خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (8) شعب الأحجار


مجموعة رجال زنوج من العبيد يحملون على أكتافهم هودجاً بداخله أسيادهم

(8) شعب الأحجار

 

 

وعلى أثر ذلك تقدَّم الرجال منا وهم يحملون على أكتافهم عدداً من الهوادِج المُقْفَلة، يحمل كل هوْدجٍ منها أربعة رجال ورجلان احتياطيّان، ثم أشاروا إلينا لنركب، فضحك "ليو" وهتف:

-       من رحمة الله بنا أن نجد رجالاً يحملوننا بعد أن حملنا أنفسنا كل هذه المسافة الطويلة.

رکبت هوْدجي بعد أن ركب الآخرون هوادجهم، وسرعان ما تحرَّك الرَكْب بين غناء الرجال وأناشيدهم، ومرَّت رُبع ساعةٍ وأنا منصرفٌ إلى التفكير فيما ستنجلي عنه هذه المغامرة الممقوتة، وبينا أنا حائرٌ قلِق إذ استوْلى عليَّ النُعاس فنمت.

واستيْقظت أخيراً فوجدت الشمس تتوسَّط کبد السماء فنظرت من خلال ستائر الهوْدج وكم سُرِرت حين تأكَّدت أننا اجتزنا منطقة المستنقعات الشاسعة، وأننا نجتاز سهولاً كثيرة الكلأ، ووجهتنا نحو تلٍّ يُشبِه الوعاء.

حوَّلت اهتمامي إلى الرجال الذين يحملونني فألفيْتهم أقوياء الأجـسام يُشبِهون سُكّان بلاد "الصومال"، يتدلَّى شعرهم على أكتافهم في جدائلٍ سوْداء لامعة، وفي تقاطيع وجوههم جاذبيّةٌ ملحوظة، وأسنانهم صغيرة، بيْد أن أمارات القسوة والخشونة كانت مُجَـسَّمةً عليهم، وكانوا لا يبتسمون إلا لماماً وهم شديدو الصمت قليلو الكلام.

تُرى؛ إلى أي شعبٍ ينتمون؟، أن لغتهم هي العربية غير الصحيحة، ولكنهم ليسوا عرباً لأن لوْنهم أسمر يضرب إلى الصُفرة.

وبينا أنا في حيرتي إذ حاذاني هوْدجٌ آخر، أبصرت بداخله رجلاً يرتدي ثياباً بيضاء فضفاضة، ولم يكن القادم غير ذلك الرجل الذي كانوا يدعونه بـ"أبي"، وكان رجلاً غريباً له لحيةٌ بيْضاء وأنفٌ مُحدَّب وعيناه تلمعان كعيْنيْ الثُعبان، وتُفصِح ملامحه عمّـا يتمتّع به من حِكمةٍ ورزانةٍ لا حد لهما.

ابتدرني قائلاً بلهجةٍ عميقةٍ هادئة:

-       هل أفقت من نوْمك أيّها الغريب؟

فقلت بتأدُّبٍ:

-       نعم يا أبي.

فعبث بأصابعه في لحيته وابتسم، ثم قال:

-       من أین أنتم؟ .. ولماذا جئتم إلى هذه البلاد التي لم يطأها إلّا قليلٌ من الغرباء مُذ خُلِقَ الإنسان؟ .. هل سئمتم الحياة؟!

فقلت بشجاعة:

-       جئنا للبحث عن أشياءٍ جديدة .. لقد عافت نفوسنا القديم .. جئنا من البحـر لنستطلع خفـــايا المجهول .. ونحن من شعب لا يهاب الموْت يا أبي .. لعلَّنا نقف على أشياءٍ جديدةٍ قبل أن نموت.

-       ربّما .. من سَخَف الرأي أن أعترضك وإلّا لرميتك بالكذب يا بُني .. على أني أقول أن "هي" - التي يجب أن تُطاع - ستُحقِّق رغباتك هذه.

فسألته بلهفة:

-       ومَن "هي" التي يجب أن تُطاع؟

فأجال الشيْخ بصره بين الحـمّالين، ثم ابتسم ابتسامةً كادت تقف لها دقّات قلبي، وأجاب:

-       ستعلم كل شيءٍ عمّا قريبٍ يا بُني .. هذا إذا شاءت أن تُقابِلك بالجسد.

-       بالجسد؟! .. ماذا تعني یا أبي؟

ضحك الشيْخ ضحكةً مُخيفة وسكت، فسألته:

-       وما اسم شعبك يا أبي؟

-       اسمه "أُمّة حجر" لأننا نعيش في الصخـور والجبال.

-       وما اسمك يا أبي؟

-       اسمي "بلال".

ثم أشار إلى حـمّاليه فغذوا السيْر إلى أن وصلوا إلى هوْدج "ليو"، فلم أجد مندوحةً من الاستسلام للنوْم لأُرَفِّه عن نفسي.

وعندما استيْقظت وجدت أننا نسير في أرضٍ صخريّةٍ مُنحَدِرة كثيرة الأشجار والمروج الخضراء، ثم انحرفنا إلى اليمين فبدا أمامی منظرٌ جميلٌ ساحر، إذ ظهر صحنٌ واسعٌ من الأرض يمتد إلى مسافة خمسة أو سِتّة أميال، وجوانب هذا الصحن صخريّةٌ مُغَشَّـاةٌ بالأشجار والأعشاب، أمّا وسطه فكان أرضاً خصبة غُرِسَت فيها أشجارٌ نضيرةٌ تُروَى من ينابيعٍ طيّبة، وكانت قطعان المواشي والأغنام ترعى فيها، وقد علمت فيما بعد أن هذه البُقعة كانت بُركاناً ثم تحوَّلت بُحـيْرةً جفَّت بطريقةٍ غامضة.

وقد زادني حيرةً أن رأيْت الناس يرعون المواشي دون أن أرى أثرا لمساكنهم، فتساءلت:

-       تُرى؛ أين يسكنون؟

ولكن لم تطُل حيرتي؛ فما أن انعطفنا إلى اليسار وسارت بنا الهوادج نحو نصف ميلٍ حتى وقف الرَكْب، وهبط الشيخ "بلال" من هوْدجه فاقتدیْتُ به، وكذلك فعل "ليو" و"جوب"، وعندئذٍ رأيْت "محمداً الأعرابي وهـو يُلقي بنفسه فوْق الأرض من فرط الإعياء لأنهم أرغموه على اجتياز المسافة التي قطعها الركب سيْراً على قدميْه.

أجلت بصري فیما حوْلي فألفيْتنا واقفين فوْق رصيفٍ واسعٍ أمام مدخل كهفٍ كبير، ثم رأيْت أمتعتنا - بما فيها شراع الزوْرق والمجاديف - وقد كُوِّمت فوق الرصيف، وكان الحـمّالون وآخرون على شاكلتهم ينتشرون حوْل الكهف وجميعهم طوال القامة، ولوْ أن اللوْن لم يكُن واحداً، إذ كان البعض سُمر الوجوه كالعرب والبعض الآخر صُفرها كالصينيّين، ولم يخلُ الواقفون من النساء، وكُن يرتدين جلد الغزال، حسناوات الوجوه، سوْداوات العيون، غزيرات الشعر، وكان بعضهن - وهُن قليلات - يرتدين ثياباً من الكِتّان كالتي يرتديها الشيْخ "بلال"، وقد علمت - فيما بعد - أن هذا الرداء امتيازٌ يُعطى لنسـاء الطبقة العُليا فقط.

تكأكأ (تزاحم وتجمّع) الرجال و النساء حوْلنا على أثر نزولنا من الهوادج، وراحوا يرمقوننا بنظـرات الدهشـة والعجب، وبعد لحظةٍ اتَّجهت الأنظار جميعها إلى "ليو" وهو واقفٌ بوجهه الجميل المُشرِق وقوامه الطويل المُعتدِل، ولمّا رفع قُبَّعته باحترامٍ ليُحيّيهم بدا شـعره الأصفر فتعالت أصوات الإعجاب.

وقد لاحظت أن أجمل الحاضرات - وكانت ترتدي ثوْباً - راحت ترمق "ليو" بنظرها من قِـمَّة رأسـه إلى أخمص قدميْه، ثم لم تلبث أن تقدَّمت منه بخطواتٍ مُتَّزِنة إلى أن أحاطت عُنقه بذراعيْها ثم قبَّلته في شفتيْه.

مادت بي الأرض، وتوقَّعت أن يحمل الواقفون على "ليو" ويطعنونه برماحهم، ولكن شد ما كانت دهشتي حين رأيتهم يلزمون أماكنهم ولا يُبدون حِراكاً، أمـّا "ليو" فقد ارتسمت على وجهه أمارات الدهشة، ولكنه قابل التحيّة بمثلها‘ فعانق الفتاة.

وابتسم الواقفون ابتسامةً باهتة، وقد ظللت على جهلٍ بهذا التصرُّف الشاذ إلى أن علمت أن النساء في "أُمّة حجر" على نقيض أخواتهن في الشعوب الأخرى؛ فهُن - كالرجـال - يتمتَّعن بنفس الحقوق، ولا تربطهن بالرجال أيّة روابطٍ أو قيـود، والنسب لديهم يُقتَفى من ناحية الأم، وأمـّا الرجال فلا قيمة له عندهم.

ولكل قبيلةٍ رئيسٌ أسمى ينتخبونه ويسمّونه "الأب"، فالشيْخ "بلال" مثلاً كان رئيس هذه القبيلة التي يبلغ تعدادها سبعة آلاف رجل، فإذا اتُّفِقَ وأحبت امرأةٌ أحد الرجال أعربت عن ذلك بمعانقته أمام الملأ كما فعلت تلك الفتاة - وتُدعى "أوستين" - مع "ليو"، فإذا رد قبلتها كان ذلك دليلاً على أنه رضى بها فيظلّان مرتبطيْن إلى أن يسأم أحدهما الآخر فيستبدله.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent