خبر
أخبار ملهلبة

الكونت دي مونت كريستو | ألكسندر دوماس (الأب) | الجزء الرابع عشر


قبطان يقف على سفينته في غلاف رواية الكونت دي مونت كريستو للروائي الفرنسي اسكندر دوما الكبير

الجزء الرابع عشر

 

 

وهُنا أطلقت "مرسيديس" صيْحةً جعلت الدموع تلمع في عيْني الكونت، وقالت وهي تُمسِك بيده وترفعها إلى شفتيْها:

-       شُکراً .. شُكراً لك يا "إدمون" .. الآن حقَّقت ظنّي فيك .. في الرجل الذي أحببته على الدوام .. دعني أعترف بذلك الآن.

-       ليس في ذلك من بأسٍ على كل حال فإن "إدمون" المسكين لن يعيش طویلاً کي يستمتع بحبّك .. إن الموْت لن يلبث أن يُعيده - إلى القبر - شبحاً يختفي في الظلام.

-       ماذا تعني یا "إدمون"؟

-       أعني أنني ينبغي أن أموت .. فما أحسبكِ تفترضين أن في مقدوري مواجهة الحياة لحظةً واحدةً بعد أن أُهِنت أمام الملأ من فتىً سوف ينتشي بصفحي كما لو كان انتصاراً له .. إن أوّل شيءٍ أحببته بعدكِ يا "مرسيديس" هو كرامتي .. وتلك هي القوّة التي جعلتني أسمو على الآخرين .. والآن جئتِ أنتِ فسحقتيني بكلمةٍ واحدةٍ منك .. لذلك ينبغي أن أموت.

-       لكنك تعدني بشرفك أن المبارزة لن تتم .. أليس كذلك؟

-       بل إنها ستتم .. ولكن بدلاً من أن يسيل دم ابنكِ على الأرض سوف يسيل دمى أنا.

فشهقت "مرسيديس" واندفعت نحو الكونت، لكنها توقَّفت فجأةً وقالت:

-       "إدمون" .. ما دُمتَ قد نجوْت من كل ما مر بك .. وما دُمتُ قد رأيْتك ثانيةً على قيْد الحياة .. فهناك إذن إلهٌ تعلو إرادته فوْق إرادتنا .. وأنا أؤمن به من صميم قلبي .. وفي انتظار معونته .. وشوف أركن إلى وعدك لي بأن ابني سيعيش .. أليس كذلك؟

فأجاب الكونت وقد أدهشه تَقَبُّل المرأة لتضحيته المميتة دون تردُّد:

-       نعم یا سیّدتي .. سوف يعيش.

-       "إدمون" .. لم تبقَ لي غير كلمةٍ واحدةٍ أقولها لك: لَئِن كنت ترى أن وجهي قد ذبل وعيْنيَّ قد انطفأتا وجمالي قد ذهب فلم تعُد "مرسيديس" تُشبِه المخلوقة التي كانتها فيما مضى .. فإنك سترى أيضاً أن قلبي لم يتغيّر .. فوداعاً إذن یا "إدمون" .. ليس لي ما أطلبه من السماء أكثر ممّا حبتني به .. لقد رأيْتك ثانيةً يا "إدمون" .. ووجدتك نبيلاً عظيماً كعهدى بك في الماضي .. فوداعاً يا "إدمون" .. وداعاً .. وشُكراً.

ثم فتحت "مرسيديس" باب حُجرة المكتب واختفت قبل أن يفيق الكونت من الصدمة الموجِعة التي أحدثها له حبوط انتقامه المرموق.

وحين دقَّت ساعة "الإنفاليد" - إيذاناً بحلول الساعة الأولى بعد الظهر - كانت عربة مدام "دي مورسيرف" تبتعد بها في طريق "الشانزليزيه" بينما رفع الكونت "دي مونت كريستو" رأسه وهتف محدِّثاً نفسه كمَن يفيق من حلم:

-       يا لي من غبي! .. كيف لم أُمزِّق قلبي وعواطفي في هذا اليوم الذي اعتزمت فيه أن أنتقم لنفسي؟

وفى الساعة الثامنة من صباح اليوْم التالي مضى الكونت وشاهِده "مكسمليان موريل" إلى مكان المبارزة، حيث تقدَّم "مكسمليان" نحو "بوشان" و"شاتو رینو" شاهديْ خصمه، فانحنى الثلاثة بعضهم لبعضٍ في أدب، ثم وصل "ألبرت دي مورسيرف" فقفز من جواده على بعد خطواتٍ وانضم إليهم.

كان "ألبرت" شاحب الوجه غائر العيْنيْن شأن من لم يذُق طعم النوْم طيلة الليْل، وبعد أن شكر الحاضرين على تجشُّمهم عناء الحضور قال:

-       عندي كلمةٌ أريد أن أقولها للكونت "دي مونت كريستو" أمامكم جميعاً.

فتقدم الكونت منه في هدوءٍ واتزانٍ يتناقضان مع اضطراب خصمه، ووقف الاثنان تفصل بينهما ثلاث خطوات، فقال "ألبرت" في صوْتٍ مُختلِج:

-       سيّدي الكونت .. لقد وجَّهت إليك اللوْم على تصرُّفك بصدد مسلك مسیو "دي مورسيرف" في "إيبـيروس" .. وكان من رأیي - بصرف النظر عن آثامه التي ارتكبها - أن ليس لك حق في مؤاخذته عليها .. لكني وقفت بعد ذلك على ما بدَّل رأیي وأقنعني بأنك تملك هذا الحق .. وليس غدر الضابط "فيرناند مونديجو" بـ"علي" باشا هو الذي من أجله ألتمس لك العُذر .. وإنما هو غدر الصيّاد "فيرناند" بك أنت والتعاسة البالغة التي لحقت بك بسببه .. وهأنذا أقول علانيةً وعلى رؤوس الأشهاد أنك كنت مُحِقّاً في الانتقام لنفسك من أبي .. وإني - بصفتي ابنه - أشكرك لأنك لم تقسَ عليه أكثر ممّا فعلت.

ومد الكونت "كريستو" يده إلى "ألبرت" وقد تندَّت عيْناه بالدموع، فصافحه هذا في احترامٍ وتوْقيرٍ أقرب إلى الخشوع، بينما غمغم الكونت:

-       حقّاً إن الله موجود .. الآن فقط اكتمل إیماني بأني مبعوثٌ من السماء للانتقام.

عاد "ألبرت" إلى منزل أبيه في شارع "دي هيلدر"، وبعد أن ألقي نظرةً ساخرةً على كل أسباب الترف التي جعلت حياته منذ الطفولة سعيدةً سهلة .. بدأ يجمع كل حاجياته مُبتدِئاً بصورة أمّه وأسلحته وتُحفه، ثم ترك في أحد الأدراج المفتوحة النقود التي كانت في جيبه وكشفاً بكل الاشياء التي تركها في الخزائن، وحين فرغ من ذلك سمع صوْت عربةٍ تقف أمام الباب، ورأى أباه يستقلّها ثم تسير مبتعدةً به فاستدار الابن عن النافذة واتَّجه نحو حُجرة أمه، وكأنما تحرَّك الاثنان بوحي فكرةٍ واحدة، فقد وجد أُمّه تفعل مثلما كان يفعله هو منذ برهة، رأى كل ثيابها ومجوهراتها و نقودها مرتَّبةً في أدراجها وهي تجمع مفاتيحها، ففهم "ألبرت" مغزى ذلك، وهتف بأُمّه وقد كاد تأثُّره يُعجِزه عن الكلام:

-       أوّاهٍ يا أُمّي .. لا يمكن أن تكوني قد اعتزمتِ مثل ما اعتزمته؟! .. لقـد جئت لأودِّع بيتكِ .. وأودِّعكِ.

فأجابته قائلة:

-       أنا أيضاً ذاهبة .. وقد وطَّنت نفسي على أنك سترافقني .. فهل تراني خُدِعت في ظنّي؟

-       سأُنفِّذ رغباتكِ يا أُمّي العزيزة .. وما دام عزمك قد استقر على هذا القرار فلنتصرَّف بحكمة .. لقد خرج أبي منذ هُنيْهة .. والفرصة الآن سانحةً كي نذهب دون أن نقدِّم له إيضاحاً

-       أنا على أتم استعدادٍ يا بُني.

وخرج "ألبرت" ليستدعي عربةً وقد أعد في ذهنه خِطة الانتقال إلى مسکنٍ مفروشٍ متواضعٍ في شارع "دي سانت بيير"، وحين عاد بالعربة وهبط منها لينادي أُمّه اقترب منه شخصٌ مجهولٌ وسلَّمه رســالةً قائلاً  أنها من الكونت، ثم اختفى "برتوشيو" من حيث أتى.

ولم يكَد الشاب يقرأ الرسالة حتى لمعت في عيْنيْه الدموع، ودون أن ينطق بحرف سلَّم الرسالة إلى أُمّه، فقرأت فيها:

[[[عزیزی "ألبرت": لقد اكتشفت خُططك، وأرجو أن أُقنِعك بوجهة نظري، أنت حُرٌّ في أن تغادر بيْت أبيك وتأخذ أُمّك إلى بيْتك، ولكن تذكَّر يا "ألبرت" أنك مدينٌ لها بأكثر ممّا يستطيع قلبك المسكين النبيل أن يبذل لها، فاحتفظ بالصراع لنفسك واحتمل جميع آلامك، ولكن جَنِّب أُمّك محنة الفقر التي لا بُد وأن تقترن بمحاولتك - ولو في البداية - فهي لا نستحق شيئاً من النكبة التي حلَّت بها اليوْم، والله لا يحب أن يتألَّم البريء من أجل المُذنِب، أنا أعلم أنكما قد اعتزمتما مغادرة منزل شارع "دي هیلدر" دون أن تأخذا شيئاً من أموالكما أو متاعكما، لا تسألني كيف علمت بذلك وانما حسبك أني علمت به وکفى.

وكان الكونت "دي مورسيرف" قد توجَّه بعربته إلى دار الكونت "دي مونت کریستو" حيث أمر رب البيْت بإدخاله إلى الصالون، وفيما كان هـذا يذرع الحجرة للمرّة الثالثة، دخل مضيِّفه قائلاً في هدوء:

-       أهذا أنت يا مسيو "دي مورسيرف"؟ .. حسبت أني أخطأت السمع!

فقال "دي مورسيرف" وشفتاه تختلجان في انفعالٍ عاقه عن الاستمرار في الكلام:

-       نعم .. إنه أنا.  

-       وهل لي أن أعرف سبب تشرُّفي بزيارتك في هذه الساعة المبكرة؟!

-       جئت لأقول لك أنني بدوْري أنظر إليك باعتبارك عدوّي .. جئت لأقول لك أني أمقتك بوحي الغريزة .. بحيث يُخيَّل إليَّ أنني لطالما عرفتك ولطالما كرهتك .. وبالاختصار: ما دام شباب اليوم لن يتبارزوا فقد وجب علينا أن نفعل .. هل أنت مُستعِد؟ .. أنت تعلم أننا سنظل نقتتل حتى يموت أحدنا.

فأوْمأ الكونت "دي مونت كريستو" موافقاً، وواصل "دي مورسيرف" كلامه فقال:

-       إذن فلنبدأ الآن فلسنا في حاجةٍ إلى شهود.

-       هذا صحيح .. فنحن نعرف أحدنا الآخر تمام المعرفة.

-       بل بالعكس .. فنحن لا يكاد أحدنا يعرف عن الآخر شيئاً يُذكَر.

وهنا شحب وجه الكونت "دي مونت کریستو" شحوباً مُخيفاً ولمعت عيْناه ببريقٍ كاللهب، ثم اندفع نحو غرفةٍ مجاورةٍ وعاد بعد لحظاتٍ مُرتدياً سُترةً لبحّارٍ وقُبّعةً ينسدل من تحتها شعره الأسود الطويل، وقد عقـد ذراعيْه فوْق صدره وتقدَّم من غريمه صامتاً، بينما اصطكَّت أسنان "دي مورسيرف" وارتجفت قدماه تحته، وأخذ يتراجع في فزعٍ حتى اصطدم بمنضدةٍ فاستند إليها، بينما صاح به الكونت "دي مونت كريستو":

-       "فيرناند" .. من بين المائة اسم التي أُطلِقها على نفسي لست في حاجةٍ إلى أن أذكر لك غير اسمٍ واحد .. لعلَّك عرفته الآن من هيئتي فانني - برغم الأحزان والعذاب الذي قاسيْته - أطالعك اليوْم بوجهٍ ترد إليه سعادة الانتقام والتشفّي شبابه القديم .. وجهٌ لا بُد أنك رأيْته مِراراً في أحلامك منـذ زواجك من "مرسيديس" .. خطیبتي.

ومد الجنرال "دي مورسيرف" يديْه مُستنجِداً من الرُعب الشديد الذي اعتــراه، ومضى يتلمَّس الجدار حتى بلغ الباب فانسحب منه وهو يُطلِق هـذه الصرخة اليائسة:

-       "إدمون دانتيس"؟!

وما إن بلغ الباب الخارجي حتى ارتمى بين ذراعيْ حوذيه الذي عاونه على ركوب العربة، وعاد به إلى البيْت.

وأمام البيْت كانت تقف عربةٌ متواضعةٌ - لم تُرَ من قبل - أمام بيْت نبيلٍ مثله فدلف الجنرال إلى الداخل، بينما كانت زوْجته وابنه يهبطان السُلَّم والفتى يخاطب والدته:

-       تشجَّعي يا أُمّاه .. فلم يعُد هذا بيتنا.

فاختفى الأب وراء إحدى الستائر في آخر لحظةٍ وهو يشهق شهقةً مروِّعةً لم يصدر مثلها يوْماً من صدر إنسان .. شهقة رجلٍ تهجره زوْجته وابنه في يوْمٍ واحد.

وحين بلغ مخدعه أطل ليُلقي نظرةً أخيرةً على العربة وهي تبتعـد حاملةً أعز مَن له في الوجود، وفي اللحظة التي كانت العربة تختفي فيها عن ناظريْه سُمِعَت طلقةٌ ناريّةٌ تصاعد على أثرها الدُخان من خلال ثغرةٍ في زجاج النافذة أحدثها الانفجار.

سُمٌّ يُنقِذ من سُم

كان "مكسمليان موريل" قد عاد من مكان المبارزة إلى منزل أُسرة "فيلفور" حيث كانت "فالنتين" في انتظاره في غرفة جدّها، وأثناء حديثها عن اعتزام جدّها الانتقال بها إلى مسكنٍ مستقلٍّ بسبب عدم ملاءمة طقس ذلك الحي لصحّتها قالت له:

-       الواقع أني فقدت شهيّتي وصِرت أحس كأن معدتي تجاهد کي تألف شيئاً ما.

فسألها "مكسمليان":

-       وأي علاجٍ تستعملين لمداواة هذه الحالة؟

-       أبتلع كل صباحٍ ملعقةً صغيرةً من المزيج الذي أُعِدَ من أجل جدّي .. أعنى أني بدأت بملعقةٍ واحدةٍ والآن أتناول أربع ملاعق .. وهو مزيٌج مُر الطعم إلى أقصى حد.

شحب وجه "نوارتييه" وهو يصغى إلى كلام حفيدته كأنما أدرك خطورته، فأشار لها كي تُحضِر القاموس لأنه يريد أن يتكلّم وفي تلك اللحظة اندفع الدم إلى وَجنتيْ الفتاة، وصاحت وهي تترنَّح قليلاً:

-       أوه .. هذا غريب .. لست أدري .. لكأن الشمس تسطع في عیْني.

واستندت إلى النافذة، فهُرِع "مكسمليان" نحوها مُنزعِجا لكنها ابتدرته مُطَمْئِنةً:

-       لا تقلق .. إنه عارضٌ طاريء وقد زال .. ولكن .... أليس هـذا صوْت عربةٍ تقف أمام الباب؟

وفتحت الباب وأطلَّت، ثم قالت:

-       نعم .. إنها مدام "دانجلر" وابنتها جاءتا لزيارتنا .. إلى اللقاء .. فإنه ينبغي أن أذهب قبل أن تُرسِلا في طلبي .. ابقَ مع جدّي يا "مكسمليان" . وإلى اللقاء.

لبث الشاب يراقبها وهي تهبط السُلَّم المؤدّي إلى جناح مدام "دي فيلفور" وجناحها هي، وما كادت تنصرف حتى أشار الشيْخ المشلول إلى "مكسمليان" کي یُحضِر القاموس ويُترجِم إشاراته، وكان الشاب قد عرف طريقة التفاهم معه هكذا من "فالنتين".

وقال "نوارتييه" للشاب ما معناه:

-       أحضِر الأبريق والكوب اللذيْن في غرفة "فالنتين".

فدق الشاب الجرس للخادم، وأمره بإحضار الآنيتيْن وكانتا فارغتيْن تماماً، فسأله سيّده:

-       كيف ذلك و"فالنتين" قالت أنها لم تشرب غير نصف محتويات الأبريق؟

وأجاب الخادم بأنه لا يدري ولعل الخادمة أفرغت الباقي، فأشار إليه سيّده أن يسأل الخادمة، فأوْمأ مُطيعاً ثم انصرف وعاد بعد حين يقول:

-       كانت الآنسة "دي فيلفور" تعبر غرفتها إلى غرفة زوْجة أبيها حين أحسَّت بالظمأ فشربت ما تبقّى في القدح .. أمّا الأبريق فقـد أفرغه السيد "إدوار" كي يصنع بحيرةً تمرح فيها بجعاته.

وفي أثناء ذلك كانت مدام "دانجلر" تُنهي إلى مُضيِّفتها بُشرى خطبة الأمير "كافالكانتي" لابنتها، وأثناء الحديث التفتت الضيْفة إلى "فالنتين" قائلةً:

-       ماذا بكِ يا ابنتي؟ .. لقد تعاقب الشحوب والاحمرار على وجهِك أربع مرّاتٍ في دقيقةٍ واحدة؟

وانتهزت مدام "دي فيلفور" الفرصة فقالت للفتاة:

-       يحسُن أن تذهبي لتستریحي یا "فالنتين" .. فإنكِ لستِ على ما يرام .. ولتشربي قدحاً آخر من الماء .. فهو ينفعكِ.

وعلى أثر انصرافها قالت المرأة لضيْفتيْها:

-       إن أمر هذه الفتاة يُزعِـجُني وأخشى أن تكون مصابةً بمرضٍ خطير.

وأثناء عوْدة "فالنتين" إلى حجرة جدّها غامت على عيْنيْها سحابةٌ جعلتهــا تنزلق من السُلَّم وتسقُط على الأرض، فلحق بها "مكسمليان" ورفعهـا بين ذراعيْه وطفرت من عيْنيْ "نوارتييه" صرخة رُعب، ثم أقبل "دي فیلفور" فهُرِع نحو ابنته وأخذها بين ذراعيْه وصاح قائلاً:

-       طبيب .. طبیب .. أحضِروا مسیو "دافريني" .. أو لعل الأفضل أن أدعوه بنفسي.

وخرج على عجل، بينما خرج "مكسمليان" من الباب الآخر، وحين عاد "فيلفور" وبصحبته الطبيب كانت "فالنتين" قد عادت إلى وعيها، لكنها ظلَّت عاجزةً عن الحركة أو الكلام.

وبعد أن فحصها وكتب لها العلاج مضى إلى غرفة "نوارتييـه"، وأغلق الباب وراءه ثم قال له:

-       أتعتقد أن اليد التي قتلت "باروا" هي التي تهاجم "فالنتين" الآن؟

فأوْمأ "نوارتييه" موافِقاً، ثم ابتسم وهو ينظر إلى زجاجة المزيج الذي يتناول منه كل صباح فهتف الطبيب:

-       حسناً .. فهمت یا سیّدي .. إنك جعلت جسمها يألف هذا السُم بالتدريج قبل أن يدس لها أحد جرعةً قاتلة .. ولوْلا هذا الاحتياط لماتت "فالنتين" قبل أن نتمكَّن من إسعافها.

وفي الوقت الذي عاد فيه الطبيب إلى مخدع "فالنتين" - برفقة أبيهـا - استأجر راهبٌ إيطالي يُدعى السنيور "جياكومو بوزوني" المنزل الملاصق لبيْت "فيلفور".

في الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوْم نفسه كان البارون "دانجلر" يذرع حُجرة صالونه في قلقٍ ظاهرٍ في انتظار دخول ابنته التي طلبت أن تتحدَّث إليه على انفراد في تلك الغرفة بالذات، ولم تلبث "أوجيني" أن دخلت مرتديةً ثوْباً من الساتان الأسود، وقد صفَّفت شعرها وأمسكت قُفازيْها كما لو كانت ذاهبةً إلى دار الأوبرا، فسألها أبوها:

-       ماذا تريدين أن تقولي لي؟

فأجابته في لهجةٍ حازمة جعلته يقفز من مقعده كالملدوغ:

-       أُريد أن أقول باختصار أنني لن أتزوَّج الكونت "أندريا كافالكانتي".

-       ماذا؟ .. إصغي إليَّ يا ابنتي ولسوف أحدِّثكِ بالصراحة التي تحبّينها .. إنني حين طالبتكِ بإتمام هذا الزواج كنت أنظر إلى هدفٍ خطيرٍ من ورائه.

-       تعني أن مركزك المالي مُهدَّد؟

-       نعم يا بُنيّتي .. وأنا أريد تزويجك من الكونت "كافالكانتي" لإنه سوف يضع بين يدي ثروته الطائلة البالغة ثلاثة ملايينٍ من الجُنيهات.

فقالت الفتاة باحتقار:

-       هذا عظيم.

-       أنتِ تخشين أن أحرمكِ من هذه الثروة .. ولكن هذه الملايين الثلاثة سوف تُدِر رِبحاً قدره عشرة ملايين أو اثنا عشر مليوناً .. بفضـل مشروع امتياز للسكك الحديديّة حصلت عليه بالاشتراك مع زميلٍ لي .. ومطلوبٌ مني أن أُودِع خلال أسبوعٍ أربعة ملايين .. مقدار حِصَّتي في المشروع .. على أن زواجكِ نفسه من هذا الثري كفيلٌ بأن يرُد لي سُمعتي الماليّة.

-       هل تعدني بأن تسترد مركزك المالي باستغلال هذه السُمعة دون أن تمس مبلغ الثلاثة ملايين ذاته؟ .. وأن تدفع مهري البالغ نصف مليون فرنك عند الزواج؟ .. وأن تترك لي حُرّيتي الشخصيّة كاملةً؟

-       أعدك بذلك.

-       إذن سأتزوَّج مسيو "كافالكانتي".

وحُدِّدت الساعة التاسعة من مساء اليوْم نفسه موْعداً لتحرير عقد الزواج، فارتدت العروس ثوْباً بسيطاً أنيقاً بينما جلست أمها تُثرثِر مع "بوشان" و"شاتو رینو" و"دي براي"، وجلس "دانجلر" يتحدَّث إلى نفرٍ من رجال المال المدعوين عن مشروعات الضرائب التي يعتزم تنفيذها إذا عُيَّن وزيراً، ثم تحدَّث الكونت "أندريا كافالكانتي" عن ألوان الترف التي قرَّر إدخالها على المجتمعات الرفيعة بفضل إيراده السنوى الضخم.

وفي الساعة التاسعة أُعلِن وصول الكونت "دي مونت کریستو"، وقد دخل بينما كانت مدام "دانجلر" تضع توقيعها على عقد زواج ابنتها قائلةً لصديقتها مدام "دي فيلفور":

-       أليس من سوء الحظ أن يحول حادث سرقة دار الكونت "دي مونت كريستو" دون حضور صديقنا مسيو "دي فيلفور"؟

وهنا قال الكونت "دي مونت كريستو" - الذي كان قليل الكلام بحيث كانت كل كلمةٍ ينطق بها تلفت الأسماع – بطريقةٍ تملأها الكياسة:

-       أخشى أن أكون أنا المتسبِّب - بلا قصد - في إعاقة مسيو "فيلفور" عن الحضور .. فلقد عثر خدمي اليوْم على سُترة السارق الذي قتله شريكه عند هبوطه من نافذة داري .. وكانت قد فُقِدت أثناء فحص رجال البوليس والإسعاف لجراحه .. وبتفتيشها وُجدت فيها ورقةً تتضمَّن خطاباً موجَّها إلى البارون "دانجلر".

وهنا هتف "دانجلر" متعجِّباً:

-       لي أنا؟!

فقال الكونت:

-       نعم .. ولمّا كانت هي والسُترة هما الدليل المادي في الجريمة فقد أرسلتهما إلى قاضي التحقيق مسيو "فيلفور" خشية أن تكون هناك مؤامرةٌ مُدَبَّرةٌ ضدك.

فقال "دانجلر":

-       هذا معقول .. ألم يكن السارق القتيل قاتلاً من خرّیجي الليمان (السجن)؟

-       نعم .. وهو يدعى "کادروس".

وهنا شحب وجه "دانجلر" قليلاً، بينما تسلَّل الكونت "أندريا كافالكانتي" في سكونٍ إلى خارج الغرفة فقال الكونت "دي مونت کریستو":

-       أرى أن قِصّتي قد أثارت جوّاً من الانزعاج ينبغي الاعتذار بسببه للبارونة والآنسة "دانجلر" .. فهل لكم أن تتابعوا إجراءات عقد الزواج؟

وكانت البارونة قد فرغت من التوْقيع وردَّت ريشة الكتابة لمُسجِّل العقود، فصاح هذا منادياً:

-       الأمير "كافالكانتي" .. الأمير "كافالکانتي" .. أیْن سمو الأمير؟

وفي تلك اللحظة اقتحم الصالون نفرٌ من جنود البوليس يتقدَّمهم ضابطٌ اقترب من البارون "دانجلر" في حركةٍ مُريبة، فأطلقت البارونة صرخةً عاليةً وسقطت مغشيّاً عليها، بينما بدا على وجه "دانجلر" رعبٌ شديد، وتساءل ضابط البوليس:

-       أيّـكم يا سادة يُدعى "أندريا كافالكانتي"؟

فساد المكان هرجٌ ومرج، وراح الكل يبحثون عن الأمير المُختفي، بينما هتف "دانجلر" مُستفسِراً:

-       لماذا تبحثون عنه؟

فأجاب الضابط:

-       إنه مجرمٌ هاربٌ من ليمان "طولون" .. وهو متهمٌ الآن بقتل زميله السابق في الليمان .. المدعو "كادروس" أثنـاء فراره من دار الكونت "دي مونت کریستو".  

لكن أندريا كان قد لاذ بالفرار.

دقَّت الساعة الحادية عشرة و"فالتنين" راقدةٌ في فراشها تغالب الحُـمّى، بعد أن انصرفت الممرِّضة منذ عشر دقائق، وكانت الحـُمى قد هيّأت للمريضة ألواناً من الأخيلة والهواجس والرُؤى المتتابعة المختلفة، وكان المصباح يُرسِل ضوْءه الضئيل المرتعش الذي يرسم أشكالاً وأشباحاً تُزيد في هواجس المحمومة، وفجأة خُيِّل إلى "فالنتين" أنها تري باب غرفتها يُفتَح على مهلٍ في سكون، ويتسلَّل منه إلى الداخل شبحٌ يقترب من فراشها متلصِّصاً، وتذكَّرت "فالنتين" أن خير وسيلةٍ لتبديد تلك الرُؤى هي أن تشرب جرعةً من الدواء الذي أعدَّه لها الطبيب، فمدَّت يدها تتلمَّسه، وفي هذه اللحظة شرع الشبح نحوها كأنما ليمنعها من أن تشرب، فاستردَّت هي ذراعها مذعورةً بينما تناول هو الكأس فسكب فيها ملعقةً من دواءٍ كان معه ثم همس لها:

-       الآن يمكنكِ أن تشربي.

كادت "فالنتين" تصرخ مذعورةً لوْلا أن وضع الشبح يده على فمها فغمغمت وقد تبيّنت شخصيّته:

-       الكونت "دي مونت کریستو"؟!

فأجابها:

-       اصغي إليَّ أو بالأحرى انظري إلى شحوب وجهى واحمرار عيْني .. إنني - منذ أربع ليالٍ - لم يغمض لي جفن كي أسهر على حمايتك من أجل "مكسمليان".

فغمغمت "فالنتين" وقد عاودها الاطمئنان:

-       هل حدَّثك بما كان؟

فقال الكونت لها:

-       نعم لقد ذكر لي كل شيء .. وأكّد أن حياتك عنـده أثمن من حياته .. وقد وعدته بأنك ستعيشين.

-       تقول أنك سهرت على حمايتي .. لكني لم أرَك!

-       قضيت مُعظم وقتي مختبئاً خلف هذا الباب الذي يقود إلى المنزل الملاصق .. وقد استأجرته خصّيصاً لهذا الغرض .. وأثناء مراقبتي الطويلة رأيت الأشخاص الذين يزورونك .. والطعام والشراب الذي يُعَد لك .. وكنت كلّما وُضِعَ لك سُمٌ قاتل استبدلت به شراباً صحيّاً مُنعِشاً.

-       سُمٌ قاتِل؟! .. ما هذه الاشياء المرعبة التي تُحدِّثني عنها؟

-       لم تكوني أوّل مَن تعرّض لهذا الخطر هنا .. هل نسيتِ ما حـدث للماركيز والماركيزة "دي سان ميران" .. ولذلك الخادِم الأمين "باروا"؟ .. لقد سقطوا جميعاً صرعى بالطريقة نفسها .. وكان من المُنتظر أن يلقى المسيو "نوارتييه" مثل هذا المصير ليموت بالسُم أيْضاً .. لولا أن العلاج الذي يتعاطاه منذ ثلاث سنوات أعطاه مناعةً ضده.

-       يا للسماء .. إذن فهـذا هو السبب الذي جعل جدّي يسقيني من دوائه طيلة الشهر الأخير؟

-       إنه دواءٌ مُر المذاق .. أليس كذلك؟ .. إذن فجـدّك يعلم أن قاتلاً يعيش تحت سقف هذا البيت .. ولعله يرتاب في شخصه .. وقد حرص على أن يُحصِّنك - وأنتِ محبوبته - ضد ذلك السُم .. ولكن حتى هذا التحصين لم يكن لينقذكِ من سلاحٍ آخر ممیت استُعمِل ضدَّكِ خلال هذه الأيّام الأربعة الأخيرة.

-       ولكن مَن يكون هذا القاتل؟

-       ألم تري أحداً يدخل غُرفتكِ أثناء الليْل؟  

-       لقد طالما رأيْت أشباحاً تقترب ثم تبتعد .. لكني حسبتها من خيـالات الحُـمّى كما حسبتك أنت في البداية.

-       إذن تذرَّعي بكل شجاعتكِ .. وارهفي سمعكِ لكل صوْت .. وراقبي كل شيءٍ جيّداً خلال تظاهرك بالنوْم وعندئذ ترین كل شيء.

فأمسكت "فالنتين" بيد الكونت وهمست:

-       أعتقد أني أسمع صوْتاً يقترب .. اتركني الآن.

-       إلى اللقاء إذن.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent