خبر
أخبار ملهلبة

الأدلة المادية على وجود الله | محمد متولي الشعراوي | الفصل الرابع: وفي الأرض آيات (2)


عين زرقاء اللون

الفصل الرابع (2)

 

 

إذن فالعيْن لا تُبصِر بذاتها ولا بذاتيّتها .. ولكنها تُبصِر بالضوْء الذي ينعكس على الأشياء الموجودة أمامها ويدخل إلى العيْن .. فإذا ذهب هذا الضوء وجاء الظلام فإن العيْن لا تُبصِر ولا ترى شيْئاً في الظلام الدامس إلّا أن تأتي بمصباحٍ أو مصدرٍ من نورٍ يُلقي الضوْء على الأشياء فينعكس على العيْن فتُبصِر.

وهكذا نرى دِقّة تعبير القرآن الكريم في قوْله تعالى: "وجعلنا آية النهار مبصرة" .. فالإبصار نَسَبَه الله - سبحانه وتعالى - لضوْء النهار ولم يُنسِبه إلى العيْن ولقد نزلت هذه الآية والبشر كلّهم لا يعلمون كيف يتم الإبصار؟ .. ماذا كان سيحدث لو تقدّم العلم وكشف أن العيْن تُبصِر بذاتها وليس بانعكاس الضوْء على الأشياء؟ .. أكنّا في هذه الحالة نستطيع أن نقرأ في الصلاة: "وجعلنا آية النهار مبصرة"؟ .. ألم يكن هذا كافياً لهدم قضيّة الدين من أساسه؟

ولو أن هذا القرآن ليس من عند الله .. وأنه من عند "مـحـمـد" علـيـه الصلاة والسلام .. فما الذي كان يجعله يغامر بذِكْر قضيّةٍ عِلميّةٍ كهذه القضيّة قد يثبت عدم صـحّـتـهـا فـيـضيع الدين كله؟ .. ومِن أيْن له هذه المعلومات حتى يعرف أن الإبصار يحدث بضوْء النهار؟ .. أليس هذا دليلاً ماديّاً كافياً للإيمان بالله وللإيمان بأن القرآن مٌنَزَّلٌ من عِند الله الخالق لهذا الكوْن والعالِم بأسراره؟

الأرض كروية

إن القرآن كلام الله المتعبَّد بتلاوته إلى يوْم القيامة .. ومعنى ذلك أنه لا يجب أن يحدث تصادمٌ بينه وبين الحقائق العلميّة في الكوْن .. لأن القرآن الكريم لا يتغيّر ولا يتبدّل .. ولوْ حدث مثل هذا التصادم لضاعت قضيّة الدين كلها .. ولكن التصادم يحدث من شيْئيْن: عدم فهم حقيقةٍ قرآنيّة، أو عدم صحّة حقيقةٍ علميّة .. فإذا لم نفهم القرآن جيّداً وفسّرناه بغيْر ما فيه حدث التصادُم .. وإذا كانت الحقيقة العلميّة كاذبةً حدث التصادُم .. ولكن كيف لا نفهم الحقيقة القرآنيّة؟ .. سنضرب مثلاً لذلك ليعلم الناس أن عدم فهم الحقيقة القرآنيّة قد يؤدي إلى تصادمٍ مع حقائق الكون .. الله - سبحانه وتعالى - يقول في كتابه العزيز: "وَالأًرْضَ مَدَدْناها" (من الآية 19 من سورة "الحجر") .. والمَد معناه البَسط .. ومعنى ذلك أن الأرض مبسوطة .. ولو فهمنا الآية على هذا المعنى لاتهَمْنا كل من تحدّث عن كرويّة الأرض بالكُفر خصوصاً أننا الآن بواسطة سفن الفضاء والأقمار الصناعيّة قد استطعنا أن نرى الأرض على هيْئة كُرةٍ تدور حوْل نفسها .. نقول: إن كل من فَهَمَ الآية الكريمة: "والأرض مددناها" بمعنى أن الأرض مبسوطةٌ لم يفهم الحقيقة القرآنيّة التي ذكرتها هذه الآية الكريمة .. ولكن المعنى يجمع الإعجاز اللُغوي والإعجاز العِلمي معاً ويعطى الحقيقة الظاهرة للعيْن والحقيقة العلميّة المختفية عن العقول في وقت نزول القرآن.

عندما قال الحق سبحانه وتعالى: "والأرض مددناها" أي بسطناها .. أقال أي أرض؟ .. لا .. لم يحدِّد أرضاً بعيْنها .. بل قـال الأرض على إطلاقها .. ومـعنى ذلك أنك إذا وصلت إلى أي مكانٍ يُسمَّى أرضـاً تراها أمـامك ممدودةً أي منبسطة .. فإذا كنت في خط الاسـتـواء فــالأرض أمـامك منبسطة .. وإذا كنت في القطب الجنوبي أو في القطب الشمالي أو في أمريكا أو أوروبا أو في أفريقيا أو آسيا أو في أي بقعةٍ من الأرض فأنك تراها أمامك منبسطة .. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلّا إذا كانت الأرض كرويّة .. فلو كانت الأرض مربّعةً أو مثلّثة ًأو مسدّسةً أو على أي شكلٍ هندسيٍ آخر فإنك تصل فيها إلى حـافـة .. لا ترى أمـام الأرض منبسطة .. ولكنك ترى حـافـة الأرض ثم الفضاء.

لكن الشكل الهندسي الوحيد الذي يمكن أن تكون فيه الأرض ممدودةً في كل بقعةٍ تصل إليها هي أن تكون الأرض كرويّة .. حتى إذا بدأت من أي نقطةٍ محدّدةٍ على سطح الكرة الأرضيّة ثم ظللت تسير حتى عُدت إلى نقطة البداية فإنك طوال مشوارك حول الأرض ستراها أمامك دائماً منبسطة .. ومادام الأمر كذلك فإنك لا تسير في أي بقعةٍ على الأرض إلّا وأنت تراها أمامك منبسطة.

وهكذا كانت الآية الكريمة: "والأرض مددناها" .. لقد فهمها بعض الناس على أن الأرض مبسوطةٌ دليلٌ على كرويّة الأرض .. وهذا هو الإعـجـاز في القرآن الكريم .. يأتي باللفظ الواحد ليناسب ظاهر الأشياء ويدل على حقيقتها الكونيّة.

ولذلك فإن الذين أسـاءوا فَهْم هذه الآية الكريمة وأخذوها على أن معناها أن الأرض منبسطة .. قالوا هناك تصادمٌ بيْن الدين والعِلم .. والذين فهموا معنى الآية الكريمة فهماً صحيحاً قالوا إن القرآن الكريم هو أوّل كـتـابٍ في الـعـالـم ذَكَـرَ أن الأرض كـــــــرويّة .. وكـــانت هذه الحقيقة وحدها كافيةً بأن يؤمنوا .. ولكنهم لا يؤمنون.

الليْل والنهار وُجِدا معاً

فالقرآن الكريم لم يأتِ بالدلائل التي تؤكِّد لنا أن الأرض كرويّةٌ في آيةٍ واحدة .. بل جاء بها في آياتٍ متعدّدة .. لماذا؟ .. لأن هذه القضيّة كوْنيّة كُبرى .. ولأن الكتب القديمة التي أنزلها الله قبل القرآن الكريم قد حُرِّفَت بشريّاً .. فأوْجدت تصادماً بين الدين والعِلم .. ولذلك يأتي القرآن الكريم ليعطينا الدليل تِلو الدليل على كرويّة الأرض .. يقول الله سبحانه وتعالى: "لا الشَّمْسُ يَنْبَغي لَها أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ ولا اللَّيْل سابِقُ النَّهار، وَكُلٌ في فَلَكٍ يَسْبَحون" (الآية 40 من سورة "يس")

الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآية الكريمة يرد على اعتقادٍ غير صحيحٍ كـان مـوجـوداً عند العرب وقت نزول القرآن .. وهو أن الليْل يأتي أوّلاً ثم بعـد ذلك يأتي النهـار .. أي أن النهـار لا يسـبق الليل .. ويجئ الحق ليصحِّح هذا الاعتقاد الخاطئ فيقول: "ولا الليْل سابق النهار" أي أنكم تعتقدون أن النهار لا يسبق الليل .. ولكن الله يقول لكم: إن الليْل أيضاً لا يسبق النهار .. ومعنى أن النهار لا يسبق الليل وأن الليل لا يسبق النهار .. أنهما موجودان معاً على سطح الكرة الأرضيّة .. وحيث إنه لم يحدث تغييرٌ في خَلْق الكوْن أو في القوانين الكونيّة العليا بعد أن تم الخلق .. بل بقيت ثابتةً تسير على نظامٍ دقيق حتى قيام الساعة .. فلو كانت الأرض على شكلٍ هندسي آخر (مربّع أو مثلّث أو غير ذلك) لكان في ساعة الخلق وُجِد النهار أوّلاً .. ولكن لا يمكن أن يوجد الليْل والنهار معاً في وقتٍ واحـدٍ على سطح الكرة الأرضـيـّة .. إلّا إذا كانت الأرض كروية .. فيكون نصف الكرة مـضـيـئـاً والنصف الآخـر مظلمـاً.

ولكن الله - سبحانه وتعالى - أراد أن يؤكّد هذا المعنى .. فذَكَرَ آيةً أخرى تحدِّد معنى كرويّة الأرض ودورانها فقال جل جلاله: "وَهُوَ الذي جَعَلَ اللَيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكورا" (الآية 62 من سورة "الفرقان").

