أن تبني هرماً مثلها في حديقة بيتك.

-       أنت لم تحلُم أبداً بأن تُسافِر .. أليس كذلك؟!

قالها الشاب ثم مضى يخدم زبوناً آخر دخل المحل دون أن ينتظر من مخدومه جواباً.

وبعد يوميْن عاد الرجل العجوز إلى الحديث عن موضوع واجهة العرض مع الشاب فقال:

-       أنا لا أحب التغيير كثيراً .. فلا أنا ولا أنت مثل "حسن" ذلك التاجر الغني .. فهو - إن تعرَّض لخسارةٍ ما - لن يُصيبه ضررٌ كبير .. أمّا نحن الاثنيْن فيجب أن نتحمَّل عواقب أخطائنا.

فقال الشاب في نفسه:

-       ذلك قوْلٌ حق.

ثم استكمل التاجر حديثه:

-       لماذا تُريد أن تُقيم هذه الواجهة للعرض؟

-       أُريد أن أعود بأسرع ما يكون إلى شياهي .. عنـدمـا يُحالِفنا الحظ فيجب أن نغتنم الفـرصـة وأن نفعل كل ما بوسعنا لكي نُسـاعِـده بنفس الطريقة التي يُسـاعِـدنا بها .. وذلك هو مـا يُـسـمّـونـه مبدأ "المواتاة" أو "حظ المُبتدئين".

لزم العجوز الصمت لحظةً ثم قال:

-       لقد أخبرنا القرآن - الذي أُنزِل على رسولنا الكريم – أن الإسلام يقوم على خمس فرائض أو أركان يجب أن نلتزم بها مدى الحياة .. أهمها جميعاً هي الشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمّداً عبده ورسوله .. أمّا الفرائض الأربع الأخرى فهي تأدية خمس صلواتٍ في اليوْم وصوْم شهر رمضان وإيتاء الزكاة للفقراء.

ثم لزم الصمت وقد اغرورقت عيْناه بالدموع وهـو يتحدَّث عن رسـول الإسلام، فقد كان رجلاً شديد الورع، ومع أنه يبدو - في بعض الأحيان - نافد الصبر فقد كان يحاول جاهداً أن يعيش مُلتزِماً بتعاليم الإسلام، ثم سأله الشاب:

-       وما هي الفريضة الخامسة؟

-       لقد قلتَ لي منذ يوميْن أني لم أحلم أبدا بالسـفـر ولكن الفـريضة الخامسة على كل مسلمٍ مؤمنٍ هي أن يُسافِر في رحلةٍ مُقدَّسة .. إذ يجب علينا أن نُسـافِـر مـرّةً في العُـمْـر على الأقل إلى أرض "مكّة" المُقدَّسة .. ومدينة "مكّة" أبعد من الأهرام بكثير .. لكني عندما كنتُ شاباً فكَّرت في استثمار ما كان لديَّ من مالٍ قليلٍ في فتح هذا المحل أملاً في أن أُصبح في يوْمٍ من الأيّام ثريّاً بما يكفي للسفر إلى "مكّة" .. والواقع أني بدأتُ أكسب مالاً ولكني لم أستطِع أن أعهد إلى أحـدٍ بالكريستال .. لأن الكريستال شيءٌ هش قابلٌ للكسر .. وفي أثناء ذلك شاهدتُ كثيراً من الناس يمرّون أمام هذا المحل في طريقهم إلى "مكّة" .. كان هناك الحُـجّـاج الأثرياء الذين يصحبهم حشدٌ من الخدم وتقلّهم كثيرٌ من الجِمال ولكن الغالبيّة كانوا أناساً أفقر مني بكثير كلّهم سافروا وعادوا سُعداء .. وعلّقوا على أبواب بيوتهم شعارات حجّهم .. واحدٌ من هؤلاء كان إسكافيّاً يكسب عيْشه من إصلاح نعال الناس وقد قال لي إنه سار على قدميْه قرابة سنةٍ في الصحراء ليحج دون أن يشعر بالتعب مع أنه كان يشعر بمزيدٍ من التعب عندما يتحتَّم عليه أن يقطع مسافةً قصيرةً في "طنجة" لكي يشترى الجلود.

-       ولماذا لا تذهب الآن إلى "مكّة"؟

-       لأن "مكّة" هي التي تُبقيني على قيْد الحياة .. ذلك مـا يهـبني القـوّة لاحـتـمـال كل تلك الأيّام المتشابهة وتلك المزهريّات المصفوفة على الأرفف والغداء والعشاء في ذلك المطعم التعِس .. وأنا خائفٌ من أن أُحقق حُلمي فلا يبقى لي بعد ذلك ما أعيش من أجله .. أنت تحلم بالخراف وبالأهرامات ولستَ مثلي لأنك تُريد أن تُحقِّق حُلمك .. أمّا أنا فكل ما أُريده هو أن أحلم بـ"مكّة".. تخيَّلتُ نفسي بالفعل آلاف المرّات وأنا أعبُر الصحراء وأصل إلى موْضع "الكعبة" - حيث يوجد الحجر المُقدَّس - وطوافي سبع مرّاتٍ حـوْله ولمسي إيّاه .. تخيَّلتُ مَن سيكون إلى جانبي ومَن سيكون أمامي والتكبيرات والصلوات التي سنُصلّيها معاً .. ولكنني خائفٌ من خيْبة أملي الكبيرة إلى درجة إني أُفضِّل أن أكتفي بالحلم.

وفي ذلك اليوم نفسه أَذِنَ التاجر للفتى أن يُقيم واجهة العرض، لكن ليس بوِسع كل الناس  أن ينظروا إلى أحلامهم بنفس الطريقة.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent