خبر
أخبار ملهلبة

صورة واحد داعية ديني (1) | صور مشقلبة | د. أحمد صادق


شيخ داعية ديني إسلامي يقرأ كتاب شريعة الإسلام بالمقلوب

صورة واحد داعية ديني (1)

 

 

السبت:

خرج "عبد الظاهر الثعلب" من مديريّة الأوقاف بمحافظة "القليوبيّة" وهو في غاية الحُزن والإحباط، بعد أن استلم خطاب تعيينه كإمام وخطيب زاويةٍ صغيرةٍ بقريّة "الدهّان" التابعة لمركز "قليوب"، فقد كان يُمنّي نفسه بالتعيين في أحد المساجد الكُبرى التي يعمُرها الآلاف من المُسلمين حيث الشُهرة والصيت، ولكنه أدرك أنه – بالمقارنة مع غيره ممَّن يفتقرون واسطةً قويّةً تشفع لهم بذلك – ربما يكون محظوظاً لأن تعيينه كان داخل نطاق "القاهرة الكُبرى" وليس بالصعيد أو أطراف "مِصر".

الأحد:

زاد حُزن وإحباط الشاب بعد أن توجّه إلى الزاوية وقابل إمامها العجوز الذي كان منتظراً وصول "عبد الظاهر" ليتسلّم أمانة الزاوية بعد أن أُحيل إلى المعاش، وأبلغه الشيْخ العجوز أن هذه الزاوية الصغيرة ليس بها أي موظَّفين أو عُمّالٍ يخدمون بها وأن عليه أن يكون إماماً وخطيباً ومؤذِّناً وإداريّاً وخادماً أيضاً في تلك الزاوية التي يؤمّها بانتظام بضع عشراتٍ من أهل القرية، فأُسقِط في يد "عبد الظاهر" وودَّ لو استطاع أن يفر من أمام الشيْخ العجوز لوْلا أن الشيْخ بعث فيه الأمل من جديد عندما طمأنه بأن الزاوية – رغم صغر مساحتها – إلّا أن أرضاً شاسعةً حوْلها تتبع زمام الزاوية ومن الممكن أن يتم توْسيعها بضم تلك الأرض لتُصبِح مسجداً كبيراً ولكن لن يتم ذلك إلّا بعزيمةٍ قويّة وجهودٍ جبّارة لا يملكها غير شابٍّ مثله.

الأحد:

بعد تفكيرٍ عميقٍ قرَّر "عبد الظاهر" أن يجعل الزاوية مسجداً كبيراً جامعاً لأهل القرية وما حوْلها من قُرىً، وأن يوفّر فيه كل أسباب الراحة والجذب للمصلّين ومُرتادي الدروس، فبعد الموافقة الرسميّة حصل على إعانةٍ فوْريّةٍ من وزارة الأوقاف وأخذ ما في صناديق الزكاة من أموال وقَصَرها على المسجد دون أن يمنح منها شيئاً للفُقراء والمحتاجين بعد أن رأى أن الشرع يُبيح له ذلك، فقد اعتاد أن يطوّع ما حفظ من القرآن ليخدم أفكاره وأغراضه الشخصيّة مُستدِلّاً بآيات كتاب الله ليُقيم البرهان على صحة حُكمه أو فتواه أو رأيه، وكان يشُط بفكره في أحيانٍ كثيرة فكان يلوي عُنُق الحقيقة فينتزع آياتٍ من موْضعها أو ينتقي آياتٍ في غير محلّها أو يحوِّر معانيها وتفسيراتها كيفما يشاء أو يستدل بجزءٍ من آيةٍ دون إكمال باقيها على طريقة "لا تقربوا الصلاة" أو "ويْلٌ للمصلّين" حتَّى يستنبط ما يساعده على حَمْل نفسه – الأمّارة بالسوء – أو حَمْل مَن أمامه من الجُهلاء على تصديق ما يرى والوثوق بما يُريد.

وللحق فقد كان بارعاً في ذلك، فعندما كان طالباً كان يُبيح لزملائه الغِش في الامتحانات، وإن ذكَّره زميلٌ له بالحديث النبوي "من غشّنا فليس منا" كان يُقنِعه "عبد الظاهر" بقوْله:

-       يا أخي احنا لازم نساعد بعض ف الامتحان .. واللي ما يعرفش إجابة سؤال ياخدها من اخوه .. ده ربّنا بيقول ف كتابه العزيز: "وتعاونوا" .. مش كده وبس .. ده الرسول عليه الصلاة والسلام بيقول: "الله في عوْن العبْد ما دام العبْد في عوْن أخيه" .. وبيقول: "المؤمن للمؤمن كالبُنيان المرصوص يشُد بعضه بعضاً" .. وبيقول: "مَن فرَّج عن مُسلمٍ كُرْبَةً من كُرَب الدنيا فرَّج الله له كُرْبَةً من كُرَب يوْم القيامة" .. وبيقول كمان: "يَدُ اللهِ مع الجماعة" .. إنت عارف إن اللي ما يغشِّش زميله يبقى أناني وما بيحبِّش إلّا نفسه .. المفروض إن الإيثار من خصال المؤمن .. ده ربّنا قال: "ولا يجدون في صُدورِهم حاجةً ممّا أوتوا ويؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصةٌ ومَن يوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هُم المُفلِحون" .. حتَّى الأئمّة قالوا: "حُب النفس رأس كل خطيئة".

و في مرّةٍ أخرى كان يسير مع رفيقٍ له بجانب منزل أحد أعيان القرية من الأقباط فطلب من رفيقه أن يرفعه عالياً ليتمكَّن من القفز فوْق السور المُحيط بحديقة المنزل ليقطف بعض الثمار من أشجار التفّاح الواقعة داخل حرم الحديقة، ولمّا نهاه الرفيق عن ذلك لأنه حرام أخرج "عبد الظاهر" ما في جعبته من الفتاوى السابقة التجهيز وقال له وهو يغالط معنى ما يقول:

-       إنت عبيط! .. معذور أصلك جاهل .. يا بني دول مسايحة .. يعني ناخد أي حاجة بتاعتهم زي ما احنا عايزين .. إنت مش حافظ سورة "المائدة"؟ .. "اليوْم أُحِلَّ لكم الطيّباتُ وطعامُ الذين أُوتوا الكتاب حِلٌ لكم" .. وف سورة الأحزاب: "وأوْرَثكم أرضَهم وديارَهم وأموالهَم وأرضاً لم تطؤوها وكان الله على كل شيءٍ قَديرا".

بدايةً من الثلاثاء ولمُدّة بضع شهور:

دار "عبد الظاهر" على جميع أعيان وأغنياء وتُجّار القرية وأجبرهم على التبرّع للمسجد وأنذرهم بأن من يتقاعس عن ذلك سيفضح أمره بين أهل القرية جميعاً في حين بشَّر أكبر عشرة متبرّعين بأن يكتب أسماءهم على لوْحة الشرف الرُخاميّة الخاصّة بتجديد المسجد والتي سيكشف عنها المحافظ خلال افتتاحه للمسجد في ثوْبه الجديد، مما دفع أغلبهم إلى المُبادَرة لدفع مبالغَ كبيرةٍ دَرءاً للفضيحة أو طلباً للتفاخر أمام الناس، خلافاً لثُلّةٍ منهم كانوا يفعلون ذلك ابتغاء مرضاة الله دون انتظار ترهيبٍ أو ترغيب .. {أليس في أموالهم حقٌ معلوم لتجديد المسجد؟}.

كما أنه وضع كل ما يملك هو شخصيّاً وكل ما كان يتكسّبه من مبالغَ مع باقي هذه الأموال ولكن على سبيل القرض الحسن الذي سيسترده فيما بعد من أموال الأوْقاف أو التبرُّعات أو الصدقات الجارية، ولكي لا يتعب في حساباته أو يلتبس عليه الأمر اعتبر أن أمواله وأموال المسجد شيءٌ واحدٌ وذمّةٌ ماليّةٌ مشتركة، أي أن ما يملكه هو ملكٌ للمسجد وأن ما يملكه المسجد هو مِلكٌ له تأسيساً على مبدأ أن ما بين الخيّرين حساباً وأن فصل الذمَّتيْن قد ينزع عن الأموال البركة، ثم لا بأس لو أخذ أكثر ممّا دفعه لأنه يعتبر نفسه مُؤدّياً ومُشرفاً على تجديد المسجد وأنه ليس حراماً أن يتقاضى أجراً عن ذلك العمل، كما أن له نصيباً معلوماً من أموال الزكاة والتبرّعات أليس هو قائماً عاملاً عليها واجتهد في جمعها؟، "إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَآءِ وٱلْمَسَٰكِينِ وٱلْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي ٱلرِّقَابِ وٱلْغَٰرِمِينَ وفي سَبِيلِ ٱللَّهِ وٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةًۭ مِّنَ ٱللَّهِ وٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌۭ" .. {أليست الخيرة فيما اختاره الله؟}.

وكان يشتري مواد البناء ولوازم تجديد المسجد بالزيادة وما يتبقّى منها يستخدمه ف استكمال بناء منزله الذي بدأ في تشييده على أرضٍ مُجاوِرةٍ وضع يده عليها، وكان يشتري هذه المواد والبضائع بأثمانٍ تقل عن مثيتلها في الأسواق مُتحجِّجاً بأنها ذاهبةٌ للمسجد ومن العار على مَن يُتاجِر فيها أن يكسب من ورائها بل يجب أن يخسر قليلاً لأن هذه الخسارة هي نصيبه من المساهمة في تجديد المسجد وسوف يعوّضه الله عنها بمكاسبَ هائلةٍ في الدنيا والآخرة، ممّا أدّى إلى انخفاض تكاليف التجديد وتوْفير كثيرٍ من الأموال، وتصادف أن رفض أحد التُجّار أن يخسر في بضاعته فما كان من "عبد الظاهر" إلا أن أفشى خبره بين الناس فأصبح مذموماً منبوذاً من أهل القرية مما سبَّب بوار تجارته وكساد بضاعته فسارع ليرجو مغفرة الإمام وعفوه فصفح عنه "عبد الظاهر" بعد أن أجبره على توْريد موادٍّ ولوازمَ بخسارةٍ أكبر لئلا يعود إلى فعلته مرّةً أُخرى وليكون عبرةً لقُرنائه من التُجّار .. {أليس معروفاً أنه ما ينقص مالٌ من صدقة؟}.

هذا بالطبع غير تسخيره للعُمّال والحِرفيّين القائمين على تجديد المسجد وبناء المبنييْن المُلحقيْن بالمسجد (مبنى لدورات المياه وأماكن الوضوء ومبنى آخر لتخزين ما يخص المسجد من كراسٍ وسجاجيدَ وحُصْرٍ وغيرها من المفروشات) وما يتبعهما (كمنزل الإمام) نظير أجورٍ بخسة، فعيْبٌ كل العيْب ألا يُدلي هؤلاء العُمّال بدلائهم في هذا العمل الخيِّر العظيم .. {أليس ما عند الله باق؟}.

ولم ينسى "عبد الظاهر" أن يتعاقد على شراء أجهزة التكييف وثلّاجات المياه والسمّاعات والكاميرات والشاشات والستائر الهوائيّة وصواعق الذباب والناموس وباقي الأجهزة من إحدى الشركات الكبرى التي قدَّمت عرض أسعارٍ أقل من الشركات الأُخرى كما قدَّمت عرضاً آخر مُميَّزاً: فمنحته جهازاً مجّانيّاً كهديّةٍ أمام كل سِتّة أجهزةٍ مُشتراةٍ مدفوعة الثمن من أي نوع، ممّا رجّح كَفّة هذه الشركة فسارع الإمام بالتعامُل معها وحدَّد لها موْعداً لتوصيل الأجهزة المُشتراة إلى مقر الجامع وتوْصيل الأجهزة المجّانيّة إلى منزله لأنه اعتبرها – بنيّةٍ سليمة – هديّةً مُقدَّمةً له شخصيّاً من الشركة تشجيعاً له على أنه دون سواه فضَّلها عن غيرها من الشركات .. {أليست الأعمال بالنيّات؟}.

الجُمعة:

تم افتتاح المسجد في احتفالٍ كبيرٍ حضره المُحافِظ وكبار الشخصيّات الذين تسابقوا ليتواجدوا في هذه المُناسَبة التي ستُظهِرهم أمام الناس بلباس التقوى والورع، وكان المسجد يتفوّق في منظره وتجهيزاته على أفخم المساجد في "القاهرة" بل في الأراضي المقدّسة، بيْد أن كل هذه الفخامة اصطدمت وتناقضت بصورةٍ فجّةٍ مع الهيْئة الرَثّة لمُعظَم مُرتادي المسجد العاديّين من فلاحي القرية وما حوْلها، فتكفي نظرةٌ سريعةٌ على الخانات والأرفف الخشبيّة التي تحوي مُتعلّقاتهم من أحذيةٍ قديمةٍ باهتٌ لوْنها وشباشبَ متهالكةٍ تم تخييطها وترقيعها كثيراً، ممّا يدُل على الفصام والتناقض الوجداني الكبير بين صَرْف تلك الأموال الضخمة على بيْتٍ من بيوت الله وتَرْك مَن يَعْمُرُه مِن عباد الله على هذه الحالة من الفقر والاحتياج والعَوَز في مثالٍ صارخٍ للتعارُض بيْن الظاهر والباطن.



(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent