خبر
أخبار ملهلبة

1984 | "جورج أورويل" | (11)

 


1984 (11)



قال أوبراين: «هنالك مراحل ثلاث لا بد أن تمر بها حتى تتم إعادة تأهيلك وخلقك من جديد وهي التعلم، ثم الفهم، ثم القبول. وقد آن أوان دخولك المرحلة الثانية».

كان ونستون، كالعادة، ممددا على ظهره فوق السرير، وكانت الأربطة التي تشده إليه قد باتت أقل استحكاما، ومع أنها كانت لا تزال تشده إلى السرير إلا أنه أصبح في استطاعته أن يحرك ركبتيه قليلاً، وأن يدير رأسه من جانب إلى أخر، وأن يرفع ذراعيه حتى المرفقين. كما لم يعد القرص مدعاة للفزع لديه، فقد بات بمقدوره أن يتجنب نوبات الألم التي يطلقها في جسده طالما كان سريع البديهة، فغالباً كان أوبراين لا يسحب ذراع القرص إلا حينما يبدي ونستون حمقاً أو غباء. وفي بعض

الأحيان كانت تنقضي جلسة بطولها لا يلجأ أوبراين فيها لاستخدام القرص. ولم يكن ونستون يتذكر عدد الجلسات التي خضع لها، بل إن العملية برمتها بدت وكأنها قد امتدت وقتاً طويلاً لا حدود له، ربما أسابيع، كما أن الفترات الفاصلة بين جلسة وأخرى كانت أحياناً تمتد أسابيع وأحياناً لا تتجاوز ساعة أو ساعتين.

وقال أوبراين: «لا بد أنك سألت نفسك، بل إنك قد سألتني بالفعل، وأنت ممدد فوق هذا السرير، عن السبب الذي يجعل وزارة الحب تهدر كل هذا الوقت وتتجشم هذه المشقة من أجلك، بل حتى عندما كنت حراً طليقاً كنت تقف أمام السؤال نفسه حائراً، فقد كان بوسعك أن تفهم آليات المجتمع الذي تعيش فيه ولكنك عجزت عن إدراك الدوافع الكامنة التي تحركه. هل تذكر قولك في مذكراتك «إنني أفهم كيف، لكنني لا أفهم لماذا؟» لقد بدأ الشك يتسرب إلى عقلك الحصيف عندما بدأت تفكر في «لماذا». ولقد قرأت كتاب غولدشتاين أو أجزاء منه على الأقل فهل وجدت فيه شيئاً لم تكن تعرفه بالفعل؟»

فسأله ونستون: «وهل قرأته أنت؟»

فأجاب أوبراين: «بل قل كتبته، أو حتى أكون أكثر دقة، لقد اشتركت في وضعه، فكما تعلم ما من أحد يؤلّف كتاباً بمفرده».

- وهل ما يقوله الكتاب صحيح؟

فأجابه أوبراين: «أما الوصف الذي يقدمه فصحيح، وأما البرنامج الذي يضعه فهراء لا قيمة له، فكل ما يقوله عن التراكم السري للمعرفة والانتشار التدريجي للفكر التنويري اللذين يفضيان في نهاية الأمر إلى ثورة البروليتاريا والإطاحة بالحزب لا يعدو أن يكون هراء ما بعده هراء، لأن البروليتاريا لن تثور ولو بعد ألف أو مليون سنة، إنها لا تستطيع ذلك، ولا أظن أنني بحاجة لأن أخبرك بالسبب لأنك تعرفه بالفعل، وإذا كنت متعلقا ببعض الأحلام التي راودتك عن اندلاع العصيان المسلح فعليك أن تتخلى عنها، فليس ثمة سبيل للإطاحة بالحزب الذي سيظل حكمه قائماً إلى أبد الدهر، ولتجعل ذلك المعتقد هو نقطة لانطلاق أفكارك».

عندئذ اقترب أوبراين من ونستون وراح يردد: «إلى أبد الدهر. والآن يحسن بنا أن نعود إلى سؤال «كيف» و«لماذا». إنك تفهم جيداً كيف يحتفظ الحزب بالسلطة، ولكن قل لي لماذا نتشبث بالسلطة؟ ما هي دوافعنا؟ لماذا نريد السلطة؟ هيا، تكلم». لكن ونستون ظل ملتزماً بالصمت.

مرّت لحظة أو لحظتان ولم ينبس ونستون ببنت شفة، وغمره شعور بالإعياء واليأس، ولمح من عيني أوبراين أن الحماس المجنون بدأ يعاوده من جديد. كان يعرف سلفاً ماذا سيقول أوبراين، إنه سيقول إن الحزب لم يسع إلى السلطة من أجل مآربه الخاصة وإنما من أجل مصلحة الأغلبية، وأنه ما سعى إلى السلطة إلا لأن جماهير العامة مخلوقات ضعيفة هشة تتسم بالجبن ولا يمكنها احتمال مسؤولية الحرية أو مواجهة الحقيقة، ومن ثم يجب أن يتم تسيير شؤونهم وخداعهم بطريقة منهجية من قبل آخرين أعلى وأعز منهم قوة، وأن على البشرية أن تختار بين خيارين لا ثالث لهما، فإما الحرية وإما السعادة، ودائما تفضل الغالبية العظمى من الجنس البشري السعادة على الحرية. إن الحزب هو الوصي الأبدي على المستضعفين وإنه يضحي بسعادته من أجل سعادة الآخرين. لكن أفظع شيء لدى ونستون هو أن أوبراين كان حينما يسوق مثل هذه الحجج كان يفعل ذلك عن إيمان بها، وفي استطاعتك أن ترى هذا مرتسما على وجهه. إن أوبراين يعرف كل شيء، بل إنه يعرف أكثر من ونستون ألف مرة عن حقيقة العالم، ويعرف ما تعانيه هذه الجماهير من المخلوقات البشرية من إذلال وانحطاط وبأية أكاذيب وأساليب بربرية يبقيها الحزب على ما هي عليه. كان أوبراين يفهم كل ذلك فهماً جيداً ومع ذلك لم يكن لذلك أهمية، فكل شيء مبرر باسم الغاية النهائية. وتساءل ونستون بينه وبين نفسه: ماذا تستطيع أن تفعل حيال مجنون أحدّ ذكاء منك ويصغي جيداً إلى حججك لكنه يتمسك بجنونه؟

قال ونستون بصوت واهن: «إنكم تحكموننا من أجل مصلحتنا وفي سبيل منفعتنا، فأنتم تؤمنون أن البشر لا يصلحون لحكم أنفسهم بأنفسهم ومن ثم ...».

وتوقف ونستون عن الكلام عندما شعر بوخزات ألم مفاجئة تتدفق في جسده حينما دفع أوبراين ذراع القرص إلى خمسة وثلاثين.

وقال أوبراين: «هذا غباء وسخافة يا ونستون، ما كان ينبغي أن تنطق بشيء مثل ذلك». وسحب ذراع القرص إلى مكانه ثم مضى يقول:

- والآن سأعطيك جواباً عن سؤالي: إن الحزب يسعى إلى بلوغ السلطة لذاتها، وإن مصالح الآخرين لا تعنينا في شيء، فكل همنا محصور في السلطة. نحن لا نسعى وراء الثروة ولا الرفاهية ولا العمر المديد ولا السعادة وإنما نسعى وراء السلطة، والسلطة المطلقة فقط، ولسوف تفهم عما قريب ماذا نعني بالسلطة المطلقة. إننا نختلف عن الأشكال الكثيرة من حكم القلة التي وجدت في الماضي لجهة أننا نعرف ما نفعل. أما الآخرون بمن فيهم هؤلاء الذين كانوا يشبهوننا فكانوا جبناء ومرائين، لقد بلغ النازيون الألمان والشيوعيون الروس حداً جعلهم جد قريبين منا في مناهجهم لكنهم لم يمتلكوا من الشجاعة ما يكفي للاعتراف بدوافعهم. لقد كانوا ادّعو، بل ربما اعتقدوا، أنهم بلغوا السلطة وهم لها كارهون وأنهم لن يمكثوا فيها إلا لأجل محدود، وأنه لم يعد يفصلهم شيء عن الفردوس الموعود الذي يحيا فيه الناس أحراراً متساوين. إننا لا نشبه هؤلاء. إننا ندرك أنه ما من أحد يمسك بزمام السلطة وهو ينوي التخلي عنها. إن السلطة ليست وسيلة بل غاية، فالمرء لا يقيم حكماً استبدادياً لحماية الثورة، وإنما يشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي. إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب وغاية السلطة هي السلطة. هل بدأت تفهم ما أقول الآن؟

وهال ونستون، مثلما هاله من قبل، ما بدا على وجه أوبراين من علامات التعب والإرهاق. كان وجها قوياً، ممتلئاً، قاسي الملامح، مفعماً بالذكاء ويتقد بعاطفة مكبوتة يعجز المرء إزاءها، إلا أنه ومع كل ذلك كانت علامات التعب بادية عليه، فقد كان هناك الانتفاخان أسفل العينين وتهدل الجلد عند الصدغين. مال أوبراين فوق ونستون متعمدا أن يقترب منه أكثر بوجهه المهترئ، وقال:

- لعلك تفكر في وجهي المتعب الذي زحفت عليه علامات الشيخوخة، وأنني أحدثك عن السلطة بينما لا أستطيع أن أوقف انحلال جسدي. ألا تستطيع يا ونستون أن تفهم أن المرء إن هو إلا خلية؟ وأن إنهاك الخلية هو تجديد لنشاط الكائن الحي. هل تموت يا ترى عندما تقلم أظافرك؟

واستدار أوبراين مبتعداً عن السرير وراح يذرع الغرفة جيئة وذهاباً مرة أخرى وقد وضع يده في جيبه ثم مضى يقول:

- إننا نحن كهنة السلطة، والله هو السلطة، لكن في الوقت الراهن لا تعني لك السلطة إلا مجرد كلمة، وقد آن الأوان لأن تكون لديك فكرة عما تعنيه السلطة، وأول ما يجب عليك أن تدركه هو أن السلطة جماعية وأن الفرد لا يمكن أن يملك سلطة إلا بمقدار ما يتخلص من فرديته، ولعلك تعرف شعار الحزب القائل: «الحرية هي العبودية». فهل خطر ببالك من قبل أن هذا الشعار يمكن قلبه ليصبح: «العبودية هي الحرية». فالإنسان حينما يكون وحيداً وحراً، دائماً ما يُقهر ويُغلب. ويجب أن يكون الأمر كذلك لأن الموت هو القدر المحتوم على كل إنسان والموت هو أنكى أنواع الفشل التي يمنى بها الإنسان، بيد أنه إذا استطاع أن يخضع خضوعاً تاماً وأن يتخلّص من ذاتيته، وأن يذوب ذوباناً تاماً في الحزب حتى يصبح هو الحزب، فإنه حينئذ يمنح القوة والخلود. وأما الأمر الثاني الذي يجب أن تدركه هو أن السلطة هي سلطان على البشر، على أجسامهم وعلى عقولهم قبل كل شيء. أما أن يكون لك سلطان على المادة، وهي الواقع الخارجي كما تسميه، فليس بالأمر الهام، إذ نحن نسيطر على المادة سيطرة مطلقة.

وتجاهل ونستون للحظة القرص، وحاول جاهداً أن يستوي جالساً فوق السرير لكنه شعر على إثر ذلك بألم يمزق أوصاله بعد هذه المحاولة.

وصاح ونستون قائلاً: «ولكن كيف تسيطرون على المادة؟ إنكم لا تسيطرون حتى على الطقس أو قانون الجاذبية، ناهيك عن المرض والألم والموت».

لكن أوبراين أسكته بإشارة من يده وقال:

- إننا نسيطر على المادة لأننا نسيطر على العقل، والواقع يكمن في جمجمة الإنسان، وتدريجياً ستعلم يا ونستون أن ليس ثمة ما يستعصي علينا، فيمكننا أن نصبح غير مرئيين ويمكننا أن نطير في السماء. هل تعلم أنه بوسعي أن أجعل أرضية هذه الغرفة تطفو كفقاعة صابون إن شئت ذلك، وإذا كنت لا أرغب في ذلك فلأن الحزب لا يريد ذلك. يجعب عليك أن تتحرر من أفكار القرن التاسع عشر فيما يتعلق بقوانين الطبيعة، فنحن الذين نضع قوانين الطبيعة.

اعترض ونستون قائلاً: «لا، لستم واضعيها! إنكم لستم حتى سادة كوكبنا هذا، وإلا فما تفسيرك لوجود أوراسيا وإيستاسيا؟ إنكم لم تقهروا هاتين الدولتين بعد!»

فأجاب أوبراين: «لا يهمنا ذلك لأننا سوف نقهرهما حين يناسبنا ذلك، وحتى إن لم نفعل، فان ذلك لا يعنينا في شيء، فبوسعنا أن نقصيهما خارج دائرة الوجود ونطمس كل أثر لهما في الأذهان بحيث تصبح أوقيانيا هي العالم كله».

فقال ونستون: «ولكن العالم ذاته ليس إلا ذرة غبار والإنسان خلق ضعيفاً عاجزاً! منذ متى وهو موجود؟ لقد ظلت الأرض لملايين السنين غير مأهولة!»

فقال أوبراين: «هراء، إن عمر الأرض في مثل عمرنا، فهي ليست أقدم منا، بل كيف يمكن أن تكون أقدم؟ فما من شيء يوجد إلا من خلال الإدراك الإنساني».

- لكن الصخور مملوءة بعظام الحيوانات البائدة، كالفيل المنقرض والزواحف العملاقة التي عاشت على الأرض أمداً طويلاً قبل أن يسمع أحد بالإنسان.

- هل رأيت هذه العظام بعينك يا ونستون؟ بالطبع لا. إن علماء البيولوجيا في القرن التاسع عشر هم الذين اخترعوها. قبل الإنسان لم يكن هنالك شيء، وبعد نهاية الإنسان، إن كان له نهاية، لن يكون هنالك شيء على هذا الكوكب، فخارج الإنسان لا يوجد شيء.

- ولكن الكون كله موجود خارج الإنسان. انظر إلى النجوم! إن بعضها يبعد عنا ملايين السنين الضوئية، وهي لذلك لن تكون في متناولنا أبداً.

فرد أوبراين بغير اكتراث: «وما هي النجوم؟ إنها قطع من نار لا يفصلنا عنها سوى بضعة كيلومترات ويمكننا الوصول إليها إذا شئنا ذلك، كما بوسعنا أن نجعلها تتسمر في مكانها، فالأرض هي مركز الكون والشمس والنجوم تدور حولها».

وصنا قام ونستون بحركة تنم عن رفضه لما يقال، ولكنه لم يقل شيئاً هذه المرة. وأكمل أوبراين حديثه كمن يردّ على اعتراض:

- لا شك أن ما قلته لا ينسحب على بعض الحالات، فعندما نبحر في عرض المحيطات أو نتنبأ بخسوف للقمر، فإننا غالباً ما نجد أنه من الأنسب أن نفترض أن الأرض تدور حول الشمس وأن النجوم تبعد عنا ملايين الملايين من الكيلومترات، لكن ما أهمية ذلك؟ أتظن أننا نعجز عن وضع نظام مزدوج للفلك؟ فتصبح النجوم قريبة أو بعيدة حسب ما هو مطلوب. أتظن أن علماء الرياضيات لدينا لا يقدرون على ذلك؟ أنسيت ازدواجية التفكير؟

فانكمش ونستون على السرير، إذ مهما قال، فإن الردود السريعة من أوبراين كانت تسحقه كما تسحقه ضربة الهراوة، إلا أنه ومع ذلك كان يدرك أنه على حق. لا بد أن هنالك طريقة يمكن من خلالها إثبات زيف الاعتقاد القائل بانه لا وجود لشيء خارج إدراك الإنسان. ألم يتضح مند القدم أنه ينطوي على مغالطة؟ بل لقد كان له اسم ولكنه نسيه. وارتسمت على فم أوبراين ابتسامة خفيفة زمت شفتيه وهو يتأمل في ونستون، ثم قال:

- «لقد قلت لك يا ونستون إن الميتافيزيقا ليست نقطة قوتك. إن الاسم الذي تحاول أن تذكره هو التمركز حول الذات ولكنك مخطئ فهذا ليس تمركزاً حول الذات، وإنما هناك التمركز حول الذات الجماعية إذا أردت. لكن ذلك أمر مختلف. إنه عكس ما تقول». ثم أضاف وقد تغيرت لهجته: «إن كل هذا خروج على الموضوع. إن السلطة الحقيقية، السلطة التي ينبغي علينا أن نقاتل من أجل بلوغها ليل نهار ليست السلطة على الأشياء، بل على الإنسان». ثم توقف عن الكلام واتخذ هيئة المعلم حينما يسأل تلميذاً واعداً: «كيف يؤكد إنسان سلطته على إنسان آخر يا ونستون؟»

وقال ونستون بعد تفكير: «بجعله يقاسي الألم».

فرد أوبراين: «أصبت فيما تقول. بتعريضه للألم، فالطاعة وحدها ليست كافية، وما لم يعانِ الإنسان الألم كيف يمكنك أن تتحقق من انه ينصاع لإرادتك لا لإرادته هو؟ إن السلطة هي إذلاله وإنزال الألم به، وهي أيضاً تمزيق العقول البشرية إلى أشلاء ثم جمعها ثانية وصياغتها في قوالب جديدة من اختيارنا. هل بدأت تفهم أي نوع من العالم نقوم بخلقه الآن؟ إنه النقيض التام ليوتوبيا المدينة الفاضلة التي تصورها المصلحون الأقدمون، إنه عالم الخوف والغدر والتعذيب، عالم يدوس الناس فيه بعضهم بعضاً، عالم يزداد قسوة كلما ازداد نقاء، إذ التقدم في عالمنا هو التقدم باتجاه المزيد من الألم. لقد زَعَمَت الحضارات الغابرة أنها قامت على الحب والعدالة أما حضارتنا فهي قائمة على الكراهية، ففي عالمنا لا مكان لعواطف غير الخوف والغضب والانتشاء بالنصر وإذلال الذات، وأي شيء خلاف ذلك سندمره تدميراً. إننا بالفعل نعمل على تفكيك العادات الفكرية التي ورثناها من العهد السابق للثورة، لقد فصمنا عرى العلاقة بين الطفل ووالديه، وبين الصديق وصديقه، وبين الرجل والمرأة، ولم يعد أحد يجرؤ على الثقة بزوجته أو طفله أو صديقه، بل إنه في المستقبل لن يكون هنالك زوجات أو أصدقاء، كما سيؤخذ الأطفال من أمهاتهم لدى ولادتهم مثلما تؤخذ البيضة من تحت الدجاجة، وسوف نقضي على الغريزة الجنسية ونبيدها، أما الإنجاب فسيكون إجراء سنوياً رسمي الطابع مثله مثل تجديد بطاقة الحصص التموينية، وسنجتث ما يعرف بنشوة الجماع اجتثاثاً ويعمل الآن أطباء الأعصاب على تحقيق هذه الغاية، كما سينعدم كل ولاء ليس للحزب، وسيباد كل حب غير حب للأخ الكبير. ولن يكون هنالك ضحك إلا الضحك الذي يصحب نشوة النصر على العدو المقهور، ولن يكون هنالك فن أو أدب أو علم، فحينما تجتمع في أيدينا كل أسباب القوة لن تكون بنا حاجة إلى العلم. كلما ستزول الفروق بين الجمال والقبح، ولن يكون هنالك حب الاستطلاع أو التمتع بالحياة ولن يكون هناك ميل نحو مباهج الحياة التي ستدمر تدميراً. ولكن حذار أن تنسى يا ونستون أن الرغبة في السلطة ستظل مشبوبة وستزداد دهاء. وفي كل لحظة ستكون هنالك نشوة النصر ولذة سحق العدو المدحور العاجز. وإذا كنت تريد أن تستشرف صورة المستقبل، تخيل حذاء يدوس ويدمغ وجه إنسان إلى أبد الآبدين».

وهنا توقف أوبراين عن الكلام وكأنه توقع من ونستون أن يتكلم، ولكن ونستون كان قد حاول الانكماش على نفسه ولم يستطع أن يتلفظ بكلمة، وبدا له وكأن قلبه قد تجمد، فاستأنف أوبراين حديثه قائلا:

- ولتتذكر أن ذلك سيكون أبدياً، وأن الوجه سيظل دائماً تحت الحذاء، فدائماً هنالك الهرطوقي، عدو المجتمع، الذي يمكن قهره وإذلاله المرة تلو الأخرى. إن كل ما عانيته منذ وقعت في قبضتنا سيتواصل وسيزداد سوءاً، كما لن تتوقف مطلقاً عمليات التجسس والخيانة والاعتقالات والتعذيب وأحكام الإعدام وحوادث اختفاء الناس. لن يتوقف أي من ذلك، وسيصبح العالم عالم الرعب بقدر ما هو عالم الانتصارات. وكلما ازداد الحزب قوة ومنعة قلّت درجة تسامحه، وكلما ضعف معارضو السلطة اشتدت قبضة الاستبداد والطغيان، أما غولدشتاين فسيتم قهره ووصمه بالعار والتهكم منه والبصق عليه في كل يوم بل في كل لحظة، ومع ذلك سيبقى موجوداً وستبقى هرطقاته. إن هذه المسرحية الدرامية التي مثلتها معك على مدى سبع سنوات مضت سيعاد تمثيلها مرة تلو مرة، وجيلاً تلو جيل ودائماً بأشكال أكثر دهاء، ولسوف نجعل المهرطق دائما تحت رحمتنا، يئن من الألم، محطماً ومحتقراً وفي النهاية سيأتي من نفسه نادماً بعد أن انتصر على نفسه السيئة ويركع طالباً العفو والصفح. إن ذلك هو العالم الذي نعدّه يا ونستون، عالم يتألف من نصر تلو نصر ونشوة تلو نشوة وهو ما يمثل ضغطاً قوياً على عصب السلطة. إنني أعتقد أنك بدأت تدرك ما سيكون عليه العالم، ولكن في النهاية سيطلب منك ما هو أكثر من الإدراك، سوف يطلب منك أن تقبل هذا العالم وترحب به وتصبح جزءاً منه.

وكان ونستون قد استعاد قدراً من عافيته بحيث أصبح قادراً على الكلام.

فقال بصوت خافت: «إنكم لن تستطيعوا إلى ذلك سبيلاً».

- ماذا تعني بهذا الكلام يا ونستون؟

- إنكم لن تستطيعوا خلق عالم كالذي وصفته فذلك حلم يستحيل تحقيقه.

- ولماذا؟

- لأنه من المستحيل أن تؤسس حضارة على الخوف والكراهية والقسوة، فمثل هذه الحضارة إن وُجدت لا يمكن أن تبقى.

- ولم لا؟

- لأنها ستكون خلواً من أي حيوية ومن ثم ستتفسخ وتنهار من داخلها.

- هذا هراء، إنك واقع تحت تأثير الاعتقاد بأن الكراهية تستنزف طاقات الإنسان أكثر مما يفعل الحب، فلم ذلك؟ وحتى لو افترضنا أن اعتقادك صحيح فما أهمية ذلك؟ ولنفترض أننا اخترنا أن نفني أنفسنا بشكل أسرع، ولنفترض أننا سرّعنا وتيرة الحياة الإنسانية بحيث يشيخ الناس في الثلاثين من أعمارهم، فما أهمية ذلك؟ ألا تستطيع أن تفهم أن موت الفرد ليس موتاً ما دام الحزب خالداً أبدياً؟

وكالعادة ترك صوت أوبراين ونستون في حالة من العجز واليأس، وفوق ذلك فقد خشي إن هو استمر في مقارعته لأوبراين، أن يدير الأخير قرص التعذيب مرة أخرى، إلا أنه مع كل ذلك لم يحتمل البقاء صامتاً، ولذلك عاود ونستون الهجوم ولكن بصوت خافت وحجة واهية وخوف مما توعده به أوبراين:

- لمست أدري ولمست أبالي، لكنكم ستفشلون على أية حال، لا بد أن شيئاً ما سيقهركم، إن الحياة نفسها ستهزمكم.

فرد أوبراين: إننا نسيطر على الحياة في جميع مستوياتها يا ونستون، إنك تتخيل أن هنالك شيئاً اسمه الطبيعة الإنسانية سيغضبها ما نفعله، ومن ثم فإنها سوف تنقلب علينا. ولكن ما لا تعرفه هو أننا نعيد خلق الطبيعة الإنسانية، فالإنسان قابل للتحول بشكل غير محدود، أو لعلك عدت إلى فكرتك القديمة التي مفادها أن العامة أو العبيد سيثورون علينا ويطيحون بنا من سدة الحكم. أخرج هذه الفكرة من ذهنك تماماً لأن هؤلاء عاجزون عجز الحيوانات، ولأن البشرية هي الحزب نفسه، وما عدا ذلك فهو معدوم الأهمية وخارج نطاقها».

- إنني لا أبالي بما تقول، ففي النهاية سوف يهزمونكم. سوف يرونكم على حقيقتكم إن عاجلاً أو آجلاً وساعتئذ سيمزقونكم إرباً إرباً.

- هل لديك دليل على أن ذلك سيحدث؟ أو سببٌ يحتم حدوث ذلك؟

- كلا، ولكني أعتقد ذلك، إنني موقن أنكم ستفشلون، ففي هذا العالم شيء لا أدري طبيعته، ربما يكون روحاً أو مبدأ، لن تتغلبوا عليه مطلقا.

- هل تؤمن بالله يا ونستون؟

- كلا.

- إذن أي مبدأ ذلك الذي ترى أنه سيهزمنا؟

- لست أدري، ربما كانت روح الإنسان.

- وهل تعتبر نفسك إنساناً؟

- أجل.

- إن كنت إنساناً يا ونستون فأنت آخر إنسان، لقد انقرض نوعك، ونحن الوارثون. هل تدرك أنك وحيد في هذا العالم، وأنك أصبحت خارج مجرى التاريخ. إنك لست موجوداً.

ثم تغيرت لهجته وقال بصوت أشد خشونة: «إنك تعتبر نفسك أسمى منا خلقاً لما تعرفه عنا من كذب وقسوة؟»

- اجل إنني أعتبر نفسي كذلك.

وهنا سكت أوبراين عن الكلام، وسُمع صوتان آخران يتكلمان. وبعد لحظة أدرك ونستون أن أحد الصوتين صوته هو، لقد كان شريطاً مسجلاً للحديث الذي دار بينه وبين أوبراين من حوار ليلة انضمام ونستون إلى جماعة الأخوة. وسمع ونستون نفسه وهو يعد بأن يكذب ويسرق ويزور ويقتل ويروج المخدرات ويشجع الدعارة وينشر الأمراض الجنسية ويشوه وجوه الأطفال. وقام أوبراين بإشارة تدل على نفاد صبره وكأنه يقول إن هذا التظاهر الذي يكتنفه لا جدوى منه، ثم ضغط على مفتاح فأوقف الصوت.

وقال: «انهض من ذلك السرير»

وانحلت الأربطة من تلقاء ذاتها، فنزل ونستون عن السرير ووقف مترنحاً.

وقال أوبراين: «إنك آخر إنسان، إنك حارس الروح الإنسانية. سوف ترى نفسك على حقيقتها. انزع عنك ثيابك».

فك ونستون الرباط الذي كان يمسك ثيابه ولم يكن يذكر إن كان قد خلع ثيابه منذ أن ألقي القبض عليه أم لا. وكان المعطف يواري تحته أسمال بالية مصفرة اللون بدا له أنها بقايا ملابسه الداخلية، وما إن طرحها هي الأخرى أرضاً ووقف عارياً حتى رأى مرآة ذات ثلاثة أوجه في الطرف الأقصى من الغرفة، فدنا منها ثم توقف مفزوعاً وانخرط في بكاء حار بلا إرادة منه.

فقال أوبراين: «تقدم وقِف بين جناحي المرآة حتى ترى الجانب الآخر من نفسك».

لكن ونستون توقف لهول ما رأى، لقد رأى هيكلاً عظمياً محدودب الظهر رمادي اللون، لقد أفزعته الهيئة التي رآها وأفزعه أكثر إدراكه أن هذه هيئته، ودنا ونستون أكثر من المرآة فرأى وجهاً ناتئة عظامه وخيل إليه أنه يرى وجه طائر بائس محبوس في قفص، وجبهة ضامرة تنتهي براس صلعاء وأنف معقوف وعظام خدين تبدوان محطمتين وترتكز عليهما عينان تشعان خوفاً وحذراً، وكان الخدان مجعدين والفم مسحوب للداخل. لم يكن لديه ريب في أن ذلك هو وجهه ولكن بدا له أنه تغير أكثر مما تغير هو من داخله، فالانفعالات التي سجلها كانت تختلف عن تلك التي يشعر بها. لقد تساقط شعر رأسه، بل لقد خال للوهلة الأولى أنه شابَ أيضاً، لكنه عرف فيما بعد أن فروة رأسه فحسب هي التي أخذت لوناً رمادياً. وفيما عدا وجهه وكفيه فقد رأى جسمه كله رمادياً وقد اصطبغ بأقذار قديمة علقت به. وكانت تنتشر في كل أنحاء جسمه وتحت هذه الأقذار ندبات جروح ملتهبة، وبالقرب من كاحله كانت دوالي ساقيه ملتهبة وقد تشقق عنها الجلد. لقد أفزعه حقاً الهزال الذي حل بجسمه، لقد ضاق قفص أضلاعه حتى بدا كهيكل عظمي، ونحلت ساقاه حتى بدت ركبتاه أغلظ من فخذيه. وحينئذ أدرك ما كان أوبراين يقصده حينما طلب منه أن يقترب من المرآة حتى يرى الجانب الآخر من نفسه. لقد كان تقوس العمود الفقري شيئاً مريعاً وكانت الكتفان النحيلتان مشدودتين إلى الأمام في تقعر بحيث تصنعان من قفصه الصدري تجويفاً. وكانت رقبته النحيلة تنوء تحت ثقل جمجمته. ولو أن ونستون سئل أن يخمن من هو صاحب ذلك الجسم لقال أنه جسم رجل في الستين يعاني من مرض عضال.

قال أوبراين: «لقد كنت ترى أحياناً أن وجهي الذي هو بمثابة وجه الحزب الداخلي هرماً متعباً. فكيف ترى وجهك الآن؟»

وأمسك أوبراين بكتف ونستون وأداره نحوه ثم استطرد قائلاً:

- انظر إلى ما آلت إليه حالك! انظر إلى الأوساخ تكسو جسمك، انظر إلى القذارة تتخلل أصابع قدميك، انظر إلى القيح ينسال من التقرحات التي في ساقيك. هل تعلم أنك أصبحت أنتن من عنزة قذرة؟ أغلب الظن أنك لم تعد تلاحظ ذلك. انظر إلى الهزال الذي ألم بك، هل تراه؟ إن في استطاعتي أن أقبض على كتفك بإبهامي وسبابتي، وفي استطاعتي أن أنتزع رقبتك مثل جزرة. هل تعلم أنك فقدت خمسة وعشرين كيلوجراماً من وزنك منذ أن وقعت في قبضتنا؟ حتى شعر رأسك صار يتساقط بغزارة. انظر ها هي خصلة شعر وأراه إياها بعد أن انتزعها من رأس ونستون. افتح فمك، آه لم يبق في فمك إلا أحد عشر سناً. هل تذكر كم كان عددها عندما جئت إلينا؟ بل إن البقية الباقية تتساقط هي الأخرى أيضاً.

وأمسك سناً من أسنان ونستون الباقية وانتزعه بإبهامه وسبابته من جذوره، فشعر ونستون بألم ممض في فكه، ثم رمى أوبراين السن فوق أرض الزنزانة.

ومضى أوبراين يقول: «إنك تهترئ وتتآكل. إنك لم تعد إلا كيساً من الأقذار. استدر وانظر إلى المرآة مرة ثانية. هل ترى ذلك الشيء الذي يواجهك؟ إنه آخر إنسان. وإن كنت إنساناً، فهذه هي الإنسانية. والآن ارتد ثيابك».

وبدأ ونستون يرتدي ثيابه بحركات بطينة متخشبة، ولم يكن حتى هذه اللحظة قد انتبه إلى ما وصل إليه من الضعف والهزال. ولم يكن يدور بباله غير فكرة واحدة وهي أنه مكث في هذا المكان أكثر مما كان يتصور. وفجأة وبعد أن ارتدى تلك الأسمال مرة ثانية تملّكه شعور بالأسى على جسمه البالي. وقبل أن يعرف ما الذي كان يفعله وجد نفسه يجلس منهارًا على مقعد بجوار السرير ثم راح يذرف الدمع على حاله. لقد أدرك أنه أصبح قبيحاً وبشعاً فجلس كومة من العظام الملفوفة في خرق بالية وراح يبكي حاله تحت الضوء الباهر، ولم يستطع أن يمنع نفسه من البكاء فوضع أوبراين يده على كتفه بقدر من اللطف وقال له:

- لن تظل على هذه الحال إلى الأبد، يمكنك أن تنجو بنفسك من هذه الحال إذا شئت ذلك. إن كل شيء مرهون بإرادتك.

فقال ونستون بين شهقات بكائه: «أنت فعلت ذلك! إنك أنت الذي أوصلتني إلى هذه الحال».

فرد أوبراين: (كلا يا ونستون، بل أنت الذي أوصلت نفسك إلى هذه الحال حينما نصّبت من نفسك عدواً للحزب. لقد كان كل ذلك نتيجة لجرمك الأول. وما من شيء حدث لك إلا وكنت على بينة من أنه سيحدث».

وتوقف برهة عن الكلام ثم استأنف قائلاً:

- لقد ضربناك يا ونستون وحطمناك. وها أنت قد رأيت ما آل إليه جسمك، إن عقلك قد أصبح في مثل حال جسمك. ولا أظن أنه قد بقي لديك شيء من كبريائك، لقد ركلناك بالأقدام وجلدناك بالسياط وعرّضناك لكل الإهانات حتى كنت تصرخ من شدة الألم وتدحرجت على الأرض مضرجاً بدمائك غارقاً في قيئك. لقد ركعت طالباً الرحمة، وخنت كل شخص، أو شيء، تعرفه. هل تستطيع أن تجد لوناً من الإهانة والإذلال لم تذقه على أيدينا؟

وكفّ ونستون عن النحيب رغم أن الدموع ظلت تنهمر من عينيه وتطلّع إلى أوبراين وهو يقول:

- لكنني لم أخن جوليا.

فنظر إليه أوبراين بإمعان ثم قال: «هذا صحيح، إنك لم تخن جوليا».

وعاد التبجيل الغريب، الذي كان ونستون يكنه لأوبراين، يغمر قلبه من جديد.

وقال محدثاً نفسه: كم هو متوقد الذكاء! إنه لم يخفق مرة واحدة في استكناه ما يقال له. فأي شخص آخر على وجه الأرض في مكانه كان سيجيب عن سؤالي بأنني قد خنت جوليا. فليس هنالك ما عجز أوبراين عن انتزاعه مني تحت وطأة التعذيب. ولا بد أنني أنبأتهم بكل شيء عنها وعن عاداتها وشخصيتها وحياتها الماضية. ولا شك أنني قد اعترفت بتفاصيل كل ما جرى بيننا في لقاءاتنا وكل ما قالته لي وقلته لها، وبالوجبات المهربة من السوق السوداء وبالفاحشة التي اقترفناها معا وبتآمرنا الغامض ضد الحزب. ولكنه قال له إنه لم يخن جوليا لإدراكه أنه لم يزل مقيما على حبها، لقد أدرك أوبراين من كلامه ما كان يعنيه دون شرح أو تفسير.

وسأل ونستون: «أخبرني، متى سيطلقون عليّ الرصاص؟»

فرد أوبراين: «ربما يتعين عليك أن تنتظر طويلاً، فأنت حالة صعبة. لكن لا تقطع حبل الرجاء، فكل شخص لا بد أن نشفيه إن عاجلاً أو آجلاً. ولسوف نطلق عليك الرصاص في نهاية المطاف».

كانت حالة ونستون الصحية تتحسن تحسناً واضحاً، فقد راح جسمه يزداد قوة وامتلاء يوماً بعد يوم، هذا إن صح أن يتحدث المرء عن الأيام.

كان الضوء الباهر وصوت الطنين مستمرين تماماً كما كانا من قبل، غير أن سبل الراحة بالزنزانة أصبحت متوفرة أكثر بقليل عن ذي قبل، فوضعوا له على السرير فراشاً ووسادة، وجاؤوا له بمقعد وسمحوا له بالاستحمام بصورة منتظمة في حوض من الصفيح، بل وأعطوه ماء دافئاً للاغتسال، كما زوّدوه بملابس داخلية وبزة، وعالجوا دوالي ساقيه الملتهبة وقدموا له طقم أسنان صناعية بعد أن خلعوا ما كان قد بقي له من أسنان.

ولا بد أن أسابيع وربما شهوراً قد مرّت وهو على هذه الحال، وقد أصبح بوسعه الآن أن يحصي الأيام والليالي فيما لو شاء ذلك، حيث أصبحت وجبات الطعام تقدم له بصفة منتظمة، وحسب تقديره كان يتناول ثلاث وجبات خلال الأربع والعشرين ساعة، كان يقدم له فيها طعام جيد إلى حد بعيد حيث كانت الوجبة الثالثة دائما تحتوي على لحم، بل وذات مرة أعطوه علبة من السجائر، ولأنه لم يكن لديه ثقاب فقد كان الحارس الصامت دائماً يعطيه ثقاباً، ولدى أول محاولة من جانبه للتدخين انتابته نوبة سعال حادة، لكنه ثابر على ذلك وراح يدخن نصف سيجارة عقب كل وجبة.

وأعطوه لوحاً للكتابة وقلم رصاص لكنه لم يستعملهما أول الأمر، فحتى في فترات استيقاظه كان يشعر وكأنه مخدر، وغالباً ما كان يستلقي بين كل وجبة وأخرى دون أن يتحرك، فكان يستغرق في نوم عميق في بعض الأحيان، بينما يروح في أحيان أخرى في حالة من التأمل والتفكير كان يتعذر عليه خلالها أن يفتح عينيه رغم أنه كان قد أَلِفَ منذ وقت طويل أن ينام والضوء القوي مسلط على وجهه. وكان يتخلل هذه الساعات الطوال أحلام كثيرة كانت سارة في معظمها، فتارة يتراءى له أنه في الريف الذهبي وتارة أخرى يتراءى له أنه جالس وسط أطلال ضخمة تنعكس عليها أشعة الشمس وبصحبته أمه وجوليا وأوبراين ولا يفعلون شيئاً سوى الجلوس تحت أشعة الشمس والحديث عما ترتاح له النفس. ولم تكن أفكاره في معظمها تخرج عن تلك الأحلام التي يراها ويبدو أنه قد فقد كل قدرة على التفكير بعد زوال أسباب الألم عنه. ومع كل ذلك لم يكن يشعر بالملل أو بالرغبة في الحديث إلى أحد، أو حتى في التلهي بأي شيء، فكل ما كان يتطلّع إليه هو أن يبقى وحيداً لا يضربه أو يستجوبه أحد وأن يحصل على كفايته من الطعام وأن يتاح له أن ينظف جسمه.

وعلى نحو تدريجي صار يمضي ساعات أقل في النوم، إلا أنه لم يكن يشعر بأي دافع لمغادرة فراشه، فقد كان كل همه أن يستلقي في هدوء ويستشعر العافية وهي تدب في أوصاله من جديد، فكان يتحسس بأصابعه أنحاء جسمه المختلفة ليتحقق من أن نمو عضلاته واستدارتها واشتداد جلده ليس خداعاً بصرياً، ولم يعد يساوره شك في أن جسمه آخذ في الامتلاء حتى أن فخذيه أصبحا أغلط من ركبتيه. وبعد فترة بدأ، بشيء من النفور أول الأمر، يمارس بعض التمرينات الرياضية على نحو اعتيادي. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح بمقدوره أن يمشي ثلاثة كيلومترات مقدراً إياها بخطواته التي يقطعها داخل الزنزانة، كما أن كتفيه المقوستين راحتا تستقيمان. وحاول أن يؤدي بعض التمرينات الأعقد لكنّ شعوراً بالصدمة والمذلَّة قد تَمَلَّكه حينما وجد نفسه عاجزاً لا يقوى على ذلك، فلم يستطع أن يحمل المقعد بذراعه، كما لم يستطع أن يقف على ساق واحدة دون أن يسقط أرضاً. وكان إذا جلس على عقبيه لم يستطع النهوض ثانية إلا بألم شديد في فخذه وربلة ساقه، وإذا انبطح على بطنه وحاول أن يرفع جسمه عن الأرض يعجز عن رفع جسمه ولو سنتمتراً واحداً، لكنه بعد بضعة أيام تمكن من ذلك أيضاً. وراح يتباهى بجسمه ممنّياً نفسه بأن وجهه قد أخذ يعود إلى شكله الطبيعي، لكنه حينما يحدث أن يتحسس رأسه الأصلع فإنه يتذكر ذلك الوجه المهشم المملوء بالتجاعيد الذي نظر إليه في المرآة أول مرة.

وازداد ذهنه نشاطاً، فقد كان يجلس في السرير متكئاً بظهره إلى الحائط وواضعاً لوح الكتابة على ركبتيه محاولاً الشروع في إعادة تثقيف نفسه.

لقد قرر الاستسلام، هذه مسألة لا ريب فيها. والواقع أنه كان على استعداد للاستسلام حتى قبل فترة من اتخاذه لهذا القرار. فمنذ اللحظة التي أدخل فيها إلى وزارة الحب، بل منذ أن وقف هو وجوليا متسمرين في مكانهما حينما راح ذلك الصوت المنبعث من شاشة الرصد يملي عليهما ما يفعلانه، أدرك سخف وحماقة سعيه لأن ينصّب من نفسه عدواً للحزب. لقد أدرك الآن أنه وعلى مدى سبع سنوات كانت شرطة الفكر تراقبه مثل خنفساء تحت عدسة مكبرة، وأنه لم يكن يأتي بحركة أو ينطق بكلمة إلا سجلوها عليه، ولم تكن ترد على خاطره فكرة إلا سبروا غورها، بل حتى ذرات الغبار الأبيض التي كان يضعها على غلاف مذكراته كانوا يستبدلونها، كما أنهم أسمعوه أشرطة صوتية مسجلة وأروه صوراً فوتوغرافية بعضها كانت تجمع بينه وبين جوليا. لقد خلص إلى أنه لم يعد يستطيع أن يناصب الحزب العداء فضلاً عن أن الحزب على حق دائماً، ولا بد أنه على حق، إذ كيف يعقل أن يكون العقل الجماعي الخالد على خطأ؟ وبأي معايير خارجية يمكن تقييم أحكامه؟ إن لسلامة العقل مقاييس إحصائية، والمسألة برمتها لا تقتضي أكثر من مجرد أن تتعلم التفكير بالطريقة التي يفكرون بها.

وحينما شعر بأن القلم بات غليظاً ومزعجاً لأصابعه راح يسجل الأفكار التي كانت تدور برأسه، فكتب وبأحرف كبيرة غير واضحة:

الحرية هي العبودية

ثم ودونما توقف كتب تحتها:

اثنان واثنان يساويان خمسة

وحينئذ أحس بنوع من الجمود وبدا له أن حالة من الجمود قد تملكت عقله حتى بات عاجزاً عن التركيز لتهيّبه من شيء ما. كان يعلم أنه يعرف ما الذي سيعقب ذلك، لكنه لم يكن يستطيع أن يتذكره الآن، وعندما تذكره لم يكن ذلك إلا بفعل قدرته على تقدير ما هو من المفترض أن يكون، أي أنه لم يأت تلقائياً. فكتب يقول:

الله هو السلطة

لقد تقبّل كل شيء، وخلص إلى أن الماضي قابل للتغيير رغم أنه لم يتغير أبداً. كما اقتنع بأن أوقيانيا كانت في حرب مع إيستاسيا وأنها كانت في حرب معها بصفة دائمة وبأن كل من جونز وآرنسون وراذرفورد قد اقترفوا الجرائم التي أدينوا بها وبأنه لم ير أبداً الصورة التي تبرئ ساحتهم، فهذه الصورة لم توجد البتة وإنما هو الذي اخترعها. وتذكر أشياء متناقضة لكنه اعتبرها ذكريات زائفة ناتجة عن خداع الذات. وأدرك كم أن الأمر سهل، فلم يكد يستسلم حتى وجد أن كل شيء أصبح مؤاتياً ويأتي من تلقاء ذاته. إن الأمر أشبه بمن يسبح ضد تيار يجرفه إلى الوراء مهما كان قوياً، ثم فجأة قرر تغيير الاتجاه والسباحة مع التيار بدلاً من معاكسته. وما من شيء تغير في ذلك إلا موقفه: فما كان مقدراً سلفاً كان سيحدث على أي حال، ولم يكن يعرف إلا بالكاد لماذا تمرّد. فكل شيء كان سهلاً ولسيراً ما عدا...!

إن أي شيء يمكن أن يكون صحيحاً، وليس فيما يدعى بقوانين الطبيعة إلا هراء، وقانون الجاذبية ما هو إلا عبث. ألم يقل أوبراين «لو شئت لجعلت أرضية هذه الغرفة تطفو كفقاعة الصابون». وأدرك ونستون الموضوع على النحو التالي: إذا كان أوبراين يظن أن بمقدوره أن يجعل أرضية الغرفة تطفو، وإذا ظننت أنا في الوقت نفسه أنني أراه يفعل ذلك، فإن الأمر يكون قد حدث بالفعل. وفجأة انبجست الفكرة التالية في عقله انبجاس كتلة من حطام سفينة غارقة تطفو فوق سطح الماء: إن ذلك لا يحدث في واقع الأمر وإنما نحن نتوهمه، إنه هذيان، لكنه سرعان ما طرد هذه الفكرة من مخيلته رغم أن المغالطة جلية وواضحة، إنه يفترض أن ثمة عالماً حقيقياً تقع فيه الحوادث الحقيقية موجود في مكان ما خارج النفس، ولكن كيف يمكن أن يوجد عالم مثل هذا العالم؟ وهل من معرفة لم تردنا عن طريق عقولنا؟ فكل شيء يحدث في العقل وكل ما يحدث في العقل إنما هو ما يحدث حقاً.

لم يجد صعوبة في دحض هذه المغالطة، كما أن خطراً لم يكن يتهدده إن هو لم يذعن لها. لكنه خلص رغم ذلك إلى أنه ما كان ينبغي أن تخطر بباله هذه المغالطة، كما أن العقل ينبغي أن يكون بمثابة بقعة عمياء حينما تخطر له أي من تلك الأفكار الخطرة. وهذه عملية يجب أن تحدث تلقائياً وبوحي من الغريزة، أو كما أسموها في اللغة الجديدة «إيقاف الجريمة».

وشرع يمرن نفسه على إيقاف الجريمة، وأخذ يواجه نفسه بفرضيات مثل: يقول الحزب إن الأرض مستوية، ويقول إن الثلج أثقل من الماء، ثم راح يمرن نفسه على ألا يرى أو يفهم ما يساق من براهين تدحض هذه الفرضيات، ولم يكن ذلك بالأمر اليسير لأنه كان يستلزم قدرات عظيمة على التحكم في العقل والذكاء. ولذلك كانت المسائل الحسابية التي تثيرها مثلاً عبارة مثل «اثنان واثنان يساويان خمسة>» أبعد من أن يتفهمها عقله، وهي تتطلب أيضاً شكلاً من أشكال رياضة العقل وقدرة على استخدام المنطق إلى أقصى الحدود ثم، وفي اللحظة ذاتها، التعامي عن أوضح المغالطات المنطقية، ومن ثم كان الغباء لازماً لزوم الذكاء بل هو أصعب منالاً.

وكان يتساءل طوال تلك الأوقات متى سيطلقون عليه النار. لقد قال أوبراين «إن الأمر كله يتوقف عليك»، ولكنه كان يدرك أنه ليس في استطاعته أن يفعل ما يقرّب هذا الأمر، فقد يحدث ذلك خلال عشر دقائق من الآن أو عشر سنوات، فربما يبقونه في سجن انفرادي لسنوات، وربما يرسلونه إلى معسكر من معسكرات الأشغال الشاقة، أو ربما يطلقون سراحه ردحاً من الزمن كما كان ديدنهم في بعض الأحيان، ومن الجائز تماماً أنهم قبل أن يطلقوا عليه الرصاص يمكن أن يعيدوا تمثيل مسرحية اعتقاله واستجوابه من جديد. أما الشيء الوحيد الذي كان واثقا منه هو أن الموت لن يأتيه إلا بغتة، فقد كان عرفاً غير معلن أن يطلقوا النار على المرء من الخلف، ودائماً في مؤخرة رأسه ومن دون إنذار سابق أثناء سيره من زنزانة إلى أخرى عبر أحد الممرات.

وذات يوم، وإن كانت عبارة «ذات يوم» ليست بالتعبير الصحيح هنا، إذ أغلب الظن أن ذلك حدث في منتصف الليل حينما استغرق في حلم جميل غريب، تراءى له أنه بينما كان يسير عبر الممر مترقباً أن تأتيه الرصاصة في أي لحظة، تناهى إلى علمه أنها ستأتيه في لحظة أخرى. وهنا شعر بارتياح وهدأت شكوكه وزالت مخاوفه وآلامه وسكت عن الجدل. كان جسمه مفعماً بالحيوية والقوة وكان يسير بخفة تحت ضياء الشمس وقد امتلأت خطواته بهجة وفرحاً بذلك، لم يعد يسير عبر ممرات وزارة الحب الضيقة الكالحة وإنما في مرج فسيح تذهبه أشعة الشمس حتى ظن أنه واقع تحت تأثير جرعة من المخدرات. لقد تراءى له أنه في الريف الذهبي يسير فوق الحشائش الخضراء وأشعة الشمس الرقيقة تداعب وجنتيه، كما كان باستطاعته أن يشعر بالحشائش القصيرة وهو يطأها بقدميه. وعند حافة هذا المرج كانت أغصان أشجار الدردار تتمايل بينما ينساب من تحتها جدول من الماء يسبح فيه بعض السمك النهري.

وفجأة جفل مفزوعاً، وأخذ العرق يتصبّب من عموده الفقري، ثم سمع نفسه يصرخ بأعلى صوته: جوليا! جوليا! جوليا! حبيبتي جوليا!

وانتابته في ذلك الوقت حالة هذيان جارفة جعلته يعتقد بوجود جوليا أمامه، وبدا له أنها ليست معه فحسب، وإنما تغلغلت في داخله حتى أصبحت جزءاً من كيانه. وفي تلك اللحظة شعر نحوها بحب غامر لم يشعر به حينما كانا طليقين معاً، كما أحس بأنها لا تزال على قيد الحياة وأنها في حاجة إلى أن يمدّ لها يد العون.

اضطجع في فراشه وهو يحاول أن يهدى من روعه، وتساءل ما الذي دهاه حتى يفعل ما فعل؟ وكم سنة أضاف إلى سنوات عبوديته بسبب لحظة الضعف هذه؟

وتصور أنه سوف يسمع وقع أقدام الحراس بعد لحظات، إذ لا يمكن أن يتركوا مثل هذا العمل يمر دون قصاص، وسوف يدركون الآن، إن لم يكونوا قد أدركوا سلفاً، أنه قد خرق الاتفاق الذي أبرمه معهم. نعم لقد انصاعت إرادته للحزب لكن قلبه لا يزال يضمر له الكراهية. لقد كان فيما مضى يخفي عقلاً ضالاً وراء مظهر من مظاهر الامتثال للحزب، أما الآن فقد ارتد على عقبيه: لقد استسلم بعقله، وكان يأمل أن يظل قلبه المكنون لا يمسسه شيء. كان يدرك أنه على خطأ، ولكنه فضّل أن يتمسك بخطئه، فلا قائدة ترجى من التراجع، ولا بد أنهم سينتبهون إلى ذلك وسينتبه إليه أوبراين بلا ريب، فهو قد اعترف بكل شيء في تلك الصرخة الرعناء حينما راح يصرخ منادياً على جوليا.

وسيتوجب عليه أن يبدأ الطريق الذي قطعه من جديد، وربما استغرق ذلك منه سنوات. وراح ونستون يتحسس وجهه بيده محاولاً أن يألف الشكل الجديد الذي أخذه، كانت هنالك تجاعيد عميقة في وجنتيه، كما بدت عظامه ناتئة، فيما كان الأنف مفلطحاً، فضلاً عن طقم الأسنان بعد آخر مرة نظر إلى نفسه في المرآة. وأدرك أنه لم يعد من السهولة بمكان أن يحتفظ المرء بغموض تعبيرات وجهه فيما لا يعرف شكل وجهه. ومع ذلك فإن مجرد السيطرة على تعبيرات الوجه لم تعد تكفي لإخفاء أي سر، فقد استبان له وللمرّة الأولى أنه إذا ما رام المرء أن يخفي سراً فعليه أن يخفيه حتى عن نفسه التي بين جنبيه وألا يدعه يطفو أبداً على سطح الوعي في أي شكل من الأشكال أو تحت أي مسمى من المسميات إلا في اللحظة التي يحتاج إليه فيها. وأدرك ونستون أنه من الآن فصاعداً بات يتوجب عليه ألا يكون تفكيره تفكيراً قويماً فحسب، وإنما أيضاً مشاعره وأحلامه. كما عليه في جميع الأوقات أن يحتفظ بكراهيته في حرز حريز في أعماق نفسه مثل جسم مادي هو جزء من كيانه ولكنه مع ذلك لا يتصل ببقية أعضاء جسمه.

لا شك أنهم يومَا ما سيطلقون عليه الرصاص، لكنه لم يكن يستطيع أن يحدد متى سيحدث ذلك، وإن كان من الجائز أن يتمكن من التكهن بذلك قبيل وقوعه بثوان. إن الرصاصة تأتي دائماً من الخلف أثناء اجتياز السجين أحد ممرات وزارة الحب. إن معرفته المسبقة بوقت إطلاق النار عليه بعشر ثوان كافية، فهذه الثواني العشر كفيلة بأن تقلب عالمه الداخلي رأساً على عقب. إذ فجأة، وبدون سابق إنذار وبدون أن يتوقف عن السير وبدون أن يطرأ تغيير على أي خلجة من خلجات وجهه، يسقط القناع الذي كان يلبسه وتمتلئ نفسه بكراهية أشبه بلهيب مستعر. وفي هذه اللحظة نفسها تقريباً تنطلق الرصاصة إما قبل الأوان أو بعد فواته. سيمزقون عقله إرباً إرباً قبل أن يتمكنوا من إصلاحه، وبذلك يكون التفكير الضال قد أفلت من دون عقاب أو توبة وأصبح بعيداً عن متناولهم. وهم بذلك يكونون قد تسببوا في إحداث ثغرة في نموذجهم تنفي عنهم ما يدّعون من كمال. لقد رأى أن الحرية هي أن يموت وهو يكرههم.

وأغمض ونستون عينيه، فقد كان الأمر في صعوبته يتعدى مجرد قبول نظام فكري، إنه مسألة إذلال النفس والحط من شأنها. إن عليه أن يغمر نفسه في أقذر الأقذار. وتساءل في نفسه: ترى أي شيء أكثر تقزيزاً للنفس على الإطلاق؟ وهنا خطر على باله الأخ الكبير بوجهه الهائل الضخامة (الذي كان يحسبه لرؤيته على اللوحات الإعلانية يبلغ متراً في عرضه) وشاربيه الأسودين الكثين وعينيه اللتين تلاحقان المرء أينما ذهب. ترى ما هو نوع المشاعر التي كان يكنّها للأخ الكبير؟

وفي هذه اللحظة سمع وقع أقدام ثقيلة في الممر، وفُتح الباب الحديدي محدثاً صوتاً عالياً ليدلف منه أوبراين إلى الزنزانة يتبعه الضابط الشاب ذو الوجه الكالح والحراس ذوو الزي الأسود.

وقال أوبراين: «انهض يا ونستون وتعال إلى هنا!»

ووقف ونستون قبالته فأمسك أوبراين كتفي ونستون بيديه القويتين ونظر إليه متأملاً.

وقال له: «لقد راودتك أفكار تدعوك لخداعي، لقد كان ذلك رعونة منك. قف على قدميك وشدّ قامتك وانظر إلى عيني».

وتوقف عن الكلام ثم مضى يقول ولكن بلهجة أرق:

- إن حالتك آخذة في التحسن، فمن الناحية الفكرية لم يعد يعلق بك غير أخطاء طفيفة، أما من الناحية العاطفية فقد أخفقت في إحراز تقدم يذكر. أخبرني يا ونستون، ولكن دون كذب أو خداع. ولعلك تدرك الآن أن باستطاعتي أن أعرف متى تكذب في حديثك ومتى تصدق، أخبرني ما هي مشاعرك الحقيقية إزاء الأخ الكبير؟

فأجاب ونستون: إنني أكرهه.

فقال أوبراين: «تكرهه؟ حسناً. لقد آن الأوان لأن تخطو الخطوة الأخيرة. يجب أن تحب الأخ الكبير فلا يكفي أن تطيعه وأنت لا تحبه».

دفع ونستون دفعة خفيفة نحو الحراس وقال:

- خذوه إلى الغرفة 101.



(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent