خبر
أخبار ملهلبة

تحقيق (1) | الجريمة | نجيب محفوظ


رجل يختبئ تحت السرير

تحقيق (1)




دق جرس الباب، انفصل جسداهما في حركةٍ متشنّجةٍ بالفزع، وَثَبا إلى ملابسهما وهو يهمس:

-        قلت إنك لا تتوقعين قدوم أحد.

فقالت هامسةً أيضاً:

-       لعلّه الكوّاء.

وكان يرتدي ملابسه بيديْه وقدميْه ويقول:

-       يجب أن أستعد للاختفاء ولكن أين ؟

-       لا أظن أنك ستضطر إلى ذلك .. وإذا وقع المستحيل فادخل تحت السرير.

وغادرت الحجرة وهي تحبك الروب حولها ثم ردّت الباب، نظر إلى أسفل السرير ولكنه مضى بخفةٍ إلى ما وراء الباب يتنصّت، سمع صوت الباب وهو يفتح، ثم وهو يغلق، ووقع قدميْن ثقيلتيْن.

في لحظاتٍ خاطفة توارى تحت السرير، تُرى مَن القادم؟، ليس الزوج وإلا لجاء إلى حجرة النوم ليخلع ملابسه، ليس الزوج على وجه اليقين فقد اتصَلَت به تليفونياً في "الإسكندرية" منذ ساعةٍ واحدة، إنه فيما يبدو من المتردّدين على البيت؛ بل هو من أهل البيت على نحوٍ ما وإلّا ما اقتحمه في هذه الساعة من الليْل.

لَبَد في مكمنه يمزّقه القلق والإحساس بالنكد بعد أن ثمل بدفء اللذة، وليصبر فسيذهب عاجلاً، لا يمكن أن تطول الزيارة إلى ما لا نهاية، وسينتهي بالتالي عذابه، انقضّت عليه فكرةٌ كحشرةٍ طائرة، ألا يحتمل أن يدخل القادم حجرة النوم فیری زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاته؟، هل يزحف إلى الخارج ليعود بالزجاجة والعلبة؟، لكنّه لم يتحرك، لم يجد الجرأة الكافية، وأطبقت عليه التعاسة أكثر فأكثر، ومضى الوقت وطال وثقل.

تلهّى بالنظر في نقوش السجادة وألوانها وقد اختلطت وغامت تحت نور الأباجورة الأحمر الخافت، وإلى أرجل المقاعد والشيفونيرة المغروزة في وبر السجادة، وارتعد لسماع صوْتٍ طارئ، ثم رأي باب الحجرة وهو يُفتَح في هدوء، دخل شخصٌ بلا ریْب، ها هو حذاؤه الأبيض ذو السطح البني وطرف بنطلونه، واتّجه يساراً نحو الصوان ففتحه، وقف أمامه دقيقةً أو دقيقتيْن ولكن أين "لُطفيّة"؟، وأغلق الصوان ثم مضى نحو الباب في هدوءٍ كما جاء، تُرى ما معنى ذلك؟، ومتى يخرج من زنزانته؟، واشتد به التوتر والإرهاق واليأس، خُيّل إليه أنه وقع في شَرَكٍ وأن يداً حديديّةً تمتد للقبض عليه وأن قدميْه تندسّان في حذاءٍ أبيض ذي سطحٍ بُنّي، وأن عليه أن يرسم خطةً كاملةً للتملّص من مأزقه في زنزانته، وقال له صوتٌ باطني يضطرم بالرعب والإلهام أن نجاته رهنٌ بقوّة خياله، وأنها وحدها القادرة على تحويل الكابوس إلى حلم، وهو لن يبقى تحت السرير إلى الأبد في هذا الصمت العميق العجيب، إنه يمد ذراعه لينظر في الساعة، ويُخرِج رأسه في حذرٍ كالسلحفاة ليتنفس هواءً نقياً بعض الشيء، ویرهف السمع فيجد هدوءاً مخيفاً ولكنه يشجّع على مغادرة الزنزانة، كأن الموْت يربض في الظلام مُجمِّداً كل حركةٍ مُسكّتاً كل صوْت، وأرهقه التعب لحد التهوّر، وتجمّعت كل قواه المضمحلّة في وثبةٍ جنونيةٍ للدفاع عن النفس في مغامرةٍ مرتجلةٍ يائسة.

*****

طلع الصُبح دون أن يغمض له جفن، سمع دقاتٍ رقيقةً على باب حجرته، وجاءه صوْتٌ مُحشرَجٌ هاتفاً:

-       سي "عمرو" .. إصحَ.

ما أجدر أن يتغيب اليوم بعذرٍ ما ولكنه نبذ الفكرة بلا تردد قائلا لنفسه "هو الجنون بعينه"، وصاح:

-       صحيت يا "أم سُمعة".

ولما جلس إلى المائدة الصغيرة في الصالة رأي طبق المدمّس وقدح الشاي باللبن والرغيف المجمَّر فمد يده إلى القدح وهو يقول:

-       سأكتفي بالشای.

فلم يفصح وجه العجوز عن تعبير - وجهٌ ذو سحنةٍ واحدة – ولكنها قالت:

-       كُل لقمة تسنِد قلبك.

المنظر المرعب لا يبرح مخيّلته، يعذبه ويطارده، فر بقوّةٍ تركبه وتدفعه بلا حذر، نسي زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاته فلم يذكرهما إلا في ظلام حجرته، ارتدي ملابسه وغادر الشقة.

حمل الأرض فوق رأسه، ابتاع جريدة الصباح وهو يخترق شارع "القُبّة" بـ"الجيزة" ولكنه قال لنفسه "لم يُكتشَف شيءٌ بعد"، وأخيراً وجد نفسه جالساً إلى مكتبه بالإدارة، ونظر إلى المكتب الخالي بعينٍ متلصصة، وهو يقع فيما أمامه على الجانب الآخر للحجرة، وشرع في العمل وهو يختلس إليه بالنظر، إذا تمّت له النجاة فسيحزن عليها طويلاً أما الآن فلاوقت لديه للحزن، وتساءل الرئيس:

-       ست "لُطفيّة" لم تحضر، ألم تعتذر؟

ولَمّا لم يسمع جواباً عاد يقول:

-       الموظفات أعذارهن لا تنتهي.

وأثار قوْله ضحكاتٍ على سبيل التشفّي أو الملق، لم يشترك في الضحك، تساءل فيما بينه وبين نفسه تُرى ألم يلاحظ أحدٌ شيئاً ممّا كان يتبادل في صمتٍ بينه وبين المكتب الخالي؟، ربما أدلى شاهدٌ بملاحظةٍ عابرةٍ تقلب دنياه رأساً على عقب، أو يكون آخر رآهما في أحد منعطفات شارع الهرم، ثم إنه نسي هناك زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاته، أي أسرارٍ يمكن أن تبوح بها الزجاجة والعلبة؟، إن كل شيء ينطق أمام شياطين المحقّقين ويخلق الأساطير، وغير بعيد أن يكون قد نسي أشياءً أخرى، وبصماته انطبعت بلا حساب ولا حذر، وربما وقع المحقّقون في الشَرَك وأغمضوا العيون عن القاتل الحقيقي.

وجاءه صوت الرئيس وهو يقول بصوتٍ آمرٍ رنّان:

-       ياسيّد "عمرو" سأحوّل إليك الأوراق العاجلة الداخلة في اختصاص ست "لُطفيّة".

لماذا اختاره هو بالذات؟، ربما لأنه أحدث الموظفين عهداً بالوظيفة، أم تُراه يعني شيئاً وراء ذلك ؟، إنه قصيرٌ ماكر ٌذو نظرةٍ تحتانية فهل يعني شيئاً آخر حقا؟!، واسترق نظرةً من الوجوه ليرى أثر الأمر الإداري ولكنه لم يقرأ شيئاً، كل شيءٍ هادی و عادی، والقاتل مجهول فما معنی الخوف؟، وكان يصارع التشتّت والتمزّق عندما سمع صوْتاً غريباً يسأل بأدب:

-       هل الست "لُطفيّة" موظفة في هذه الإدارة؟

فأجابه موظف :

-       أجل ولكنها لم تحضر اليوم.

نظر إلى القادم باهتمام فرأى شاباً طويلاً نحيلاً غامق السُمرة يرتدي قميصاً أزرق وبنطلوناً رمادیاً ، سرعان ما غادر الحجرة على أثر الإجابة التي تلقاها، لم يسأله أحدٌ عن هويّته ولم يعلن هو عنها، ونسي تماماً مجرّد اختفائه، فكّر فيها طويلاً وساورته مخاوفٌ شتّی، وتجسّدت لمخيّلته الجُثّة ربّما للمرّة الألف، وتذكّر كيف انهزم لدى رؤيتها ففر كالمجنون، غرق في أفكاره ثم صحا بعد وقتٍ لا يمكن تحديده على حديثٍ يدور حول حذاءٍ أبيض، ارتعد قلبه .. ماذا يقولون؟، أحدهم يقول إن الأحذية البيضاء باتت نادرة الاستعمال، فقال آخرٌ إن الحذاء يعجبه، فعاد الأوّل يقول إنه يتّسخ لأوهن الأسباب ويصعب تنظيفه وتلميعه بسبب سطحه البُني، اشتدّت به الرعدة فتساءل:

-       ما حكاية الحذاء؟

 فأجابه الموظّف الأوّل:

-       حذاءٌ أبيض ذو سطحٍ بني من النوع الکلاسیکی، رأيناه في قدميْ الشاب الذي جاء يسأل عن "لُطفيّة".

-       لا!

ندت عنه بعصبيّةٍ ملفتةٍ للانتباه وهو يتهاوى في انهيارٍ كامل، ولما شعر بالأعين المحدقة فيه قال:

-       آسف .. الظاهر أني أصبت بالأنفلونزا؟

وضحك ضحكةً عاليةً لا تناسب المقام، ولم يستطع صبراً فسأل الموظّف الآخر:

-       أكان الشاب ينتعل حذاءً أبيض ذا سطحٍ بُنّي؟

-       أجل .. وهو يعجبني، هذه هي المسألة.

واستأذن في الذهاب إلى دوْرة المياه ولكنه اندفع في الطريقة الموصلة إلى الباب الخارجي، ودار دورةً عشوائيّةً حوْل مبنى الوزارة ولكنه لم يعثر للشاب على أثر، ولبث مذهولاً وهو يقول لنفسه:

-       هكذا تقع الأحداث التي نسمع عنها من بعيدٍ دون مبالاة .

 

 

(يتبع)


google-playkhamsatmostaqltradent