ما معنى خِلْفة؟ .. معناها أن الليل والنهار يخلف كلٌ منهما الآخر فمثلاً في الحراسات المستمرّة تأتي نوْبة حراسةٍ لتخلف نوبةً سبقتها ثم تأتي النوْبة الثالثة لتخلف الثانية وهكذا.

وإذا فرضنا أن مصنعاً يعمل أربعاً وعشرين ساعةً متوالية .. فـأنه يكون هناك أربع وردياتٍ تخلف كلٌ منهما الأخرى .. ولكننا لابد أن ننتبه إلى أنه في كل هذه النُظُم لابد أن تكون هناك ورديّةٌ هي التي بدأت ولم تخلف أحـداً .. فإذا قرّرنا وضع الحراسة على مكانٍ فإن الورديّة الأولى التي تبدأ الحراسة لا تخلف أحداً لأنها البداية .. وإذا بدأنا العمل في المصنع فإن الورديّة الأولى التي افتتحت العمل لم تخلف أحداً لأنه لم يكن هناك في المصنع عملٌ قبلها .. وهكذا فكل شيءٍ في الدنيا يخلف بعضه بعضاً .. تكون البداية دائماً وليس هناك شيءٌ قبلها تخلفه .. ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: "هو الذي جعل الليْل والنهار خِلْفة"  .. ومادام الله هو الذي جعل فلابد أن يكون ذلك قد حدث ساعة الخَلْق .. فأوْجد الليْل والنهار خَلْفة على الأرض .. ولكننا - كما أوضحنا - فإن ساعة البداية في كل شيءٍ لا يكون فيها خِلْفة .. أي لا يخلف شيءٌ شيئاً قبله فهذه هي البدايات .. ولكن الله يقول لنا: إنه في ساعة البداية كان الليْل والنهار خِلْفة .. إذن فلابد أن يكون الليل والنهار قد وُجِدا معاً ساعة الخلق على الأرض .. بحيث أصبح كل منهما خِلْفةً للآخر .. فلم يأتِ النهار أوّلاً ثم خَلْفه الليْل .. لأنه في هذه الحالة لا يكون النهار خِلْفةً بل يكون بداية ولم يأتِ الليل أوّلاً ثم يخلفه النهار لأنه في هذه الحالة لن يكون الليل خِلْفةً بل يكون بداية .. ولا يمكن أن يكون الليل والنهار كل منهما خَلْفةً للآخر إلّا إذا وُجِدا معاً.

ونحن نعلم أن الليل والنهار يتـعـاقـبـان علينا في أي بقعةٍ من بقاع الأرض .. فلا توجد بقعةٌ هي نهارٌ دائمٌ بلا ليل .. ولا توجد بقعةٌ هي ليلٌ دائمٌ بلا نهار .. بل كل بقاع الأرض فيها ليلٌ وفيها نهار .. ولو أن الأرض ثابتةٌ لا تدور حوْل نفسها .. ووُجِد الليْل والنهار معاً ساعة الخَلْق فلن يكونا خِلْفةً ولن يخلف أحدهما الآخر .. بل يظل الوضع ثابتاً كما حدث ساعة الخلق .. وبذلك لا يكون النهار خَلْفةً لليل ولا الليل خِلْفةً للنهار.

ولكن لكي يأتي الليل والنهار يخلف كلٌ منهما الآخر .. فلا بد أن يكون هناك دورانٌ للأرض لتحدث حركة تعاقُب الليْل والنهار.. فثبوت الأرض منذ بداية الخلق لا يجعل الليل والنهار يتعاقبان .. ولكن حركة دوران الأرض حوْل نفسها هي التي ينتج عنها هذا التعاقب أو هذه الخِلْفة التي أخبرنا الله سبحانه وتعالى بها.

إذن فقوْل الحق سبحانه وتعالى: "وجعلنا الليْل والنهار خِلْفة" يحمل معنييْن .. المعنى الأول: أنهما خُلِقا معاً .. فلم يسبق أحدهما الآخر .. وهذا إخـبـارٌ لنا من الله - سـبـحـانه وتعـالى - بأن الأرض كرويّة .. والمعنى الثاني: أن الأرض تدور حول نفسها .. وبذلك يتعاقب الليل والنهار.

معنى كروية الأرض

وهكذا نرى الإعجاز القرآني .. فالقائل هو الله .. والخالق هو الله .. والمتكلّم هو الله .. فجاء في جزءٍ من آيةٍ قرآنيّةٍ ليخبرنا إن الأرض كُرويّة وأنها تدور حول نفسها .. ولا ينسجم معنى هذه الآية الكريمة إلّا بهاتيْن الحقيقتيْن معاً .. هل يوجد أكثر من ذلك دليلٌ مادي على أن الله هو خالق هذا الكوْن؟

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent