خبر
أخبار ملهلبة

الفصل الثاني | شيء من الخبث (3)

 

لوحة فنية لفتاة ريفية جميلة تضع يدها بحزن على خدها وبجوارها حمامة

الفصل الثاني | شيء من الخبث (3)

 


فأشار له "محيى" بأن يتريث قليلاً حتّى يلتقط أنفاسه، وبعد أن شرب كوباً من الماء نطق ببطء:

- أنا جاي لكم يا جماعة برسالة م الهجّانة.. بيقولوا لكم اختاروا جماعة من حداكم يقعدوا معاهم علشان يعرفوا مطالبكم وعلشان تشاركوهم ف تصريف أمور البلد.

الشيخ "إبراهيم" مهللاً :

- الله أكبر.. أيوه كده.. ما هو احنا لازم يبقى لنا رأي ف كل حاجة تخص البلد من هنا ورايح.

واستكمل كلامه وهو ينظر "لحمداوي" نظرة لوم :

- شايفين؟.. أنا قلت لكم الناس دي بريفيكس.. ولازماً ندّي لهم فرصة يغيّروا فيها البلد.. مش تقولوا لي إيش ضمّنا ينفّذوا كلامهم وابصر إيه وما ادرك إيه؟

"السيد العدوي":

- والمقابلة دي ح تبقى امتي وفين؟

"وفيق بغاشة" :

- قبل ما نعرف أي حاجة.. أنا ح اروح أوّل واحد.

"شحاته" :

- هوَّ فرح يا ابن الحلال.. الكبار بس همّ اللي ح يروحوا.

"وفيق" :

- هو انا يعني صغيّر.. ولا صغيّر.. ولا يمكن أكون صغيّر؟.. ده انا ناوي أرشّح نفسي عمدة.. أنا مش أقل من أي حد في البلد.. ده بالذات أنا اللي أنفع علشان فلّاح وابن فلّاح ومن سلسال فلّاحين.. مش متبندر زي بعضهم.

"حمداوي" :

- والشباب اللي لولاهم كان زمانكم نايمين ف العسل زي السنين اللي فاتت.. ح تركنوهم على جنب وقت الجد؟.. آه يا بلد عواجيز.

"وديع" :

- لأ بقى.. الحق يتقال.. إحنا اللي طول عمرنا شايلين هموم البلد وياما شفنا من "عتريس".. واحنا اللي بنمثّل صوت الإسلام.

"شحاته" :

- إيه يا عم "وديع".. وهو انا يعني كنت بأمثّل صوت العرب من القاهرة؟

الشيخ "إبراهيم" :

- أنتم ح تختلفوا مع بعض من ده الوقت؟.. ما تختاروا واحد بس.

"محيى" :

- سيبهم يختلفوا يا عمدة.. هوَّ فيه حد الناس بتجمع عليه.. ده ربّنا ذات نفسه مش كل الناس ح تختاره وتجمع عليه.

الشيخ "إبراهيم" :

- إخرس يا وله.. بلاش فلسفة فاضية أنت ح تتجرّأ على ربّنا كمان.

"محيى" :

- مش قصدي يا شيخنا.. أنا قصدي يا جدعان بالهداوة كده وواحدة واحدة.. دول قالوا لي هات أي حد وتعالوا بكره بعد صلاة الضهر نتقابل ف الحوض القبلي اللي ورا الجامع.. وأي حد عايز ييجي أهلاً بيه.. علشان نحقّق لكم مطالبكم كلّها.

الشيخ "إبراهيم" :

- الحوض القبلي؟.. في عز السمس والأيّالة؟.. وما نقعدش ف خيمة ظبّاط الهجّانة ليه؟

"محيى" :

- أصل سي "طهطاوي" بيحب يأيّل له شويّة ساعة الضهريّة.. ومش عايز دوشة ووجع دماغ.

"حمداوي" بسخرية :

- يا دي قلة القيمة يا ولاد.. بقى هويريّح جوّه الخيمة واحنا نافوخنا يتأور من السمس؟

"شحاته" :

- وما له ياسيدي.. ربّنا خلق الناس درجات.. ولا ح تعترض على دي كمان.. وبعدين مش هو ده الوقت ولي الأمر.. لازم نطيعه برضه.

" وديع" :

- وهي الخيمة ح تقضّي الهلمة دي كلها.. دول ناس زي الرز عايزين يحضروا الإجتماع ده.

الشيخ "إبراهيم" :

- وده ينفع برضه؟.. إحنا ضروري نقعد مع بعض الأوّل ونتفق على مطالب واحدة لنا كلنا.

"وديع" :

- وإيش أدراك يا شيخ "إبراهيم" إن مطالبنا واحدة؟.. ما يمكن اللي انا عايزه غير اللي انتم عايزينه؟

 "حمداوي" :

- إزّاي بقى؟.. ما احنا عملنا الثورة دي علشان نخلع "عتريس" وننتخب عمدة كويّس يحكم بالعدل ويوّفر لنا اللقمة ويخلّينا نعيش بكرامتنا.

"شحاته" :

- لا يا حبيبي فيه مطالب تانية أهم.. زي تطبيق شرع الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وتمكين المسلمين من الولاية.. وغيره وغيره.

"وديع" :

- وكمان فيه الأهم والأهم.. اللي هوَّ إقامة الخلافة الإسلامية من أوّل "الدهاشنة" لغاية آخر قرية في المديريات كلها.. لإن القرآن دستورنا والرسول زعيمنا والجهاد طريقنا والموت في سبيل الله أسمي أمانينا.

"حمداوي" :

- يا عم إنت ح تخطب إنت وهو؟.. بيقول لكم عايزين يعرفوا مطالبنا الأساسيّة.. مش بيقول لكم اكتبوا مواضيع إنشا.

"شحاته" :

- هوَّ فيه حاجات أساسيّة أكتر من كده يا خويا.

"وديع" :

- وبعدين آخر مرة يا "حمداوي" اقول لك تتّبع آداب الحديث معايا.. وإلّا ح انسّل المنتوفلي اللي ف رجلي ده على دماغك.

الشيخ "إبراهيم":

- إنتم ح ترجعوا تتناقروا مع بعض تاني زي الديوك؟.. إخّيه عليكم وع اللي ح يجتمع معاكوا ف مكان واحد مرّة تانية.

وتركهم الشيخ "إبراهيم" غاضباً وولّي مدبراً في اتجاه داره وهو يلعن الأيام الحالكة السواد التي يعيشها مع هؤلاء الهمج الذين لا يحترمون وجوده بينهم، في حين استمر أهل البلد في هذه المجادلة الجوْفاء لساعاتٍ طويلة - تركوا فيها أعمالهم وأشغالهم - دون أن يصلوا لقرارٍ موحّد سواء بإختيار الفريق الذي سيجتمع مع ضبّاط الهجّانة أو بالمطالب الموجزة التي سيملونها على الهجّانة ؛ إلى أن اقترب المغيب فسعي كل فرد منهم إلى داره قبل أن يسدل الليل ستائر ظلامه على الطرقات الترابيّة الضيّقة للقرية.

وفي هذه الأثناء كانت "فؤادة" تجلس وحيدةً في غرفتها تستغرق في تفكيرٍ عميق عمّا تشهده "الدهاشنة" من أحداث جسام وكيفيّة خلاصها من "عتريس"، وتطرّقت بذكرياتها إلى تلك الأيّام الخوالي التي عاشتها في طفولتها وصباها وقت أن كانت تسبح في أحلامها المخمليّة مع رفيقها "عتريس" عندما كان لا يزال غضّاً رحيماً حالماً قبل أن يستوحش ويتجبّر، وتذكّرت كيف كانا يخططان ليعيشا في سعادةٍ وهناء وسط أهليهم في بلدٍ ترفرف عليها أجنحة العدل والرحمة والحب، وكيف استحالت تلك الأحلام إلى كابوسٍ مريعٍ من الشقاء والقسوة والبُغض.

وأفاقت "فؤادة" من تفكيرها على صوْت طرقٍ خفيفٍ على زجاج النافذة فانتفضت واقفةً لتستطلع ماذا يجري، وعندما فتحت النافذة بتوجّس فوجئت بشخصٍ فوق شجرة الصفصاف التي تخترق الأرض خارج سور الدوّار متجهةً بميل نحو نافذة غرفة "فؤادة"، وكان هذا الشخص يقبع تحت جنح الظلمة التي اقتحمت جنبات القرية وهو يحاول جاهداً أن يحفظ توازنه ويستكمل تسلّقه نحو النافذة، فصدرت من "فؤادة" شهقة فزعٍ وصاحت في خوْف :

- إنت مين؟

فرد عليها بصوت خافض :

- أبوس إيدك وطّي صوتك أحسن حد يسمعنا.. ما تخافيش أنا "موفّق".

فعاجلته بالقول وهي متحفّزة :

- "موفّق" مين؟.. رد قوام أحسن ح اصوّت والّم الغفر عليك.

فأجابها "موفّق" راجياً :

- لأ لأ.. أنا "موفّق" صاحب "محمود" الله يرحمه.. أنا جاي علشان انقذك.. بس مش ح ينفع نتكلّم كده.. خدي بإيدي خلّيني ادخل افهّمك.

"فؤادة" بإستنكار :

- تدخل فين؟.. إنت اتجنّنت؟.. أنا قاعدة هنا لوحدي.

"موفّق" وهو يتلفّت حوله ويفتّش بعيْنيْه أسفل الشجرة :

- ما انا عارف.. صدّقيني أنا جاي لمصلحتك.. سيبيني أخش الأوضة بسرعة قبل ما حد ياخد باله.

وفي هذه اللحظة تردّدت من أحد الخفر الصيْحة التقليديّة المعتادة: " ها !.. مين هناك؟ "؛ فلم تجد "فؤادة" بُدّاً من أن تمد يدها "لموفّق" لتشدّه داخل الغرفة فتمسّك "موفّق" بيدها وقفز لتتشبّث يده الأخرى بالإفريز الخشبي للنافذة ودفع نفسه بخفّة فأصبح داخل الغرفة، وهنا ظهرت ملامحه السمراء الوسيمة تحت نور مصباح الغرفة؛ فتبدّى شابٌ في أوائل العِقْد الرابع من عمره ذو عضلاتٍ مفتولة وجسدٍ متناسق وعيْنيْن واسعتيْن تحويان بحراً من الطيبة والحنان سرحت وسبحت فيهما "فؤادة"، وأنفٍ صغيرٍ جميل وشفتيْن مكتظّتيْن فوقهما شاربٌ أسود رقيق يدل على رجولةٍ وفتوّةٍ قلّما تجدها مجتمعةً في رجلٍ واحد.

وبعد أن تلاقت أعينهما ظلّا واجميْن لثوانٍ يستطلعان بعضهما إلى أن اكتشفت "فؤادة" أن يد "موفّق" الدافئة ما زالت ممسكة ومتمسّكة بيدها البضّة فسحبت يدها ببطء وبادرته قائلةً برفق :

- إنت مين بالظبط؟

فجلس "موفّق" على أقرب مقعد أمامه وقال بنبرةٍ دافئة وهو يحاول أن يخفي إعجابه بجمالها الآخّاذ:

- أنا ح اقول لِك على كل حاجة يا ستّي.. بس اقعدي الأوّل علشان نعرف نتكلّم.

فأطاعته "فؤادة" وقد أسرها الرجل وجلست مقابله على حافة سريرها، فاستكمل حديثه قائلاً :

- بقى انا يا ست الكل اسمي "موفّق".. وكنت عايش مع أهلي هنا في "الدهاشنة".. و"محمود" إبن الشيخ "إبراهيم" كان صاحبي وزميلي ف المدرسة.. وبعد ما ابويا اتوفّى "عتريس" استولى على أرضنا ودارنا وكَرَشنا برّه البلد.. فرُحنا عِشنا عند خالي ف بلد تانية لغاية ما كمّلت تعليمي واخدت دبلون صنايع وفتحت ورشة خراطة.

"فؤادة" وهي تقطب حاجبيْها محاولةً أن تتذكّره :

- غريبة.. مع إني متهيّأ لي إني أوّل مرّة اشوفك.

فقاطعها "موفّق" بقوله :

- يعني انتي ح تفتكري كل الناس من أكتر من عشرين سنة؟.. المهم.. أنا عرفت باللي جري ف البلد واللي جري لِك من "عتريس".. وصمّمت إني آجي "الدهاشنة" علشان انتقم من "عتريس" قصاد اللي عمله فينا من زمان واللي عمله ف "محمود" ربّنا يرحمه ويسامحه.. وف نفس الوقت أنقذِك من اللي انتي فيه ده.

فردّت "فؤادة" بامتنان :

- الله يكرمك.. بس انت في إيدك إيه تعمله؟

"موفّق" في ثقة :

- ما يغرّكيش إني لوحدي.. أنا قلبي ميّت وما بخافش غير م اللي خلقني.. إدّيني بس يومين علشان أرتّب نَفْسي وح اهرّبك من هنا.

"فؤادة" في إعجاب :

- ما هو باين عليك شهم.. بس خلّي بالك من نفسك أحسن كل اللي حوالينا ناس مفتريّة وما عندهمش رحمة ولا دين.  

فردَّ عليها "موفّق" وقد ملأه الأمل :

- قولي يا رب.. واعملي حسابِك أني ح ارجع لِك بعد يومين ف نَفْس الميعاد.. تكوني محضّرة نفسِك علشان تمشي من هنا نهائي.. ياللا.. أسيبِك بعافية.. لا إله إلا الله.

فودّعته "فؤادة" :

- محمدٌ رسول الله.. ربّنا معاك ويسلّم طريقك.

وخرج "موفّق" من النافذة كما دخل وتابعته "فؤادة" بعيْنيْها وهو يهبط من الشجرة سالكاً طريق العودة إلى أن اختفي عن ناظريْها وقد بدأ قلبها يخفق بحبّه؛ ولا غرو فقد كان الوحيد الذي تذكّرها ومدَّ لها يد العوْن دون أن ينتظر ثمناً مقابل ما سيفعله من أجلها؛ خاصةً وقد انشغل عنها أهل بلدتها بأحوالهم ومشاكلهم وخلافاتهم الجمّة.

google-playkhamsatmostaqltradent