خبر
أخبار ملهلبة

الخيميائي | باولو كويلو | الجزء الأول


الراعي سنتياجو عندما ذهب للكنيسة المهجورة مع أغنامه ضمن أحداث رواية الخيميائي للكاتب البرازيلي باولو كويلو

الجزء الأوّل

 

 

كان اسمه "سانتياجو"، وصل مع غياب الشمس يسوق قطيع أغنامه إلى كنيسةٍ قديمةٍ مهجورة، كان سقفها قد انهار منذ زمنٍ طويل، ونمت شجرة جـمّيزٍ ضخمةٍ في مكان الهيْكل، قرَّر أن يقضي الليْلة في هذا المكان، فأدخل كل غنمه من الباب المكسور ونصب عِدّة ألواحٍ من الخشب حتى يمنعها من الهرب أثناء الليْل، لم تكن هناك ذئابٌ في المنطقة، ولكن شاةً فرَّت في إحدى المرّات وكان عليه أن يقضي اليوْم التالي بأكمله بحثاً عن تلك الشاة الضالةّ.

فَرَدَ شاله على الأرض ونام فوقه مستخدماً الكتاب الذي فرغ من قراءته كوسادةٍ لرأسه، وفكَّر قبل أن يستغرق في النوْم في أن عليه الآن أن يقرأ كُتُباً أكبر، سيقضي بذلك مزيداً من الوقت في قراءتها، وستصبح أيضاً وسائد أكثر راحةٍ أثناء الليْل.

كانت العتمة لا تزال سائدةً عندما استيْقظ، تطلَّع إلى أعلى ورأى من خلال السقف - الذي كان نصفه مُحطَّماً - نجوماً تتلألأ، وقال لنفسه:

-       كنتُ أود أن أنام فترةً أطول.

كان قد عاوده نفس الحُلم الذي رآه في الأسبوع السابق ومرّةً أخرى استيقظ قبل نهاية الحلم.

نهض وشرب جرعةً من النبيذ، وبعد ذلك هَشَّ بعصاه ليوقِظ أغنامه التي كانت تغُط في النوْم، كان قد لاحظ أن أغلبيّة الشياه تفيق من نوْمها فوْر أن يستيْقظ هو، كما لو أن قوةً خفيّةً كانت تربط حياته بحياة أغنامه التي ظلَّت منذ عاميْن تجوب معه المناطق سعياً وراء الماء والكلأ، قال لنفسه بصوْتٍ خافتٍ:

-       لقد ألِفتني تلك الشياه إلى درجة أنها أصبحت تعرف مواعيدي.

ثم فكَّر بعد لحظةٍ من التأمُّل أن الأمر يمكن أن يكون أيضاً عكس ذلك، وأنه ربَّما يكون هو الذي ألِف مواعيد الأغنام، ومع ذلك فقد كانت هناك بعض الشياه تتأخَّر قليلاً في الصحو، أيْقظها بعصاه واحدةً بعد الأخرى مُنادياً كُلاً باسـمـهـا، لم يساوره الشك أبداً في أن الشياه يُمكِنها أن تفهم ما يقول لها، ولهذا فقد كان يقرأ لها أحياناً بعض المقاطع التي استوْقفته في الكُتُب، أو كان يُحدِّثها عن وَحشة حياة راعي الغنم في الريف أو عن مباهجها، أو يُعلِّق على أحـدث مـا رأى من الطُرَف في المُدُن التي اعتاد أن يمر بها.

ولكن منذ يوميْن لم يعُد عنده سـوى مـوضـوعٌ واحـدٌ للـحـديث، هـو تلك الفتاة ساكنة المدينة التي سيصلها بعد أربعة أيّامٍ على الأكثر، كانت ابنة أحد التُجّار، ولم يكن قد ذهب إلى تلك المدينة غير مرّةٍ واحدةٍ في العام الفائت.

كان التاجر يملك محلاً للمنسوجات، ويحب أن يرى جز صوف الشياه بعيْنيْه ليتجنَّب أي غِشٍ في الصفقة، وقد دلَّه واحدٌ من أصدقائه على المحل فساق الراعي إليه قطيعه.

*****

قال "سنتياجو" للتاجر:

-       أريد أن أبيع بعضاً من الصوف.

كان المحل مُـزدَحِـمـاً فطلب التـاجـر من الراعي أن ينتظر إلى أن يحل المساء، وعليه فقد خرج الراعي وجلس على الرصيف أمام المحل ثم سحب كتاباً من الجراب الذي يحمله، حينها سمع صوْتاً أنثويّاً ناعماً لفتاةٍ كانت تجلس إلى جواره تقول:

-       لم أكُن أعرف أن الرُعاة يستطيعون قراءة الكُتُب.

كانت فتاةً تتجسَّد فيها السمات الأندلسيّة: شعرها طويل وعيناها تُذكِّران - على نحوٍ غامضٍ - بالفاتحين المغاربة القَدامي، فرد الراعي الشاب:

-       ولكن الشياه تعلم أشياءً أكثر مما تضُمّه الكُتُب.

وظلّا يتبادلان الحديث أكثر من ساعتيْن إذ قالت له إنها ابنة التاجر وتحدَّثت عن حياة القرية التي يشـبـه كـل يـوْمٍ فيها أمسه، وحكى لها الراعي عن ريف "الأندلس" وعن أحـدث مـا رأى من الطرائف في المُدُن التي مَرَّ بها، وكان سعيداً لأنه لم يعـُد مُـرغَماً على أن يُحدِّث أغنامـه طول الوقت، ثم سألته الفتاة:

-       كيف تعلَّمتَ القراءة؟

-       مثل الجميع .. في المدرسة.

-       ولكن مادمتَ تعرف القراءة فلِـمَ أنت راعي غنمٍ لا أكثر؟

تهرَّب الشاب من الإجابة عن هذا السؤال، كان على أتم الثقة بأن الفتاة لن تفهم، استمر يحكى قصصاً عن رحلاته، وظلت العيْنان المغربيَّتان الصغيرتان تتَّسعان إلى أبعد مدى أو تنغلقان تحت تأثير الانبهار والدهشة.

ومع مرور الوقت كان الشاب يدعو في سِرّه ألّا ينتهي هذا اليوْم قط، وأن يظل والد الفتاة مشغولاً عنهما لفترةٍ طويلة، وأن يطلب منه الانتظار ثلاثة أيّام، فقد أدرك أنه يشعر بشيءٍ لم يمر به أبداً من قبل ألا وهو الرغبة في أن يمكث في تلك المدينة دائماً مع هذه الفتاة الجميلة ذات الشعر الأسود، ولكن التـاجـر وصل أخيراً، وطلب منه أن يجز صـوف أربع شياه، ثم دفع ما عليه ودعاه أن يعود مرّةً أُخرى في السنة التالية.

*****

وبعد مرور عامٍ طويل لم تتبقَّ سوى أربعة أيّامٍ للوصول إلى ذلك المكان نفسه، كان انفعاله شديداً ولكن الشك اجتاحه في الوقت نفسه، فربما تكون الفتاة قد نسيته، كثيرٌ من الرُعاة يمرّون من هنا لبيْع الصوف.

قال مُخاطِباً شياهه:

-       لا يهم .. أنا أيضاً أعرف فتياتٍ أخريات في مُدُنٍ أُخرى.

ولكنه كان يعرف في قرارة نفسه أنه يستحيل أن الأمر أبعد من أن يكون عابراً، وأن الرُعاة - شأن البحّارة أو السماسرة الجائلين عندما يزورون مدينة - يجدون دائماً مَن يُشعِرهم بنعمة الاستقرار ويُنسيهم مُتعة التجوال في العالم بكل حريّة.

*****

عندما بدأت أولى تباشير الفجر شرع الراعي يسـوق أغنامـه صـوْب مشرق الشمس، وقال لنفسه:

-       إن الخراف لا تحتاج إلى اتخاذ القرارات .. وربما كان هذا هو السبب الذي يجعلها  تلازمني .. الحاجة الوحيدة التي تشعر بها الأغنام هي حـاجـتـهـا إلى الماء والغذاء .. وطالما كان راعيهـا يعـرف أفضل المراعي في "الأندلس" فستظل وفيّةً له على الدوام حتى لو تشابهت أيّامها وتباطأت الساعات الطويلة وهي تتمطّى في تثاقلٍ منذ شروق الشمس إلى مغربها .. وحتى لو لم تقرأ أي کتابٍ خلال عمرها القصير وجهلت لغة الناس الذين يحكون ما يجري في القُرى .. هي دوْماً قانعةٌ بالماء والغذاء اللذيْن هما في الواقع كافييْن تماماً .. وفي مُقابلهما تُقدِّم - بكل بسخاء - أصوافها ورُفقتها  ومن وقتٍ لآخر لحومها .. فلو أنني تحوَّلتُ - في أي لحظة - إلى وحشٍ كاسِر وشرعت في قتلها - واحدةً بعد الأخرى - فلن تبدأ في الفهم إلّا عندما يوشك القطيع كله على الفناء .. وذلك لأنها تثق فيَّ ولأنها كفَّت عن الاعتماد على غرائزها .. وما هذا كله إلا لأنني أنا الذي أقودها إلى المرعى.

وبدأ الشاب يندهش من الأفكار التي تنتابه ويكتشف أنها غريبة، ربما كان السبب هو أن الكنيسة التي تنمو في داخلها شجرة الجمِّيز مسكونة بالأشباح  ممّا يجعله يرى ذلك الحلم نفسه مرّةً بعد أخرى ويجعله كذلك يشعر الآن بنوْعٍ من الغضب على غنمه الوفيّة التي دائماً ما ربطته بها الصداقة؟، شرب قليلاً من النبيذ الذي تبقّى له من عشاء البارحة، وتدثَّر بمعطفه حوْل جسده فقد كان يعرف أنه - في خلال بضع ساعاتٍ عندما تحمى الشمس - ستشتد حرارة الجوْ بحيث لن يسعه أن يقود قطيعه عبر الخلاء، ففي مثل ذلك الوقت في الصيْف تنام "إسبانيا" بأسرها وتسـتـمـر شِدَّة الحـر حتى حلول الليْل ثم تحل البرودة بعد ذلك، وعليـه - طوال ذلك الوقت - أن يحمل معه معطفه تحسُّباً للظروف، ومع ذلك فإنه قبل أن يتذمَّر من عِبء حمل المعطف كان يقول في سِرّه:

-       يجب أن أكون جاهزاً دائماً لمواجـهـة تـقلُّبـات الجـوْ.

حينها فقط يتقبل بامتنان عِبء ذلك المعطف الثقيل ويختفي شعوره ببرودة الفجر ويوقِن بأن هناك - إذن - مُبَرِّراً لوجود ذاك المعطف الذي يُشبِه صاحبه نفسه، فبعد عاميْن قضاهما وهو يجوب سـهـول "الأندلس" أصبح يعرف عن ظهر قلبٍ كل مُدُن المنطقة وذلك هو ما أعطى لحياته المُبَرِّر والمعنى ألا وهو الترحال.

كان ينتـوي أن يُفسِّر للفتاة - في هذه المرّة - لماذا يستطيع راعٍ بسيطٌ أن يقرأ، لقد ظل حتى سِن السادسة عشرة يتردَّد على المدرسة الدينيّة، فقد كان أبواه يُريدان أن يجـعـلا منـه قَـسّـاً لأن ذلك أقصى مـا تتبـاهی بـه أي أسـرةٍ ريفيّةٍ مُتواضِعةٍ ظلَّت تكدح لمجرَّد الحصول على الغذاء والماء مثل أغنامه، وفي المدرسة دَرَسَ اللاتينيّة والأسبانيّة واللاهوت، ولكنه كان يحلُم - منذ صباه الباكر - بأن يعرف العالم، كان ذلك في نظره شيئاً أهم بكثيرٍ من معرفة الرب أو خطايا البشر، وذات مساءٍ حين ذهب ليزور أسرته تسلَّح بالشجاعة وقال لوالده إنه لا يريد أن يصبح کاهناً بل يريد الترحال، فدار بينه وبين أبيه هذا الحوار:

-       یا ولدي .. لقد أتى رجالٌ من كل أنحاء العالم ومرّوا بقريتنا .. وعرفتُ أنهم جاءوا هُنا ليبحثوا عن أشياءٍ جديدة .. ولكنهم ظلّوا دائماً كما كانوا .. يذهبون حتى التل ليزوروا القصر فيكتشفوا أن الماضي أفضل من الحاضر .. بعض هؤلاء الرجال شُقرٌ وبعضهم سُمر .. ولكنهم - في النهاية - يُشبِهون الناس في قريتنا.

-       أما أنا يا أبي فلم أرَ القصور في البلاد التي يأتي منها هؤلاء الرجال.

-       يا بُنيَّ .. إن هؤلاء الرجال - عندما يرون حقولنا ونساءنا - يقولون إنهم يتمنوْن البقاء هُنا إلى الأبد.

-       أُريد أن أرى نساءهـم والبلاد التي جاءوا منها لأنهم لا يبقون بيننا أبداً.

-       ولكن هؤلاء الرجال جيوبهم عامرةٌ بالمال .. أما عندنا فالرُعاة وحـدهـم هم الذين يسعهم السياحة في البلاد.

-       إذن فلأصبح راعياً.

لم يُضِف الأب شيئاً إلى ما قاله الابن "سنتياجو"، وفي اليوم التالي أعطى ابنه صندوقاً يضم ثلاث عُملاتٍ ذهبيّةٍ أسبانيّةٍ قديمة، وقال لولده:

-       هي عملاتٌ وجـدتُها ذات يوْمٍ في أحـد الحـقـول .. كنتُ أُخطِّط لأن أتبرَّع بها للكنيسة في يوم تنصيبك كاهناً .. اشترِ بها قطيعاً واضرب به في الأرض إلى أن يأتي اليوْم الذي تعرف فيه أن قصرنا هو أفخر القُصور وأن نساءنا هن أجمل النساء.

ثم بارك الرجل ولده، وقرأ الصبي في عيْني أبيه أيضاً تلك الرغبة في أن يضرب في الأرض ويسافر عبر البلاد، وأدرك كذلك أن تلك الرغبة كانت تعيش دائماً داخل أبيه على الرغم من عشرات السنين التي حاول الأب خلالها أن يقمع رغبته ويرتضي بالبقاء في المكان نفسه حيث ينام ويشرب ويأكل.

*****

اصطبغ الأفق بالـحُمرة ثم طلعت الشمس، تذكَّر الشاب حواره مع أبيه وشعر بالسعادة، فقد عرف حتى الآن كثيراً من القصور وكثيراً من النساء وإن لم تبـارِ إحداهُن تلك الفتاة التي ينتظر لقاءها بعد يوميْن، وهو يمتلك الآن معطفاً وكتاباً يمكن أن يستبدله بآخر وقطيعاً من الخِراف، ولكن أهم شيءٍ هو أنه كان يُحقِّق في كل يوْمٍ حُلم حياته الكبير: الترحال، وتذكَّر أنه يستطيع - عندما يمل ريف "الأندلس" - أن يبيع غنمه وأن يُصبِح بحّاراً، وعندما يشبع من البحر سيكون قد عرف كثيراً من المُدُن وكثيراً من النساء وكثيراً من لحظات السعادة. تساءل وهو يرقُب مطلع الشمس:

-       كيف يُمكِن للإنسان أن يذهب إلى مدرسةٍ دينيّةٍ لكي يبحث عن الله؟

كان يحاول أن يبحث عن وِجهةٍ جديدةٍ كلّما تسنّى له ذلك، ولم يكن قد ذهب قط إلى هذه الكنيسة مع أنه اجتاز تلك البُقعة مِراراً، حقّاً .. إن العالم شاسعٌ لا نهاية لسعته، ولو أنه ترك غنمه تقوده فربما اكتشف المزيد من الأشياء العجيبة في وقتٍ قصير، ولكن المشكلة هي أن الأغنام لن تُدرِك أنها تمر بدروبٍ جديدةٍ كل يوْم، فهى لا تُلاحِظ أن المراعي قد تتغيَّر وأن الفصول قد تختلف لأنه لا شيء يشغلها غير الغذاء والماء،

ثم فكَّر الراعي في سِرّه:

-       ربما يكون هذا هو حال كل المخلوقات .. حتى أنا الذي لم تعُد أية امرأةٍ أُخرى تشغل فكري منذ أن قابلت ابنة التاجر.

تطلَّع إلى السماء وقدَّر أنه بناءً على حسـاباته فسيكون في "تاريفا" (هي نفسها جزيرة "طريف" الأندلسيّة التي فتحها القائد "طريف بن مالك" عام 710 ميلاديّة والتي أصبحت الآن مُقاطعة من مُقاطعات مدينة "كاديز" الساحليّة جنوب "إسبانيا") قبل مـوْعد الغداء، وهناك سيمكنه أن يستبدل بـكـتابه كتاباً آخر أكبر حـجـمـاً وأن يُعبّىء زجاجة نبيذه ويحلق ذَقنـه ويقص شَعره، يجب أن يكون مهيّئاً تماماً لمقابلة الفتاة، ولم يشأ أن يتخيَّل - مُجرَّد التخيُّل - فكرة أن راعيـاً آخـر يملك المزيد من الغنم ربَّما يكون قد سبقه إلى الوصـول لكي يطلب يدها، وتذكَّر - وهـو يرفع عيْنيـْه مرّةً أُخرى إلى السماء ويحث خُطاه - مقولة "إن بهجة الحياة ليست شيئا آخر غير احتمال تحقيق الحُلم"، وتذكِّر لحظتها أيضاً أن هناك عجوزاً في "تاريفا" تعرف تفسير الأحلام، وأنه قد واتاه في تلك الليْلة الحُلم نفسه الذي رآه كثيراً من قبل.

*****

قادت المرأة العجوز ضيْفها الشاب إلى غرفةٍ مُستقِلّةٍ في داخل البيْت يفصلها عن الصالة ستارٌ من البلاستيك المتعدِّد الألوان، وكانت في الحُجرة منضدةٌ وصورةٌ للقلب المُقدَّس ومقعدان، جلست العجوز وطلبت إليه أن يجلس قُبالتها، ثم أخذت يديْ الشاب بيْن يديْها وبدأت تصلّي بصوْتٍ خافِت، كانت صلاتها تُشبِه صلاة الغجر الذين قابل منهم الكثيرين في تجواله، هم أيضاً قوْمٌ رحّالةٌ لكنهم لا يشتغلون بالرعي، وكانت الشائعة الرائجة أن الغجري شخصٌ يقضي حياته في خداع البشر، وقيل أيضاً إن بينهم وبين الشيطان عهداً وإنهم يختطفون الأطفال ليتَّخذوهم عبيداً لهم داخل مخيّماتهم التي يحيطها الغموض، وعندما كان الراعي الشاب طفلاً عاش رُعباً دائماً من فكرة أن يختطفه الغجر، وقد عاوده ذلك الخوْف القديم بينما كانت العجوز تُمسِك بيديْه، فقال مُحاولاً أن يُطمئِن نفسه:

-       ولكن هُنا صورةً للقلب المُقدَّس.

لم يُرِد أن ترتجـف يـده فـتـشـعـر العـجـوز بـخـوْفـه فراح يُرتِّل في سِرّه:

-       أبانا الذي في السماوات .....

قالت العجوز دون أن تُفارِق عيْناها يديْ الشاب:

-       عجيب .....!!

ثم لزمتْ الصمْت من جديد، فازداد اضطراب أعصابه شيئاً فشيئاً وبدأت يداه ترتجفان بالرغم منه، ولاحظتْ العجوز ذلك فسحبت يديْه بُسرعةٍ إلّا إنه قـال لها:

-       لـم آتِ إلـى هُـنـا لقـراءة الكَـف.

وانتـابه الندم سـاعـتـهـا لدخوله ذلك البيْت، وفكَّـر أنه يحسن أن يدفع للمرأة أجرها وأن ينصرف دون أن يعـرف شيئاً، فلاشـك أنه قد أوْلى اهتماماً أكثر من اللازم لحلمه المُتكرِّر، حينئذٍ قالت العجوز:

-       جئت تسألني عن الأحلام .. والأحلام لُغة الرَب .. وعندما يتكلَّم الرَب بلُغة الأرض فإنني أستطيع أن أُترجِمها .. أما عندما يتكلَّم بلغة روحك فليس سواك مَن يستطيع أن يفهم .. وعلى أي الأحوال فسيتعيَّن أن تدفع أجري.

قال الشاب لنفسه:

-       ها هي ذي حيلةٌ أُخرى.

ولكنه قرَّر - مع ذلك - أن يقبل المُجازَفة، فالراعي مُعرَّضٌ دائماً لخطر الذئاب أو الجفاف وهذا هو ما يجعل عمله أكثر إثارة، فقال للعجوز:

-       حلُمت حُلماً واحداً متكرِّراً .. كنت مع قطيعي في أحد المراعي فإذا بطفلٍ يظهر ويلعب مع الشياه .. وأنا لا أحب كثيراً أن يلهو أحـدٌ مع شياهي فهي تخاف ممَّن لا تعرفهم .. ولكن الأطفـال يـأتـون دائماً ليلعبوا معها دون أن تشعر بالخوْف منهم .. ولا أعرف السبب في ذلك .. ربّما لأنهم أطفالٌ صغار؟! .. ولكني لا أعرف كيف يتسنّى للحيوانات أن تعرف أعمار البشر.

فقالت العجوز:

-       عُد إلى حُلمك .. فأنا مشغولةٌ إذ وضعتُ قـِدراً فـوْق النار .. ثم إنك لا تملك الكثير من المال ولن أضيَّع معك وقتي كلّه.

واصل الشاب كلامه وهو مُحرَجٌ بعض الشيء:

-       ظل أحد الأطفال يلهو مع الشياه فترةً ثم فجأة أخذ بيدي واقتادني حتى أهرامات "مصر".

سكت "سنتياجو" لحظةً ليرى ما إذا كانت العـجـوز تـعـرف ما هي أهرامات "مصر"، ولكنها ظلَّت على صمتها، فاستطرد:  

-       ثم إنه هناك - أمام أهرامات "مصر" (ونطق الكلمتيْن الأخيرتيْن بوضوحٍ تام ليتسنّى للعجوز أن تفهم) - قال لي الصبي: "لو جئت حتى هنا فستجد كنزاً مخبوءاً" .. وفي اللحظة التي كان يوشِك فيها على أن يدلَّني على موْضع الكنز كنتُ أصحو كل مرّة.

لم تنبس العجـوز بكلمةٍ لبِضع لحظات، ثم عادت تُمسِك بيديْ الشاب وتتفحَّصهما بعنايةٍ قبل أن تقول:

-       لن أجـعـلك الآن تدفع شيئاً .. ولكني أُريد عُـشْـر ذلك الكنز إذا ما وجـدته.

أخذ الشاب يضحك ضحكةً راضية فهو لن يضطر لأن يدف لها شيئاً وسيحتفظ بما لديْه من مالٍ قليل بفضل ذلك الحُلم عن كنزٍ مخبوء، لا عجب أن تكون هذه العجوز غجريّةً حقاً لأنها غبيّةٌ مثل باقي الغجر.

سألها الشاب:

-       إذن فكيف تُفسِّرين هذا الحلم؟

-       يجب أن تُقسِم أوّلاً .. أقـسِـم إنك ستُعطيني عُـشـر كنزك مـقـابـل مـا سأقوله لك.

أقسم الشاب فطالبته العجوز بأن يكرِّر القَسَم وعيْناه مُثبَّتتان على صورة القلب المُقدَّس، بعدها قالت له:

-       هذا حُلمٌ بلُغة الأرض وأستطيع أن أُفـسِّـره لكن بصعوبةٍ بالغة .. ولهذا فإنني أظن أنني أستحق تماماً نصيبي ممّا ستعثر عليه .. وإليك تفسيره: يجب أن تذهب حتى أهرام "مصر" التي لم أسمع عنها من قبل قط .. ولكن إن كان مَن دلَّك عليـهـا طـفـلٌ فـلابد أن لـهـا وجـوداً في الحقيقة .. وهناك ستجد كنزاً سيجعلك ثريّاً.

شعر الشاب أوّل الأمر بالدهشة ثم تملَّكه الغيْظ، فلم تكُن هناك حاجةٌ إلى أن يأتي لمقابلة هذه المرأة ليستمع إلى هذا النزر اليسير، ولكنه تذكَّر في نهاية المطاف أنه لن يدفع شيئاً، فقال:

-       لو كان الأمر كما تقولين فأنا لم أكن بـحـاجـةٍ إلى أن أضيَّع وقتي معك.

-       أرأيْت؟ .. قُلتُ لك منذ البداية إن حلمك يصعب تفسيره .. فالأشياء السهلة هي أغرب الأشياء .. والحُكماء وحدهم هم الذين يستطيعون إدراكها .. وبما أنني لستُ منهم فلابد لي أن أعرف فنونا أُخرى .. كأن أقرأ الكَف على سبيل المثال.

-       وماذا أفعل لكي أصل إلى "مصر"؟

-       أنا لا أعمل إلّا بتفسير الأحلام وليس بمقدوري أن أحـوِّلها إلى حقائق .. وهذا هو السبب في أني أعيش على ما تعطيني إيّاه بناتي.

-       وإذا لم أصل إلى "مصر"؟

-       إذن فلن أحصـل على أجـري .. ولن تكون هذه هي المرّة الأولى.

ولم تُضِف العجوز شيئاً، بل طلبت إلى الشاب أن ينصرف لأنه أضاع الكثير من وقتها.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent