خبر
أخبار ملهلبة

الطمع كنز لا يفنى | خارج المألوف (1)


صندوق قديم من النحاس مدفون في الأرض ويحوي كنزاً من الجواهر والذهب والياقوت والمرجان والزمرد والزبرجد والماس

 

 

كان ياما كان.. في سالف العصر والأوان.. ولا يحلى الكلام.. إلّا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام.

يحكى عن رجليْن.. ابنيْن لشقيقيْن.. أي كانا ولديْ عم.. من نفس اللحم والدم.. الأوّل اسمه "راضي" يرضى بما قسمه له الله.. والثاني يدعى "راغب" يرغب فيما يملكه سواه.. وكان الأوّل عزيز النفس بقليله يقنع.. أمّا الثاني فقد كان في ما لغيره يطمع.. وكانا يجمعان الحطب من الغابة.. ويبيعونه لأهل قريتهم الغلابة.

وكان "راضي" متزوّجاً من "عفيفة" منذ خمس سنوات.. وكان سعيداً معها في كل الأوقات.. فقد كانت طيّبةً حلوة المعشر.. رغم أنها عقيم للحمل تعقر.. في حين كان "راغب" أعزباً وقرر ألا يقرب الزواج.. من قبل أن يأتيه يسرٌ أو يصيبه رواج.

وفي يوم من الأيّام.. وكعادة ولديْ الأعمام.. استعدّا للذهاب إلى الغابة.. وحضّر كل منهما رِكابه.. فاصطحب "راضي" مع حماره سلّةً بها الغداء.. ووضع "راغب" على حماره قربة ماء.. ولم يفُت أيٌ منهما أن يحضر معه بَلطةً ومنشار.. من أجل تقطيع الخشب من الأشجار.. وأيضاً بعضاً من الأحبال.. لربط ما على الحماريْن من أحمال.. وكانا أثناء سيْرهما في الطريق.. يتحدثان كأي صديق وصديق.. فكان "راضي" يحكي نوادره مع "عفيفة".. وكيف تمضي بهما الحياة لطيفة.. في حين كان "راغب" كثير الشكوى وللهم شيّال.. من ضيق ذات اليد ورقّة الحال.. وكان "راضي" يذكّره بمنح الله الكثيرة.. وكفى بالصحّة نعمة كبيرة.. ولكن "راغب" لم يرَ في حياته المديدة.. سوى نِقَمٍ وأضرارٍ عديدة.. وكان يتعامى عن نصف الكوب الملآن.. وللنصف الفارغ كلّه عينان.. ولطالما قال له "راضي".. ما كان يقوله القاضي.. من أن القناعة كنزٌ لا يفنى.. وأن مَن كان قانعاً فقد أغنى.. وأن الطمع ضَرَّ ما نفع.. وأنه يقِل ما جمع.. ولكن هيهات هيهات.. فمن اختشى قد مات.. فلم يرض "راغب" عن حاله قط.. بل كان بعقله يشطح ويشُط.. ويتمنّى لو كان ثرياً من الأعيان.. ونسى أن "لو" تفتح عمل الشيطان.

ولكي يعبرا من قريتهما إلى الغابة.. كان لابد لهما من اجتياز البوّابة.. ثم السير في طريقٍ طويل.. على جانبيه شجرٌ ونخيل.. ثم عبور جسرٍ صغير.. يصل ما بيْن الربوة والجبل الكبير.. حيث تقع الغابة التي تحوي الأشجار على سَفْحه.. فيقطعان أخشابها شاكرين الله راجين صَفْحه.. وكان هذا الجسر مصنوعاً من ألواحٍ خشبيّة.. بعضها ضعيفة وأخرى قويّة.. ولهذا كان يلزم للعابرين عليه أن يكونوا حريصين.. فلا يكونوا لأحمالهم مزيدين بل دوماً منقصين.. خصوصاً وأن الجسر يعلو فوْق نهرٍ عميق.. ومَن يهوى به الجسر سيكون في قرارٍ سحيق.

وبعد أن عبر "راضي" و"راغب" الجسر في أمان.. طفقا ينشران الأخشاب من الشجر ويقطعان.. إلى أن انتصف النهار.. فبدأ "راغب" ينهار.. فقد استبد به التعب.. وفي الراحة قد رَغب.. وعندما جلس الرجلان.. يأكلان ويشربان.. لاحظ "راضي" تحت إحدى الأشجار شيئاً يلمع.. فأشار لابن عمه عليه لعلّه سرابٌ يخدع.. ولكن "راغب" أكّد له أن هذا لمعان مَعْدَن.. فذهبا ليستطلعا كنهه فوْراً.. فألفياه جُزءاً من صندوقٍ نحاسي مدفون.. وقد طمره التراب بعيداً عن العيون.. فاكتنفهما الفضول حيال محتوى هذا الصندوق.. وشرعا في نَبْش ما حوْله بسرعة حتَّى نفرت منهما العروق.. وبعد أن استخرجاه من مَكْمَنه المطمور.. وجداه مغلقاً بقُفْلٍ صدئٍ مكسور.. وبضربةٍ واحدة من البلطة.. وبدون أيّة غلطة.. كسرا القُفْل فأظهر الصندوق ما يحويه.. وبهت الرجلان لشَدَّ ما رأيا فيه.. فقد كان بداخل الصندوق كنزٌ رهيب.. يخطف الأبصار في مشهدٍ عجيب.. جواهرٌ وحليٌ وماسٌ وذهب.. مما جعل عقل كلاهما من الفرح قد ذهب.. وبعد هُنَيْهةٍ استغرق فيها كل منهما في النظر للآخر.. غير مصدّقيْن ما يريانه من كنزٍ ساحر.. اتفقا على أن يوسّعا الحُفْرَة.. فربما يزيد فرحهما ألف غَمْرَة.. وبالفعل وَجَدا صندوقاً آخر.. فيه كسابقه كنزٌ فاخر.. وفي هذه اللحظة الفارقة.. قال "راضي" بنبرةٍ صادقة :

- بارك الله فيما رَزَق.. إحنا نروّح قبل الغَسَق.. أنا صندوق وانت صندوق يا ابن الحلال.. دي كده نعمة كبيرة قوي وعال العال.

- ما تبقاش عبيط يا فَقْري.. وفيها إيه لمّا نروّح وَخْري؟.. أخدنا إيه م المرواح بدري؟.. والنوم بدري والصحيان بدري؟

- ح نمشي ازاي ف الضلمة.. والغابة للديابة بالليل بتبقى لامّة.

- ما تخافش انا معايَّ شُعلة.. استرجل بقى احسن اعملها معاك زَعلة.

- وتزعل ليه ما كفاية كده.. ليه تغلّب الطمع ع الرضا؟

- مش يمكن فيه كنز تاني؟.. تعالى نحفر كمان وما تبقاش أناني.

- إنت اللي طمّاع وف القناعة بتكره.. وإن كان لنا عمر نكمّل بكره.

- مش يمكن حد تاني يلاقي بقية الكنز.. وافضل عمري كلّه الندم ف نفسي يحِز؟

- اللي يلاقي كنز تاني يبقى نصيبه.. ليه مش عايزه يبقى زيّنا ما تسيبه.. ما احنا اخدنا نصيبنا.. وربّنا قدر إنه بالخير يصيبنا.

- خلاص يا سيدي مش عايزك امشي.. واللهِ ما ح ينطرف لك رمشي.. بكره لمّا تشوفني أغنى منك.. ح تندم وتقول يا ريتني ابقى زيّك.. بس من هنا ورايح.. ما لناش دعوة ببعض يا فالح.

- هوّ يا إمّا تنفّذ اللي ف دماغك يا بلاش؟.. عموماً احنا ولاد عَم وعن بعض ما نستغناش.. ربّنا يهديك.. السلامُ عليك.

وربط "راضي" صندوقه فوق الحمار.. آخذاً طريق العودة نحو الديار.. وترك "راغب" يستكمل الحفر.. فلم يكن قد اكتفى بهذا القدر.

وبعد ساعة من الزمان.. كان "راضي" قد عاد لبيته فرحان.. وعندما أدخل الصندوق في صحن الدار.. وعرض على زوجته ما فيه من نفائس وكريم الأحجار.. طارت من الفرح لما تراه.. فتوجها بالحمد والشكر لله.. وتوضآ وصليا ركعتيْ شكر.. ودعيا الله أن يبعد عنهما كل سوءٍ ومكر.. وعقدا النيّة على أن يظلا بنفس بيْتهما هانئيْن بقناعتهما.. ويبيع "راضي" جزءاً من الكنز الذي أوقعه الله في سِكّتهما.. ليفتتحا دكاناً يعينهما على تصاريف الحياة.. ويريح الزوْج من الشقاء الذي عاناه.. وصمما على أن يحدث ذلك بعد أن يؤديا من الكنز نصيب الفقراء.. خاصةً أنهما لا يحتاجان مالاً كثيراً لعدم رزقهما بأبناء.

وفي هذا الوقت بالتقريب.. انتهى "راغب" من الحفر والتنقيب.. وقد صدق حدسه.. ولم يصدّق نفسه.. بعد أن عثر على صندوقٍ آخر.. وكان بالجواهر والذهب زاخر.. فأضحى صندوقه صندوقيْن.. وأمست فرحته فرحتيْن.. ثم ربط الصندوقين على جانبيْ حماره.. فناء الحمار بثِقَله وعلا صوت شحاره.. فألهب "راغب" ظهر الحمار بالعصا.. فسار الحمار مستجمعاً قواه خوفاً من الضرب إن عصى.. وقبل أن يدركه المغيب.. كان "راغب" من الجسر قريب.. ولكي يقسّم الحِمْل ويعبر بأمان بالصندوقيْن.. أوقف الحمار قبل الجسر بخطوتيْن.. وربط لجامه بحبلٍ طويلٍ مجدول.. وأمسك بيده طرف الحبل المفتول.. ثم اجتاز "راغب" الجسر وحده.. ثم شد الحبل ليجتاز الحمار بعده.. فلم يستجب الحمار وهو يقف وحده في الناحية الأخرى من الجِسر.. فراح "راغب" يشدّه بقوّة فتحرّك بعد عُسر.. وما إن وصل الحمار حتَّى منتصف المسافة.. حتَّى انكسرت إحدى لوحات الجسر الجافة.. فتهشّمت تحت حِمْل الحمار والصندوقيْن الثقيليْن.. مما سبّب تهشّم اللوحتيْن الخشبيتيْن المتتاليتيْن.. فهوى الحمار آخذاً معه الصندوقيْن والحبل الذي أفلت.. وغاص في النهر بأحماله التي غرقت.. وكان "راغب" يتابع ذلك كله وهو مذهول.. يرى حلمه الذي كاد أن يتحقق وهو يزول.. وما كان منه إلا أن أجهش بالبكاء.. متذكّراً ما لاقاه من عناءٍ انقلب لشقاء.. وعض بنان الندم على أنه لم يستمع لنصيحة "راضي".. وتمنّى لو رجع الزمان به للصباح الماضي.. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.. خصوصاً لو كان الطمع طريقه ومسلكه.. ولم يشعر "راغب" بنفسه حين جن الليل.. إلا بعد أن استفاق من ذهوله الطويل.. حين بدأت الذئاب تنادي بعضها وتأخذ في العواء.. فأدرك أنه لابد له أن يعود من حيث جاء.. فعاد يجر أذيال الخيبة والهوان.. وعزم على التوجه "لراضي" ليقُص عليه ما كان.. عسى أن يعزّيه ويقوم بمواساته.. أو يشير عليه بفكرة تنقذه من مأساته.

وفي بيت "راضي" الذي يفيض دفئاً وسعادة.. أشار "راضي" على "راغب" بفكرةٍ فيها إفادة.. فقد اقترح عليه أن يذهبا في الصباح التالي للنهر.. ويغوصا في المكان الواقع تحت الجسر.. حيث غرق الحمار والصندوقان.. فعساهما يعثران على ما يبغيان.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent