خبر
أخبار ملهلبة

الخيميائي | باولو كويلو | الجزء الثالث


الراعي سنتياجو يبدأ رحلته للبحث عن الكنز من رواية الخيميائي للكاتب باولو كويلو

الجزء الثالث

 

 

حـاول الشاب أن يُعاوِد القراءة ولكنه عجز عن التركيز، كان مُنفعِلاً ومـتـوتِّراً لأنه أدرك أن الشيْخ قد قال الحقيقة، ذهب حتى البائع الجوّال واشترى كيساً من الفيشار، وتساءل: هل ينبغي  أن يحكي لذلك البائع عمّا قاله الشيْخ أم لا؟، وفكَّر أنه يحسن في بعض الأحيان ترك الأمور على ما هي عليه، ومن ثَمَّ فإنه لم يقُل شيئاً، فلو تكلم لقضي بائع الفيشار ثلاثة أيّامٍ يُفكِّر في أن يهجر كل شيء بعد أن أعتاد بالفعل على عربته الصغيرة، فيُجنِّبه إذن تلك الحيرة المؤلمة.

أخذ يتجوَّل في المدينة حتى بلغ الميناء، كان هناك مبنىً صغيرٌ في واجهته شبّاكٌ صغير لشراء تذاكر السفر إلى "أفريقيا" حيث تقع "مصر"، سأله موظَّف الشبّاك:

-       ماذا تُريد؟

فردَّ وهو يبتعد:

-       ربّما غداً.

وفكَّر في أنه يستطيع إذا ما باع شاةً واحدةً من قطيعه أن يعبر إلى "أفريقيا" على الضفّة الأُخرى من المضيق، ولكن هذه الفكرة أرعبته.

وبينما كان الشاب يبتعد قال موظَّف الشبّاك لزميله:

-       ها هو واحدٌ آخر من الحالمين بالسفر وهو لا يملك ما يدفع به ثمن رحلته.

فكَّر "سنتياجو" في شياهه وهو أمام الشبّاك وانتابه خوْفٌ شديد من أن يعود إليها، كان قد تعلَّم خلال هاتيْن السنتيْن كل شيءٍ عن تربية الأغنام، تعلَّم جَز الصوف ورعاية النعاج الحوامل وحماية قطيعه من الذئاب، وعرف كل شيءٍ عن الثمن الصحيح لشراء وبيْع كل واحدةٍ من بهائمه.

قرَّر أن يعـود إلى حظيـرة صـديقـه من أطول الطرق، وكـان لهذه المدينة قلعتها أيضـاً، فقرَّر أن يرتقي إليـها عبر الطريق الصـاعـد المرصـوف بالحجارة وأن يجلس على السور، فبوسعه من هناك أن يلمح "أفريقيا"، لقد قال له أحدهم أن المغاربة أتوا من هذا الطريق وأنهـم احـتلّوا "إسبانيا" بأسرها لفترةٍ طويلة، وقد كره هؤلاء المغاربة منذ ذلك الحين خصوصاً أنه يُقال أنهم هم الذين جاءوا بالغجر، وكان بوسعه أيضاً أن يرى من علٍ أكبر جزءٍ من المدينة بما في ذلك الميْدان الذي تحاور فيه مع الشيْخ، قال لنفسه:

-       ملعونةٌ هي الساعة التي قابلتُ فيها هذا العجوز.

لقد ذهب ببساطةٍ إلى امرأةٍ تستطيع تفسير الأحلام، لكن لا هذه المرأة ولا الشيْخ ألقيا بالاً على الإطلاق إلى كوْنه راعياً، كانا شخصيْن وحيديْن ما عادا يؤمنان بشيءٍ في الحياة، ولم يفـهـمـا أن الرُعاة ينتهون بأن يتـعـلـَّقـوا بماشيتهم، إنه يعرف كل واحدة من أغنامه معرفةً عميقة، يعرف ما إذا كانت هناك واحدةٌ تعرُج وأيّها ستلد بعد شهريْن وأيّها الأكثر كسلاً، وكان يعرف أيضاً جَز صوفها وذبحها، فإذا ما قرَّر أن يرحل فسوف تُعاني بعد فراقه.

