خبر
أخبار ملهلبة

صورة واحد داعية ديني (2) | صور مشقلبة | د. أحمد صادق



صورة واحد داعية ديني (2)

 

 

الجُمعة:

بدأ "عبد الظاهر" في اتخاذ الخطوة التالية، فبعد جذب الناس من كل حدْبٍ وصوْب للمسجد وارتباطهم به يجب عليه الآن أن يجذبهم له هو شخصيّاً ولخُطبه ودروسه ولكن كيف؟، لم يُجْهِد "عبد الظاهر" نفسه كثيراً في العثور على إجابةٍ لهذا السؤال فقد كان يعرف جيّداً أن الناس يلهثون وراء الخُطب الناريّة ذات المذاق الحرّاق التي تحوي بعضاً من ملح الكلام الذي يُهاجِم فيه الخطيب الحُكّام وبعضاً من فلفل الحديث عن مصائبَ الدنيا وكثيراً من بهارات الكلمات التي لا يستطيعون هم إخراجها من أفواههم ثم لا تهم باقي مكوِّنات الخُطبة الأساسيّة من صُلب الموضوع في الدين أو الشريعة فهي موجودةٌ في أي كتاب.

و عليه؛ فقد بدأ الإمام في إلقاء الخُطب التي تُصادِف هوى الناس وتُدغدِغ مشاعرهم، فبدأ في الهجوم على المُحافظ والوزراء وأعضاء الحكومة وأعضاء مجلسيْ الشعب والشورى والمجلس المحلّي وغيرهم (دون المساس بالطبع برأس الحُكم بل كان يدعو له من فوْق المنبر ويأمر الناس بوجوب طاعته وتحريم الخروج عليه) الذين يتباطئون في القضاء على الجهل والفقر والمرض ويبذِّرون أموال الدولة في الاهتمام بظواهر الأمور وإهمال بواطنها، فتارةً يُهاجِم سياسة بناء الفيللات والشاليهات الفاخرة في السواحل والمصايف وترك غالبيّة الشعب بلا مأوىً معقولٍ تتوافر فيه الشروط الصحيّة للحياة الكريمة، وتارةً أُخرى يُهاجِم دعم السلع الفاخرة وأطعمة القطط والكلاب وترك مُعظَم الشعب يتلظّى بنار أسعار السِلَع والأطعمة الضروريّة، وتارةً ثالثةً يُهاجِم النظام السياسي للبلاد المُسمّى بالديمقراطيّة (حُكم الشعب) التي تدعو لسن قوانين الإجهاض والشذوذ وإباحة الخمور والزِنا ويُطالِب بالعوْدة لحُكم الله وتطبيق شرعه بحذافيره، وغير ذلك من الأمور التي جعلت الناس يصفونه بالشجاعة في قوْل الحق وعدم الخشية إلّا من الخالق سُبحانه وتعالى.

الجُمعة:

لم تمضِ بضعة أسابيعٍ إلّا وقد علا نجم "عبد الظاهر" وذاع صيته وكَثُرَ مريدوه وتضاعف مستمعوه وأصبح المسجد وإمامه قبلة كل مسلمٍ في الناحية فلم يجد الناس مكاناً داخل أو خارج المسجد في صلاة الجُمعة بالتحديد من شِدّة الازدحام وكثرة الاكتظاظ.

السبت ولمُدّة عامٍ ونصف:

لكن بعد مُدّةٍ أُخرى سمع المسؤولون بما يقوله "عبد الظاهر" عليهم فاستاءوا استياءً شديداً وشرعوا في اتخاذ إجراءات عَزْل الشيْخ من إمامة المسجد أو حتَّى اعتقاله ولكنهم توجّسوا خيفةً من شعبيّته الجارفة التي ازدادت كثيراً في الآونة الأخيرة وخشوا أن يصطدموا بالناس، في حين أن بعض الخبثاء منهم وجدوا أن عليهم استمالته إلى صفّهم حتَّى لا يُهاجِمهم بل يحوّلونه بوقاً يدعو لهم ويسبّح بحمدهم وكانوا قد جرّبوا هذه الطريقة كثيراً من قبل مع غيره وأثبتت نجاحاً مُنقَطِع النظير، فبعثوا في طلبه فوافاهم سريعاً فقد كان مُتوقِّعاً منهم هذه المُبادرة بل كان مُوقِناً بأنهم لا صبر لهم على ما يقوله عليهم، وتم الإتفاق فيما بينهم على التزامه بألّا يُهاجِم مَن يلتزمون معه بتحديد مبلغٍ شهريٍ للمسجد (وبالتبعيّة لإمام المسجد فلم تزل الذِمّة الماليّة مُوَّحدةً بينهما) بل يمتدحهم ويثني على أعمالهم، ومَن لا يلتزم بالوفاء بكلمته فلن يفلت من نصل لسانه وسيكون محور خُطَبه المُلتهبة، وهكذا نفذ الإمام إلى عالم الكبار وصار نِداً لهم، كما كان يتوسَّط للناس لديهم دون أن يرفضوا له وساطة فأصبح يُنجِز للناس حوائجهم المُستعصية في زمنٍ قياسيٍ نظير مبلغٍ يتبرّع به صاحب الحاجة للمسجد (وبالتبعيّة لإمام المسجد الذي يبذل مجهوداً كبيراً في ذلك).

الثُلاثاء:

بعد صلاة العشاء وبينا كان "عبد الظاهر" يهم بالانصراف من المسجد إذا برجلٍ تبدو عليه أمارات الثراء يقترب منه ويستأذن في الحديث معه على انفراد، فأشار له الإمام بأن يتبعه إلى حيث مكتبه الفاخر الذي استقطعه من مساحة المسجد ليقابل فيه ذوي الحيثيّة، ودار بينهما حديثٌ هامس:

-       اتفضّل استريّح .. تشرب إيه؟

-       لأ شكراً .. أنا مش ح اعطّل فضيلتك كتير .. أنا جاي لك تفتيني اعمل إيه ف مُشكلتي .. بقى انا محسوبك "سرحان" .. تاجر عِطارة .. وم الآخر كده علشان ما أطوّلش عليك: الظروف رمِتني ف سكّة المخدرات .. يعني بصراحة كده باتاجر ف البانجو أساسي وساعات الحشيش والأفيون .. وعملت فلوس كتيرة من وَرا الموضوع ده .. والشهر اللي فات ابني الصغيّر داسته عربيّة .. حسّيت بالذنب وبدأت افوق م اللي انا فيه .. وقلت لنفسي إن ده عقاب من ربّنا ع المال الحرام اللي رَبِّيت ابني بيه .. وقرَّرت إني أتوب عن الشُغلانة دي .. بس مش عارف أحدِّد ازّاي قيمة الفلوس الحرام اللي كسبتها من البانجو خصوصاً إنها ساحت على الفلوس الحلال اللي كنت باكسبها م التِجارة ف العطارة؟ .. ولو فضيلتك حدِّدت لي قيمتها طب اعمل بيها إيه؟ .. يا ترى اتبرّع بيها في الخير ولّا يبقى حرام؟ .. وإذا كان حرام طب اعمل فيها إيه؟ .. أحرقها مثلاً؟

-       بس واحدة واحدة .. أوّلاً: لازم يبقى عندك إيمان بربّنا وتعرف إن ابنك ما ماتش علشان إنت بتعمِل حاجة غلط .. ده بلاء من ربّنا .. ح يشوفك ح تصبر على بلاءه ولّا ح تكفر .. يقول تعالى: "وبشِّر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مُصيبةٌ قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجِعون" .. وقال الرسول الكريم: "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلةً فلم يبلُغها بعمل، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك، حتَّى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل" .. وهوّ يعني كل الناس اللي ولادهم بيموتوا كان أَّبهاتهم تُجّار بانجو .. بسم الله الرحمن الرحيم: "ونبلوكم بالشر والخير فِتنةً وإليْنا تُرجَعون" .. ثانياً: مين قال لك إن التجارة ف البانجو ولّا الحشيش ولّا الأفيون حرام؟

-       أومّال الحكومة مانعاهم ليه؟

-       علشان بييجوا متهرّبين وما بندفعش عليهم جمارك .. زي الخمرة .. ودي حرام طبعاً .. ما هي الحكومة بتسمح ببيع الخمرة وبتعمل ترخيص للكباريهات والخَـمّارات اللي بتبيعها وبتسمح ببيعها في الأسواق الحُرّة أو مُمكِن تدخُل بيها البلد لو انت جاي بيها من بَرّه بعد ما تدفع جُمرُكها .. بَس لو خبّيتها وانت جاي من بلاد برّه وحاولت تهرَّبها تبقى ف نظر الحكومة مُجرِم.

-       طَب بلاش الحكومة .. مش الحاجات دي بتُذهِب العقل؟ .. وما كان كثيره مُسْكِر فقليله حرام.

-       الكلام ده ف الخمرة ما انا لسّه باقول لك عليها إنها حرام .. لو قريت "تحفة الأحوَذي في شرح سُنن الترمذي" ف كتاب الأشرِبة ح تلاقي نَص الحديث النبوي كده: "كل خَمرٍ يُحَرَّم قليله وكثيره" .. والنبي نهى عن قليل ما أسكره كثير .. إنما البانجو والأفيون والحشيش دول مش أشربة .. دول نباتات .. "الذي جعلَ لكم الأرضَ مَهداً وسَلَكَ لكم فيها سُبُلاً وأَنزلَ من السماءِ ماءً فأخرَجنا به أزواجاً من نباتٍ شتّى" .. "وهو الذي أَنزلَ من السماء ماءً فأخرجنا به نباتَ كل شيءٍ فأخرجنا منه خَضِراً نُخرِجُ منه حَبّاً مُتراكِباً" .. "وأنزل من السماءِ ماءً فأخرج به من الثمراتِ رِزْقاً لكم" .. وكمان دي نباتات بتُستَخدَم زي ما هيَّ .. لا بتتخمّر ولا بتتحمّض .. يعني العنب والبلح الطازة حرام؟ .. لأ طبعاً .. إنما لمّا يتخمّروا يبقوا حرام .. برضه العَقاقير التخليقيّة اللي البني آدمين بيصنّعوها زي الهيروين والكوكايين حرام لإنها مش حاجة طبيعيّة ربّنا سبحانه وتعالى خلقها .. وعندك مثلاً نبات القات اللي بيسمّوه ف اليمن زهرة الفردوس أو قوت الصالحين: كُل الناس هناك بتخزّن منه حتَّى المشايخ والأئمة .. خلّي بالك ربّنا عارف إيه اللي ح يحصل ف الدنيا لغاية ما تقوم القيامة .. حتَّى لو النباتات دي مخلوقة من كام سنة بس – وده طبعاً مش معقول – كان ربّنا حرّمها ف القرآن ونزِّل فيها نَص صريح .. "وهو الذي أَنزلَ إليكم الكتابَ مُفصَّلا" .. ولّا فكرك إن – استغفر الله العظيم – ربّنا ممكن ينسى حاجة زي كده؟ .. ثم إنك مش بتِغصِب حَد على شِرا النباتات دي .. يعني ما بتضربش حَد على إيده .. زي الأعشاب اللي بتبيعها ف محل العطارة بتاعك .. مش فيه عندك نباتات منوِّمة؟

-       آه .. فيه زنبق الوادي وزهر البُرتقان وحشيشة القُطّة وشقايق النُعمان والزَيْزَفون والمليسة.

-       طب والحاجات دي ممنوعة وبنقول عليها مخدّرات؟ .. طبعاً لأّه .. دي مُمكِن ياخدها الناس كعلاج للأرق وكمسكّنات للألم وخلافُه .. وبعدين تعالى هنا قول لي .. البانجو والحشيش والأفيون بيتزرعوا فين؟

-       غالباً ف "أفغانستان" و"باكستان".

-       يعني انت ح تبقى مسلم مُتَدَيِّن أكتر من الأفغان والباكستانيّين؟ .. يا ريتنا يا أخي ف نُص إسلامهم والتزامهم .. دول ما شاء الله عليهم مُتديِّنين لأقصى درجة .. دول أصل الجماعات الإسلاميّة كلّها .. "جيش مُحمَّد" و"طالِبان" و"عَسكر الإسلام" و"الجماعة الإسلاميّة" و"تطبيق الشَريعة المُحمَّديّة" و"فُرسان الصحابة" و"أنصار الإسلام" و .. و .. و .. ما تعدِّش .. تفتكر كل الناس دي كَفَرَة وسايبة ملايين الأفدنة المزروعة دي كده؟ .. ده لو كان فيها ذَرّة شك ما كانوش عدّوها.

-       يعني النباتات دي التجارة فيها حلال؟



(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent