خبر
أخبار ملهلبة

مزارع الشوك | أرواح بلا قبور (3)


مجموعة من الذئاب تعوي في الصحراء وسط ضوء القمر في الليل



مزارع الشوك (3) 

 

 

وقبل أن ينقضي العام بأسابيع قليلة كان يجلس ليْلاً كعادته على المقهى المقابل لموْقَف السيّارات الأجرة فإذا به يفاجأ بشخصٍ مكتنز الجسم متوسّط القامة في الأربعينيّات من عمره يرتدي جلباباً أبيض يشبه إلى حدٍ بعيد الحاج "سعد" يتّجه إليْه فذعر "حماده" وتوجّس خيفةً وظنَّ أنه شقيق القتيل فوضع خرطوم النرجيلة جانباً وتسمّر في مكانه إلى أن بادره هذا الشخص بالحديث :

- سلامُ عليكم يا خوي.

- عليكم السلام.

- والله بابغي أروح "مطروح" ها الحين واولاد الحلال دلّوني عليك.

- وايش معنى انا بالذات؟

- آخر أوتوبوس فات يا بن العم.. والسيّارتين اللي أمامك بيحمّلوا "السلّوم".. هوّ انت مو شغّال ولّا إيه؟

- لأ.. مش شغّال.

- بكيفك.. سلامُ عليكم.

- اسمع.. إنت من "الشوالحة"؟

- لا والله.. أنا من "البراهمة".. ليش بتسأل؟

- أصلك شبه واحد أعرفه اسمه "سعد الله بو سنينة".. تسمع عنه؟

- لا.. آني باعرف "سعد الله سلومة".

- خلاص خلاص.. بص.. أنا ح اخد منّك ميتين جنيه ماشي؟

- ما تكرمني وتخلّيهم ميّة وخمسين بس.

- لا يا حبيبي.. أنا يمكن أرجع من "مطروح" فاضي.. يبقى أقلّه جبت حق البنزين.

- ماشي يا خوي.. ع البركة.

واستقل الاثنان السيّارة وبدأ الراكب في تلاوة دعاء الركوب وقبل أن يصل "حماده" إلى مشارف "سيدي برّاني" توقّف فجأة فكاد يرتطم رأس الراكب بخِزانة تابلوه السيّارة وسأل "حماده" الراكب في فزع :

- إنت جبت السِبْحَة العاج دي منين؟

- والله انت غريب يا خيْ.. بتفرمل هيك من أجل سؤال كهذا؟

- أصل كان عندي واحدة زيّها بالظبط؟

- قصدك إنّي سارقها منّك.. ولّا ربْنا ما خلق غير ها السِبْحَة تبعك؟

- معلهش.. مش قصدي.. أصلها كانت غالية قوي.

- مو غالية ولا شيْ.. ناس كتيرة عندها ها السِبْحَة.. والله لو ما كان عمّي جابها لي من الحج لكنت أهديتها لك.

- شكراً يا ذوق.

قال "حماده" عبارته الأخيرة ببطء وبصوتٍ خفيض حيث كانت تعتمل بداخله أفكارٌ عديدة وتساؤلاتٌ كثيرة زادته ريبة في أمر هذا الراكب، وبعد حوالي ساعة عندما كان "حماده" يقود سيّارته وهو يستعيد أحداث جريمته التي ذكّره بها هذا الراكب غريب الأطوار إذا بالأمطار تنهمر مصحوبةً بالبرق والرعد والرياح وإذا بالراكب يطلب منه أن يتنحّى بالسيارة جانباً في أقرب وقتٍ ليتبوّل فأطاعه "حماده" وهو يتحسّس مطواةً صغيرةً ذات نصل حامٍ تحسّباً لأي فعلٍ طارئٍ قد يصدر من الراكب، وتوقّف "حماده" بجوار الأسفلت تماماً لكن الراكب طلب منه أن يتوغّل بعربته إلى الداخل قليلاً ليتوارى عن الأنظار وراء أكمةٍ رمليّةٍ صغيرة فلا يرقبه أحد وهو عارٍ يقضي حاجته فرضخ "حماده" لطلبه وقد توسّطت عيْناه رأسه منتبهاً للراكب بحذر، ونزل الراكب من السيّارة واختفى وراء إحدى أشجار الصبّارٍ الضخمة بهذا التل الرملي الصغير وانتظره "حماده" وقد أغلق زجاج وأبواب السيّارة عليه بعد أن دبّ الخوف في قلبه وسرت الرهبة في أوصاله، وطال انتظار "حماده" كثيراً فخرج من السيّارة وهو يسير في احتراسٍ واحتراز والتف حول الأكمة الرمليّة وأشجار الصبّار فلم يعثر للراكب على أثرٍ وسط الظلام وهطول المطر وزمزمة الرعد وزفيف الرياح المحمّلة بالأتربة ففزع أيّما فزع وهرول - وهو يتعثّر على الرمال المبلّلة - إلى سيّارته ودخلها ولكنّها لم تدُر أو تتحرّك، وبعد عدّة محاولاتٍ فاشلة خرج من السيّارة ليذهب للطريق حتّى يستنجد بالسيّارات المارّة ولكنّه ضلّ الطريق فتوغّل أكثر في الصحراء دون حساب ثم سمع وعوعة ذئابٍ كثيرة من حوله لا يتميّزها في الظلام الفحيم الذي يميّز أوّل الشهر العربي الخالي من محاق القمر فأشعل ولّاعته بعد أن فقد طريق عوْدته لسيّارته أيّضاً من فرط اضطرابه، ولكن لهب الولّاعة سرعان ما انطفئ قبل أن يجد فروع أشجارٍ جافة ليشعل بها ناراً وسط تلك التي بلّلها المطر، عندئذٍ انطفأ آخر أملٍ عند "حماده" للنجاة فتكالبت عليه الذئاب التي تجاسرت في الظلام وأخذت تتجاذبه من ملابسه حتّى أوقعته على الأرض وهو يحاول أن يدفعها عنه بلا فائدة وتعالت صرخاته طلباً للعوْن دون مجيبٍ أو منقذ إلى أن أنشب أحد الذئاب أسنانه في مؤخّرة عنق "حماده" بقوّة فكسّر فقراتها ممّا أدّي إلى شلله التام فتوقّف عن الحركة والصراخ ولم يستطع فعل شئٍ إلّا أن يتابع الذئاب وهي تنهش لحمه وتتنازع أجزاءه وأعضاءه وتتجاذب أحشاءه وأوصاله، وكان آخر ما يراه تحت جنح الظلام الذي كان يتبدّد فجأة وقت وميض البرق شبحٌ للحاج "سعد" مبتسماً وهو يسبّح بمِسْبَحته العاجيّة ووراءه صخرةٌ ضخمةٌ مكعّبة الشكل بجانبها لافتة - لم يستطع تبيّنها أوّل الأمر - مكتوبٌ عليْها "مزارع الشوك". 



(تمّت)

google-playkhamsatmostaqltradent