بدأت الرياح تهب، وهو يعرف تلك الرياح فهم يسمّونها "الرياح الشرقيّة" لأن تلك الرياح هي التي حملت الغُزاة، ولكن لم يكن يتصوَّر قط قبل أن يعرف "تاريفا" أن "أفريقيا" قريبةٌ إلى هذا الحد وهذا خطرٌ داهم، فالمغاربة يُمكِنهم أن يغزوا البلاد من جديد.

اشتد هبوب الرياح الشرقيّة وفكَّر "سنتياجو":

-       ها أنا ذا حائِرٌ بين شياهي والكنز.

كان عليه أن يتخذ قراراً، أن يختار بين شيءٍ يألفه وشيءٍ يتوق إلى امتلاكه، وهناك أيضاً ابنة التاجر ولكنها ليست بمثل أهميّة الشياه لأن الفتاة لا تعتمد عليه، وواتاه يقينٌ بأنه لو لم يرَ الفتاة بعد يوميْن فإنها لن تلاحظ ذلك قط، فكل الأيّام تتشابه في نظرها، وعندما تصبح كل الأيّام متشابهة فمعنى ذلك أن الناس قد كفّوا عن أن يلحظوا الأشياء الطيّبة التي تمر بحياتهم ما دامت الشمس تعبر السماء.

وقال لنفسه:

-       لقد هجرتُ أبي وأُمّي والقلعة في المدينة التي وُلِدتُ فيها .. لقد ألِفوا ذلك وألِفتُه أنا .. وستكون الشياه بخيرٍ أيضاً أثناء غيابي.

راح يرقُب الميْدان من أعلى، كان البائع الجوَّال يواصل بيْع الفيشار، وجلس شابٌّ وشابّةٌ على المقعد - حيث تبادل الحديث مع الشيْخ - وتبادلا قُبلةً طويلة، وهمس لنفسه:

-       بائع الفيشار .....

ولم يُكمِل الجُملة لأن الرياح الشرقيّة أخذت تعصف بشِدَّة، وشعر بها تلفح وجهه، لقد جاءت تلك الرياح بالمغاربة دون شك، ولكنها جاءت أيضاً برائحة الصحراء والنسوة المُحجَّبات، جاءت بعرق الرجال وأحلامهم، أولئك الذين خرجوا ذات يوْمٍ بحثاً عن المجهول وبحثاً عن الذهب وعن المغامرة و... عن الأهرامات، وأخذ الشاب يحسد الرياح على حُريّتها، وأدرك أنه يمكن أن يصبح مثلها، فلا يوجد ما يمنعه، وبالنسبة للنعاج وابنة التاجر وحقول الأندلس فما هي إلا خُطىً على طريق أسطورته الشخصيّة.

*****

في اليوْم التالي ذهب الراعي لمُقابلة الشيْخ مُصطحِباً سِتّةٍ من الخِراف وقال له:

-       أنا مندهش .. فقد اشترى صديقي القطيع على الفوْر .. أخبرني أنه ظل طول عُمره يحلُم بأن يكون راعياً .. إن هذه علامة فألٍ حسن.

قال الشيْخ:

-       سيكون الأمر دائماً هكذا .. ونحن نُسمّي هذا "المبدأ المواتي" .. فلو لعبت ورق الكوتشينة للمرّة الأولى فمن المؤكَّد أن تكسب .. إنه حظ المُبتدئين.

-       وما السبب في ذلك؟!

-       إن الحياة تُريدك أن تعيش أسطورتك الشخصيّة.

ثم بدأ الشيْخ يفحص الخِراف السِتّة فلاحظ أن واحدا منـهـا يعرج، فقال له الشـاب أن هذا لا يهم لأنه أذكى خِـراف القَطيع ويُنتِج الكثير من الصوف، ثم سأل "سنتياجو" الشيْخ:

-       أين يوجد الكَنز؟

-       الكَنز في "مِصر" .. بالقُرب من الأهرام.

صُعِق الشاب، فقد قالت الغجريّة الشيء نفسه لكنها لم تطلب أجراً، وقبل أن يتفوَّه الشاب استطرد العجوز:

-       لكي تصل إلى الكَنز فيجب أن تنتبه إلى العلامات .. لقد خطَّ الله الطريق الذي ينبغي على كل منا أن يسلكه في هذا العالَم .. وما عليك إلّا أن تقرأ ما خَطّه لك.

وقبل أن يتمكَّن الشاب من الرد طارت فراشةٌ بينه وبين الشيْخ، وتذكَّر لحظتـهـا أن جـِدّه كـان يقـول له وهو طفلٌ إن الفـراشـات عـلامـةٌ على الحظ الحسن، شأنها شأن الجداجد صرّارة الليْل والجراد الأخضر والسحالي الرماديّة الصغيرة والأعشاب النفليّة ذات الأربع وريْقات، وواصل الشيْخ الذي يستطيع قراءة أفكاره:

-       هذا صحيح .. بالضبط كما علَّمك جدك .. العلامات والإشارات موجودة.

ثم فتح المعطف الذي كان يتدثَّر به، وذُهِل الشـاب ممّا رآه مُـتـذكِّـراً الوهج الذي خطف بصره بالأمس، كـان العـجـوز يلبس درعاً من الذهب السميك المُرصَّع كله بالأحـجـار الكريمة، إذن فهو ملكٌ حقّاً ولابد أنه يتنكَّر في هذه الهيْئة ليـتـخـفّـى من اللصوص.

انتزع الشيْخ من درعه حجراً كريماً أبيض وآخر أسود كان في وسط الدِرع وقدَّمهما للشاب قائلاً:

-       خُذ .. هذان الحـجـران يُسـمَّـيـان "أوريم" و"توميم" .. الأسـود یعني "نعم" والأبيض یعني لا" .. عندما تعجز عن اكتشاف مواضع الإشارات والاستدلال بالعلامات فسوف تُفيدانك هاتيْن الجوْهرتيْن .. ولكن عليك أن تطرح عليهما دائماً أسئلةً مُحدَّدة .. واسعَ بوجهٍ عام لأن تتخذ قراراتك بنفسك .. إن الكنز بالقُرب من الهرم وأنت تعرف هذا بالفعل .. ولكن أن تدفع الثمن سِتّة خرافٍ فهذا لأنني أنا الذي ساعدتك على اتخاذ القرار.

ألقى الشاب بالجوْهرتيْن في جرابه وقرر أن يتَّخذ قراراته بنفسه بِدءاً من هذه اللحظة، في حين استكمل الشيْخ إرشاداته:

-       لا تنسَ أن كل الأشياء ما هي إلّا شيءٌ واحد .. ولا تنسَ لُغة العلامات .. ولا تنس - قبل كل شيء - أن تمضي حتى نهاية أُسطورتك الذاتيّة .. ولكني أود قبل أن تمضي أن أحكي لك حكايةً قصيرة:

يُحكى أن واحداً من التُـجّـار أرسل ابنه لكي يتعلَّم سِر السعادة لدى أحكم رجلٍ على سطح الأرض، ومشى الفتى أربعين يوماً في الصحراء قبل أن يصل في النهاية إلى قصرٍ جميلٍ يقع على قِـمّة جبلٍ وفيه يسكُن الحكيم الذي كان يسعى إليه، ولكن بطل حكايتنا بدلاً من أن يجـد ذلك القِـدّيـس وجـد نفسه في بهوٍ يدور فيه نشاطٌ كبير، كان هناك تُجّارٌ يدخلون ويخرجون وأشخاصٌ يتبادلون الحديث في أحد الأركان وفرقةٌ موسيقيّةٌ صغيرةٌ تعزف أنغاماً عذبة، وكانت هناك مائدةٌ عامِرةٌ بأطايب الطِعام المعروف في ذلك الجزء من العالم، وكان الحكيم يتحدَّث إلى هذا وذاك، وتحتَّم على الشاب أن ينتظر ساعتيْن قبل أن يحين دوْره، وعندما جاء دوْره في الكلام أنصت الحكيم بانتباهٍ إلى الشاب وهو يشرح الغرض من زيارته، ولكنه الحكيم قال له أن الوقت لا يتَّسع له الآن لأن يشرح سِر السعادة، وعرض عليه أن يقوم بجولةٍ داخل القصر ثم يرجع لمقابلته بعد ساعتيْن، ثم أضاف الحكيم وهو يُقدِّم للفتى ملعقةً صغيرةً صَبَّ فيها نُقطتيْن من الزيْت: "ولكني أريد أن أطلب منك خدمة: أمسِك بهذه الملعقة في يدك طوال قيامك بجوْلتك وحاذر أن ينسكب منها الزيْت".

أخذ الفتى يصعد سلالم القصر ويهبط مُثبِّتاً عيْنيْه طول الوقت على الملعقة، وعندما انقضت الساعتان رجع لمقابلة الرجل الحكيم الذي سأله: "إذن فهل رأيْتَ السِجّاد الفارسي الذي يوجد في غرفة الطعام؟، وهل رأيت الحديقة التي أنفق البُستاني العظيم عشر سنواتٍ ليُـبـدِعـهـا؟، وهل استوقفتك المُجلَّدات الجميلة في مكتبتي؟"

ارتبك الفتى وكان عليه أن يعترف أنه لم يرَ شيئاً من هذا كله، فقد كان هَمـّه الأوّل هو ألّا يسكب نُقطتيْ الزيْت اللتيْن عـهـد بـهـمـا إليه، فقال له الحكيم: "إذن فارجع وتعرَّف على روائع عالمي الصغير فلا يُمكِنك أن تعتمد على شخصٍ لا تعرف البيْت الذي يسكُنه".

عاد إلى الفتى هدوؤه فأخذ الملعقة ورجع يتجوَّل في القصر مُنتبِها في هذه المرّة إلى كل الروائع الفنيّة المُعلَّقة على الجدران والمتدلّية من السقف، وشاهد الحديقة والجِبال المُحيطة بها والزهور الرقيقة والأناقة التي تم بها تنسيق الأعمال الفنيّة في الأماكن التي تُلائِمها، وعندما رجع إلى الحكيم قَصَّ عليه بالتفصيل كل ما رأى، فسأله الحكيم: "ولكن أين قطرتا الزيْت اللتان عَهِدتُ بهما إليك؟"، عندئذٍ نظر الفتى إلى الملعقة فلاحظ أنهما قد انسكبتا، فقال له حكيم الحُكماء: "وإذن فتلك هي النصيحة الوحيدة التي أستطيع أن أُسديها إليك: إن سِـر السـعـادة هو أن تري روائع الدُنيا ولكن دون أن تسكب أبداً قطرتيْ الزيْت من الملعقة".

ظل الراعي "سنتياجو" صـامِـتـاً، وكـان قـد فـهـم حكاية شيْخه الملك العجوز، فبمقدور الراعي أن يُحب الترحال ولكن دون أن ينسى شياهه أبداً.

نظر الشيْخ إلى الفتى ورسم براحتيْه المبسوطتيْن حركاتٍ غريبةً فوق رأس "سنتياجو"، ثم جمع خرافه السِتّة وانصرف.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent