خبر
أخبار ملهلبة

صورة واحد شحات (2) | صور مشقلبة | د. أحمد صادق


كاريكاتير لشحات ضخم يتم افتتاحه بعد افتتاح أكبر مسجد في مصر تم بناؤه بأموال القروض الخارجيّة

صورة واحد شحات (2)

 

 

السبت:

ذهبتُ للوكيشَن التصوير الخارجي – وأنا أرتدي ملابسَ باليةً وطاقيّةً قديمةً تُشبِه الطرطور – فوجدتُ زِحاماً شديداً بالشارع ولكني لم أجد أحداً من ستاف الفيلم، ولم تمضِ لحظاتٌ حتى وجدتُ الأستاذ "أسّيست" يخبَّط على كتفي ويُخبرني أن المُخرِج والبطل وباقي العاملين بوحدة التصوير الخارجي يختبِئون داخل الكارافانات حتى لا يلفتوا الانتباه لوجودهم فيتكالب الناس حوْلهم فيفشل التصوير، وعندما سألتُه عن مدى إتقاني للملابس والمكياج لم يرُد عليَّ سوى بكلمتيْن:

-       ماشي الحال.

وتركني ليعود إلى كارافان الإخراج لتلقّي التعليمات من الأُستاذ "أكشَن"، ثم عاد لي بعد بُرهة طالِباً مني تقمُّص الدور وعمل بروفة سريعة – بدون اشتراك البطل فيها – ليتأكّد المُخرج (وهو في مكانه بالكارافان) من حِفظي لكلام الدور وحُسن أدائي له.

وما إن قال الأستاذ "أكشَن": "ثري تو وَن" حتى انبريْتُ أقول بصوْتٍ واضحٍ دون ارتباك:

-       حَسَنة لله يا مُحسِنين.

وهُنا سمعتُ الأستاذ يقول بعِلو حِسّه صارخاً (وهو ما زال في الكارافان):

-       ستووووووب .. مين الحُمار اللي جاب البني آدم التُحفة ده هنا؟!

فهرول المُساعد جرياً نحو كارافان المُخرِج واختفى به دقيقة ثم عاد ليقول لي:

-       إنت إيه اللي هبِّبتُه ده .. الأُستاذ بيقول إن أداءك تمثيلي مُصطَنَع وفيك (fake) وإن لِبسك مش اللي هوَّ .. وبعدين بيقول إنك مش حافظ كويّس .. المفروض إنك تقول:"حَسَنة لله" .. مش "حَسَنة لله يا مُحسِنين" .. إنت إيه؟ .. عايز تكبَّر دورك وخلاص؟!

-       طب معلهش .. أعيد تاني.

-       لأ خلاص .. أنا آسف .. الأُستاذ قَفَل وقَفَش من ناحيتك خلاص .. ده حتى فركِش النهار ده وح يمشي بعد ما مزاجُه اتعكَّر .. وقال لي ابقى اجيب حَد تاني بُكره مكانك .. أنا آسِف .. ربّنا يوفَّقك ف عمل تاني إن شاء الله.

وانصرف من أمامي مع باقي العاملين تاركاً إيّاي وأنا في مُنتهى الإحباط، فتهاويْت وأنا في مكاني جالساً فوق رصيف الجامع وخلعتُ الطاقية الطرطوريّة القديمة وأمسكتُ بها في يدي (بحيث كان بوزها لأسفل وفوّهتها لأعلى) وأنا أتعجّب ممّا حدث غير مُصدِّقٍ لقسوة المُخرِج الذي أنهى مستقبلي في لحظاتٍ دون أن يُعطيني فُرصةً أُخرى.

وبينما أنا جالسٌ كذلك على هذه الوضعيّة فوجِئتُ بسيّدةٍ مُسِنّةٍ تقترب مني وتضع داخل طرطوري العميق جُنيْهاً ورقيّاً، وقبل أن أستفيق من تلك المفاجأة جاء شابٌّ ليضع أيضاً بِضع عملاتٍ معدنيّة داخل الطرطور، فجمدتُ في مكاني وأدركتُ أن السيّدة والشاب ظنّاني من المُتَسَوِّلين الفقراء بسبب ملبسي وهيئتي، وما إن بدأتُ أفكِّر في ترك هذا المكان والجري بعيداً لآخر الدنيا هرباً من هذا الموْقِف السخيف حتى تلقيْتُ – في طرطوري – ورقةً من فئة الخمسة جُنيهاتٍ من رجُلٍ تبدو عليه أمارات النِعمة، حينئذٍ لم أقوَ على الحركة وظللتُ على وَضعي هذا لفترةٍ ما لا أستطيع تحديدها بالضبط حيث كنت خارج الزَمَن وقتها مذهولاً غارقاً في أحزاني وهواجسي.

أخيراً أفقتُ من هذه الصدمة فوجدتُ طرطوري العميق يحوي مبلغاً من المال تعدّى – حين أحصيْتُه – الثلاثمائة جنيه، فأُسقِط في يدي حين أدركت أن أجر التسوُّل أكبر من أجر التمثيل، وانصرفتُ إلى بيْتي وأنا أُفكِّر بطريقةٍ مُغايرة.

الأحد:

طوال اليوم أُفكِّر في مُستقبلي بعد أن أدركتُ – بطريقةٍ عمليّةٍ – أنني أحتاج في هذه المرحلة إلى جمع الأموال أكثر ممّا احتاج إلى الجري وراء الأحلام، وقرَّرتُ بصورةٍ حاسمةٍ ونهائيّةٍ أن أمتهن مهنة الشحاذة والاستجداء حتى أُكوِّن ثروةً تكون عوْناً لي في تأسيس بيتٍ وتكوين أُسرةٍ أوّلاً ثم في تحقيق آمالي الفنيّة ثانياً.

الإثنيْن:

لم أُضِع وقتاً وبدأت اليوْم مشواري الجديد، فنزلتُ من بيْتي المُتواضِع ومعي حقيبةٌ بلاستيكيّة تحوي ملابس الراكور الخاصّة بالتسوُّل، وداخل أحد الحمّامات بميضة أحد المساجد الكُبرى بدَّلتُ ملابسي واعتمرتُ طرطوري وخرجتُ لأقف أمام باب الجامع مع عددٍ لا بأس به من الشحّاذين زُملاء المِهنة، ولكني كنتُ أختلف عنهم قليلاً حيث كان منظري البائِس وصمتي المُستمر ووقفتي الشامخة وعدم طلبي للصدقة بإلحاح توحي للناس بأني حديث عهدٍ بالفقر فتنهال عليَّ أموال صدقاتهم وزكاتهم من باب: "إرحموا عزيز قوْمٍ زَلَّ وذَل"، برضُه الأداء التمثيلي المُتقَن بعد دراسةٍ مُستفيضةٍ عليه عاملٌ كبيرٌ في نجاح الشخصيّة، وتأكَّدتُ حينها أن المُتسوِّل لابد أن يكون مُمِثِّلاً في المقام الأوّل وأن يكون أداؤه مُقنِعاً للمُتصدِّق، وأن تِقنيته في التمثيل تنعكس طرديّاً مع إيراده الذي يجمعه، فلو أجاد وتفوَّق على نفسه في تأدية دوْره لجمع مبلغاً كبيراً، ولو كان أداؤه مقبولاً فقط لجمع مبلغاً لا بأس به، أمّا لو أخفق في أن يؤدّي دوْره بطريقةٍ مُقنعةٍ لفشل في تحقيق الحد الأدنى من طموحاته الماديّة.

وفي هذا اليوم عمِلتُ بدايةً من قبل صلاة الظُهر وحتى ما بعد صلاة العِشاء ووفَّقني الله في جَمْع أربعة آلافٍ ومائةٍ وسبعين جُنيْهاً .. بداية مش بطّالة خالص.



(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent