خبر
أخبار ملهلبة

الطمع كنز لا يفنى | خارج المألوف (2)

 

سفينة أو مركب قديمة بأشرعة في البحر وخلفها جزيرة

الطمع كنز لا يفنى (2)

 

 

فلمّا حلّ الصباح الجديد.. ذهب ولديْ العم للنهر البعيد.. وتحت الجسر استبقيا سروالهما وانتزعا باقي ملابسهما.. واستمرا في الغوص إلى أن انقطعت أنفاسهما.. فلم يريا للنهر أي قاعٍ أو قرار.. وكادا أن يغرقا أكثر من مرّة لولا ستر الستّار.. وفشلت مساعيهما أيّما فشل.. فجلسا على ضفة النهر وقد غادرهما كلُّ أمل.. وقال "راغب" وقد تقطّعت أنفاسه.. وقد سكن الحزن جميع حواسه :

- وبعدين يا "راضي" ح اعمل إيه؟.. بقى يا ربّي الكنز يروح مني بعد ما الاقيه؟

- قدّر الله وما شاء فعل.. روّق كده يا "راغب" وكفاية زعل.

- صحيح خيبة الأمل راكبة جمل.. تفتكر يا "راضي" إيه العمل؟

- ولا حاجة يا ابن عمّي.. استعوض ربّنا وما تزيدش ف همّي.

- وانت إيه اللي يهمّك؟.. ما هو كنزك جنب منّك؟

- إخص عليك بقى ده كلام.. ده احنا أهل مش ولاد حرام.

- ما يحزن على الميّت إلا كفنه.. ولو عيّط عليه أهله أو اللي دفنه.

- وليه ما تقولش يا حزين.. إن القفّة أم ودنين يشيلوها اتنين.

- قصدك إن الحزن يتقسّم على نفرين؟.. كسبنا صلاة النبي الزين.

- قصدي إننا نقسم الصندوق بتاعي أنا النص وانت النص.. بالعدل كده ح نقسم الكنز جوهرة جوهرة وفَص فَص.

- معقول انت بتتكلّم جد؟.. ودي حاجة يعملها حد؟

- ما اعملهاش ليه ما انت عارفني.. طول عمري راضي باللي يصيبني.. كإننا لقينا صندوق كنز واحد.. هوّ احنا كنا لاقيين اللضى يا جاحد.

- بس انت ذنبك إيه ف اللي حصل لي؟.. هوّ انت كده بتضحّي تمللي؟

- لا تضحية ولا حاجة.. المسألة مش محتاجة.. إنت ناسي إن مراتي عمرها ما ح تخلّف.. وانا على حبها من زمان مولّف.. وعمري ما ح اتجوز غيرها مهما الِف وادور.. ولو جابوا لي حوريّة من الحور.. ونُص الصندوق فيه اللي يكفّيني أنا وهيَّ لحد ما نموت.. مش عايزين من الدنيا غير اللبس والقوت.. يبقى ليه نطمع ونحرمك؟.. مش يمكن ربّنا يكرمنا لمّا نكرمك؟

- ربّنا يدّيك على قد نيّتك.. وينوّلني اشوف ذريّتك.

- الحمد لله على اللي يجيبه.. وما حدّش بياخد اكتر من نصيبه.. ياللا بقى فوت ع البيت قدّامي.. قبل ما اعملها وارجع ف كلامي.

وآب الرجلان إلى دار "راضي" الذي كان شيئاً عن "راغب" لا يعز.. وأخذا في استخراج كل قطعتيْن متشابهتيْن من قطع الكنز.. فيضعان قطعةً "لراضي" وقطعةً شبيهة "لراغب".. حتَّى بدا على الكنز أنه على الانتهاء قد قارَب.. إلّا من بضعة قطعٍ ذهبيّة وبعض الأحجار.. وجوهرةٍ كبيرةٍ ورديّة تخطف الأبصار.. فما كان من "راغب" إلا أن طمع فيها.. فمنحه "راضي" إيّاها دون أن يأخذ مقابلها قِطعةً شبيهة.. فشكره"راغب" وأفصح عن نيّته.. في الرحيل غداً عن قريته.. حيث كان ينوي الذهاب إلى المدينة الساحليّة.. ليحقق أحلامه القديمة المخمليّة.. في شراء سفينةٍ عظيمةٍ غالية.. تمخر العباب وتشق الأمواج العالية.. وتجوب كل البحار.. ويتنازع عليها التجّار.. لينقلوا عليها بضائعهم.. ويعرضوا على العالم صنائعهم.. فيربح "راغب" الكثير من الأموال.. ويصير أغنى الأغنياء بلا جدال.. وتصير السفينة أسطولاً.. يلف الدنيا عرضاً وطولاً.. فودّعه "راضي" وهو حزينٌ لفراقه.. ولِمَ لا وقد كان ابن عمّه وأعز رفاقه.. وتمنّى له من الله دوام التوفيق.. عساه - عز وجل - أن يذلّل له عَقَبات الطريق.

وعند مطلع الشمس التالية.. رحل "راغب" وهو يرتدي أسمالاً بالية.. ليشتّت عنه الأنظار.. بعيداً عمّا يحمله الحمار.. من نفائس الكنز المدسوس.. في صندوقٍ خشبي أكله السوس.. وانقطعت أخباره عن الجميع.. إلّا عن البصير السميع.

وبعد ما يربو على العام.. فوجئ "راضي" في الظهيرة بغلام.. أتاه عند دكّانه الصغير المتواضع.. ليسلّمه رسالةً مكتوبةً على جلد غزال رائع.. تنم عن ثراء من أرسلها.. وتركها بين يديه ليقرأها.. وانصرف الغلام دون أن ينتظر الرد.. ففضّها "راضي" بلهفة قبل أن يكون طَرَفه قد ارتد.. فاندهش أيّما اندهاش.. وأحّس بفرحة وانتعاش.. فقد كانت الرسالة من "راغب".. تعلن عن عوْدة الغائب.. وأعاد "راضي" قراءة الرسالة بصوتٍ مسموع.. وقد بدأت تفيض من عيْنيْه الدموع :

" ابن عمّي وأخي وصديقي "راضي" العطوف.. أوحشتني جداً بصورة تعجز عن وصفها الحروف.. حبذا لو أرى الليلة وجهك الشريف.. وتشرفني في قصري المنيف.. سأنتظرك الليلة في تمام السابعة.. في القصر الأخضر ذو السمعة الذائعة ".

وتعجّب "راضي" من شراء "راغب" للقصر الأخضر.. وقد كان في البلاد كلّها هو الأشهر.. حيث كان يقطنه الأمير العادل "غنّام".. قبل أن يتولّى أمر البلاد ويصبح ملكها منذ أعوام.. فلابد أن "راغب" قد دفع ثمناً باهظاً.. أسال لعاب الملك وجعله لعيونه جاحظاً.. فالملوك لا يتنازلون عن أملاكهم بسهولة.. إلا لو كانت المغريات مهولة.. وسكّر "راضي" دكّانه.. وسابق الريح على حصانه.. ليبشّر "عفيفة" بعود "راغب" الأحمد.. وتستعد معه لزيارة ابن عمّه الأوحد.

وعلى الجانب الآخر من البلدة.. وفي القصر الأخضر ذو الأبراج الصلدة.. كان النهار قد انتصف.. ووقت الوليمة قد أزف.. فقد دعا "راغب" جميع الأعيان.. من البلدة وما جاورها من بلدان.. ليقدّم لهم نفسه.. ويستهل غرسه.. فقد انتوى أن يصير من الكبار.. ولابد له من تصوير نفسه بإبهار.. فقد تزيّن كل ما في القصر.. استعداداً لبدء الوليمة في العصر.. فتم فرش السجاجيد الواردة من "أصفهان".. في كل موطئ قدمٍ في القصر وما حوله من ميدان.. وازدانت الشوارع المحيطة بالفوانيس الملوّنة.. وتم زرع الورود فيما حوْل القصر من أفدنة.. فأصبح الوافد يشتم عبير الورود.. وكأنه في جنّة الخلود.. وعن القصر من الداخل لا تسل.. فالسقف المزركش ينوء بما حمل.. فالثريّات الذهبيّة المتدليّة منه تتلألأ كالكواكب.. وبدأ الناس يتوافدون على القصر في مواكب.. فيجلسون على مقاعدٍ وثيرة من القطيفة التركيّة الحمراء.. تظللهم من الداخل ستائر الحرير الصيني الملساء.. وكان كل الناس يجولون بنظرهم ويشهقون.. من شدّة الإعجاب مما يرون.. وكان الخدم غير محدودي العدد.. يقدّمون أكواب الشراب دون أن ينتهي المدد.. وفي جانبٍ من القصر كانت تدور الموسيقى مع الغناء والرقص.. حتَّى لايشعر أحدٌ من الحاضرين بأي نقص.. وفجأة توقّفت الموسيقى.. ودوّت أصوات الأبواق العريقة.. لتعلن عن وصول صاحب القصر والحفلة.. فانتبه الجميع حتَّى ذوو الغفلة.. ونزل "راغب" على الدَرْج في حُلّةٍ من أفخر الملابس.. متأبّطاً زوجته "جلفدان" في رداءٍ بديع فجعلا الكل لأنفاسه حابس.. وفي منتصف الدرج وقف الاثنان في ارتفاق.. فاشرأبّت لهما جميع الأعناق.. وبعد أن ساد الصمت المكان.. بدأ "راغب" في توجيه كلامه للأعيان :

- أنا بارحّب بكل الحاضرين والضيوف.. اللي زاد عددهم على اتنين م الألوف.. وأحّب أأقدّم نفسي باختصار.. أنا الأمير "راغب الجيّار".. طبعاً أهل بلدي عارفينّي كويّس.. ح يقولوا ده لا عمره كان أمير ولا ريّس.. فعلاً أنا كنت حطّاب مسكين.. ضاقت بيه الدنيا وزاد عليه الدين.. فهاجرت من بلدي دي من حوالي سنة.. وسافرت اجرّب حظّي بعيد عن هنا.. واستقرّيت ف بلد اسمها "هندستان".. واشتغلت زي أي واحد غلبان.. ولأني من الصنايع والخبرات ما عنديش.. وصل بيَّ الحال إني التَحَق بالجيش.. وكانت شغلتي إني أخدم الأفيال.. اللي بتدخل الحرب وتساعد ف القتال.. وكنت بأكّلهم واشرّبهم.. واحمّيهم وانضّفهم.. وف يوم من ذات الأيّام.. صدرت لنا أوامر من قائدنا الهمام.. بإننا نروح من ضمن خدّام السفينة الملكيّة.. اللي ح تسافر تاني يوم ف الفجريّة.. وفيها بنت الملك "شمس الزمان".. الأميرة الجميلة "جلفدان".. وفيها كمان جواهر ومنح وعطايا.. وفيلين من ضمن الهدايا.. لملك البلاد المجاورة "سندستان".. اللي رايحة تتجوّزه الأميرة "جلفدان".. وبعد ما نزلت مع الفيلين لقبو السفينة.. أبحرنا وتركنا المدينة.. وف اليوم الرابع.. كان الجو رائع.. وفجأة واحنا معدّيين على جزيرة مجهولة.. لقينا ناس سود راكبين قوارب بأعداد مهولة.. ولمّا وصلوا عندنا طلعوا السفينة ومعاهم سيوف.. ودوّروا الضرب والقتل ف الحرّاس اللي نطّوا ف البحر م الخوف.. وأخدوا الأميرة والجواري سبايا.. واستولوا على العطايا والهدايا.. أنا لمّا شفت المصيبة دي واللي حصل.. نزلت مع واحد بحّار قبو السفينة بالعجل.. واستخبّيت ورا الفيلين.. ولمّا جم المُعتدين.. وقفوا يتفرّجوا من بعيد.. على الفيلين اللي ف الاقفاص الحديد.. الظاهر كانوا أوّل مرّة يشوفوا أفيال.. فخافوا سوء العاقبة وسواد الوبال.. رحت ضارب فيل منهم في بطنه المليان.. فصرخ بنهيم عالي ارتج له المكان.. ساعتها قالوا يا فكيك وجريوا الجُبنا بالمشوار.. أخدوا الأميرة والجواري والهدايا وسابوني أنا والفيلين والبحّار.. ورجعوا لجزيرتهم تاني.. ساعتها الوحي جاني.. وبعد ما طلّعت الحرّاس بتوعنا اللي نطّوا في البحر.. قلت للبحّار يرسّي السفينة على حتّة معزولة م الجزيرة كلّها صخر.. وأمرت الحرّاس ينزّلوا الفيلين.. وييجوا معايَّ نهجم ع السود المتوحّشين.. وركبت فيل وربطت فيه أخوه بالحبل.. وقلت لله الأمر من بعد ومن قبل.. ولمّا هجمنا عليهم.. خلّصت الأميرة من بين إيديهم.. بعد ما خلّيت الفيلين يشوطوهم برجليهم.. ويضربوهم بخراطيمهم ويدوسوا عليهم.. فهربوا الناس السود بعد معركة عظيمة.. قبل ما يعملوا على الأميرة والجواري وليمة.. إكمّنهم من آكلي لحوم البشر.. والحمد لله على حكمته ف تصاريف القدر.. وركبنا السفينة بأمان.. ورجعنا على "هندستان".. ولمّا عرف الملك "شمس الزمان".. باللي جرى واللي كان.. قرّر أنه يكافئني بأموال مالهاش آخر ويجوّزني "جلفدان".. ويبعت بنته التانية عروسة لملك "سندستان".. وهيَّ دي بقى مراتي اللي واقفة جنبي.. أقدّم لكم الأميرة "جلفدان" اللي ملكت قلبي.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent