خبر
أخبار ملهلبة

"شيء من الخبث" | الفصل الرابع (2)


مجموعة من شباب ثورة 25 يناير في إحدى المستشفيات وهم مصابون في عيونهم جراء إصابتهم بخرطوش رجال الشرطة

"شيء من الخبث" | الفصل الرابع (2)

 

 

ولم يطل الحال أكثر من عشر دقائق أخرى حتّى انبرى الضابط "عفارة" واقفاً وتقدّم من حافة المنصّة صائحاً بصوت خشن غليظ :

- ها.. خلاص خلّصتوا كلام مع بعض ولا لسّه؟.. عموماً أنا مش ح اتكلّم إلّا لمّا انتم تسكتوا.. ما هو ما ينفعش نتكلّم سوا ف نفس الوقت.. يا انتم تتكلّموا يا انا اتكلّم.

وظل "عفارة" محدقاً بهم في نظرةٍ باردةٍ جامدة إلى أن قلّ الكلام ثم انعدم تماماً، وحينها بدأ "عفارة" في الكلام زاجراً الحضور :

- لمّا نخلّص كلامنا ح نبقى ندّي لكم الإذن بالكلام.. مش عايزين هرجلة.. واللي مش ح يلتزم بالنظام اللي احنا عاملينه ح نمشّيه من هنا.. أظن كلامي واضح مش محتاج لمفهوميّة.. عايزين نخلّص الاجتماع ده قبل العصر علشان ما احناش فاضيين.. ورانا مشغوليّات ياما.

ولف المكان صمتٌ رهيب قطعه صوت "عفارة" قائلاً:

- إتفضّل يا سي "جاهين".

واستلم "جاهين" زمام الحديث من "عفارة" وقال :

- إحنا النهار ده يا جماعة جايين علشان نسمع منكم رأيكم ف كل حاجة ف البلد.. إنتم شركاتنا ف كل حاجة.. البلد دي بتاعتكم قبل ما تكون بتاعتنا.. واحنا جايين علشان ننفّذ طلباتكم.. علشان تبقى بلدنا أحسن بلد ف اليمّة دي بحالها.. "عتريس" - منه لله - خربها هو ورجّالته.

واستطرد - متناسياً أنهم أنفسهم كانوا وما زالوا رجال "عتريس" - قائلاً :

- كفاية ظلم بقى.. كفاية ذل.. كفاية جبروت.. إحنا استكفينا ع الآخر.. إحنا.... .

وأخذته الجلالة واستمر قرابة الساعة يخطب في الناس مشوّحاً بكلتا يديه في كل الإتجاهات؛ بينما كان الناس واقفين يتململون وقد استبدّ بهم التعب إلى أن أنهي "جاهين" حديثه المعسول قائلاً :

- "وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون" صدق الله العظيم.. وأترك الكلمة للسيد "الجلّا" فليتفضّل.

وسرت همهمات بين أهل البلد؛ فإلى متى سوف ينتظرون ساكتين دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة في حين أن الضبّاط يتناوبون ويتداولون فيما بينهم الخطاب؟، وقطع تسلسل أفكارهم صوت "الجلّا" حين قال :

- شكراً لسي "جاهين" إنه خلّاني اتكلّم مع أهل بلدي.. الناس اللي مطوّقني بجمايلهم.. الناس اللي انا اتربّيت بينهم.. الناس اللي ليَّ الشرف إني أدافع عنهم.. أنا مش ح اكرر كلام زمايلي الظبّاط.. إنما انا عايز أؤكّد لكم إن احنا وانتم إيد واحدة.. وعمرنا ما ح نعمل أي حاجة من غير مشورتكم.. أنتم بس تقشّروا واحنا علينا نلم القشر.. إنتم عليكم تأمروا واحنا ننفّذ.. إنتم....

وأخذته الجلالة هوالآخر بيْد أنه لم يطِل غير نصف ساعة فقط وختم حديثه قائلاً :

- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. دورك يا سي "عليش".

وعندها بدأت أعداد أهل القرية في التناقص تدريجياً فقد أدرك معظمهم أنه ليس لهم أي دور في هذا الاجتماع فعادوا أدراجهم اللّهمَّ عدا ثُلّةٌ أصرّت على إثبات حضورها والظهور في المشهد بأيّة وسيلة وثُلّة أخرى كانت تريد الخروج من هذا الاجتماع بأي منفعةٍ كانت سواء ماديّة أو معنويّة وثُلّة أخيرة ما زالت منساقة خلف أملٍ واهٍ في التغيير وثقةٍ زائفة في  ضبّاط الهجّانة، و طفق "عليش" يخطب قائلاً :

- العواف عليكم كلّاتكم.. باختصار كده.. أنا عايز أسألكم سؤال واضح وصريح.. إحنا مجتمعين ليه النهار ده؟.. أنا عارف انتم ح تجاوبوا بإيه.. ح تقولوا لي علشان جا الوقت اللي نمشّي فيه أمورنا بنفسنا.. جا الوقت اللي نقول فيه لأي ظالم إرحل وسيبنا نرجّع صيت بلدنا زي زمان.. لمّا كان الناس كلّهم ف البلاد اللي حوالينا بيقولوا إن "الدهاشنة" همَّ أجدع ناس بتعرف تـ.... .

ولم يختلف "عليش" عن سابقيه كثيراً؛ نفس الكلام المنمّق الأجوف؛ نفس الوعود البرّاقة الخادعة؛ نفس العقلية الجامدة السطحيّة، غير أنه اختلف عنهم في أنه لم يكد يتكلّم سوى عشر دقائق إلّا وقد قطع حديثه آذان العصر الذي تأخّر فيه قليلاً الشيخ "إبراهيم" الذي بدا وكأنه - كباقي أهل البلد - نام مغناطيسيّاً جرّاء الجرعة المكثّفة من حديث الضبّاط الذين أتوا ليخدّروا به الناس ويبعثوا فيهم الملل.

وهنا انبعث صوْت " الجويني" صائحاً في الناس :

- طيّب يا جماعة إحنا الكلام أخدنا النهار ده وما لحقناش نتكلّم أنا وبقية الظبّاط.. وكمان ما لحقناش نسمعكم بالمرّة.. علشان كده ح نأجّل الاجتماع لبكره ف نفس الميعاد وف نفس المكان.. روحوا انتم صلّوا التلات ركعات بتوع العصر وصلّوا السُنّة واحنا ح نصلّي ف أماكن شغلنا.. ما هو العمل عبادة برضه.

فصحح له " البنجري" :

- على فكرة العصر أربع ركعات يا "جويني".

كما نقّح له "بدير" أيضاً قائلاً :

- والعصر كمان مالهوش سُنّة.. على قد ما افتكر.

فردّ عليهم "الجويني" وهو يداري إحراجه :

- لا والله؟.. عموماً تلاقيهم مش واخدين بالهم.. دول عالم بقر ولاد بقر.

وانتقل الناس إلى داخل المسجد ليؤدّوا صلاة العصر ودار بين أحد الفلاحين وصاحبه الحوار التالي :

- تصدّق إني العمر ده كله كنت باصلّي العصر أربع ركعات؟

- يا راجل.. طب وطّي صوتك أحسن حد يسمعك ويقول عليك جاهل.

- وكمان كنت باصلّيه من غير سُنّة.

- استغفر الله العظيم.

- ربّنا يسامحك يا آبا.. كنت بتعلّمني غلط.

- ودول ح تقضيهم إزّاي؟

- مش عارف.. أنا ح اسأل الشيخ "إبراهيم".

- يعني هوَّ ح يفهم اكتر من سي "الجويني".. يا عم ما هو بقى له سنين بيؤمّنا ف العصر وبيصلّيها برضه أربعة.. استغفر الله العظيم.. بس الواحد كان بيسكت.. ما انت عارفني ما باحبّش اكسف حد.. وده راجل كُبّاره برضك.

- يبقى الواحد يكفي على خيبته ماجور.. ويتنيّل يسكت.

وبعد صلاة العصر انصرف الناس وقد أصابهم الإحباط في مقتل، فلم ينصف أحفاد الفرعون أحفاد الفلاح الفصيح ناهيك عن مجرّد الإصغاء إليهم، وتمنّى بعض الفلاحين أن يرجع بهم الزمان كل هذه القرون علّهم يجدون من حكّامهم آذاناً صاغية وقلوباً رئيفة، بل ودَّ أغلبهم لو يرجع بهم الزمان بضعة أيّام فقط فلا يستسهلوا الأمر ولا ينصرفوا تلك الليلة من الساحة الأماميّة لدوّار العمدة، فلو أنهم استمرّوا في ثوْرتهم بالمشاعل وضحّوا ببضعة شهداء آخرين وبحفنة مصابين إضافيين وببعضٍ من راحتهم؛ فمن يدري لعلهم كانوا قد أدركوا بغيتهم في تغيير البلد جذرياً؛ فما حدث هو تغيير شكلي ظاهري دون أن يحدث أي تغيير جوْهري؛ اللّهمَّ إلّا عنوان الحكم والسلطة الذي تغيّر من "عتريس وأولاده" إلى "طهطاوي وشركاه"، وتعجّب الناس من لعبة الشطرنج التي يلعبها معهم الهجّانة حيث أن الملك والوزير والفيل والحصان والطابية قد ماتوا أو سقطوا أو قل حُبِسوا ولكنهم يكملون الدور بالعساكر فقط دون أن تلوح أيّة نهايةٍ للعبة في الأفق.

وفي المساء وكعادتهم التي استحدثوها أخيراً تقابل كل واحدٍ من أهل القرية مع جيرانه عند أوّل كل حارة مشكّلين مجموعاتٍ متفرقةً من الميليشيات المنتشرة في أرجاء القرية، ودار حديثهم حول ما حدث اليوم في الاجتماع مع الهجّانة وكيف أن صوتهم لم يصل بعد إلى حاكميهم الحاليين المؤقتين وكيف استحالت أحلامهم إلى سرابٍ قد يطاردونه حتّى يتيقنوا من عدم وجوده بعد فوات الأوان ومدي خيبة الأمل التي منيّوا بها ولم تكن في حسبانهم بالمرّة.

وكما كان أهل القرية يتسامرون في ليلهم كان المصابون - الذين تسمح حالاتهم - في الاشتباكات مع الخفر يتلاقون في عنبر الرجال بالوحدة الصحيّة بالقرية؛ فقد كان الليل - قبل أن يقرروا التجمّع فيه يومياً - يمر عليهم بطيئاً كئيباً، كما كانت تحلو لأوجاعهم أن تتجلّي في الليل حيث لا تقطع السكون إلا التأوّهات الصادرة بين الفينة والأخري من جسدٍ مجروح أو من قلبٍ مكلوم، وفي هذه الليلة بالذات كان عدد المجتمعين كبيراً فهذا مصابٌ بطلقٍ ناري وذاك فقد إحدى عيْنيْه بعد أن أصابه خرطوش وغيره بُتِر طرفٌ من أطرافه لإنقاذه من النزيف وآخرٌ مصاب بكسورٍ وكدمات وسحجات جرّاء ضرب الخفر له بدبشك بنادقهم وبأرجلهم و.. و.. وغيرهم كثيرون، وبدأ الكلام يدور ويدور.

- ألا تفتكروا يا اخوانّا البلد ح تتصلّح.

- ضروري طبعاً.. أومّال احنا كنا بنعرّض نفسنا للموت ليه؟

- أصل مش كل أهل البلد كانوا موافقين على اللي احنا عملناه ده.. دول أهالينا زعلانين مننا.

- أيوه يا ابني.. ده بس علشان خايفين علينا.. ما هو اللي حصل لنا مش شويّة.. ده احنا كنّا ح نروح ف طيس.

- لأ وانت الصادق .. كنا ح نروح لربنا شهدا.. يا جماعة مقاومة الظلم تعتبر جهاد ف سبيل الله.. وإن شاء الله أنا ناوي لو ربّنا خد بيدّي أكمّل اللي بدأناه.. لغاية ما نعيش ف بلد كلها عدل وحريّة وكرامة.

- بس انا اخويا قال لي ف زيارة النهار ده إن فيه ناس كتير من أهل البلد كانوا قاعدين ف دارهم وقافلين بابهم على نفسهم وعلى عيالهم لمّا احنا كنا بننضرب بالنار من الغفر ف الساحة.. وكانوا فالحين بس يقعدوا على المصطبة ولا الدكّة يجيبوا ف سيرتنا ويقولوا علينا شويّة عيال ما اتربّتش ح تخرب البلد.

- دول بقى المفروض نسمّيهم جماعة المصطبة أو جماعة الدكّة.. دول ما فيش من وراهم رَجا أبداً.

- بسلامتهم كان عاجبهم قوي الذُل اللي كنّا فيه .

- ده مش كده وبس.. دول بيقولوا إن الزفت "عتريس" ده زي ابونا وكان بيحاجي علينا ومانع عننا أذيّة "الكهاينة" اللي ياما اتعاركوا معانا قبل كده كذا مرّة.

- وهوَّ فيه أب يقتل عياله ويسلّط عليهم اللي يأذيهم.. وبعدين ده كان موالس مع "الكهاينة" علشان مصلحته مش مصلحة البلد.

- يا مين يلايمني على زمّارة رقبته "عتريس" الكلب ده.. كنت قرقشتها باسناني.

- هيييه.. إصحي.. إنت مش عارف إنه محجوز هنا ف الوحدة الصحيّة معانا.

- يا راجل؟.. أومّال ما بنشوفهوش ليه؟

- علشان متلقّح ف الدور التالت.

- إنت متأكد إنه فوق ولا الموضوع فيه إنَّ؟

- الله أعلم بس ده اللي الناس بتقوله.. وبعدين دول حاطّين عليه حراسة ياما.. أنت ما شفتهمش؟.. دول ييجوا ستين غفير واقفين زنهار أربعة وعشرين ساعة.

- يعني مش ح نقدر نوصل له؟

- لا يا عم.. ده احنا مضحضحين خِلْقَة.. مش حاملين ضرب تاني.. وبعدين احنا حقنا وحق الشُهدا ح ناخده بالأصول.. مش سمعنا إن الهجّانة ح يعملوا له قعدة رجّالة ويحكموا عليه باللي شايفينه الحق؟

- واللهِ يا أخي أنا مش مصدّق الموضوع ده.. إيه اللي قلب الهجّانة على "عتريس" بالمنظر ده؟.. ما طول عمرهم سمنة على عسل.. إيه اللي حصل؟

- بلاش سوء ظن يا أخي.. يمكن ربّنا هداهم واتّعظوا م اللي حصل للعمدة.. أو حتّى بيعملوا كده علشان خايفين مننا.

- ربّنا يهدي يا رب.. قال يا خبر بفلوس بكرة يبقى ببلاش.

- أومّال بقية الجماعة اللي جُم معانا ف عربيّات الإسعاف راحوا فين؟

- حبّة خرجوا بالسلامة.. وحبّة لسّه متكلبشين ف السراير.. وحبّة ف العناية المركّزة.. وحبّة ربنا افتكرهم.

- إنا لله وإنا إليه راجعون.. الفاتحة على روح الشُهدا كلّهم.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent