خبر
أخبار ملهلبة

"للحب آلهةٌ كثيرة" | الفصل الخامس (1)


لوحة فنية بالألوان لفتاة جميلة حولها الورود والفراشات

"للحب آلهةٌ كثيرة" | الفصل الخامس (1)

 

 

لم تستطِع "عبير" أن تتخلّص من عادتها التي لازمتها عند كل زيارةٍ لعيادة الدكتور "سعيد السباعي"؛ فقد كانت تلِج المكان بخطواتٍ متثاقلةٍ بطيئة في حين يدق قلبها بنبضاتٍ متعجّلةٍ سريعة، فها هي تتابع حالتها المرضيّة للشهر العاشر على التوالي وهي في قمّة الذُعر وذروة القلق فقد كانت ترتعب خوْفاً من أن يلفظ جسدها الكلية الجديدة التي أعادت لها أملها في الحياة أو يصيبها ما أصاب كليتيْها من قبل فتعجز عن أداء وظيفتها وترتد مرّةً أخرى للكابوس الذي عاشته أيّام المرض وغسيل الكلى، واستمرّت طيلة الفترة السابقة في تناول أدويتها وعمل الأشعات والتحاليل بانتظام وفي كل مرّة تنتظر رأي الدكتور "سعيد" في تلك الفحوص وكأنها تنتظر حكم القاضي الذي بيده إعدامها أو براءتها، وفي كل مرّةٍ كان الطبيب يطمئنها ويهدئ من روْعها فكانت ترتاح قليلاً وكأن القاضي يؤجّل النطق بإعدامها - التي كانت توقن أنه آتٍ لا محالة - إلى الجلسة القادمة بعد شهر فإذا مرّت تلك الجلسة على خير زاد يقينها أن عمرها طال شهراً آخر فتعيشه على أعصابها منتظرةً أمر الله النافذ.

بالذات هذه المرّة كانت "عبير" تتوجّس خيفة ويشعر قلبها أن شيئاً ما جلل سوف يحدث ولذلك كانت تحتضن نتائج الأشعات والتحاليل التي أجرتها بالأمس لتُريها لطبيبها وهي ترتعش وتتصبّب عرقاً، وجاء دوْرها فنادت عليها الممرّضة وأدخلتها في حضرة الطبيب الذي ابتسم لها بطريقةٍ روتينيّة وحيّاها، وبعد أن كشف عليها واطمأن على أن ضغط دمها في المعدّل المطلوب طلب منها الجلوس وظلَّ يتمعّن ببطء في الأوراق التي أتت بها "عبير" وهو قاطبٌ لجبينه وعاقدٌ لما بين حاجبيْه غير عابئٍ بعيون مريضته المتعلّقة بفمه منتظرةً منطوق الحُكم وقد فلتت أعصابها، وأخيراً قال في برودٍ اعتاده الأطبّاء :

- لا .. عال عال .. كل شيء تمام .. الحمد لله احنا ماشيين زي الفل.

- صحيح يا دكتور .. يعني الكلية الجديدة ماشية كويّس ولّا ح تبوظ راخره؟

- بعد الشر .. الكلية الجديدة بتؤدّي وظيفتها على ما يرام .. وانا ح اكتب ده ف كارتة المتابعة .. كل ما هناك إني ح ازوّد لك جرعة الكالسيوم .. بدل كبسولتين ح تبقى تلات كبسولات يوميّاً .. يعني كبسولة بعد الأكل .. وح اكتب لِك كمان على نوع فيتامين .. إنما باقي العلاج زي ما هوَّ .. هيَّ الممرّضة ما جابت لكيش ملفّك ولّا إيه؟

- مش الملف الاخضر ايّاه؟ .. أنا كنت شايفاه ف إيدها.

- أومّال راح فين؟

ورنَّ الطبيب الجرس ليستدعي الممرّضة وسألها عن الملف فأجابته :

- أنا كنت حاطّاه ع المكتب.

- فين؟ .. تلاقيكي ما جـ... .. أهو أهو .. إبن الذينَ مستخبّي تحت الورق والصور بتاعة التحاليل والأشعة .. خلاص .. روحي انتي.

- بس بعد إذنك الدكتور المساعد بتاع حضرتك عايزك ف الأوضة التانية ضروري .. الظاهر إن قسطرة البول بتاعة الحاج "ابراهيم" معصلجة معاه شويّة .. بقى له نص ساعة مش عارف يركّبها.

- طب بعد إذنك يا مدام "عبير" .. خمسة وارجع لِك.

- خُد راحتك يا دكتور.

وتركها الطبيب وحدها في الغرفة وانصرف مع ممرّضته، وتسلّط الفضول على "عبير" وتملّك منها التطفّل لتطّلع على ملفها عسى أن تعرف منه ما يخبئه عنها طبيبها الذي افترضت أنه لا يصارحها بطبيعة حالتها تماماً حتى لا تسوء حالتها النفسيّة، واتفق عقلها المتشكّك مع قلبها المتوجّس خصوصاً هذه المرة على أن تقرأ ما يحويه كارت المتابعة من ملاحظاتٍ وتنويهات، وخُيّل إليها أن معرفتها باللغة الانجليزيّة قد يتيح لها فك طلاسم الأطباء واصطلاحاتهم المعقّدة، وأسرعت في التقاط الملف الأخضر واستخرجت منه كارت المتابعة المصنوع من الورق المقوّى الأصفر وقفزت عيْناها مباشرةً إلى خانة الريماركس (الملاحظات) فلم تستطع أن تفك شفرة الكلمات التي كتبها الطبيب تعليقاً على حالتها ناهيك عن خطّه الرديء الذي يشبه الهيروغليفيّة ولكنها لم تستسلم بسهولة فأخذت تقلّب في باقي الأوراق المرفقة علّها تصل لشيءٍ يشفي غليلها ويفصح لها عمّا يخفى عليها، وفجأة وقعت بين يديها ورقة التبرّع بالكلية المزروعة لها والمسجّلة بالشهر العقاري فاستبد بها التساؤل عن كُنه المتبرّع الذي طالما أرادت معرفته ولم تتمكّن من ذلك؛ فلم تقدر على كبح جماح نفسها وقرأت ما جاء بهذه الورقة بصوتٍ خفيض :

- عقد تبرّع .. إنه في يوم كذا الموافق كذا .. حضر أمامنا نحن فُلان الفُلاني موثِّق العقود الرسميّة بمكتب التوثيق النموذجي الكائن في كذا .. كلٌ من : السيّد/ كريم حسين محمود الشافعي .. المصري الجنسيـ...... .. "كريم"! .. معقولة! .. حبيبي.

وتوقّفت "عبير" عن قراءة المزيد بعد أن عقدت المفاجأة لسانها وألجمتها الصدمة وتجمّعت غيوم الدمع في مُقلتيْها واحتبس بكاؤها في حين تحرّر شعورها من جديد فطفت على السطح أحاسيس الحب والعشق التي طالما كبتتها داخل نفسها، وسارعت فوضعت الملف مكانه بعد أن انتزعت منه عقد التبرّع ووضعته داخل حقيبتها، وما هي إلّا دقائق حتى عاد الطبيب ووجدها تنتظره على مقعدها فأكمل عمله معها بأن دوّن بعض الجمل في بطاقة المتابعة وكتب لها الفيتامين الجديد في روشتّة ثمّ ضمّ الأشعات والتحاليل الجديدة لباقي أوراق الملف دون أن يلحظ ما نقص منه ثم أغلق الملف ووضعه جانباً وصرف مريضته بعد أن حيّاها وتمنّى لها وافر الصحّة.

وأمضت "عبير" تلك الليلة وهي تفكّر فيما اكتشفته وتحاول تأويله وترجمته؛ فما فعله "كريم" لا يمكن أن يندرج تحت بند الشفقة أو العطف على مجرّد مريضةٍ عنده؛ فكم من مريضةٍ يتابعها وتحتاج حالتها لزرع كليةٍ جديدة ولكنه لم يعِرها اهتماماً؛ فلماذا يبالغ في رأفته نحوها هي فقط ويمنحها جزءاً من جسده، وبالتأكيد لا يمكن أن يُحسب هذا الفعل أيضاً على واجب الصداقة الضحلة بينهما قَط؛ فمن الصعب أن يضحّي أي صديق مثل هذه التضحية في سبيل صديقه هذه الأيّام؛ ومن المستحيل أن تجد مَن يستحق التضحية من أجله أساساً؛ فما وهبه إيّاها ليس مالاً أو هديّةً يمكن ردّها بين الأصدقاء، وبالطبع فالعلاقة بينها وبين "كريم" ليست علاقة أخوّة أو قرابة ولو حتى من بعيد ليؤثرها على نفسه ويعرّض نفسه لمخاطر استغنائه عن هذا العضو الهام من أعضاء جسمه، إذن فهو الحب؛ الحب هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يدفع الإنسان كي يكون معطاءً جوّاداً لحبيبه؛ الحب هو ما يذيب الحبيبيْن في جسدٍ واحد فلا يفرّق أيّهما بين ما له وما لحبيبه؛ الحب هو ما حثّه على أن يعيد إليها الحياة دون ألمٍ أو معاناة، وقبل أن ترتكن إلى هذا التفسير وترتاح نفسها لهذا التبرير لم يرحمها شيطان أفكارها عندما وَسوَس لها بأن الدافع وراء منحة "كريم" ليس الحب بل الرحمة التي غلبت على قلب حبيبها؛ فالرحمة أعمق من الحب؛ فهي أصدق وأصفى؛ وهي أنقى وأطهر؛ تشمل التضحية والإيثار؛ تجمع إنكار الذات والكرم؛ تستوعب العطف والشفقة؛ تحوي التسامح والعفو، وبالغ شيطانها في غيّه وأمعن في ضلاله بأن أوحى إليها بأننا دائماً ما نَعجَب مِمَن يتسم بالرحمة ونسيء فهمها باعتبارها حبّاً لأننا جميعاً قادرون على الحب بحُكم ما جُبِّلنا عليه مُذ خُلِقنا ولكن القليل منا هم القادرون على الرحمة، وقبل أن تتصارع "عبير" مع هاجسها اللعين ويتحول خلافهما إلى جدالٍ عقيم وهذيانٍ أجوف حول تأويل تصرّف "كريم" وهل هو حبٌ يستحق التضحية أم تضحيةٌ تستحق الحب؟ كانت قد قرّرت أن تقطع الشك باليقين وتُنهي ذاك التردّد الذي أضناها بأن تذهب مباشرةً لتقابل حبيبها وتسأله شخصيّاً عمّا جعله يبذل لها هذا العطاء السخي؛ فإن أجاب بأنه دافع الرحمة فقد وأد حبّها من جديد ودفنه في قلبها مرّةً أخرى حيث سكن من قبل؛ وإن ردَّ بأنه الحب فعلاً فعليه أن يفسّر لها لماذا لم يعترف لها بذلك ولماذا لم يسايرها فيما طلبت منه من قبل ولماذا أصرَّ على أن يعذّبها ويعذّب نفسه طوال هذه المدّة؟

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent