خبر
أخبار ملهلبة

"أرواح بلا قبور" | الصديق الرجيم (1)


رجل كهل نحيف يرتدي ملابس بيضاء مثل زي مرضى مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية

الصديق الرجيم (1)

 

 

"الصديق قبل الطريق".. ها.. "الصديق إمّا أن ينفع وإمّا أن يشفع".. ها ها.. "الصداقة شمسٌ لا تغيب".. ها ها ها ها، ليْتني ما عرفت تلك العبارات وآمنت بها فهي سبب كل ذلك البلاء الذي أصابني، ليْتني آمنت بحكمٍ أخرى عكسها: "احذر عدوّك مرّة وصديقك ألف مرّة ؛ فإن انقلب الصديق فهو أعلم بالمضرّة "، "عدوّك من صديقِك مستفادٌ فلا تستكثرنَّ من الصحاب"، "اللّهم قِني شرّ أصدقائي أمّا أعدائي فأنا كفيلٌ بهم".

نعم.. لقد كفرت بالصداقة وألحدت بالمخاللة، أرجوك لا تنتقدني ولا تهاجمني ولا تظن بي السوء فلو كنت مكاني ما جرؤت على مجرّد التفكير بذلك لأن عقلك المحدود وخيالك القاصر لن يستوْعبا أصلاً ما سأقصّه عليك من أحداثٍ وقعت لي وأهوالٍ مررت بها، تريد أن تجرّب؟.. حسناً.. استمع لروايتي أوّلاً ثم احكم بنفسك.

تبدأ فصول قصّتي منذ أقل من عام حينما عدت من دراستي بالخارج التي استغرقت خمس سنواتٍ انقطعت فيها للعلم والتحصيل وفارقت أثناءها التواصل مع الأصدقاء، وعندما عدت اشتقت لهم وأوحشتني الأوقات السعيدة التي كنّا نقضيها سويّاً في مرحٍ وضحكٍ وبهجة فقرّرت أن ألملم خيوط صداقاتي من جديد، ولكن هيهات فما قطعه الزمن محال أن يوصَل من جديد مثلما هو مستحيلٌ إرجاع عقارب الساعة إلى عهدٍ ولّى وماضي انصرم وأدبر، فذلك الصديق على سفرٍ بحثاً عن فرصة عمل وهذا الرفيق مشغولٌ في بناء مستقبله مع أسرته وذاك النديم قد تغيّرت طبائعه فلم يعد يهوى المؤانسة والمسامرة التي ولع بها من قبل.

وأثناء رحلة بحثي الفاشلة عن أصدقائي القَدامى عرفت من أحدهم أن أعزّهم لديّ وأقربهم إلى قلبي في محنةٍ هائلة ؛ فقد اكتسب أنيسي الأثير "عاطف" لقب نزيل بمستشفى الأمراض العقليّة، لم أصدّق من أخبرني أوّل الأمر فقد كان "عاطف" أكثرنا رزانةً وأرجحنا عقلاً وفطنة ولكني تحت تأثير القَسَم المغلّظ واليمين القاطعة والجديّة في الكلام التي أبداها من بلّغني سلّمت بالأمر وعقدت العزم على زيارة "عاطف" بعد أن عرفت مكانه في ذلك المستشفى الضخم.

وفي اليوم التالي حصلت على تصريحٍ بزيارة "عاطف" فدخلت العنبر الذي يقيم فيه وأنا أقدّم ساقاً وأؤخّر الثانية وجلاً ومهابةً من تلك المقابلة، وأجلسني أحد العاملين في المستشفى على أحد المقاعد الخشبيّة المستطيلة التي اكتظّت بها حجرة الزيارات المنزوية واستأذن الرجل في أدب حتى يُحضِر المريض المقصود، وبعد برهةٍ قصيرة أحسست أنها ساعات من شدّة القلق والتوتّر انفتح باب الحجرة وأقبل "عاطف" أو قل "بقايا" "عاطف" الذي أعرفه، فقد كان نحيلاً واهناً شارد الذهن متردّداً في مشيته يتلفّت كثيراً في ريبة وقد ارتسمت الهالات السوداء حول عيْنيْه اللتيْن ضاقتا كثيراً عن ذي قبل وخفّ شعر رأسه واشتعل بياضاً من أثر الشيْب رغم انّه - مثلي - لم يتعدَ الأربعين ربيعاً.

وهالني ما رأيت فانتصبت واقفاً فى ذهول واحتضنته بقوّة رغم أنه وقف جامداً لم يبادلني العناق ثمّ ازدردت ريقي الجاف ونطقت بصوتٍ خافتٍ متحشرج يكاد لا يُسمَع :

- إزيّك يا "تيفة".. واحشني قوي.

- أهلاً يا "ابو حميد".. حمد الله ع السلامة.. عامل إيه؟

- الحمد لله.. كلّه تمام.. المهم انت.. ألف سلامة عليك.

- الله يسلّمك.

- إيه يا بني مالك؟.. حصل لك إيه؟

- لا.. دي حكاية طويلة.. مش عايز أشغلك بيها.

- تشغلني إيه يا راجل.. إنت ناسي اللي بيننا.. ده احنا أكتر م الاخوات.. فضفض لي يمكن اقدر أساعدك.

- بصراحة أنا زهقت م الفضفضة لكل اللي باعرفهم.. وزهقت أكتر من وعدهم ليّ بإنّهم يساعدوني.. كل واحد فيهم بيسمع حكايتي ويفتكرني مجنون.. وآدي وش الضيف.. ما يجيش تاني.. حتّى أهلي ما بقوش يزوروني.

- وانا أي واحد برضه؟.. عيب ده احنا بيننا عيش وملح.. وبعدين أنا مش جاي لك علشان أتسلّى شويّة وامشي.. أنا جاي علشان أشوف ح اقدر أطلّعك من هنا ازّاي.

- يعني مش ح تتخلّى عنّي زي الباقيين؟

- واللهِ يا "عاطف" ح اعمل معاك اللي اقدر عليه وزيادة.. إنت ماتتصوّرش انا مصدوم قد إيه.. ده انا ما صدّقتش إنّك محجوز هنا.. قلت أكيد فيه حاجة غلط.

- عموماً ح نشوف.. الحكاية يا سيدي باختصار إنّي ملبوس.

- نعم؟.. ملبوس؟

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent