خبر
أخبار ملهلبة

الطمع كنز لا يفنى | خارج المألوف (3)

 

رجلان يتنازعان على قضية ويقفان أمام القاضي ليحكم بينهما


الطمع كنز لا يفنى (3)

 

 

وهنا ضجّ القصر بالتصفيق الحاد.. وسط دهشة "جلفدان" بنت "عليش" الحدّاد.. فقد كانت تسمع هذه القصّة لأوّل مرّة.. ولكن راقت لها الفكرة.. ثم بدأ المضيّفان.. "راغب" و"جلفدان".. في المرور بين مئات الضيوف.. بين أنغام الموسيقى والدفوف.. ليتعرّفا على كبار الأعيان والوزراء.. ويثبّتا نفسيهما بين أغنى الأغنياء.. إلى أن سمع الحاضرون صوت النفير.. يدعو للوليمة هذا الجمع الغفير.. وبدأت الجواري والغلمان والخدم.. يطوفون بالمأكولات الفاخرة بكل كرم.. وكان كل سماطٍ يكتظ بكل أنواع الأطعمة.. التي كانت في الحقيقة طُعماً لتحقيق أطماع "راغب" المفعمة.. فقد كان يخطط لامتلاك الثروة والنفوذ.. بعد أن وصل بطمعه لأعلى درجات الشذوذ.

وبعد أن انتهت الوليمة انصرف الناس بعد أن ملأوا بطونهم.. وودع "راغب" و"جلفدان" ضيوفهم.. وصعدا إلى غرفتهما وقد تعدّت الساعة الرابعة.. ليرتاحا قبل أن يحل موعد"راضي" و"عفيفة" في السابعة.. ثم جلسا يتجاذبان أطراف الحديث.. في كل قديمٍ وحديث :

- بقى انا أميرة بنت ملك!.. روح يا شيخ إلهي يسترك.

- أومّال عايزاني أقول إيه للناس؟.. أنا أصلي قعدت امبارح محتاس.. أفكّر اقول للناس انا جبت الثروة دي منين؟.. وهمّ عارفين أصلي وذات البين.. قلت أحسن حاجة إني اقول إن كل ما أمتلك.. جايبه من حد غني قوي زي مثلاً واحد ملك.. واخترعت القصّة اللي انتي سمعتيها.. علشان اخبّي حكاية نص صندوق الكنز اللي قلت لك عليها.

- وماله لمّا الناس تعرف الحقيقة.. مش احسن ما يظهر كدبك وتقع ف ضيقة.. وبعدين بعد ما اشترينا القصر وبعد مصاريف الوليمة.. ما عادش معانا اللي نصرف منه ولا عاد لنا قيمة.

- ما هو علشان كده.. باعمل اللي باعمله ده.. بكره تفهمي الموضوع.. قبل ما يعدّي الأسبوع.. أنا عندي حتّة دين فكرة.. ح تخلّينا أغنيا تاني من بكره.

وفي السابعة مساءً.. ازداد القصر سناءً.. بعد أن حضر "راضي" و"عفيفة".. ليقضيا سهرةً ظريفة.. فالتَقَى "راغب" ابن عمّه بالأحضان.. وتعرّفت "عفيفة" على "جلفدان".. وصرف "راغب" جميع الخَدَم.. ليأخذ راحته مع ابن عمّه بعيداً عن الحَشَم.. ودارت بينهم أحاديثٌ مَرِحة.. ونفوسهم بالحديث فَرِحة :

- والله زمان يا "راغب".. يا ألف مليون مراحب.. دي البلد من غيرك كانت ضلمة.. وما كانش الواحد له نِفس يتكلّم نُص كلمة.

- البلد منوّرة بيك على طول يا "راضي".. معلهش ما كنتش باراسلك إكمّني ما كنتش فاضي.. الشغل كان واخدني على طول.. وهَم الشغل ماكانش بيزول.

- الحمد لله إنك جيتنا.. أنا قلت انت نسيتنا.. وقلت إن حبال المودّة بينّا بقت ضعيفة.. مع إني على طول ف سيرتك أنا و"عفيفة".

- والله وما ليكوا عليَّ حِلْفان.. أنا فرحانة قوي باختي الجديدة "جلفدان".

- ده انت يا "عفيفة" اللي الكلام معاكي زي العسل.. وقال يا اختي على رأى المثل: حلاوة حديت الأخت للخَيّة.. سكر مكرّر ما طالته ميّه.

- طب يا "جلفدان" يا مراتي.. هاتي هديّتك "لعفيفة" هاتي.

- هديّتي أنا؟.. هديّة إيه يا جوز الهنا؟

- مش انتي قلتي لي امبارح بالليل.. إنك ح تهادي "عفيفة" بشيء جميل؟

- أنا قلت كده؟.. طب امتى ده؟.. يا دي الكسوف.. قدّام الضيوف.

- يا وليّه لحقتي تنسي.. ما ع البر ترسي.. بُصّي على صِدرك وانتي تفتكري اللي جرى.. مش كنت ناوية تهاديها الجوهرة؟

وتلعثمت "جلفدان" وهي تستكمل الكلام.. وأحست بأن عينيها ترى بعد النور ظلام :

- أنا؟ آه آه طبعاً انا.. هوَّ انا ف ديك السنة؟

وخلعت "جلفدان" قلادتها الذهبيّة التي تحمل الجوهرة بيديْن مرتعشتيْن.. فقد ورّطها زوْجها فيما كانت لا تنوي التفريط فيه ليوم الدين.. فهذه الجوهرة الورديّة الكبيرة هي التي تبقّت من كنز زوجها.. يوم اقتسم مع ابن عمّه نصيبه من الكنز كما قال لها.. وكانت تعتز بهذه الجوهرة اعتزازاً شديداً.. لدرجة أنها صنعت لها إطاراً فريداً.. عبارة عن سلسلة ذهبيّة غليظة تتدلّى على الصدر لتحمل الجوهرة.. وكل حلقة من حلقات السلسلة مكتوب عليها اسم "جلفدان" بخطٍ صغيرٍ لا يُرَى.. وأخذت "عفيفة" الهديّة وهي مسرورة.. وارتدت القلادة و"جلفدان" تراقبها محسورة.. وقام "راغب" بدوره ليعطي "راضي" هديّة.. فكانت صندوقاً ذهبيّاً خاوياً يسع من الحُلَي والجواهر مائة أوقيّة.. فتلقّى "راضي" الهديّة شاكراً.. وكان لسانه بعبارات الثناء ذاكراً.. ومضى الوقت سريع الانجراف.. وبعد العشاء استأذن "راضي" و"عفيفة" في الانصراف.. فقام "راغب" و"عفيفة" بتوصيلهما إلى أبواب القاعة الداخليّة.. واعتذر لهما "راغب" عن عدم توصيلهما إلى البوابة الخارجيّة.. وتعلّل بأنه وزوجته يخافا من برد الليْل على صحتهما.. وداعب "راضي" وزوجته بأنه لا داعي لذلك فالبيْت بيتهما.. وانطلق الضيفان لمنزلهما عائديْن.. وكانا للصندوق الذهبي حامليْن.. وبعد أن أغلق المضيّفان الباب.. انفجرت "جلفدان" في زوجها بعتاب.. فهاجمته لإجبارها على أن تهب "لعفيفة" الجوهرة.. معترضة على أنه اتخذها كالقنطرة.. ليجامل ابن عمّه على حسابها.. ونسى أن هذه الجوهرة هي آخر ما تبقّى لها.. بعد نفاذ الكنز وما معهما من نقود.. فطمأنها "راغب" في برود.. ووعدها بأن هذه الجوهرة ما هي إلا طعمٌ صغير.. لاسترداد باقي الكنز الكبير.

وفي أوّل الصباح.. سُمِع "لراغب" صياح.. فقد كان ينهر الحرّاس بصوتٍ مسموع.. وكان يستجوبهم في ذات الموضوع.. حيث أنه اكتشف سرقة صندوقٍ ذهبي به كنز كبير.. فأجابه أحد الحرّاس وكان شابّاً غرير.. بأنه رأى الضيفيْن اللذيْن كانا على العشاء.. وهما يحملان الصندوق الثقيل بعناء.. وهنا أمر "راغب" الخدم بأن يجهّزوا له العربة التي تجرّها الخيول.. لأنه سيذهب مع الحارس الشاب إلى ملك البلاد المسؤول.. وبالفعل اتّجه إلى قصر الملك "غنّام" الراسخ.. الذي يقع على بعد أربع فراسخ.. وبعد أن وصل القصر استأذن في الدخول.. وبعد تأدية فروض الاحترام ومراسم المثول.. وبعد ما رأى من المَلِك علامات القبول.. طفق "راغب" يقول :

- أيها الملك.. الأمر لك.. والنهي لك.. ومن خانك هلك.. جاي لك تنصفني.. ومن طمع ابن عمّي تنقذني.. ح احكي لك ع اللي حصل باختصار.. وعارفك بتغيت اللي بيك يستجار.. بقى يا مولايا كان حمايا الملك "شمس الزمان".. مدّيني صندوق دهب بالجواهر والكنوز مليان.. ولمّا جيت بلدي واشتريت من سموّك القصر الأخضر.. عملت للأعيان وليمة غدا وعملت لابن عمّي وليمة عشا أكبر.. وحكيت له اللي جرى لي.. وكان بالي من ناحيته خالي.. وفرّجته صندوق الكنوز الدهب.. فالشيطان بعقله لعب.. أتاريه دس لي انا ومراتي منوّم ف الشراب.. وأخد الصندوق هوّ ومراته وفص ملح وداب.. بس الحارس الشاب ده وهُمَّ طالعين من قصري شافهم.. وافتكرني مدّيهم الصندوق هديّة فسابهم.. ولمّا صحيت الصبح انا ومراتي الأميرة "جلفدان".. لقينا نفسنا نايمين مكانّا والصندوق ف خبر كان.. أنا طمعان في عدلك يا ملكنا يا عظيم.. إنك تجيب لي اللي سرقه مني "راضي" اللئيم.. وكل الناس عارفه الملك "غنّام".. مافيش حد ف بلاده ينضام.

وتصنّع "راغب" البكاء.. ليحبك مؤامرته الشنعاء.. فأمر الملك على الفوْر قائد الشرطة.. بأن يحضر "راضي" وزوجته ليحل هذه الورطة.. بعد أن يفتّش دارهما تفتيشاّ دقيقاً.. لينزل بهما - إن صدق كلام "راغب" - عقاباً محيقاً.. فانطلق قائد الشرطة بعساكره في الحين.. لينفّذ أمر الملك ويأتيه بالخبر اليقين.. وبعد أن مرَّ وقتٌ من الزمن حوالي ساعة.. حضر القائد ومعه "راضي" وكان مصدوماً و"عفيفة" وكانت ملتاعة.. وقد تم ضبط صندوق ذهبي خاوي.. وصندوق نحاسي آخر للكنز حاوي.. وعندما واجههما الملك باتهام "راغب".. أجاب "راضي" وقد كان لحزنه يغالب :

- لا حول ولا قوّة إلا بالله.. أنا مش مصدّق إن الطمع يوصل بابن عمّي لآخر مداه.. بقى انا برضه حرامي.. ده انا للفضيلة والأخلاق حامي.. يا مولايا الملك الكنز اللي ف الصندوق النحاس ده بتاعي.. لقيته من سنة ف الغابة وطلّعته بدراعي.. و"راغب" لقى صندوقين تانيين.. وبالكنوز والجواهر مليانين.. بس ضيّعهم ف النهر بعد ما وقعوا بالحمار اللي شايلهم من أقصى ارتفاع.. إكمّنه عايز يكوّش على كل حاجة وتملّي طمّاع.. وانا حاولت اساعده من طيبتي.. وادّيته نُص اللي ف صندوقي وده من خيبتي.. بقى بعد كل ده اشوف منه ظلم وهوان؟.. ده ربّنا بيقول {هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان}.

- كدّاب وميت كدّاب يا مولايا.. الكنز ده انا واخده من حمايا.. طب لو هوَّ فعلاً لقى الكنز من سنة.. مش كانت بانت عليه علامات العِز وأمارات الهنا؟.. إسأل عليه أهل البلد ح يقولوا لسموّك إنه طول عمره جربوع.. ولّا هوّ ح يعيش علينا دور الشرف ويقول على نفسه قنوع؟.. بقى بالذمّة فيه حد ف الدنيا على ده الحال؟.. هوّ فاكرنا أغبيا ولّا شويّة عيال.. وعموماً يا مولايا العظيم "غنّام".. أنا عندي الدليل اللي ما بعده كلام.. خلّي قائد الشرطة يفتّشهم ح يلاقي قاطع الدليل وساطع البرهان.. أنا مراتي اتسرق منها سلسلة فيها جوهرة ورديّة كبيرة وفي كل حلقة مكتوب عليها اسمها "جلفدان".

وبعد التفتيش وجدوا السلسلة.. ولمّا جاء الصائغ حلَّ المعضلة.. فبعد أن فحص القلادة بعدسته المكبرة.. أيّد "راغب" في مكيدته المدبرة.. وعبثاً حاول أن يتكلّم "راضي" ليدافع عن نفسه.. ولكن هيهات بعد أن انكسفت بالدليل شمسه.. فمن يصدّقه بعد ذلك مهما فعل من المجهود وبذل.. وللأسف فقد سبق السيف العذل.

وأصدر الملك حُكمه على "راضي".. بعد أن استشار القاضي.. فأمر بجلده في الميدان خمسون جَلدة.. ومصادرة كل أملاكه في البَلدة.. ورد الكنز "لراغب".. وتلبية ما له من مطالب.. فاستكمل "راغب" غرضه الخبيث.. عندما توجّه للملك بالحديث :

- مولاي يا ملك الملوك.. يا مَن بذكره الطيّب كل الألسنة تلوك.. يا عادل يا رحيم.. يا قادر يا عظيم.. يا ملاذ الفقير والمحتاج.. أنت لشعبك سراج وهّاج.. من يستطيع أن يخالفك؟.. فكلّنا بالطاعة نعرفك.. إسمح لي أن أتجرّأ ولي منك المغفرة.. بأن أهديك هذه الجوهرة.. فلسوف تتزيّن على عمامتك.. ولسوف تستمد قيمتها من قيمتك.. أعذر لي تقديمي لهذه الهديّة المتواضعة.. التي - إن قبلتها - ستكون رائعة.

فابتهج الملك في حبور لكلام "راغب" ونفاقه.. خصوصاً أنه كان جالساً بين حاشيته ورفاقه.. فقبل الهديّة الثمينة ممتناً.. ولكي يظهر للناس بأنه أكثر كرماً.. أصدر فرماناً بتعيين "راغب" وزيراً للمملكة.. وهكذا ربح "راغب" المعركة.. فجمع بطمعه بيْن المال والنفوذ (*).. ويستطيع بأيّهما - وقتما يشاء - أن يلوذ.

وخرج "راغب" مع رجاله الذين كانوا يحملون الصندوق.. وركب عربته في الميْدان وهو يفكّر بخياله المطلوق.. في مستقبله المشرق دون أي إحساسٍ بالندم.. لما فعله بابن عمّه الذي ظُلِم.. وصمّ أذنيْه وهو يمضي في طريقه المرسوم.. عن تأوّهات "راضي" المصدوم المكلوم.. الذي كان يتلقّى كل جلدة وهو قانع.. بأن الله سيعوضه خيراً عن حقّه الضائع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) قال رسول الله ( صلّى الله عليه وسلم ) : "لو أن لابن آدم وادياً من مال لتمنّى وادييْن، ولو أن له وادييْن لتمنّى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب، ويتوب الله على مَن تاب"
..................................................... صدق رسول الله. 


google-playkhamsatmostaqltradent