خبر
أخبار ملهلبة

مزرعة الحيوانات | الفصل السابع | جورج أورويل


من مقولات جورج أورويل: يتخيل كل جيل أنه أذكى من الذي سبقه وأكثر حكمة من الذي يليه

الفصل السابع

 

 

كان شتاءً قارساً ذا جَوٍ عاصف، وقد سقط الثلج، واستمرّت هذه الحال حتى شـهـر "فـبـراير"، وكانت الحـيـوانات تبذل كل طاقتـهـا لبناء الطاحونة في مـوْعـدها المعلَن، وهي تدرك أن العالم الخارجي يتابع أنباءها، وأن فشلها سيكون مدعاةً لشماتة أعدائها، ولم يكن الآدميّون ليصدّقوا المؤامرة المزعومة، بل يعزون أسباب تهدم البناء إلى رِقّة غِلَظ (سُمْك) الجدران.

وبرغم أن الحيوانات كانت تؤمن بما لُقِنَته عن مؤامرة "سنوبول"؛ فإنها عند إعادة البناء قد أُمِرَت بتعريض غِلَظ المباني بحيث يصل إلى ثلاثة أقـدامٍ بدلاً من الغِلَظ الـقـديم الذي سبق أن بُنيَت به وكـان ۱۸ بوصـة فقط، وكان ذلك يعني المزيد من الحجارة والجهد.

وقد اضطرت في بعض الأوقات إلى التوقّف عن العـمل حـينمـا غطّى الثلج أرض المحجر، وقد استأنفت عملها حينما توقّف هبوط الثلج وأصبح الجوْ جافاً.

وفي ظل هذه الظروف القاسية والروح المعنويّة المنخفضة؛ فقد كان لـ"بـوكـسـر" ومـعـه "كـلـوفـر" أكـبـر الأثر في رفع الروح المعنويّة بضرب المثل الطيّب للآخرين في العمل والتضحية، كما كان "سكويلر" يُلقي على الحيوانات الخُطَب الرنّانة عن وجوب التضحية في سبيل الواجب، إلّا أن هذه الخُطَب الكثيرة لم تكن في قـوّة تأثير "بوكسر" حينما كان يعمل بنفسه ويضـرب أحسن المُثُل في التـضـحـيـة مـردّداً شـعـاره المختـار: "سأعمل أكثر".

وفي "يناير" عانت المزرعة من نقص الغذاء؛ ولذلك فقد خُفِّضَت وجبات الحنطة، واستعيض عنها بزيادة مقرّرات البطاطس، إلّا أن الحيوانات اكتشفت أن الجزء الأكبر من محصول البطاطس قد أصابه الصقيع بالتلف في مخزنه لتـركـه بدون الغطاء اللازم من القش، وقد تميّعت البطاطس وفـقـدت لـونـهـا وأصبحت إلّا القليل منهـا غيـْر قـابلةٍ للأكل، وبذلك فلم يكن أمام الحيوانات الجائعة إلا التبن والبنجر تأكله لأيّامٍ طويلة؛ حتّى أصبح شبح المجاعة يتهدّدها!

وحتى لا يشمت أعداؤها في الخارج ويشيعوا عنها شتّى الأكاذيب بعد سقوط الطاحونة فقد عمدت الحيوانات إلى إخفاء حقيقة أمرها بشتّى وسائل التعمية.

وكان الناس في ذلك الوقت يردّدون أن الحيوانات قد أشرفت على الموت جوعاً، ودَبَّ فـيـهـا المرض، وعادت إلى سـيـرتـهـا الأولى من التوحّش، وأكل بعضها بعضاً أحياءً وقُتِل الصغار منها!، وأدرك "نابليون" خطورة مثل هذه الشائعات، ولذلك فـقـد سـخّـر "ويمبر" في إطلاق الشائعات المضادة.

وبعد أن كانت اتصالات الحيوانات محدودة؛ فقد وضع "نابليون" في طريقه بعض الحيوانات التي تتمتّع بكامل صحتها وأغلبها من الغنم، حتّى تُلقي على مسامع الرجل مدى سعادتها وما تحظى به من عنايةٍ ومن وجباتٍ كافية.

وبالإضافة إلى ذلك؛ فقد أمر "نابوليون" بملء صناديق المؤونة الفارغة الموجودة في المخزن بالرمل عن آخرها، وبعد ذلك تُملأ بما تبقّى من الحبوب والدقيق، واختلق "نابوليون" ذريعةً مستساغةً فقام رفقة السيد "ويمبر" بزيارة المخزن وطلبوا منه إلقاء نظرةٍ على الصناديق، ووقع "ويمبر" فريسةً للخداع فأشاع في كل مكان أن "مزرعة الحيوانات" لا تعاني من المجاعة.

ورغم ذلك – في نهاية شهر "يناير" – أصبح من الضروري جَلْب الحبوب من أي مكان، وفي هذه الفترة قلّل "نابوليون" من ظهوره أمام الملأ فكان يقضي معظم وقته داخل البيْت الذي تحرس أبوابه كلابٌ متوحّشة، وإذا خرج من عُزلته فبمظهرٍ تسوده مراسيمٌ مهيبةٌ تحت حراسةٍ مشدَّدة محاطاً بستة کلابٍ تزمجر كلّما حاول أحدٌ الاقتراب منه، وكان أحياناً لا يخرج حتى لحضور اجتماعات صباح يوم "الأحد"، لكنه كان يـُصْـدِر أوامـره مـن خـلال أحـد الـخـنـازيـر؛ غالباً ما كان "سكويلر".

في صباح أحـد أيـّام "الأحـد" أعـلـن "سـكـويـلـر" أن على الدجاجات أن تقوم بتسليم بيْضها الذي وضعته مؤخّراً، لقد تعهّد "نابوليون" – من خلال "ويمبر" – بتوفير أربعمائة بيضةً في الأسبوع، وفي المقابل سيتزوّد الحيوانات بكميّةٍ من الدقيق والحبوب تكفي حتى الصيْف للرجوع إلى حياةٍ أقل شقاء.

عندما سمعت الدجاجات هذه الأوامر أطلقت صيْحاتٍ غاضبة، لقد تم إنذارها سابقاً بأن هذه التضحية ستصبح ضروريّة لكنها لم تصدّق أن الأمر سيصل إلى هذه الدرجة وأكدت للجميع أنها تحضن بيْضها كي يفقس في "الربيع" وأن أَخْذَه منها يُعتبَر جريمة، وللمرّة الأولى منذ طرد "جونز" حدث نوعٌ من التمرّد، وتحت قيادة ثلاثة دجاجاتٍ سوْداء حاول الدجاج إفشال مخطّط "نابوليون"، وكانت وسيلته في ذلك هي الطيران إلى العوارض الخشبيّة العالية حيْث يبيض ومن هناك تُلقي بالبيْض فيسقط مهشَّماً على الأرض.

وكان رد فعل "نابليـون" سـريـعـاً وحاسماً؛ فـقـد أمر بوقف صـرف المقرّرات الغذائيّة للدجاج، كما أمر بفرض عقوباتٍ صارمةٍ تصل إلى حد الإعدام لأي حيوان يُضْبَط بتهمة مساعدة الدجاج تحت أيّة صـورةٍ من الصور.

وكانت الكلاب هي وسيلة "نابليون" في فَرْض الأوامـر ومـراقـبـة تنفيذها، واستمر عصيان الدجاج خمسة أيّام، ثم استسلم في نهاية الأمر، وعادت الدجاجات إلى عشاشها بعد أن مات منها تِسْعٌ تحت أشجار التـفـاح، وأذيع أن سبب وفـاتـهـا مـرضٌ من أمراض الدواجن اسمه "الكوكو-ديوسيس"!

ولم يعلم مستر "ويمبر" شيْئاً عن هذا العصيان، فقد تم تسليم البيْض بالتمام في الموْعد المتّفَق عليه تنقله عربة بقالة من المزرعة أسبوعيّاً.

وفي هذه الأثناء كانت أخبار "سنوبول" منقطعة، وإنْ تردّد أنه ما يزال مختبئاً في إحدى المزرعتيْن المجاورتيْن، وكانت علاقة "نابليون" بالعالم الخارجي لا بأس بها، وكانت لديْه بالمزرعة كميّةٌ من خشب الزان الذي قُطِع منذ عشرة أعوامٍ يتنافس في شرائها جاراه مستر "بلكنجتون" ومستر "فردريك" وقد نصحه مستر "ويمبر" بالبيْع، إلّا أنه كلّما كان يزمع بيْعه إلى أحدٍ من جاريْه اللدوديْن خرجت الإشاعات عن وجود "سنوبول" لديْه فتتوقّف الصفقة.

وفجأة في بداية "الربيع" حدث أمرٌ مزعج؛ فقد أُشيع أن "سنوبول" اعتاد أن يرتاد مزرعة الحيوانات بالليْل وقد ذُعِرَت الحيوانات لهذا حتى إنها أصبحت لا تكاد تنعم بسباتها، وأصبحت غزوات "سنوبول" الليْليّة شيْئاً متكرّراً؛ فهو يسرق الغِلال تارةً أو يسكب اللبن تارةً أخرى، وربما كسر البيْض المجموع والمُعَد للبيْع أو رمى التقاوي المُعَدّة للزراعة أو نخر أشجار الفاكهة، وكلّما حدثت حادثةٌ نُسِبَت إلى "سنوبول"، فإذا ما كُسِر الزجاج أو سُدَّت مواسير المياه كانت أصابع الاتهام تُوَجَّه إليه.

ولمّا ضاع مفتاح المخزن زُعِمَ أن "سنوبول" سرقه ثم قذف به إلى أعماق البئر، واستمرّت الحيوانات على زعمها حتى بعد أن وجدت المفتاح، وقد أعلن البقر أن "سنوبول" كان يداهمه ليْلاً ثم يحلبه، وحينما أثارت الـفـئـران بعض المتاعب زعـمـت الحـيـوانـات أنهـا تأتمر بوحيٍ من "سنوبول"!

وأصدر "نابليون" أوامره بالقيام بتحقيقٍ كاملٍ عن نشاطات "سنوبول"، كما خرج في جولةٍ تفتيشيّةٍ لتفقُّد جميع منشآت المزرعة تحوطه كلابه ثم تتبعه عن بُعْد بقية الحيوانات على استحياء.

وكان "نابليون" يتوقّف بين الفينة والأخرى ثم يشم الأرض بأنفه ويأخذ نَفَسَاً عميقاً ثم يردّد في صوتٍ رهيب:

-       نعم .. نعم .. إنه "سنوبول" .. إنني أكـاد أبصره في كل مكان.

وفي كل مرّةٍ ينطق باسم "سنوبول" كـانت كلابه تزمجر بوحشيّةٍ وهي تكشّر عن أنيابها.

وكان هذا المنظر كافياً لإدخال الرعب على قلوب جميع الحيوانات، وقد دخل في روْعها أن شبح "سنوبول" يتهدّدها بالويْل والثبور.

وعند حلول الليْل جمع "سكويلر" الحيوانات وقد بدت على وجهه مظاهر التجهّم والصرامة، وأعلن وهو ينتفض بعصبيّةٍ نبأً خطيراً بأن "سنوبول" قد باع نفسه لـ"فردريك" صاحب مزرعة "بنشفيلد" وهما الآن يتآمران تمهيداً للهجوم على المزرعة واحتلالها، وأفضى "سكويلر" بأن "سنوبول" هو الدليل الذي سيقود هذه الحملة، وقال:

-       والخطير في الأمر أيهـا الرفاق إننى أصبحت أدرك تماماً المشاعر المنحطَّة التي أصبحت تحرِّك "سنوبول" وهي الخيانة .. وليْست كما كنت واهماً من قبل الطموح أو الحسد .. فقد انكشف الستار عن خيانة "سنوبول" لأبناء جِلدته .. وأنه قد باع نفسه لمستر "جونز" .. وأنه كان جاسوسه منذ البداية.

ثم استطرد قائلاً:

-       إن هذا التفسير يُلقي الضوء على مجريات الحوادث السابقة.

ثم تساءل:

-       ألم يحاول بدون جـدوى أن يوقِع الحيوانات في الهزيمة .. بل الإبادة في معركة "زريبة البقر"؟

وبُهِتَتْ الحيوانات، فإن ما نُسِب لـ"سنوبول" من خيانةٍ قد فاق جريمته في تـدمـيـر الطاحونة، وظلّت في حالة ذهول لـدقـائق وهي لا تكاد تصدِّق؛ فإنها تتذكّر أو ربّما خُيّل إليها أنها تتذكّر كيف حمل "سنوبول" على خصومه في موْقعة "زريبة البقر"، وكيف كان يحارب ويقـود المعركة، وكيف أنه لم يتقاعس في أيّة لحظةٍ حتى بعد أن أصابته قذيفة مستر "جونز"، فكيف يمكنها إذن تصديق مثل هذه الأقوال عن خيانته؟، حتى "بوكسر" الذي لم يكن ليتشكّك هو نفسه في البلاغات التي تذاع قد أدركته الحيرة وأغلق عيْنيْه جاهداً في صياغة ما يجول في فِكْره ثم قال بعد لأي (جهدوتعب):

-       إننى لا أستطيع تصديق مثل هذا .. فقد أبلى "سنوبول" بلاءً حسناً في معركة "زريبة البقر" فاستحق وسام "بطل البهائم" من الدرجة الأولى بعد المعركة!

فرد "سكويلر" بأن "سنوبول" كان قد أحكم خديعته حتى اكتُشِفَت وثائقٌ سريّةٌ تدينه، وتوضِّح دوْره في الخيانة، فاعترض "بوكسر" بقوْله:

-       ولكن "سنوبول" قد جُرِح في أثناء المعركة!

فرد عليه "سكويلر" موضِّحاً:

-       إن هذه الجروح السطحيّة افتُعِلَت افتعالاً تنفيذاً للتمثيليّة التي كان قد رسمها مستر "جونز" .. ولديَّ الوثائق المكتوبة التي اعترف فيها "سنوبول" على نفسه .. وأنا على أتم الاستعداد لتقديمها لك إذا ما كنتَ قادراً على القراءة .. وقد دُوِّن فيها أنه كان يتعيّن على "سنوبول" طِبْقاً لخطّة المؤامرة أن يعطي إشارة الانسحاب قبل الوقت المناسب .. وقد كادت خطّته تنجح لوْلا الزعيم البطل القائد الرفيق "نابليون".

ووجّه "سكويلر" حديثه للحيوانات وقال مستطرداً:

-       ألا تتذكّرون أيّها الرفاق كيف أن "سنوبول" تتبعه بعض الحيوانات انثنى هارباً في اللحظة التي اقتحم فيها مستر "جونز" وعـصـابتـه فناء المزرعة؟ .. ألا تتـذكّـرون أيّـهـا الـرِفـاق كيف أنه في اللحظة الحرجة التي سـاد فـيـهـا الاضطراب ولاحت بوادر الهزيمة قفز الرفيق البطل "نابليون" صارخاً بالموْت للآدميّين وقـد أعـمـل أنيابه في ساق "جـونز"؟

وظل "سكويلر" يحاورهم وهو يرتعش حماساً وينتفض حتّى خُيّل للحيوانات أن شريطاً حيّاً من الصور التي رسمهـا لـهـا "سكويلر" يبـدو أمامهـا واضحاً وفقاً لترتيب الحوادث في إطارها الجديد وقد عاد إلى ذاكرتها بالفعل منظر "سنوبول" وهو يستدير ليهرب في اللحظة الحرجة في أثناء المعركة، ولكن "بوكسر" ظل مشتّت الفِكْر وقال:

-       إننى لا أعتقد أن "سنوبول" كان خائناً منذ البداية .. بل إنه ظل رفيقاً صالحاً حتّى معركة "زريبة البقر" .. أمّا عن خيانته بعـد ذلك فهـو أمرٌ واضح.

وقاطعه "سكويلر" وهو يضغط على مخارج الألفاظ وبصوْتٍ منخفضٍ وإن كان قاطعاً:

-       إن الزعيم الرفيق "نابليون" في ترتيبه التاريخي للحوادث قـد قـرّر خـيـانة "سنوبول" منذ البداية .. وإنه كان عميلاً باع نفسه قبل الانقلاب.

فأذعن "بوكسر" قائلاً:

-       إذا ما كان الرفيق "نابليون" قد قرّر هذا فإن "نابليون دائما على حق".

"هذه هي الروح الثوْريّة": بهذا صاح "سكويلر" وهو يُلقي على "بوكسر" نظراتٍ تقدح بالشر من خلال عيْنيْه الضيّقتيْن، واستأنف قبل أن يغادر مكانه وبصوتٍ فيه نبرات التحذير:

-       إننى أحذر جميع حيوانات المزرعة من جواسيس "سنوبول" المنتشرين بيننا .. إن عليكم أن تفتحوا عيونكم جيداً.

وبعـد مـرور أربعة أيّامٍ من هذا الحديث أمـر "نابليـون" أن تجـتـمـع الحيوانات في فناء المزرعة، ثم خرج عليهم من منزله مرتدياً أوْسمته كافةً بعد أن أنعم على نفسه بعد وسام "بطل البهائم" من الدرجة الأولى بوسامٍ آخر منه من الدرجة الثانية، تتبعه كلابه الضخمة التسعة وهي تنبح بطريقةٍ تبعث القشعريرة في القلوب، وقد أيْقنت الحيوانات أن الخطير من الأمور لا بد أنه على وشك الحدوث.

وفي وقفةٍ عسكريّةٍ انتصب "نابليون" وهو يتفحّص الوجوه، ثم صاح بصـوتٍ مـبـحـوحٍ تـقـدّمـت بـعـده الكلاب فأمسكت بآذان أربعـةٍ من الخنازير التي أخذت تصرخ من الألم والرعب ثـم جـرّتـهـا وألقت بهـا تحت أقـدامـه وآذانـهـا تنزف، وقد تذوقت الكلاب طعم دمائها فأصيبت بحالةٍ شديدةٍ من الهياج، ولدهشة الجميع فقد هجمت ثلاثة كلابٍ في اتجاه "بوكسر"، وحينما اقترب منه الكلب الأوّل دهمه "بوكسر" بساقه القويّة وألصقه بالأرض إلصاقاً فصرخ الكلب مسترحماً، ونظر "بوكسر" إلى "نابليون" وساقه تضغط على الكلب مستطلعاً كأنما يستأذنه في سحق الكلب تحت قدمه، فأمره "نابليون" بإخلاء سبيله في الحال وهو يتميّز من الغيْظ، وما كاد "بوكسر" يرفع قدمه عن الكلب حتّى انسحب وهو يئن من الألم وذيْله بيْن رجليْه، ثم هدأت موجة الصخب التي صاحبت هذا المشهد، واتّجهت الأنظار إلى الخنازير الأربعة التي كانت ترتعد هلعاً ومظاهر الإثم والندم ترتسم على وجوهها.

والتفت إليها "نابليون" يأمرها بالاعتراف، وكانت هذه الخنازير هي بعيّنها التي سبق أن اعترضت على قرار "نابليون" في انهاء اجتماعات يوم "الأحد"، وفي الحال توالت اعترافات هذه الخنازير بأنها كانت دائماً على اتصـالٍ مـبـاشـرٍ بـ"سنوبول" منذ أن طُرِدَ من المزرعة، وأنهـا سـاعـدته في تحطيم الطاحونة، وأنهـا كـانت تخطّط مـعـه لـتـسليم المزرعـة لمـسـتـر "فردريك"، كما أضافت هذه الخنازير أن "سنوبول" سبق أن حدّثها بأنه كان عميلاً سِريّاً لمستر "جونز" منذ أعوامٍ ماضية وقبل الانقلاب، وحينما انتهت الخنازير من اعترافاتها الصريحة انقضّت عليها الكلاب في الحال ومزّقت أعناقها، وصاح "نابليون" بصوْته الرهيب:

-       هل لدى الحيوانات أي اعترافاتٍ أخرى؟

فتقدمت ثلاث دجاجاتٍ سوداء – وهي التي سبق لها أن تزعّمت حركة العصيان عند تسليم البيْض – وقرّرت أن "سنوبول" قد زارها في الأحلام وحرّضها على عصيان أوامر الزعيم "نابليون" وفي الحال تم فيها تنفيذ حكم الإعدام، ثم تقدّمت إوزة وأقرّت بأنها سبق لها أن أخفت سِت سنابل من القمح من مـحـصـول الموسم السابق وأكلتها ليلاً، وكذلك اعترفت نعجةٌ على نفسها بأنها بالت في مياه البركة التي يُشْرَب منها يدفعها إلى ذلك تحريض "سنوبول" لها، وكذلك اعترفت نعـجـتـان بأنهـمـا نفـذتا جريمة قتلٍ في كـبـشٍ عـجـوزٍ كـان شـديد الولاء لـ"نابليون" بأن طاردتاه وحاورتاه حـوْل مـوْقـد نارٍ في فناء المزرعـة وهو مريضٌ بالسعال؛ فازداد مرضه سوءاً ومات، وقد نُفِّذَت على الخونة جميعاً أحكام الإعدام في الحال.

وتوالت الاعترافات، وتوالت أحكام الإعدام حتى تكوّمت جثث الضـحـايا تحت أقـدام "نابليون"، وفاحت رائحة الدماء التي كـانت الحيوانات قد نسيتها منذ نهاية عهد "جونز"، وحينما انتهى الأمر زحفت الحيوانات بعيداً وهي يائسةٌ ترتعد، لا تعلم أي الأمريْن أشـد هوْلاً: خيانة الحيوانات التي تآمرت هي و"سنوبول"؟، أم منظر أحكام الإعدام الرهيبة؟

نعم: إنها كانت تشاهد مجازر دمويّة في عهد "جونز" البائد، ولكن هذه المذبحة التي شاهدتهـا الـيـوْم كـانت أشـد هوْلاً على نفوسها لأن جلّاديها الجدد إنما هم من أبناء جِلدتها؛ فمنذ رحيل "جونز" لم يفتك حيوان من المزرعة بآخر وإن كان فأراً، وقفلت (رجعت وعادت) الخنازير والكلاب إلى منزلها، وزحفت الحيوانات إلى الربوة القريبة من الطاحونة ودون أن تفکر هجعت (نامت) جميعاً على جنوبها قريبةً بعضها من بعض وكأنها تلتمس دِفئاً افتقدته نفوسها!

تجمّعت "كلوفر" و"موريل" و"بنيامين" والبقر والغنم وقطيع الإوَز والدجاج على الربوة ما عدا القط الذي كان قد اختفى عندما استدعاها "نابليون" للاجتماع، وظلّت الحيوانات كلها واجمةً لفترةٍ طويلةٍ من الوقت، وظل "بوكسر" واقفاً على الربوة وهو في حالةٍ شديدةٍ من الاكتئاب يهز ذيْله يميناً ويساراً وهو يحمحم (يصهل صهيلاً خافتاً):

-       أنا لا أفهم شيْئاً ولا أستطيع أن أتصوّر أن مثل هذه الأمور كانت لتحدث في مزرعتنا .. وإننا لا نلوم إلّا أنفسنا على ما اقترفناه .. ولست أرى لهذه الكارثة من كاشفٍ إلّا بالعمل .. لقد آليْتُ على نفسي أن أستيقظ لأعمل قبل ساعات العمل المقرّرة بساعةٍ كاملة.

ثم ركض هابطاً إلى المحجر يجمع الأحجار، ويصعد بها إلى حيْث موقع البناء حتّى أقبل الليْل، وظلّت الحيوانات قابعةً على الربوة وبيْنها "كلوفر" لا تتكلّم، وهي جميعاً تنظر من فوْق الربوة إلى الأفق الواسع الذي يترامي حتّى المدينة والمراعي الخضراء تلوح تحت أقدامها ومنظر كوْمات الدريس والشجيْرات والبِركة وحقول القمح الخضراء وسطح منزل المزرعة الأحمر تلوح في الأفق والدخان يتصاعد من مدخنته.

لقد كانت أمسيةً صافيةً من أمسيات الربيع، وكانت الشمس الغاربة تُلقي بأشعتها الذهبيّة على الحشيش وأسوار المزرعة، وكـانت الحـيـوانات تحلم بأن تصبح هذه المزرعـة بكـل مـا تـحـتـويه من جـمـال مِلْكاً لـهـا وكـأنـّهـا لـم تتبيّن بعـد مـدى جـمـالـهـا وسـحـرها إلّا في هذه اللحظات وللمرّة الأولى!، ونظرت "كلـوفـر" من أعلى الربوة وعيناهـا مـبـلّـلـتـان بالدموع، ولوْ استطاعت أن تعبِّر عما يجيش بخاطرها لأفصحت أن الثوْرة التي عملت الحيوانات من أجلهـا قـد ضلّت عن غـايـاتهـا، وأن المجازر التي مرّت بها ما كانت لتخطر لها على بال حينما كان يخطب "ماجور" العجوز بليْلٍ يدعو فيه إلى التمرّد راسماً للحيوانات صـورةً باسمةً عن مستقبلٍ مشرقٍ لمجتمعٍ سعيدٍ وقد تحرّرت فيه من إسارها (قيْدها) وخوْفها وجوعها، كلّها سواسية، لا تُكَلَّف إلّا العمل الذي تطيقه، يحمى قويها ضعيفها تماماً كما كانت هي "كلوفر" تحنو على البط الصغير اليتيم الذي كان يلتمس الدفء بيْن أرجلها على حين كان "ماجور" يُلقي خطابه، ثم توالت الأيّام وها هي ذي ثورتهـا المنتـصـرة والحـيـوانات لا تجرؤ فيها أن تعبِّر عمّا يدور بعقولها، والكلاب المفترسة تجول بينها، ثم مشاهد أجساد رفـاقـهـا الممـزّقـة بـعـد اعـتـرافٍ أي اعـتـراف، دار هذا الشريط برأس "كلوفر" على سبيل الذكرى، إنها لم تكن تفكّر لحظةً في التمرّد أو العصيان؛ فبرغم كل ما مر بالحيوانات من أحداثٍ فقد كانت تؤمن بأن حـالـهـا مـا زالت أفضل ممّا كـانـت عليـه في عـهـد "جـونز"، وأن عليها أن تعمل دائماً من أجل ألّا تعود ثانيةً نهباً للإنسان.

وفي سبيل هذا الهدف فإنه ينبغي عليها الإخلاص والتفاني في العمل وتنفيذ ما يصدر إليها من أوامرٍ وقبول زعامة "نابليون"، لقد انتهت أحلامها السعيدة التي من أجلها جاهدت وضحّت وشيّدت الطاحونة وواجهت رصاص "جونز".

كل هذا كـان يـدور بخَلَد (بال أو نفس) "كلـوفـر" ولو أنهـا ظلّت على صـمـتـهـا إلى حين، ثم بدّدت صمتها هذا بالغناء وكأنّها تهرب به من واقعها المُر وما فيه من الأسى البالغ العميق وحوْلها الحيوانات الأخرى وقد تبعتها في تردید نشـيـد الثـوْرة بنغـمـةٍ بطيئةٍ حزينةٍ جميلة، وكأنّها تنعى أيّامها الهنيئة، تؤدّى لحن نشيدها بإتقانٍ لم يتيسّر لها من قبل حتّى إذا ما فرغت من إنشاده أعادته من جديد، وعند نهاية أدائه للمرّة الثالثة اقتحم عليهـا "سكـويلر" خلوتها يتبعه كلبان وهو على وشك أن يُفضي إليـهـا بـحـديثٍ هام، وقـد أعلن أن الرفـيـق "نابليون" قـد أصـدر مـرسـوماً خاصاً بمنع ترديـد نـشـيـد "يا وحوش إنجلترا" وأنه منذ هذه اللحظة قـد أصبح التغنّي به من المحظورات!

وقد ذُهِلَت الحيوانات، وتساءلت "موريل" عن أسباب المنع فأجابها "سكويلر":

-       إن النشيد لم يعد مجارياً للعصر .. فإن نشيد "وحوش إنجلترا" كـان نـشـيـد الثوّار حينما لم تكن هنالك ثوْرة .. والآن فقد تمّت الثوْرة وانتهت إلى غاياتها، وكان في إعـدام الخوَنة بعـد ظـهـر الـيـوْم نـهـاية الشوط .. وتحقّق للثـوْرة النصر على أعـدائها في الداخل والخارج .. إن النشـيـد كـان عبارةً عن التطلّع إلى المستقبل الزاهر السعيـد.

ثم أعلن "سكويلر" أن المستقبل الزاهر قد تحقّق بالفِعل، فأصبح النشيد بذلك غير ذي مـوْضـوع!، وبرغم مـا كـانت عليه الحيوانات من ذهولٍ ورعب فقد كان من المحتمَل أن يعترض بعضها على مثل هذا القرار لـوْ لـم تبدأ الغنم في ثغائها مردّدةً شعارها المعهود: "ذوات الأربع أخيار .. وذوو الرجليْن أشرار" لدقائق معدودات، انسحب في أثنائها "سكويلر" من حيْث أتى.

وبعد هذا الـيـوْم لـم يُسْـمَع النشـيـد مـرّةً أخـرى وقـد ألّف الشـاعـر "مينيمس" نشيداً آخر هو:

مزرعة الحيوانات الكبرى ... مزرعة الحيوانات الكبرى

دُمْـــتِ لنـا دهـــراً دهـــراً ... وبقـيْتِ لنا ذُخــراً ذُخــرا

وكان هذا النشيد يُغَنَّى صباح كل يوم "أحد" بعد رفع العلم، وإن كان في نظر الحيوانات لا يضاهي نشيد "يا وحوش إنجلترا" من حيث النغم أو الكلمات.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent